من رحمة الله على العباد أن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين يدلونهم على الخير ويحذرونهم من الشر، وأول شيء أمر الأنبياء والرسل بالدعوة إليه هو التوحيد الخالص، كما أمر الأنبياء بإنذار الناس بالساعة وأنها آتية لا ريب فيها ليقضى فيها بين الخلق ويثاب المحسن ويعاقب المسيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى، وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه، وذلك بعدما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قيل: قاصداً بلاد مصر بعدما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين، ومعه زوجته، فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارًا، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ[طه:10]أي شهاب من نار وفي الآية الأخرى: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ[القصص:29] وهي الجمر الذي معه لهب.
وهذه من حكمة الله عز وجل أن جعل سيره في هذا الوقت من الظلام والضباب والسحاب، وكان يقدح بزند معه ولا يخرج منه شرر ولا شيء، وضل الطريق، فهو بحاجة الآن إلى النار وإلى من يدله على الطريق، وبينما هو في هذه الحالة رأى ناراً بجانب الجبل، فقال لأهله: امْكُثُوا[طه:10] أي: اجلسوا ههنا في مكانكم، فإني رأيت ناراً عند الجبل حتى أذهب إليها: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ[طه:10] أي: قطعة من النار، لعلكم تستدفئون بها من البرد، ولعلي أجد حولها من يدلنا على الطريق، فلما وصل إليها كلمه الله، وأرسله، وكان هذا أول بدء النبوة.
وهذا في شرع من قبلنا، إذ معروف أن الحمر الأهلية ما حرمت إلا في السنة السابعة من الهجرة، وذلك أن الصحابة في غزوة خيبر- ذبحوا الحمر وطبخوها، وكانت حلالاً قبل ذلك ثم حرمت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) وأكفئت القدور وإنها لتغلي بها، وكان هذا في أول الإسلام، وكانت حلالاً مباحة، وهي في شرع من قبلنا في زمن موسى مباح؛ لكنها هنا جلد من حمار غير مذكى، إذ لو ذكي صار طاهراً؛ لأن الحمار كان حلالاً ولم يكن حراماً، فإذا دبغ جلده وجعلت منه النعلان صارت مباحة، فلما مات صار ميتة، فإذا أخذ جلده وجعل منه حذاء صارت الحذاء من جلد غير مذكى، فهو إذاً نجس، ولو ذكي لكان طاهراً؛ لأنه كان حلالاً في ذلك الوقت، وهذا على ما قاله الصحابة إن صح عنهم.
وقد جاء في بعض الروايات أنه يوم أن كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير مذكى.
والأصل هو ما دلت عليه الآيتان، ولأن الحكمة من خلع النعلين تعظيم البقعة.
قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي إذ كان وادياً مقدساً.
قال المصنف رحمه الله: [ قال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل، وقيل: غير ذلك والله أعلم ].
والقول الثاني يرجع إلى القول الثالث.
المراد بـ (طوى)
قال المصنف رحمه الله:[ وقوله: طُوًى[طه:12] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو اسم للوادي، وكذا قال غير واحد، فعلى هذا يكون عطف بيان ].
إن أعظم وأول واجب المكلف هو توحيد الله عز وجل، وهو: أن يعلموا أنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، ولهذا أول واجب بدأ الله به بوحيه إلى موسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي[طه:14] فلا إله إلا الله معناه: لا معبود بحق إلا الله، فهو أول واجب وآخر واجب، فأول ما يدخل به في الإسلام كلمة التوحيد، وآخر ما يخرج به من الدنيا: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ..).
وهذا أول واجب على المكلف خلافاً لأهل البدع القائلين: إن أول واجب هو الشك فتشك فيما حولك، ثم تنتقل من الشك إلى التوحيد واليقين.
وهذه القراءة تحمل على التفسير، فالقراءة إذا لم تثبت متواترة يقال عنها تفسير، ومثلها ما جاء في مصحف عائشة في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر، ومثلها ما جاء في مصحف ابن مسعود في كفارة اليمين: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فمتتابعات تحمل على أنها تفسير.
وقال السدي : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي ، يقول: كتمتها من الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت.
وقال قتادة : أَكَادُ أُخْفِيهَا ، وهي في بعض القراءات: أخفيها عن نفسي، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين ].
وهذا من باب تأكيد الكلام، وليس المراد القسم، ومثل ذلك: ما جاء عن عائشة في البخاري في تفسير سورة يوسف عندما قالت: ولعمري، وجاء أيضاً في سنن ابن ماجة الذي جاء فيه كلام لـابن القيم عندما قال: لعمري، أي: تأكيد الكلام، وليس المراد بها القسم، وأما قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[الحجر:72] فهذا قسم من الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم.