وهذا ثابت، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدرها لما هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وأرسلت قريش وفداً يطلبون من النجاشي أن يردهم إليهم، وقال الوفد للنجاشي : إن هؤلاء تركوا دين قومهم، فقال لهم: هؤلاء قوم أتوا إلي واختاروني فلا أتركهم، فقالوا له: أيها الملك! إنهم يقولون في المسيح قولاً يخالف اعتقادكم، فقال: ما تقولون؟ فقرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدر سورة مريم، فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال: ما زاد هذا الذي سمعته على ما في التوراة وما في الإنجيل مثل هذا يعني: أنه موافق لما ذكره الله تعالى في التوراة والإنجيل من خبر مريم وعيسى.
تفسير قوله تعالى: (كهيعص... واجعله رب رضياً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بسم الله الرحمن الرحيم
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة ].
والصواب من الأقوال: أن الحروف المقطعة الله أعلم بالمراد بها، فهي مما استأثر الله بعلمه، وقد قال بعضهم: إن الحروف المقطعة فيها إشارة إلى أن القرآن إنما هو من هذه الحروف الثمانية والعشرين، ومع ذلك فقد تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله فعجزوا، وأن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وأن يأتوا بسورة فعجزوا.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من أهل العلم.
وقال بعضهم: إن فيها الإشارة إلى أن كل حرف فيها يدل على اسم من أسماء الله، لكن هذا قول لا وجه له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا ].
أما الرسول فإنه يرسل إلى أمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويرد عليه دعوته بعضهم، وهم أهل الشرائع مثل: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسلوا إلى أمم عظيمة فآمن بهم بعضهم وكفر بهم بعضهم.
أما النبي فإنه يكلف بالعمل بشريعة سابقة ولا يرسل إلى الناس كافة، وإنما يرسل للمؤمنين مثل: داود وسليمان وزكريا، فقد كلفوا بالعمل بالتوراة، حتى جاء عيسى عليه السلام فأنزل الله عليه الإنجيل وفيه تخفيف لبعض الأحكام فقد أحل لهم بعض المحرمات كما أخبر الله عز وجل: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[آل عمران:50].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقرأ يحيى بن يعمر : (ذكَّر رحمة ربك عبده زكريا_.
قال في الحاشية: وقيل هو فعل ماض وقيل فعل أمر.
والأقرب أنه فعل أمر فقال: ذكِّر يا محمد! بهذه القصص الواردة في القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وزكريا يمد ويقصر، قراءتان مشهورتان ].
وزكرياء يكون بألف وبعده همزة فيكون ممدوداً، أو زكريا بألف بدون همز فيكون مقصوراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً] أي: كان يأكل من عمل يديه في النجارة، وهذا يدل على أن العمل والصناعة ليست عيباً، وإنما هي الشرف، فكون الإنسان يأكل من صنعة يده ليس عيباً، بل العيب أن يكون الإنسان عالة يتكفف الناس وهو يستطيع العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)، واليد العليا اليد المنفقة، واليد السفلى هي اليد الآخذة، ولا تكون يد الإنسان هي اليد العليا إلا إذا اشتغل فيبيع ويشتري ويحرث ويزرع، وتكون بيده صنعة كالنجار أو الحداد أو البناء أو السباك أو الكهربائي والمبلط.. فكل هذه أعمال يتكسب بها الإنسان ويستغني بها عن الناس، ولهذا كان الأنبياء في أيديهم صنعة عمل، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
وكان زكريا نجاراً، وكان نوح حداداً، وكان العلماء والمحدثون وغيرهم في أيديهم صناعات فينسبون إلى صناعاتهم منها البزاز والصباغ والجصاص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا[مريم:3]، قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره، حكاه الماوردي ، وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال قتادة في هذه الآية: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا[مريم:3]، إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي، وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب يا رب يا رب! فقال الله: لبيك لبيك لبيك.
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل ].
والشاهد قوله: قوافيه، ولم يقل: قوافيَه، وهذا معروف في لغة العرب، فالأصل أن يقول: قوافية، ولكنه سكنها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال مجاهد وقتادة والسدي : أراد بالموالي العصبة، وقال أبو صالح : الكلالة، وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: (وإني خَفّتِِ الموالي من روائي) بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي ].
فيصح أن يقال: عصبتي أو عصباتي فالمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته وما يوحي إليه ].
لأن الأنبياء ما بعثوا لجمع المال، وإنما بعثوا لتوجيه الناس ودعوتهم وتبلغيهم وهدايتهم وإرشادهم، فلم يخف زكريا عليه السلام الموالي أنه يورث ماله، فالأنبياء لا يرثون فما تركه الأنبياء يكون صدقة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وإنما أراد أن يرزقه الله ولداً يسوس الناس من بعده بالنبوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيحوز ميراثه دونه دونهم هذا وجه.
الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولاسيما الأنبياء عليهم السلام ].
فالغالب أن صاحب المهنة والحرفة لا يجمع مالاً، وإنما يكون ماله بمقدار حاجته، بخلاف أصحاب التجارات وأصحاب الأموال الذين يضاربون بها ويجمعونها، أما النجار والحداد وما أشبه ذلك ففي الغالب أنه لا يجتمع عنده مال، وإنما يكون العمل بقدر حاجته أو يزيد قليلاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة) ].
وهذا ثابت رواه عشرة من الصحابة، وقد يقرب الحديث من التواتر أو هو متواتر، فلهذا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر جاءت فاطمة رضي الله عنها فطلبت من أبي بكر ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فروى لها الحديث أن النبي قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وغضبت رضي الله عنها عليه وهجرته، والصواب مع أبي بكر رضي الله عنه، فالحديث صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يورث، ولو كان يورث لكان لـفاطمة النصف وللعباس الباقي، فـالعباس عمه والعصبة الذي يعصبه، ولزوجاته الربع أو الثمن، لكنه لا يورث، لكن ظنت رضي الله عنها أن لها حقاً فطلبته حقها من فدك ومن خيبر الذي كان تولاه النبي صلى الله عليه وسلم فبين لها أبو بكر رضي الله عنه أن الرسول لا يورث وأنه يليه بعده وأنه ينفق على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتجن والباقي في المصلحة العامة، فغضبت وظنت أن لها حقاً وبقيت غاضبة وهي سيدة نساء أهل الجنة، لكن ليست معصومة رضي الله عنه، فالحق والصواب مع أبي بكر رضي الله عنه.
أي: يرث النبوة من آل يعقوب، وآل يعقوب أنبياء؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنجب إسحاق، وإسحاق أنجب يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ[مريم:6]، يعني: يرث من آل يعقوب النبوة.
لأن داود له أولاد كثر، فلما خص سليمان بالميراث دل على أن الميراث ميراث النبوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا[مريم:6]، أي: مرضياً عندك وعند خلقك تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
وهذا مما يؤيد أن المراد بقوله: (يرثني) أي: ميراث النبوة وليس المراد ميراث الدنيا، وقد استجاب الله دعاءه فجعله نبياً كريماً رضياً مرضياً حببه الله إلى خلقه.
تفسير قوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ...)
والمراد بالمحراب مكان الصلاة، ومنه قوله تعالى في قصة داود: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ[ص:21]، يعني: تسوروا الجدار وجاءوا إليه في مكان صلاته، وما تعارف عليه الناس من أن المحراب هو المكان الذي يكون فيه الإمام أثناء صلاته بالناس أو الجزء الذي يكون في مقدم المسجد فهذا اصطلاح محدث جديد فالمراد بالمحراب مكان الصلاة.
وسيأتي أيضاً أن الله تعالى وصفه بأنه سيداً وحصوراً قيل: الحصور الذي لا يأتي النساء، وقيل غير ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق على كبرهما لا لعقرهما ].
لأن إبراهيم عليه السلام ولد له إسماعيل قبل إسحاق، فبينهما ما يقارب اثنتي عشرة سنة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ليس عقيماً، إنما ولد له من هاجر إسماعيل، لكنه تعجب من الولد مع كبر السن.