قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عن فرعون: إنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام منكراً وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه، قال: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49] أي: الذي بعثك وأرسلك من هو؟ فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: خلق لكل شيء زوجة. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل الإنسان إنساناً، والحمار حماراً، والشاة شاة. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : سوى خلق كل دابة.
وقال سعيد بن جبير في قوله: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح.
وقال بعض المفسرين: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] كقوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] أي: قدر قدراً وهدى الخلائق إليه، أي: كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه.
يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على ما أراد ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أصح الأقوال في معنى ذلك: أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى صلى الله عليه وسلم في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئاً.
يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان، أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك ].
وهذه الآية وهي قوله: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51] حجة المشركين، وهي اتباع الأسلاف والآباء والأجداد في الضلال، فالواجب على كل إنسان أن يتبع الدليل ولا يتبع الآباء والأجداد والسابقين إذا كانوا على الباطل، ولهذا أخبر الله عن الكافرين أنهم قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، الأمة: هي الدين، كما أن هذا الكلام هو الحجة القرشية، فقد احتجت بها قريش، وهي أيضاً حجة فرعون حيث قال: إذا كان ربك هو الذي أعطى كل شيء خلقه فهدى فلماذا القرون الأولى ما عبدوا الله؟
وكما أخبر الله أيضاً عن قريش بقوله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7]، ولهذا فالشيخ محمد رحمه الله يقول حينما بين التوحيد وأنه يجب اتباع الحق قال: إن سلمك الله من هذه الحجة فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51] وهي حجة فرعون، أو من الحجة القرشية: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7]، فاتباع الآباء والأجداد واتباع السابقين في الباطل حجة باطلة.
والواجب اتباع الحجة والدليل والعمل بالشرع، فإذا جاء الهدى من الله اعمل به ولا تنظر إلى السابقين الهالكين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه، فقال: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا [طه:53]، وفي قراءة بعضهم (مهاداً) أي: قراراً تستقرون عليها، وتقومون وتنامون عليها، وتسافرون على ظهرها.
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا [طه:53] أي: جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31].
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه:53] أي: من أنواع النباتات من زروع وثمار ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع.
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [طه:54] أي: شيء لطعامكم وفاكهتكم ].
أي: أعد شيئاً لطعامكم ولأنعامكم وفاكهتكم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ [طه:54] أي: لدلالات وحجج وبراهين، لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54] أي: لذوي العقول السليمة المستقيمة على أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه ].
والآيات الماضية فيها دلالات لأصحاب العقول السليمة على أنه لا معبود بحق إلا الله، وعلى أنه لا إله إلا الله، ودلالة على أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وهو الذي يستحق العبادة ولا يستحقها غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي: من الأرض مبدؤكم؛ فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ أي: وإليها تصيرون إذا متم وبليتم، وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52]، وهذه الآية كقوله تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25]، وفي الحديث الذي في السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم، ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى) ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [طه:56]، يعني: فرعون، أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات، وعاين ذلك وأبصره، فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] ].
يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا لك؛ فإن عندنا سحراً مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه، فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا [طه:58] أي: يوماً نجتمع نحن وأنت فيه فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين، فعند ذلك (قال) لهم موسى: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه:59]، وهو يوم عيدهم ونوروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم، ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية؛ ولهذا قال: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ أي: جميعهم ضُحًى أي: ضحوة من النهار؛ ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم واضح بين ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل ليلاً، ولكن نهاراً ضحى.
قال ابن عباس : وكان يوم الزينة يوم عاشوراء، وقال السدي وقتادة وابن زيد : كان يوم عيدهم، وقال سعيد بن جبير : يوم سوقهم، ولا منافاة.
قلت: وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده كما ثبت في الصحيح ].
وهذه الأقوال كلها لا تنافي بينها، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه:59]، وهو يوم العيد ويوم نوروزهم واجتماعهم، ويوم تفرغهم، والقول بأنه يوم عاشوراء فيكون يوم عاشوراء هو اليوم الذي أظهر الله فيه حججه على يدي موسى، وهو اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون.
وآيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلها واضحة ظاهرة جلية، بخلاف السحرة فإن أمرهم ملتبس، فتجد السحرة عندهم التباس وعندهم تدليس وتضليل، وليس أمرهم واضحاً، ولهذا تجد السحرة والمشعوذين لا يسكن أحدهم إلا في بيت صغير ضيق ملتو، وفي شوارع ضيقة، وفي بيوت مظلمة، ويكون بعيداً عن الناس بعيداً عن الاجتماعات وله روائح منتنة.
وكذلك أعمالهم فإن فيها تدليساً وتضليلاً وتلبيساً؛ لأنهم ليس لديهم حقائق، وتجدهم لا يحبون الأمكنة الواضحة والشوارع الواضحة، ولا يحبون البيوت الواسعة، وقد يعد الناس في أوقات غير مناسبة غير واضحة للناس، بخلاف الأنبياء فإن أمرهم واضح جلي، فهم يكشفون عنه في رابعة النهار ليراه كل واحد؛ لأن ليس عندهم إلا الحق.
ولهذا قال موسى لما قال له فرعون: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:58-59]، يوم اجتماع الناس وتفرغهم؛ لكي يعلمه الخاص والعام، وحتى يرى الناس خوارق العادات النبوية، وتظهر الحقائق، وتنجلي ويندثر الباطل وينقمع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال وهب بن منبه : قال فرعون: يا موسى! اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه، قال موسى صلى الله عليه وسلم: لم أؤمر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك، فأوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن اجعل بينك وبينه أجلاً، وقل له أن يجعل هو، قال فرعون: اجعله إلى أربعين يوماً، ففعل
وقال مجاهد : وقتادة : مكاناً سوى منصفاً.
وقال السدي : عدلاً.
وقال: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (مكاناً سوى) مستوياً بين الناس، وما فيه لا يكون صوباً ولا شيئاً يتغيب بعض ذلك عن بعض، مستوياً حين يُرى ].
وصوباً جمع صوبة وهو الكثيب المرتفع، والمكان الذي لا يوجد فيه ارتفاع ولا انخفاض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عن فرعون: أنه لما تواعد هو وموسى عليه الصلاة السلام إلى وقت ومكان معلومين تَوَلَّى أي: شرع في جمع السحرة من مدائن ممكلته كل من ينسب إلى سحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [يونس:79] ].
وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل معجزات الأنبياء من جنس ما فاق به أهل ذلك الزمان، فالناس في زمن فرعون انتشر بينهم السحر، وكان لهم عناية بالسحر، وبلغوا فيه بلوغاً عظيماً، حتى إن هناك سحرة عندهم علم قوي بالسحر، ولهذا قال الملأ لفرعون: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف:112]، فجعل الله معجزة موسى العصا تفوق ما فاق به هؤلاء من السحر، فأتاهم موسى بمعجزة من عند الله وبما لا قبل لهم بها حتى علم السحرة أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما هذا من أمر الله، وإنما هذه قدرة الله فلذلك خروا سجداً وآمنوا في الحال؛ لأن عندهم عناية ومعرفة عظيمة بالسحر، وقد عرفوا السحر من أوله إلى آخره، فعرفوا أن هذا ليس من عند الله، فلهذا آمنوا في الحال، فكانت معجزة موسى عليه السلام تفوق ما برع به هؤلاء السحرة.
ولما كان الناس في زمن عيسى عليه السلام قد برعوا بالطب وبلغوا شأواً بعيداً في الطب أعطى الله عيسى من المعجزات ما فاق به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، فالأبرص يداويه فيبرؤه الله في الحال، والأكمه الذي ولد ولم يشق له عين يبرئه عيسى بإذن الله، فيشق له عيناً، وكذلك يخلق من الطين كهيئة الطير ويصور من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويخلق الله له روحاً، ففاق الأطباء في زمنه، وعلموا أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما من المعجزات التي أعطاها الله الأنبياء.
ولما كانت العرب في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغوا شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة والشعر والتصرف في الأساليب العربية، وكانت لهم أسواقاً يتناشدون فيه الأشعار ويتفاخرون بالمجاز وغيره، كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الذي أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله أفصح الكلام، وأصدق الكلام، وأحسن الكلام، فتحداهم الله وهم الفصحاء وفرسان البلاغة الذين لا يجارون فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة فعجزوا، مع أن القرآن متكون من الحروف الهجائية، ومتكون من ألفاظ ومعانٍ يعرفونها ومع ذلك عجزوا، فهو ليس من عند البشر، وإنما هو كلام الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [يونس:79]، ثم أتي، أي: اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجازة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه ].
يتمنون عليه يعني: يقولون: ماذا ستعطينا من الجوائز إذا غلبنا موسى، كما قال الله، قال السحرة: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:113-114] أي: لكم الجوائز والهدايا والتحف وأيضاً التقريب فأقربكم إلي وتكونوا مقربين من الملك في الوظائف والأعمال، ولكن لما جاء الحق ضاعت هذه الأشياء كلها وما نفع الترغيب ولا الترهيب ولا التقريب، فخر السحرة سجداً لله، وآمنوا في الحال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهو يعدهم ويمنيهم فيقولون: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:41-42].
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [طه:61] أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها ].
وهي العصي والحبال التي يبهرجون بها على الناس، فيضعون فيه الزئبق ويخيلون على أعين الناس، ويسحرون أعين الناس فيخيل إليهم أنها حيات وعقارب تتلوى، وهي عصي في الحقيقة وحبال عادية يضعون فيها الزئبق، فسحروا أعين الناس، فصار كل الوادي على سعته حيات وعقارب، حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام وهو نبي كريم أوجس في نفسه خيفة ورهبة عظيمة فهو وادٍ مد البصر امتلأ حيات وعقارب، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] قال الله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:68-69]، وهي العصا تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69].
ولهذا قال لهم: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [طه:61] أي: لا تزوروا وتبهرجوا على الناس وتسحروا أعين الناس وتضعون الزئبق على العصي والحبال فتكون عقارب وحيات؛ تبهرجون وتزخرفون وتموهون، وتجعلون الناس يعتقدون غير الحقائق.
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه:61]، فكانت هذه الكلمة من موسى عليه السلام لها تأثير عظيم، حتى إن السحرة تنازعوا أمرهم بينهم وفشلوا بسبب هذه المقالة التي قالها لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [طه:61]، لا تروجوا على الناس بالباطل وتموهون على الناس وتسحرون أعين الناس لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وخوفهم بالوعيد (يسحتكم بعذاب) يعني: يهلككم ويستأصلكم بالعذاب، (وقد خاب من افترى).
فكانت هذه الكلمة لها تأثير في تنازع السحرة واختلاف كلمتهم: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [طه:62].
قال المؤلف رحمه الله: [ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [طه:61].
أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [طه:61] أي: يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له ].
يعني: يخيلوا للناس أن هذه العصي والحبال حيات وعقارب وأنها مخلوقة وليست بمخلوقة، وهذا من الكذب والافتراء والتزوير على الله، ولهذا قال: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه:61]، وأنتم مفترون بالأفعال، وقد يكون الإنسان مفترٍ بالأقوال وقد يكون مفترٍ بالأعمال. والافتراء بالأقوال كأن يفتري على الله الكذب في أسمائه وصفاته، فينفي أسماء الله، ويقول: ليست لله، أو ينفي صفاته، أو يئولها، فهذا من الافتراء على الله، وكأن يقول: معنى الاستواء الاستيلاء، أو يفتري على الله في الحلال والحرام وهو كاذب، وكذلك يكون الافتراء بالأعمال كما فعل السحرة.
والكلمة التي قالها موسى كان لها الأثر العظيم القوي، وسببت النزاع فيما بين السحرة واختلاف الكلمة، وهذه من أقوى العدة ومن أقوى أسباب الانتصار على الخصم: إذا حصل بين أفراد الخصوم النزاع، وإذا حدث بين رؤسائهم وقادتهم فتعتبر هذه هزيمة لفرعون وللسحرة، ونصر لموسى وهارون عليهم السلام، فنصرهما الله بتنازعهم واختلاف كلمتهم.
ومن القوة اتحاد الكلمة والاتفاق في الرأي، وأما الاختلاف والتنازع فهو من أسباب الهزيمة.
ولهذا قال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، وهذه أوصى الله بها المجاهدين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46]، فالتنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح وهي القوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [طه:61-62]، قيل معناه: أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول: بل هو ساحر، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [طه:62] فيما بينهم ].
المهم أنهم تنازعوا واختلفوا، فصار في هذا هزيمة لهم ونصر لموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام.
قالالمؤلف رحمه الله تعالى: [ هذه لغة لبعض العرب جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ: (إن هذين لساحران)، وهذه اللغة المشهورة، وقد توسع النحاة في الجواب عن المسألة الأولى بما ليس هذا موضعه ].
لأن إن تنصب الاسم وترفع الخبر، والمثنى ينصب بالياء، فاللغة المشهورة (إن هذين) (إنْ) مخففة من الثقيلة (إنَّ)، وأصله (إنَّ هذان) فتنصب الاسم وترفع الخبر، و(هذين) اسم إن منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، لساحران: ساحران خبر مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى، وهذه القراءة المشهورة: (إن هذين لساحران) وهذا على اللغة المشهورة، لكن جاءت في لغة أخرى غير مشهورة وهي رفع المثنى، (إن هذان لساحران) وهي قراءة حفص.
ولا يصح أن يقال: هي لحن؛ فالقرآن أفصح الكلام، وهذا لا يجوز، وإن قال هذا الكلام عالم متعمد فقد يكون مرتداً والعياذ بالله، وإن كان جاهلاً فهو جاهل جهلاً مركباً، وهذا طعن في كلام الله، فاللغة العربية تطوع حتى توافق القرآن، فهو كلام الله العليم الخبير الذي خلق البشر وخلق لغاتهم.
وإيراد بعض مفردات هذه اللغة غير المشهورة في القرآن الكريم دليل قاطع على وجودها، ومثل ذلك قوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [طه:62]، وهو مثل قولهم: أكلوني البراغيث، واللغة المشهورة (وأسر النجوى) بدون الواو، وأكلني البراغيث، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، واللغة المشهورة (يتعاقب فيكم)، فهي وإن كانت لغة غير مشهورة إلا أنها لغة صحيحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أن هذا الرجل وأخاه -يعنون موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام- ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده فينتصرا عليه، ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله: وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63] أي: ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر، فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها ].
أي: أنهم فاقوا بالسحر، فهم معظمون عند فرعون وعند الناس بسبب السحر، ولهم أموال ووظائف تدر عليهم بسبب السحر، فقالوا: إن هذين الرجلين -أي موسى وهارون- يريدان أن يغلباكم على صناعة السحر حتى تكون الأموال والمكانة لهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك، وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم، وقد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس قال في قوله: وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63]: يعني: ملكهم الذي هم فيه والعيش.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله: وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63]، قال: يصرفا وجوه الناس إليهما.
وقال مجاهد : وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63] قال: أولو الشرف والعقل والأسنان ].
والمقصود أشرافكم وسرواتكم وأكابركم.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال أبو صالح : بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63]: أشرافكم وسرواتكم، وقال عكرمة : بخيركم، وقال قتادة : وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل، وكانوا أكثر القوم عدداً وأموالاً، فقال عدو الله: يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما وقال عبد الرحمن بن زيد : بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى أي بالذي أنتم عليه ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي: اجتمعوا كلكم صفاً واحداً وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ لتبهروا الأبصار، وتغلبوا هذا وأخاه ].
وهذا من وصية السحرة بعضهم لبعض، قالوا: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63] يعني: يريدان أن يذهبا بالشرف والأموال، فأجمعوا أمركم، أي: اجتمعوا فتكون كلمتكم واحدة، وصمموا وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ حتى تغلبوا موسى.
لأنهم يخافون على أموالهم، فالسحرة يظنون أن عيشهم أحسن عيش، وهم في أحسن حالة، ويريدون أن يبقوا على هذا الحال، وهم يعلمون أنهم مبطلون، لكن يريدون أن يبقوا على ما هم عليه، فلما تبين لهم الحق تغير الحال فسبحان من يغير ولا يتغير، فلما تبين لهم الحق ذهبت هذه الأطماع وهذه الآمال الباطلة وذهب البهرج واتضح الحق، فآمنوا بالله وتركوا ما يؤملونه من بقاء الأموال وبقاء الشرف؛ لأنهم تبين لهم الحق الآن وظهر واضحاً أبلج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [طه:64] أي: منا ومنه، أما نحن فقد وعدنا الملك العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة ].
أي: أفلح اليوم من ظهر وعلا وغلب، فهو منا أو منهم، فإن ظهر علينا فله الفلاح، وإن ظهرنا عليه فلنا الفلاح، وهذا هو الوقت الفاصل الآن، ووقت حسم للأمر، فإما أن يظهر موسى وهارون فيكون لهم الفلاح والاستعلاء، وإما أن نظهر فيكون لنا الفلاح والاستعلاء، وهذه لحظة حاسمة بسبب اجتماع الناس، فكل الناس قد أتوا في وقت واضح أبلج وهو وقت الزينة، وهو موعد مسبق ومكان مسبق قد عرفه الناس، فيوصي السحرة بعضهم بعضاً بالاجتماع والاتحاد والعناية والاجتهاد في غلبة موسى وإلقاء ما في أيديهم مرة واحدة.
قالوا لموسى: اختر إما أن تلقي ما معك أو نلقي، قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم، فألقوا العصي والحبال في هذا الوادي العظيم المتسع والصحراء العظيمة فصارت تتلوى، حتى إن موسى وجد في نفسه خيفة ورهبة عظيمة، فألقى موسى العصا فصارت حية عظيمة ابتلعت جميع ما في الوادي، فجاء الباطل ثم أتى الحق فزهق الباطل، ولهذا قال لهم موسى: ابدءوا أنتم، فالحق هو الذي يأتي ثانياً ليزهق الباطل، وليس العكس.
[ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66] ].
يخيل إلى موسى خيالاً لا حقيقة، وهو مجرد رأي العين، فهذا تخييل للعيون والأبصار، وفي الآية الأخرى يقول تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف:116]، أي: أصابتهم رهبة عظيمة، وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]، فهم وضعوا الزئبق في العصي والحبال واسترهبوا الناس حتى أصاب الناس رهبة عظيمة، وصارت العيون مسحورة، وخيل للناس أنها حيات عظيمة لا قبل لأحد بها، سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ [الأعراف:116] أي: موصوف بأنه عظيم، حتى إن موسى مع جلالة قدره وعلوه أوجس في نفسه خيفة، لكن الله سدده وأوحى إليه: َأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ [طه:69].
والموقف موقف عظيم ليس بالسهل ولا بالهين، فهو موقف أمام ملك جبار متصف بالجبروت والقوة يدعي الربوبية والألوهية، ويقول للناس: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وسحرة تعلموا السحر وبرعوا فيه وبلغوا فيه شأواً عظيماً، وفاقوا الأمم في السحر، ويجتهدون اجتهاداً عظيماً في غلبة موسى حتى يتقربون من الملك، ويأخذوا ما وعدهم به من الأموال الجزيلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي: أنت أولاً إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا [طه:65-66] أي: أنتم أولاً؛ ليرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا: وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44] ].
لأن فرعون معظم عندهم، فحلفوا بعزته إنهم الغالبون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]، وقال هاهنا: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]؛ وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كبيراً، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً ].
السحر قسمان: قسم خيال، وقسم له حقيقة، وما فعله سحرة فرعون من قسم الخيال، وهذا هو الصواب، فقد قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].
وقسم له حقيقة يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وهذا دليل على أن له حقيقة، ولولا أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة من شر النفاثات -أي: السواحر- اللاتي يعقدن العقد وينفثن في عقدهن.
وذهب المعتزلة وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن السحر كله خيال وليس له حقيقة، وهذا قول باطل، وذهب إلى هذا الجصاص من علماء الحنفية في أحكام القرآن.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر