قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5].
وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:77-79] وقال هاهنا : وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:66-67] يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني: أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً، أفلا يعيده وقد صار شيئاً كما قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27].
هذا حديث قدسي من كلام الله لفظاً ومعنى، ولا يلزم من الأذى الضرر، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [الأحزاب:57] فلا يلزم من الأذى أن يلحقه ضرر؛ لأن الله تعالى لا يضره أحد من خلقه، فهذه المقالة تؤذي الله لكن لا يضره أحد من خلقه، ولا يلزم من هذا الضرر؛ بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى.
وليس بدء الخلق بأهون من إعادته، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] بمعنى: هين عليه، وكل منهما هين على الله، فكلمة أهون ليست على بابها، ولكن المعنى: وهو هين عليه، فالكل هين على الله.
قال:[ وقوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ [مريم:68] أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعاً وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم:68] قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: قعوداً كقوله : وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28].
وقال السدي في قوله: (جثيا) : يعني قياماً. وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله.
وقوله : ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ [مريم:69] يعني: من كل أمة. قال مجاهد : أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69] قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً وهو قوله: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69].
وقال قتادة : ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69] قال: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف، وهذا كقوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جميعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [الأعراف:38] إلى قوله: بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف:39] ] وقوله : ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم:70] ثم هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38].
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا خالد بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود فقال: يردونها جميعاً، وقال سليمان مرة: يدخلونها جميعاً وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً) غريب ولم يخرجوه ].
يعني: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال: [ وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال: قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال : قد مررتم عليها وهي خامدة. وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال : ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت قال: إني ذكرت قول الله عز وجل وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟ وفي رواية: وكان مريضاً.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق : كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: ياليت أمي لم تلدني ثم يبكي فقيل له : ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها.
وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم.قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله.
وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو أخبرني من سمع ابن عباس رضي الله عنهما يخاصم نافع بن الأزرق فقال ابن عباس : الورود الدخول فقال نافع : لا. فقرأ ابن عباس إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] وردوا أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] أوردها أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا ؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك! فضحك نافع .
وروى ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري وهو نافع بن الأزرق : لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:102] فقال ابن عباس : ويلك أمجنون أنت؟ أين قوله: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98]، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86]، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالماً وأدخلني الجنة غانماً ].
وهذا الحديث ضعيف قال: أخبرني عمن سمع ابن عباس ، ففيه مبهم مجهول.
قال: [ وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أسباط عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا؟
وقال أبو داود الطيالسي : قال شعبة : أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرؤها: (وإن منهم إلا واردها) يعني: الكفار. وهكذا روى عمرو بن الوليد ].
هذا أيضاً فيه مبهم، لكونه عمن سمع ابن عباس .
قال:[ وهكذا روى عمرو بن الوليد البستي أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك: (وإن منهم إلا واردها) قال: وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]يعني: البر والفاجر، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] الآية، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86]، فسمى الورود على النار دخولاً وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد الله -هو ابن مسعود - وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم).
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به .
ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود مرفوعاً هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعاً.
وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: (يرد الناس جميعاً الصراط، وورودهم قيامهم حول النار. ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من النار يختطفون بها الناس) وذكر تمام الحديث، رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا النضر حدثنا إسرائيل أخبرنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كأجود الخيل والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: (اللهم سلم سلم) ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل عن غنيم بن قيس قال : ذكروا ورود النار فقال كعب : تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد : أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي ].
والإهالة: قيل: هو ما أذيب من الإلية والشحم، وقد دُعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام من شعير وإهالة سنخة، يعني: إلى شحم متغير.
قال: [ فقال كعب : تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي. قال: فتخسف بكل ولي لها هي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم، قال كعب : ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية، قالت: فقلت: أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: ألم تسمعيه يقول: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]؟) ].
يعني: أفلم تسمعيه يقول: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، وهذا هو الصواب في معنى الورود: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فالورود فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن الورود دخول النار يدخلونها ثم ينجي الله المتقين، والقول الثاني: أن الورود المرور على الصراط، ولا يلزم من ذلك دخول النار لهذا الحديث حديث حفصة ، قالت: يا رسول الله: ألم يقل الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: ألم تسمعيه يقول: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، فأشار بأن الورود معناه: المرور على الصراط ولا يلزم منه دخول النار؛ فقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] لا يلزم من ذلك دخول النار، فمن أحاط به العذاب ثم نجا فقد نجاه الله وإن لم يصبه شيء، ومن أحاط به العذاب وأحاطت به المصائب ثم نجا يقال ولو لم يصبه شيء: نجا ونجاه الله، فالذي مر على الصراط إذا تجاوزه نجاه الله وإن لم تصبه النار، ولهذا قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا [هود:58]، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا [هود:66]، ولم يكن في عذاب القبر هود ولا صالح نجيناه، فالنجاة يلزمها حصول العذاب، فإذاً: قول الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فيه قولان لأهل العلم. القول الأول: الورود دخول النار كما سبق الأثر. والقول الثاني: أن الورود المرور على الصراط، والمرور على الصراط بحسب الأعمال، فأول زمرة تمر على الصراط كالبرق، والمرور على الصراط والصراط على متن جهنم، وليس المراد دخولها، وهذا هو الصواب، فالصواب: أن الورود في قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]: المرور على الصراط، والصراط على متن جهنم يمر من فوقه، فأول زمرة تمر كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاود الخيل، ثم الرجل يعدو عدواً، ثم الرجل يمشي مشياً ثم الرجل يزحف زحفاً تعرض بهم أعمالهم، والملائكة تقول: (اللهم سلم سلم) حتى يمر من يزحف زحفاً وعلى الصراط كلاليب تخطف من يمر عليه خطفاً وتلقيه في النار، نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا قال النبي في هذا الحديث: (لا يرد النار أحد بايع تحت الشجرة، فقالت
والمرور على الصراط يصعد الناس منه إلى الجنة، فالنار أسفل والجنة فوق إذ يصعد الناس عليه، ومن تجاوز الصراط نجا ومن لم يتجاوز سقط في النار، فإذا تجاوز المؤمنون الصراط وقفوا على صراط آخر خاص بالمؤمنين، أو أنه طرف الصراط، فيتقاصون المظالم التي بينهم قبل أن يدخلوا الجنة، ثم تسل السخائم والضغائن من النفوس فيدخلوا الجنة في غاية من الصفاء والنقاء، سليمو الصدور، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
فالذي يتجاوز الصراط نجا، والذي لا يتجاوز يسقط في النار نسأل الله العافية، والمؤمنون يعذبون على قدر أعمالهم، يعني: يدخلون النار على قدر أعمالهم، ولا يخلدون في النار، فأهل التوحيد قد يسقطون في النار ويدخلونها فيدخل النار جملة من أهل الكبائر مؤمنون موحدون مصلون ولا تأكل النار وجوههم، لكن دخلوها بمعاصٍ، هذا دخل النار؛ لأنه مات على الزنا من غير توبة، أو مات على السرقة من غير توبة، وهذا مات على التعامل بالربا، وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على قطيعة الرحم، وهذا مات على الغيبة، وهذا مات على النميمة، وهذا مات على أكل أموال الناس بالباطل، ويعذبون على قدر جنايتهم، وهذا أفزع الناس في أموالهم، في دمائهم، في أعراضهم، فيمكثون فيها ما شاء الله ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيأذن الله له بالشفاعة، وكل مرة يحد الله له حداً يخرجهم من النار، فتشفع الملائكة وتشفع الأنبياء والشهداء ويبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، يقول: (شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان.
وفي الحديث الآخر: أنهم يموتون ويخرجون منها ضبائر ضبائر قد امتحشوا وصاروا فحماً، فيلقون على نهر الحياة، يصب عليهم من النهر فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا دخلوا الجنة، وإذا خرج عصاة الموحدين ولم يبق منهم أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أقسامهم، فلا يخرجون منها أبداً، اليهود والنصارى والوثنيون والشيوعيون والمنافقون نعوذ بالله، كما قال: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ [الهمزة:8] يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، وقال سبحانه: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] أحقاباً بعد أحقاب إلى ما لا نهاية، كلما أتى حقب جاء بعده حقب نسأل الله السلامة والعافية، ومن مات على الشرك الأكبر والكفر الأكبر لا حيلة له، فهو آيس من رحمة الله.
أما من مات على التوحيد فهو على خطر، قد يعفى عنه، وقد يعذب بالنار، وقد تصيبه أهوال وشدائد القيامة، وقد يصيبه عذاب في القبر، وقد يسلم وقد يستعفي فيعفى عنه، وقد يعذب في النار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ وقال أحمد أيضا : حدثنا ابن إدريس حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم) ].
تحلة القسم يعني: قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، هذا قسم من الله، يعني: يمر عليها مروراً وإذا أطلق الولد في الكتاب والسنة يشمل الذكر والأنثى.
وفي الحديث الذي قبله أشار إلى أن المرور هو الورود ولا يلزم منه دخول النار.
قال:[ وقال عبد الرزاق : قال معمر : أخبرني الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم) يعني: الورود ].
يعني: يمر عليها مروراً، ولا يلزم من ذلك الدخول، وإنما تحلة القسم، قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] يعني: فلابد من المرور تحلة القسم، وكل أحد لابد أن يمر، ولكن طبقات، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطير، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل.
قال:[ وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) قال الزهري : كأنه يريد هذه الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] ].
والمعنى: أنه غاية الفضل لمن مات له ثلاثة من الولد (قيل يا رسول الله! واثنان قال: واثنان قال: ثم لم نسأله عن الواحد)، وهذا فيه فضل لمن مات له اثنان من الولد أو ثلاثة قبل البلوغ، قدم بين يديه اثنين أو ثلاثة وأنهم من أسباب سلامته من النار، لكن هذا عند أهل العلم مقيد باجتناب الكبائر، فإذا مات بالتوحيد والإيمان واجتنب الكبائر يكون هذا من أسباب نجاته من النار، والواحد أيضاً جاء في الحديث الآخر: (ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) والصفي: المحبوب، إذا مات محبوب للإنسان، سواء كان هذا المحبوب زوجاً أو كانت امرأةً أو زوجة أو ولداً أو صديقاً يعز عليه أو شيخاً له أو زميلاً له أو تلميذاً، ثم احتسب، فيحصل هذا الثواب بالصبر على فقد الواحد، هذا من أسباب دخول الجنة. وهذا الحديث ثابت في الصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير رحمه الله : حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا أبو المغيرة حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وعك وأنا معه، ثم قال إن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة) غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه ].
قوله: (هي ناري) أي: الحمى.
قال: [ وحدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71].
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة فقال
كل هذا تابع للسبب الأول وهذا ضعيف، فيه ابن لهيعة وفيه زبان بن فائد ثم أيضاً هذا الثواب الكثير على العمل القليل من علامات ضعف الحديث فقد ذكر أن الذكر أفضل من النفقة بسبعمائة ألف .
قال ابن حجر: زبان بن فائد بالفاء المصري أبو جوين بالجيم المصري مصغرة، الحمراوي بالمهملة ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته.
يعني: صالح التعبد لكن الحديث ضعيف، وكثير من العباد يصير عندهم ضعف بسبب انشغالهم بالعبادة أو يصير عندهم نسيان، يصير عنده عبادة لكن ليس عندهم عناية بالحديث.
قال ابن حنبل : يحدث بالمناكير، وقال ابن معين : شيخ ضعيف. وقال ابن أبي حاتم : شيخ صالح. وقال ابن حبان : منكر الحديث جداً.
والمقصود: أنه ضعيف عند كثير من أهل العلم.
قال:[ وروى أبو داود عن أبي الطاهر عن ابن وهب وعن يحيى بن أيوب كلاهما عن زبان عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصلاة علي والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله) ].
وهو ضعيف؛ لأن فيه زبان .
قال: [ وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: هو الممر عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الزالون والزالات يومئذ كثير وقد أحاط بالجسر يومئذ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا ألله سلم سلم).
وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود في قوله: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] قال: قسماً واجباً.
وقال مجاهد : حتماً، قال: قضاء وكذا قال ابن جرير : وقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] أي: إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود، وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرج أولاً من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ].
وهذا كله جاءت به الأحاديث: من في قلبه دينار، ثم بعده نصف دينار، ثم مثقال ذرة، ثم مثقال حبة، ثم حبة من خردل، ثم أدنى مثقال حبة، ثم أدنى أدنى أدنى.
قال:[ ثم يخرج الله من النار من قال يوماً من الدهر : لا إله إلا الله ].
يعني: إن مات على التوحيد، ومن شروط التوحيد الصلاة، ومن لم يصل فهو مشرك، هذا المراد، ومن مات على التوحيد لا يبقى في النار، لابد أن يخرج ولو قضى فيها مدة طويلة.
قال:[ وإن لم يعمل خيراً قط ].
يعني: زيادة على التوحيد، فإنه لابد منه، أما من مات على الشرك فلا يخرج أبد الآباد، نعوذ بالله، لكن هؤلاء ماتوا على التوحيد وعندهم معاص، فدخلوها بالمعاصي التي أصروا عليها من غير توبة.
قال:[ ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72] ].
فقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] أي: الموحدين، اتقوا النار بالتوحيد، أما من مات على الشرك فليس من المتقين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر