قال المؤلف رحمه الله: [ لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:138-139] وواعده ربه ثلاثين ليلة، ثم أتبعها عشراً، فتمت أربعين ليلة، أي: يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي [طه:83-84] أي: قادمون ينزلون قريباً من الطور ].
كان نبينا عليه الصلاة والسلام يواصل الليل مع النهار صوماً، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فكان يواصل وينهى أصحابه عن ذلك فقالوا له: يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: (إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).
وقد اختلف العلماء في معنى قوله: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني). فقيل: إنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة، ولكن هذا القول مرجوح، والصواب هو القول الثاني: أن الله يسر له من مواد أنسه، ونفحات قدسه، ولطائف معارفه ما يغنيه عن الطعام والشراب، ولأنه لو كان يؤتى بطعام ويسقى من الجنة ما كان مواصلاً، فهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فلا يستبعد أن يكون موسى أيضاً يصوم العشرة الأيام ليلاً ونهاراً.
قال المؤلف رحه الله: [ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] أي: لتزداد عني رضا.
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85]، أخبر تعالى نبيه موسى صلى الله عليه وسلم بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري .
وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه: هارون، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة، كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145] أي: عاقبة الخارجين عن طاعة المخالفين لأمري ].
وما دامت في كتب الإسرائيليات فهذا لا يعنينا، فإن الله قد أخبر أنه السامري ].
قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:86] أي: بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم، وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه، وسخافة عقولهم وأذهانهم.
(غضبان أسفاً)، والأسف: شدة الغضب. وقال مجاهد : غَضْبَانَ أَسِفًا أي: جزعاً. وقال قتادة والسدي : أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده.
قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أي: أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله جل وعلا؟
أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: في انتظار ما وعدكم الله، ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ (أم) هاهنا بمعنى: بل، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا -أي: بنو إسرائيل- في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم ].
قرعهم يعني: وبخهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا أي: عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر.
فَقَذَفْنَاهَا أي: ألقيناها عنا، وقد تقدم في حديث الفتون: أن هارون عليه الصلاة والسلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار، وهي في رواية السدي ، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجراً واحداً حتى إذا رجع موسى عليه الصلاة والسلام رأى فيه ما يشاء، ثم جاء بعد ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوة، فدعا له هارون عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم ما يريد، فأجيب له، فقال السامري عند ذلك أسأل الله أن يكون عجلاً، فكان عجلاً له خوار، أي: صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً، ولهذا قال: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [طه:87-88].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البختري ، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هارون عليه الصلاة والسلام مر بـالسامري وهو ينحت العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع. فقال هارون: اللهم! اعطه ما سأل على ما في نفسه، ومضى هارون عليه الصلاة والسلام، وقال السامري : اللهم! إني أسألك أن يخور فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رءوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد، وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر ].
وهذا فيه ابتلاء من الله كما قال الله: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال السدي : كان يخور ويمشي، فقالوا -أي: الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه-: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أي: نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس رضي الله عنهما ].
وقد سول لهم الشيطان ذلك، وهذا من العجائب، كيف تصل عقولهم إلى هذا التفكير وعندهم نبي كريم وهو هارون، وشاهدوا بأعينهم إهلاك الله لبني إسرائيل وفرعون والقبط، وشاهدوا كيف أنعم عليهم هذه النعم العظيمة، ومع ذلك عبدوا العجل، فبمجرد ما إن ذهب موسى لميقات ربه أربعين ليلة إذا بهم يعبدون العجل، ومعهم هارون لكنهم استضعفوه ولم يسمعوا كلامه، وكادوا يقتلونه، وقالوا: إن موسى نسي إلهه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وبه قال مجاهد ، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: فَنَسِيَ أي: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم ].
فالقول الأول: أنه نسي إلهه ههنا، والقول الثاني: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن إسحاق : عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88]، قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، يعني: مثله ].
وهذا معنى قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]، وفي الآية الأخرى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] يعني: حب العجل، نعوذ بالله، فهذا من الابتلاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول الله: فَنَسِيَ أي: ترك ما كان عليه من الإسلام -يعني السامري -.
قال الله تعالى رداً عليهم، وتقريعاً لهم، وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا أي: العجل، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] أي: في دنياهم ولا في إخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيسمع له صوت، وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري رحمه الله: أن هذا العجل اسمه بهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب -يعني: هل يصلي فيه أم لا-؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين - وهم يسألون عن دم البعوضة ].
وهذا فيه بيان أن بني إسرائيل والعياذ بالله تورعوا بزعمهم، وأنهم أخذوا هذا الحلي من القبط، ويريدون أن يلقوها عنهم؛ لكي يتخلصوا من حق الغير من باب الورع، فلما ألقوها عبدوا العجل، ووقعوا في الشرك الذي هو أعظم، فتورعوا عن الأمر الحقير ووقعوا في الشيء الكبير، مثل أهل العراق فقد جاءوا يسألون ابن عمر يقولون: إذا أصاب ثوب الإنسان دم البعوضة فهل تصح الصلاة فيه أم لا تصح؟ أي: هل يصير الثوب نجساً؟ وهم قتلوا الحسين ابن بنت رسول الله، فتورعوا في الشيء القليل وتركوا الشيء العظيم. نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الآية استدل بها العلماء على إثبات كلام الله عز وجل، وأن صفة الكلام صفة كمال، وأن عدم الكلام نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] فكيف يعبدون العجل وهو لا يكلمهم؟!
وقال العلماء: إن بني إسرائيل مع كفرهم، وكونهم وقعوا في الشرك والكفر، وعبدوا العجل، صاروا أحسن حالاً من الجهمية والمعتزلة في هذه الحالة، فقد قال المعتزلة: إن الله لا يتكلم، وقال الله: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا إنه لا يتكلم، فلو كانوا ينكرون الكلام لقالوا: وربك لا يتكلم أيضاً، لكنهم سكتوا، فالمعتزلة وقعوا في هوة سحيقة في هذه المسألة جعلتهم تحت اليهود الذين عبدوا العجل، فهم أحسن حالاً من هذه الجهة.
قال المؤلف رحمه الله: [ يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم.
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15] الفعال لما يريد، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي: فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه، وخالفوا هارون عليه السلام في ذلك، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه ].
فلما صنع لهم السامري عجلاً جسداً له خوار شبه عليهم وفتنوا به وأحبوا العجل وعبدوه من دون الله، وقد نصحهم هارون ونهاهم، قال لهم: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ، وشدد عليهم حتى كادوا يقتلوه.
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى فلن نسمع كلامك، وإذا جاء موسى ننظر ماذا يقول، وقد ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، وكلمه الله بخبر قومه عند جبل الطور قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85]، فلما جاء ووجدهم يعبدون العجل اشتد غضبه عليهم، حتى إنه ألقى الألواح التي معه فتكسرت، وكان فيها كلام الله، لكن الغاضب معذور، وأخذ برأس أخيه هارون وهو نبي مثله، وجعل يجره ويقول: كيف تركتهم يعبدون العجل؟ قال له هارون: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، وقال له: يبنؤم، من باب الاسترقاق، وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه، قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [طه:94]، وقال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150].
فلما ذهب الغضب عن موسى قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151].
هذا كلام موسى بعد أن جاء من ميقات ربه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94].
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث: (ليس الخبر كالمعاينة) ].
ليس الخبر كالمعاينة؛ لأن موسى لما أخبره الله أنهم عبدوا العجل تأثر قليلاً، لكنه لما رآهم بعينه يعبدون العجل وعاينهم اشتد غضبه وألقى الألواح وتكسرت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وشرع يلوم أخاه هارون عليه السلام، فقال: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه:92-93] أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع.
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أي: فيما كنت قدمت إليك، وهو قوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142].
قَالَ يَبْنَؤُمَّ فترقق له بذكر الأم، مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف، ولهذا قال: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، هذا اعتذار من هارون عليه السلام لموسى عليهما السلام في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم، قال: إني خشيت أن أتبعك فأخبرك بهذا فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم؟
وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] أي: وما راعيت ما أمرتك به، حيث استخلفتك فيهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان هارون هائباً مطيعاً له ].
قال المؤلف رحمه الله: [ يقول موسى عليه السلام للسامري : ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟
قال محمد بن إسحاق : عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان السامري رجلاً من أهل باجرما ].
وباجرما قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة من جهة العراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر .
وفي رواية عن ابن عباس : أنه كان من كرمان، وقال قتادة : كان من قرية سامراء ].
والكل في العراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي: من أثر فرسه، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث أخبرنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال: إن جبريل عليه السلام لما نزل فصعد بموسى عليه السلام إلى السماء بصر به السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس، قال: وحمل جبريل موسى عليهما السلام خلفه، حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح، وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح، فلما أخبره: أن قومه قد فتنوا من بعده، قال: نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه غريب ].
المعراج خاص بنبينا صلى الله عليه وسلم، وما نعلم أن أحداً عرج به إلى السماء إلا عيسى عليه السلام، فقد رفع إلى السماء لما أراد اليهود قتله، وسينزل في آخر الزمان، وعلى كل حال فالحديث وإن كان رجاله ثقات فلا شك أنه غريب ومنكر وشاذ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال مجاهد : فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ قال: من تحت حافر فرس جبريل، قال: والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد : نبذ السامري ، أي: ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار، حفيف الريح فيه فهو خواره ].
أخذ قبضة من آثار حافر الفرس وألقاها على الحلي، وهو الذهب الذي أخذوه من القبط، فبعد هلاك فرعون جمعوا حلياً كثيراً فانسبك عجلاً، ولعله تكلم بكلمات كانت سبباً بإذن الله وقدره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا علي بن المديني حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عمارة حدثنا عكرمة : أن السامري رأى الرسول فألقي في روعه: أنك إن أخذت ].
الرُوع هو القلب، أما الروع بفتح الراء فهو الخوف، ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ [هود:74] والرُوع هو القلب، ومنه قول الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها).
والمقصود بالرسول: جبريل عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فألقي في روعه: أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له: كن فكان، فقبض قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري : إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي فاجمعوه، فجمعوه، فأوقدوا عليه فذاب، فرآه السامري ، فألقي في روعه: أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت: كن فيكون، فقذف القبضة وقال: كن فكان عجلاً جسداً له خوار، فقال: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ، ولهذا قال: فَنَبَذْتُهَا أي: ألقيتها مع من ألقى ].
حوكي في قلبه: أنه إذا أخذ قبضة من حافر الفرس ويبست، والحلي الذهب لما جمعوه في حفيرة فألقوه، ألقى القبضة عليه وقال: كن عجلاً، فكان بإذن الله وقدره، نعم، فقال لهم: هذا إلهكم، فعبدوه من دون الله، نعوذ بالله.
وهذا فيه ابتلاء وامتحان، فكيف يشاهدون حلياً جاءوا به من ديارهم من القبط وهو حلي يعرفونه، ثم يلقي عليه السامري قبضة ويصير عجل له خوار، فيعبدونه من دون الله، كيف يخفى عليهم؟!
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: حسنته وأعجبها إذ ذاك.
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97] أي: كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا (أن تقول لا مساس) أي: لا تماس الناس ولا يمسونك، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا أي: يوم القيامة، لَنْ تُخْلَفَهُ [طه:97] أي: لا محيد لك عنه ].
وهذه عقوبة عاجلة من جنس عمله، فكما أنه مس شيئاً وأخذ ما لا يحق له أخذه صارت عقوبته في الدنيا: لا مساس، فلا تمسوني ولا أمسكم، وعقوبة الآخرة أشد، ولهذا قال: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ [طه:97] أي: في الآخرة؛ لأنه دعا إلى الشرك والعياذ بالله، ودعا إلى عبادة العجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مساس.
وقوله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ قال الحسن وقتادة وأبو نهيك : لن تغيب عنه.
وقوله: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ أي: معبودك، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا أي: أقمت على عبادته، يعني: العجل.
لَنُحَرِّقَنَّهُ قال الضحاك عن ابن عباس والسدي : سحله بالمبارد وألقاه على النار ].
ومعنى سحله أي: حكه وقشره وبرده ثم ألقاه في اليم: وهو البحر، وموسى لديه قوة عليه الصلاة والسلام، فبنو إسرائيل استضعفوا هارون، ولم يسمعوا كلامه، فلما جاء موسى عليه السلام كسر العجل، وسحله وألقاه في البحر، وعوقب السامري في الدنيا وفي الآخرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : استحال العجل من الذهب لحماً ودماً فحرقه بالنار ثم ألقى رماده في البحر، ولهذا قال: (ثم لننسفنه في اليم نسفاً) ].
واستحال العجل، يعني: تحول العجل المصنوع من الذهب إلى لحم ودم، ولا شك في أنه حرقه، ثم ألقى رماده في البحر، وأما كونه تحول إلى لحم ودم فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد الله وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلاً، قال: فعمد موسى عليه السلام إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، وهكذا قال السدي ].
كما قال الله في آية البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54].
وقد سبق قراءة هذه الآية من سورة البقرة، وأنه جاءتهم ظلمة وكانت توبتهم بأن يأخذوا السيوف والخناجر فيقتل بعضهم بعضاً في الظلمة، حتى انجلى القتل عن آلاف مؤلفة، فكانت هذه توبتهم، حتى ناشد موسى ربه، وقال: رب فنيت بنو إسرائيل، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد تقدم في تفسير سورة البقرة في حديث الفتون بسط ذلك.
وقوله تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98] يقول لهم موسى عليه السلام: ليس هذا إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه عبد له ].
لا إله إلا هو كلمة التوحيد، وتعني: لا معبود بحق سواه، والإله هو المعبود، ولا: نافية للجنس، وهي من أخوات (إن) تنصب الاسم وترفع الخبر، وإله اسمها، والخبر محذوف تقديره حق، لا إله حق إلا الله، والمعنى: لا معبود حق إلا الله، فقوله: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ يعني: معبودكم بالحق هو الله، وأما هذا العجل فليس إلهكم، وكيف يخفى هذا على بني إسرائيل؟! فأين ذهبت عقولهم؟! وكيف ضاعت العقول؟! نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98] نصب على التمييز، أي: هو عالم بكل شيء ].
علماً منصوب على التمييز.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:28]، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [سبأ:3]، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] والآيات في هذا كثيرة جداً ].
والعلم صفة من صفات الله عز وجل، وعلم الله سبحانه وتعالى في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، والله تعالى يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في الحاضر، وما سيكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون سبحانه وتعالى، والله عالم بالأشياء كلها، ومن قال غير ذلك فليس بمسلم؛ لأنه ينسب الله إلى الجهل، وهذا كفر وردة نعوذ بالله، ومن نفى علم الله نسب الله إلى الجهل، وهذا كفر وردة أيضاً، نعوذ بالله.
الجواب: هذا ليس مشروعاً، فقد سبق معنا في البخاري : أن ابن عمر رضي الله عنه كان يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا اجتهاد له خاص، وأن كبار الصحابة كأبيه عمر وأبو بكر لم يتتبعوا آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا زاره الإنسان من باب النزهة أو التفرج لا أن يعتقد فيه فضيلة فلا بأس في ذلك. وأما ما يفعله بعض الناس من كونهم يزورون بعض الآثار ويتتبعونها مثل غار حراء وجبل ثور فكل هذا ليس بمشروع، وليس من العبادة في شيء.
الجواب: نعم، فالتوراة كتاب أنزله الله على موسى، والصحف كأنها غير التوراة، فكأنها مواعظ وعبر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر