قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية، يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه ].
الود يعني: المحبة، فالله تعالى يجعل في قلوب عباده للمؤمن التقي مودة ومحبة ليس لكل أحد، ولا عبرة بالكافر والفاسق الذين لا يحبون الموحد، لكن العبرة بالمؤمنين والموحدين الذين يجعل الله في قلوبهم محبة ومودة للمؤمن التقي، ويدل على هذا الحديث: (إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوا فلاناً، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً أخبر جبريل بذلك فينادي: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض).
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] ولهذا قال تعالى راداً عليهم شبهتهم: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً.
وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس : خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا قال: المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر ].
هذه الآية الكريمة فيها بيان عادة الكافرين والظالمين أنهم يفتخرون بما هم عليه من الباطل، وما أعطاهم الله من الأموال ومن الأثاث ومن الأمتعة وما لهم من الأتباع، وما أعطاهم الله من الأموال والسلطان والجاه، ويظنون أن هذا دليل على أنهم على حق، وأن المؤمنين الذين ما أعطوا مثل ما أعطوا من الأموال والأولاد والجاه والسلطان على الباطل؛ ولهذا قال قوم نوح: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]، وأتباع الأنبياء هم الضعفاء؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان قال: (هل اتبع محمداً ضعفاء الناس وأشباههم؟ قال: نعم، اتبعه ضعفاؤهم، قال: وكذلك أتباع الأنبياء).
فهذا من باب الابتلاء والامتحان؛ ولهذا قال: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73] الندي: المقام من المرتبة والمكانة، والندي: المجتمع، مثل النادي، أي: مكان الاجتماع الذي يجتمع فيه هؤلاء، يقولون: نحن الآن أحسن رتبة ومكانة في المجتمع، ونادينا يجتمع فيه الأشراف والأتباع الكثيرون، فكيف يكون هؤلاء الضعفاء المختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم أحسن منا؟! لا يمكن هذا، فاستدلوا بما هم عليه من الأتباع وبما أعطوا من الأموال وبما أعطوا من القوة، وهذا ابتلاء وامتحان، وهذه الكثرة ليست دليلاً على الأحقية، وإنما الحق أحق أن يتبع، ومن ساروا على الحق فهم على الحق، ولو كانوا عدداً قليلاً؛ ولهذا قال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17]، وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
إذاً: ليست العبرة بكثرة الأتباع، وليست العبرة بالأموال ولا بالأولاد ولا بالشرف ولا بالجاه؛ ولهذا يقول سبحانه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
هذا من الابتلاء والامتحان؛ ولهذا اغتر كفار قريش بما هم فيه وقالوا: نحن أحسن مقاماً ورئياً وأثاثاً، فقال الله سبحانه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا أي: أحسن أثاثاً منهم وأمتعة ومنظراً وأشكالاً، وما أعطاهم الله من الأجسام ومن القوة ومن المال ومن السلطان ومن الجاه إنما هو امتحان، وكل هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله.
والواجب هو الإيمان بالله ورسوله، واتباع ما جاءت به الرسل، ثم ما جاء به خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبع شريعة الله وآمن بالله ورسوله واتبع شرعة الله فهو على الحق، ولو كان ماله قليلاً، ولو كان العدد قليلاً، ولو لم يكن له مال ولا جاه ولا سلطان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال العوفي عن ابن عباس : المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [الدخان:25-26] المقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه.
وقال الله فيما قص على رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر قوم لوط: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29] والعرب تسمي المجلس: النادي ].
النادي الآن هو المعروف مثل: النادي الثقافي والنادي كذا، وهو مكان لاجتماع الناس وإلقاء الكلمات وإنشاد الأشعار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة؛ فعرض أهل الشرك بما تسمعون: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وكذا قال مجاهد والضحاك ، ومنهم من قال في الأثاث: هو المال، ومنهم من قال: الثياب، ومنهم من قال: المتاع.
والرئي: المنظر، كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وقال الحسن البصري : يعني: الصور، وكذا قال مالك : أَثَاثًا وَرِئْيًا : أكثر أموالاً وأحسن صوراً، والكل متقارب صحيح ].
يعني: لا تغتروا يا كفار قريش بما أوتيتم من الأموال ومن الأجسام وجمالها، فليست هذه نافعة عند الله، وإنما العبرة بالأعمال والقلوب والنيات؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
فالقلوب هي محل نظر الرب، أما الصور والأجسام فالناس يتفاوتون فيها، هذا طويل وهذا قصير، وهذا وسيم جميل وهذا ذميم، ولكن تزول هذه الفوارق يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الحديث ما معناه: أن العبد الأسود الذي له رائحة كريهة إذا قتل وصار شهيداً تزول عنه هذه الدمامة؛ وذلك لأن أهل الجنة يكونون على صورة القمر ليلة البدر.
إذاً: من كان ذميم الخلقة ومن كان قصيراً ومن كان أسود وهو من أهل الجنة والكرامة، فإنه يكون من أحسن الناس صورة يوم القيامة، كل أهل الجنة طولهم ستون ذراعاً على طول أبيهم آدم، وأبناء ثلاث وثلاثين سنة في الشباب من أحسن الناس وصورهم من أجمل الصور، وليس فيهم ذميم الخلقة، لكن في الدنيا يتفاوت الناس فيها، منهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الجميل ومنهم الذميم، ومنهم الفقير ومنهم الغني، يتفاوتون في عقولهم وعلومهم وأجسامهم وألوانهم وأشكالهم وأعمالهم وأموالهم في الدنيا، ولله الحكمة البالغة.
أما يوم القيامة فمعروف أن الناس يتفاوتون في الجنة في الدرجات على حسب منازلهم، فالعلماء ورثة الأنبياء وهم مقدمون وأرفع درجة من غيرهم، لا شك أنهم كلهم يدخلون الجنة ثم يتقاسمون الدرجات بأعمالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض).
ورواه مسلم من حديث سهيل ، ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المرائي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل، فلا يزال كذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه. فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض) غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه ].
أي: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقة من الله -قال
قوله: [ (إن المقة) ] المقة بالمربوطة المحبة، وبالمفتوحة البغض، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر:10].
وقوله: [ (يمق) ] الماضي منه (ومق) مثل (وعد يعد)، و(وقر يقر) ويسمى مثالاً عند أهل الصرف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأرى شريكاً قد قال: فتنزل له المحبة في الأرض، قال: (وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فينادي جبريل: إن ربكم يبغض فلاناً فأبغضوه)، أرى شريكاً قال: فيجرى له البغض في الأرض. غريب ولم يخرجوه ].
أي: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو داود الحفري حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد ، وهو الدراوردي - عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]) ].
قوله تعالى: وُدًّا [مريم:96] أي: محبة. وأصله ود يود وداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة عن الدراوردي به، وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96] قال: حباً.
قوله: [ واللسان الصادق ] هو كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]: إي والله في قلوب أهل الإيمان. وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله عز وجل رداء عمله.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل: والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها. فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائماً يصلي، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج، فكان لا يعظم، فمكث بذلك سبعة أشهر، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي، فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر، لأجعلن عملي كله لله عز وجل، فلم يزد على أن قلب نيته، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله، فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلاناً الآن. وتلا الحسن : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96].
وقد روى ابن جرير أثراً أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف ، وهو خطأ؛ فإن هذه السورة بكمالها مكية، لم ينزل منها شيء بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك، والله أعلم ].
هنا قد يقول قائل: ما حكم من دخله الرياء أثناء العمل؟
والجواب: أن هذا فيه تفصيل: فإذا كان الرياء طارئاً أثناء العمل ثم استعاذ بالله من الشيطان، وزال عنه الرياء فإنه لا يضره شيء، أما إن استرسل معه فإنه يبطل العمل.
وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] أي: عوجاً عن الحق، مائلين إلى الباطل، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] لا يستقيمون.
وقال الثوري عن إسماعيل -وهو السدي - عن أبي صالح : وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] عوجاً عن الحق. وقال الضحاك : الألد: الخصم. وقال القرظي : الألد: الكذاب. وقال الحسن البصري : قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] صماً. وقال غيره: صم آذان القلوب. وقال قتادة : قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] يعني قريشاً. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] : فجاراً. وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد ، وقال ابن زيد : الألد: الظلوم، وقرأ قوله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] ].
ويجمع هذه المعاني كلها أنهم قوم منحرفون عن الحق، مائلون عن الحق، فالألد الخصم هو الذي يجادل بالباطل ولا يقبل الحق، فقوله تعالى: وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] أي: مائلين عن الحق غير قابلين له، مع أنه سبحانه وتعالى قد يسر القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو اللسان العربي- ليبشر به المتقين المستجيبين لله ولرسوله.
وأما المنحرفون من غير المستجيبين للحق فلهم النذارة، فالقرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمستجيبين، ونذارة للمنحرفين غير القابلين للحق.
هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98] أي: هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً، قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد : يعني صوتاً. وقال الحسن وقتادة : هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً؟ والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي، قال الشاعر:
فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها ].
وفي نسخة (فتوحشت)
ومعنى (فتوجست): أي: سمعت صوتاً خفياً، والآية في الذين أهلكهم الله قبل قريش فلم يعد لهم حس ولا صوت، ولم يعد لهم أثر، حيث أبادهم الله تعالى.
وهذه الآية فيها الوعيد الشديد للكفار الذين ردوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وبيان أن الله قادر على إهلاكهم؛ لأنه أهلك من قبلهم ممن كذبوا بالأنبياء والرسل، فلا يوجد لهم أثر ولا يسمع لهم صوت، فقد أبيدوا عن آخرهم.
والدعاء عبادة لله تعالى وإقرار بربوبيته واعتراف منك -أيها العبد- بعبوديتك وأنك عبد ضعيف ذليل ترجو عفو الله، وترجو بره وإحسانه حتى ولو لم يجب دعاءك، فأنت مثاب على هذا الدعاء؛ لأنك تتعبد لله بالدعاء، فإما أن تعجل لك الدعوة فيستجيب الله لك، وإما أن يصرف عنك من السوء مثلها، وإما أن تعطى من الخير مثلها، بشرط خلوها من موانع الدعاء، كأن يدعو الإنسان بإثم أو بقطيعة رحم، أو يدعو بقلب غافل.
ثم ذكر الله بعد ذلك قصة مريم وابنها، ثم ذكر قصة إبراهيم ودعوته أباه، ونصحه له بأربع نصائح وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه آزر، قال تعالى عنه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:42-45].
وهذه نصيحة عظيمة وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه؛ لأنه أحق الناس ببره وإحسانه، فدعاه إلى الله عز وجل، دعاه إلى التوحيد، ولكن الله لم يقدر له الهداية، وفي هذا حكمة بالغة، حيث يبتلى الرجل الفاضل والعالم الكبير أو النبي بابن كافر، أو بأب كافر، أو بأولاد عصاة، أو بزوجة كافرة، وهذا من الابتلاء بالمصائب، كما ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بعمه أبي لهب ، فكان يتبعه في مواقف دعوته، ويقول: لا تصدقوه فإنه كذاب. ولم يقدر الله الهداية لعمه أبي طالب مع حرصه عليه الصلاة والسلام على هدايته، حتى سلاه الله عز وجل بقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
وبين الله تعالى أنه عوض إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بأولادٍ أنبياء صالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وذلك بسبب إخلاصه لله وتوحيده له ومقاطعته لأهل الشرك.
ثم ذكر الله قصة موسى وهارون، ثم قصة إسماعيل، ثم إدريس عليهم السلام، ثم ذكر الله بعد ذلك قصة الكافر الذي قال: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77] وبين الله قبل ذلك أنه لا بد من المرور على الصراط، وأنه لا ينجو إلا المتقون، وبين سبحانه تسليطه الشياطين على الكفار تؤزهم أزاً.
وبين مصير المؤمنين الموحدين، ومصير الكفار، وأن الكفار يساقون إلى النار سوقاً، وأن المؤمنين لهم الجنة والكرامة، وبين سبحانه أن المؤمنين توضع لهم المحبة، وأن الله يجعل لهم في القلوب محبة ومودة في الدنيا، وهذا من البشرى العاجلة لهم، وبين سبحانه في هذه السورة أن القرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمؤمنين المتقين، ونذارة لمن خالف أمر الله، ولم يقبل هدى الله، ثم توعد سبحانه وتعالى المنحرفين والصادين والمعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش بالعذاب والهلاك، وأنه أهلك من كان قبلهم، فلم يعلم لهم أثر ولا عين، قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر