هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد، ففرح فرحاً شديداً وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها ].
وسؤال زكريا لم يكن اعتراضاً على الله، فهو يعلم أن الله لا يعجزه شيء وإنما تعجب من حاله وأنه سيأتيه ولد وهو كبير السن وأصله عاقر، ولهذا سأل ربه الكيفية والوجه الذي يأتيه حتى يتم الفرح، فبين الله له وجعل له علامة وآية وهي ألا يكلم الناس ثلاث ليال، فيستطيع أن يسبح ويهلل ويقرأ، لكن لا يستطيع أن يكلم الناس إلا بالإشارة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومع أنه قد كبر وعتا، أي: عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، تقول العرب للعود إذا يبس: عتا يعتو عتياً وعتواً، وعسا يعسو عسواً وعسياً.
وقال مجاهد : عتياً بمعنى نحول العظم، وقال ابن عباس وغيره: عتياً يعني: الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ، أو عسياً، ورواه الإمام أحمد ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها إِلَّا رَمْزًا ، أي: إشارة.
ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ[مريم:11] أي: الذي بشر فيه بالولد فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ، أي: أشار إشارة خفية سريعة، أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ، أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله وشكراً لله على ما أولاه ].
فهذه الأيام يخصها بمزيد من التسبيح بكرة وعشياً، وأوحى إليهم أي: أشار، والوحي هو الإشارة الخفية، وفي هذه الآيات الكريمات بيان رحمة الله تعالى بعبده زكريا عليه السلام، وفيه استجابة الله لدعاء الأنبياء وغيرهم وأن الله تعالى يستجيب الدعاء، وأن الله يحب الملحين في الدعاء.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل إلى الله بالوسائل الشرعية كما توسل زكريا بالربوبية، فقال: رب، وكما توسل بضعفه وحاجته.
وفيه أن الأنبياء لا يورثون، وفيه أن زكريا عليه السلام سأل ربه ولداً يرثه النبوة وسياسة الناس بالشرع.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يكون همه للآخرة أعظم من همه للدنيا، وأن يكون طلبه للآخرة أعظم من طلبه للدنيا، اقتداء بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وفيه كما سبق فضل العمل، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون بيده مهنة يعمل فيها، ولهذا كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً وكان داود حداداً، وسبق الحديث: (أن أفضل ما أكل المرء من عمل يده وكل بيع مبرور)، وجاء في الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، واليد العليا هي اليد المنفقة والسفلى الآخذة، ولا تكون اليد العليا إلا إذا عمل الإنسان بيده عمل ليكف وجهه عن الناس، يكون نجاراً.. يكون حداداً.. يكون بناءً.. حراثاً.. زراعاً.. بياعاً يبيع ويشتري، ولا يكون كلاً وعالة على الناس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال مجاهد : فأوحى إليهم أي: أشار، وبه قال وهب وقتادة .
وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه الصلاة والسلام، وأن الله علمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ، أي: تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد.
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، أي: الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث.
والظاهر من السياق أن قوله: وَحَنَانًا ، معطوف على قوله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا[مريم:12]، أي: وآتيناه الحكم وحناناً وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها، ومنه سميت المرأة حنة من الحنية، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَزَكَاةً ، معطوفاً على وَحَنَانًا ، فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام ].
والحنان جاء القول بأن المقصود منه: التوراة.
وأن الحنان من أسماء الله، والمنان ثابت ولا إشكال فيه، وفيه أن الله سبحانه وتعالى نشأ يحيى تنشئة صالحة، وأنه علمه الكتاب، وكلمة (كتاب) جنس يشمل جميع الكتب، والمراد به التوراة؛ لأنه الذي يعمل به بنو إسرائيل، ويحيى ابن خالة عيسى عليه السلام، لكن يحيى وزكريا كانا يعملان بالتوراة، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى.
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ، وفيه دليل على أنه ينبغي التعلم في الصغر، وأن التعلم في الصغر له مزية، ولهذا قال الله عن يحيى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ، فكون الإنسان يتعلم في الصغر ووقت الشباب ويجد ويجتهد فهذا هو الوقت المناسب لتحصيل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : الزكاة العمل الصالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَكَانَ تَقِيًّا ، طاهراً فلم يعمل بذنب.
وقوله: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ، لما ذكر تعالى طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً أمراً ونهياً، ولهذا قال: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال ].
والسلام وهو الأمان، وهذه منقبة عظيمة أعطاها الله ليحيى عليه الصلاة والسلام وأنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ].
ولهذا يبكي حينما يسقط من بطن أمه، فقد خرج من المألوف الذي ألفه وجلس فيه مدة إلى الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم ].
يعاين الملائكة فيكشفون له عن مستقبله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ].
ولهذا يقول الشاعر:
ولدتك حين ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاجهد لعلك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
أي: اجتهد بالعمل الصالح، فلما ولدت كنت تبكي والناس يضحكون سروراً فرحاً بولادتك، فاجتهد بالعمل الصالح حتى إذا بكوا عليك في يوم موتك تكون ضاحكاً مسروراً تبشرك الملائكة بالجنة أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ[فصلت:30].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك، فعرف والله فضلهما ].