قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين, وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم, فضرب لهم ولهم مثلاً برجلين ] يعني: لهؤلاء وهؤلاء [جعل الله لأحدهما جنتين -أي: بستانين- من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما, وفي خلالهما الزروع, وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة, ولهذا قال: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ، أي: أخرجت ثمرها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ، أي: ولم تنقص منه شيئاً. وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا أي: والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34] قيل: المراد به المال، روي عن ابن عباس وعن مجاهد وقتادة، وقيل: الثمار، وهو أظهر هاهنا ].
فالأظهر: أنه الثمار على ظاهر الآية: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤيده القراءة الأخرى: (وكان له ثُمْر)، بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة، كخشبة وخشب, وقرأ آخرون: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم.
(فَقَالَ)، أي: صاحب هاتين الجنتين لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ، أي: يجادله ويخاصمه, يفتخر عليه ويترأس، أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا أي: أكثر خدماً وحشماً وولداً.
قال قتادة: تلك -والله- أمنية الفاجر، كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35] أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد, قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تقرض ولا تهلك ولا تتلف, وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها, وكفره بالآخرة, ولهذا قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36] أي: كائنة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] أي: ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي, ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، وقال: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، أي: في الدار الآخرة، تألى على الله عز وجل, وكان سبب نزولها في العاص بن وائل كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ الآية، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين, وهو آدم ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]، كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28] الآية، كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية كل أحد يعلمها من نفسه؟! فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد, وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له ].
هذه قصة رجلين أحدهما كان كافراً بما أنعم الله عليه وبما أعطاه من الأموال, حتى جره ذلك إلى إنكار الساعة, وشك في القيامة والبعث, ومن شك في البعث فهو كافر بإجماع المسلمين، ولهذا قال له صاحبه: أَكَفَرْتَ والكفر في قوله: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً يعني: أشك في قيام الساعة. ومن شك في القيامة، أو شك في البعث، أو شك في الجنة أو في النار, أو شك في الملائكة أو في واحد منهم، أو في الرسل، أو في الكتب, أو شك في ربوبية الله, أو إلهيته أو وحدانيته فهو كافر.
فالكفر يكون بالشك, ويكون -أيضاً- بالجحود, فإذا شك في القيامة كفر، وكذلك لو شك في الله أو في ربوبيته أو في أسمائه أو في صفاته, أو في الملائكة أو في واحد منهم, أو في الكتب أو في الرسل، أو في البعث أو في القيامة أو في الجنة أو في النار، ويكون -أيضاً- بالجحود، كما لو جحد ربوبية الله أو إلهيته أو أسماءه أو صفاته, أو اسماً من أسمائه، أو جحد ملكاً من الملائكة, أو جحد كتاباً من الكتب المنزلة, أو جحد البعث، أو جحد القيامة، أو جحد الجنة أو جحد النار, أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه, مثل أن يجحد وجوب الصلاة، أو يجحد وجوب الزكاة، أو يجحد وجوب الحج، أو وجوب الصوم، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام المعلومة بالضرورة, كأن يجحد تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم العقوق؛ فإنه يكفر.
وقد يكون الكفر أيضاً بالقول: كما لو سب الله, أو سب الرسول, أو سب دين الإسلام, أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله فإنه يكفر بهذا القول قال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
ويكون الكفر أيضاً بالفعل: كما لو سجد لصنم, أو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله, أو داس المصحف بقدميه إهانة له، أو لطخه بالنجاسة، فإنه يكفر بهذا الفعل.
وقد يكون الكفر بالترك والإعراض أيضاً, كما لو أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله به، فإنه يكفر.
وصاحب الجنتين هذا كفر بالشك في القيامة, فقد أعطاه الله تعالى جنتين -أي: بستانين- وحفهما بنخل وزرع، فاغتر ودخل الجنة وهو ظالم لنفسه, أي: بكبره واستكباره وتعاظمه على أخيه.
قال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:35-36] يعني: ما أظن أن تفنى هذه الجنتان أو أن يصيبهما الفناء وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] يعني: لو قدر أن هناك بعثاً فسيكون خير الدنيا موصولاً بخير الآخرة، كما قال الله في الإنسان الكافر في سورة فصلت: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، وكما قال عن العاص بن وائل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77].
فنصحه صاحبه وقال له: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ؟! والمعروف أن الخائن أقرب ليد الله، وهذا معروف لكل أحد، وكل أحد يعلم بنفسه أنه مخلوق، وأنه لم يخلقه مخلوق مثله؛ لأنه كان معدوماً ثم وجد، فلو لم يكن مخلوقاً لما سبقه العدم، فلابد من أن يكون وجوده بإيجاد خالق، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، فلا يكون المرء خالقاً لنفسه، ولا يخلقه مخلوق.
فلابد من أن يكون مخلوقاً لخالقه واجب الوجود في ذاته سبحانه وتعالى، ولهذا قال: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ثم قال: (لكنا) أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في النون، هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا أي: لكن أنا أوحد الله واعترف بعبوديته وإلهيته، ولا أشرك مع الله في عبادته أحداً.
قال الحافظ أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه، وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا قوة إلا بالله)، تفرد به أحمد، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله) ].
هذه الآيات تفيد هذا، فإذا أعجبك شيء فقل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، حتى وإن لم يصح الحديث، وفي الآيات دليل على أن من شك في القيامة فهو كافر، وفيها دليل على أنه يشرع للمرء إذا أعجبه شيء أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) كما في الآية، فالمقصود أنه يشرع أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله).
وكذلك تقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) حتى لا تصيب غيرك بالعين دون اختيارك، فلا شك في أن التبريك يمنع من العين، والعين تحصل من العائن من دون اختياره، فإذا قال العائن: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) امتنع من الإصابة بالعين، فإذا ذكر العائن الله كان هذا من أسباب منع وقوع العين؛ لأن بعض الناس قد تخرج بعين دون خياره.
فالتبريك يمنع حصول العين، فلكيلا تصيب أخاك تبرك وتقول إذا أعجبك شيء: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
ولهذا نصح المؤمن الكافر وقال له: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا بكر بن عيسى ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال : قال أبو هريرة رضي لله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
أبو بلج -بفتح أوله وسكون اللام- بعدها جيم وهو الفزاري الكوفي ثم الواسطي الكبير، اسمه يحيى بن سليم، أو ابن أبي سليم أو ابن أبي الأسود صدوق ربما أخطأ من الخامسة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو بلج : وأحسب أنه قال: فإن الله يقول: أسلم عبدي واستسلم. قال فقلت لـعمرو : قال أبو بلج : قال عمرو : قلت لـأبي هريرة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فقال: لا إنها في سورة الكهف وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
وقوله : فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ، أي: في الدار الآخرة وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ، أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ، قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، ومالك عن الزهري أي: عذاباً من السماء. والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ، أي: بلقعاً تراباً أملس لا يثبت فيه قدم. وقال ابن عباس : كالجرز الذي لا ينبت شيئا.
وقوله : أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا أي: غائراً في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها، كما قال تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30] أي: جارٍ وسائح، وقال هاهنا : أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ، والغَوْر: مصدر بمعنى: غائر، وهو أبلغ منه ].
الغَوْراً أبلغ من الغائر، فقوله تعالى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ، يعني: غائراً نازلاً في الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال الشاعر:
تظل جياده نَوحْاً عليه تقلده أعنتها صفوفاً
بمعنى: نائحات عليه ].
يعني أن (نَوْحاً) أبلغ من (نائح)، مثل: (غَوْر) أبلغ من (غائر) فقوله: (تظل جياده نوحاً عليه) يعني: نائحات، فعبر بالنوح وحده عن النائحات، كما عبر بـ(غور) عن غائر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ بأمواله أو بثماره على القول الآخر، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عز وجل فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا .
وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها ].
وهكذا يقلب كفيه، فهو متأسف من شدة التأثر والتحسر يقلب كفيه على ما أنفق فيها، فقد صارت صعيداً زلقا ليس فيها شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ [الكهف:42-43]، أي: عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف:43-44]، اختلف القراء هاهنا فمنهم من يقف على قوله : وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ [الكهف:43-44]، أي: في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله فلا منقذ له منه ويبتدئ بقوله: الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف:44]، ومنهم من يقف على وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:43]، ويبتدئ بقوله : هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف:44]، ثم اختلفوا في قراءة الولاية، فمنهم من فتح الواو من الولاية، فيكون المعنى هنالك الموالاة لله، أي: هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84]، وكقوله إخباراً عن فرعون : حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:90-91]، ومنهم من كسر الواو من الولاية، أي: هنالك الحكم لله الحق، ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26]، ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عز وجل، كقوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62]، الآية، ولهذا قال تعالى : هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا ، أي: جزاء وَخَيْرٌ عُقْبًا ، أي: الأعمال التي تكون لله عز وجل ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير].
قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ [الكهف:45] ].
قوله تعالى: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265]، يعني: مضاعفاً، أي: حُملت الثمار ضعفين، يعني: أثمرت ثماراً كثيرة.
قال رحمه الله تعالى: [ وكان له -أي: لذلك الرجل- ثمر، أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحر، ولهذا اغتر هذا الرجل وتبجح، وافتخر ونسى آخرته، (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن وهما يتحاوران -أي: يتراجعان الكلام بينهما في بعض الماجريات المعتادة مفترخاً عليه: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً).
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، أي: ليعطيني خيراً من هاتين الجنتين، وهذا لا يفهم منه إلا أمران: إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء، فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس وأبخسهم حظاً من العقل ].
وفيها الإرشاد إلى التخلي عن لذات الدنيا وشهواتها بما عند الله من الخير، لقوله: إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ [الكهف:39-40]، وفيها أن المال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة الله، كما قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]، وفيه الدعاء يتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصاً إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين وفخر عليهم ].
ففي هذه الآية ما دعا المؤمن على الكافر بأن يرسل الله تعالى على جنته حسباناً من السماء، فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ، فاستجاب الله دعاءه.
قال: [ وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ووجد العاملون أجرهم، فهناك الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44]، أي: عاقبة ومآلاً ].
وهذه أمور كلها واضحة بأحكامها وفوائدها، فالإنسان الذي يبتلى بشيء من المال فيغتر، يتمتع به قليلاً ثم سرعان ما يزول، وتبقى عليه حسرة مع ما حرم من ثواب الآخرة، ويستمر على كفره وعناده، وكما أن الإنسان إذا تعجب من شيء أو من نفسه أو أهله يبرك ويقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، والتبريك هو السبب في دفع العين، ومعروف في قصة العائن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركتا..) وكذلك العاقبة إنما تكون للشاكرين المؤمنين، ويقول تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر