قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي: أرشده إليه وسلمه له، وأذن له في بنائه، واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة) ].
وهذا هو الصوب: أن أول من بنى البيت إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى في كتابه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، وكما في هذا الحديث عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! ما هو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: المسجد الحرام، قال: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة) ].
إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت، وحفيده يعقوب بن إسحاق هو الذي بنى بيت المقدس بعد أربعين سنة، ويعقوب هو إسرائيل حفيد إبراهيم الخليل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم ينسبون إلى يعقوب كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93] ويعقوب عليه السلام هو ابن إسحاق؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رزقه الله ابنين كريمين صالحين أحدهما إسماعيل وهو الأول وأمه هاجر ، وهو أبو العرب، ومن سلالته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
والثاني: إسحاق بعد إسماعيل باثني عشر سنة، أنجبته سارة بنت عمه، وكانت في الأول عقيم لا تلد، ثم رزقها الله في الكبر إسحاق، وإسحاق أنجب يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، ومن سلالته جميع أنبياء بني إسرائيل، وأولهم يوسف وآخرهم عيسى، كل أنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب، وأما إسماعيل فمن سلالته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإسماعيل وإسحاق أخوان، وأبناء إسماعيل هم العرب، وأبناء إسرائيل هم أبناء العجم، واليهود والنصارى كلهم من سلالة إسرائيل.
بعض الناس يسمي دولة اليهود إسرائيل، ثم يشتم إسرائيل، وهذا لا يجوز؛ لأن إسرائيل نبي كريم، واليهود يودون تسمية إسرائيل، كما أن النصارى يسمون أنفسهم مسيحيين، ووليسوا مسيحيين، فلو كانوا مسيحيين لاتبعوا المسيح، بل هم نصارى كما سماهم الله، واليهود نسميهم يهود ولا نسميهم إسرائيليين، فإسرائيل نبي كريم، والمسيحيين نسبة إلى المسيح، والمسيح نبي كريم وهم ما اتبعوه، ولو اتبعوه لآمنوا به، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك هم يسمون أنفسهم المسيحيين، وهذا من الأخطاء الشائعة، بل اليهود اسمهم يهود كما سماهم الله، والنصارى اسمهم نصارى كما سماهم الله في كتابه، ولا نص على أن الله سمى النصارى مسيحيين في الكتاب أو السنة.
أما كلمة شيعة، فهو اسم عام يشمل جميع فرق الشيعة، وهم أربعة وعشرون فرقة منهم الرافضة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:96-97]، وقال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته هاهنا].
أي: ذكره في سورة البقرة،
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى هاهنا: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي [الحج:26]، أي: ابنه على اسمي وحدي، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج:26]، قال مجاهد وقتادة : من الشرك، لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26] أي: اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ].
فهذا أمر من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أن يبني بيته تعالى على اسم الله وحده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت ].
الطائف هو الذي يطوف بالبيت، سواء في الحج أو في العمرة أو طواف تطوع، والطواف معناه الدوران حول الكعبة، وهو عبادة، ويكون سبعة أشواط، والطواف أنواع: طواف العمرة وطواف القدوم في الحج، وطواف الإفاضة وطواف الوداع، وهناك طواف التطوع الذي يفعل في أي وقت وهو غير مرتبط بالحج ولا بالعمرة.
والطواف هو أخص العبادات عند البيت؛ لأنه يتعلق بنفس البيت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، وَالْقَائِمِينَ [الحج:26] أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله أعلم.
ومعنى لا ينفذهم: من أنفذ ينفذ، يعني: لا يبلغهم، أي: كيف أبلغ الناس، وصوتي لا يبلغهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ].
وهذا يعني: أن الجبال انخفضت حتى سمع الناس صوت إبراهيم عليه السلام.
قوله: وقيل على الحجر، وليس الحجر؛ لأنه لم يكن يوجد حجر في زمان إبراهيم عليه السلام، إنما الحجر أخرجته قريش بعد ذلك بمدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك.
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وقوله: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً -لمن قدر عليه- أفضل من الحج راكباً؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم.
والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام ].
وهذا هو الصواب، فالحج راكباً هو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً، وقال: (اللهم حجاً لا رياء فيه ولا سمعة)، فبعض الناس قد يتنطع ويظن أن الحج ماشياً أفضل، والأمر على عكس ذلك، فإن الأفضل ما كان أرفق بالعبد، والحج راكباً أرفق بالإنسان، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ [الحج:27] يعني: طريق، كما قال: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا [الأنبياء:31]، وقوله: عَمِيقٍ [الحج:27] أي: بعيد، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37]، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو حين إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار ].
وكل من جاءه فإنه يشتاق إليه بعد ذلك ويحن إليه، ولا يقضي منه وطراً، وإذا أراد أن ينصرف سأل الله أن يجعل آخر عهده بالبيت، فالمسلم مهما تردد على هذا البيت فإنه يجد في نفسه ميلاً وانجذاباً إليه، وهذا من استجابة الله لدعوة نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام حين قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37].
ومحبة هذا البيت تعتبر من الإيمان، وهي تدل على وجود الخير في نفس هذا العبد.
وكما سبق وقلنا إن الحج راكباً أفضل من الحج ماشياً، ولكن بعضهم قد يفضل الحج ماشياً ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، وذلك حين حاضت وهي في الحج أو العمرة.
فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على هذا، ولا نشك أنه إذا حصل له مشقة فهو مأجور، لكن عليه ألا يتعمد أن يوجد المشقة، فكون الإنسان يؤدي العبادة بارتياح وطمأنينة وراحة أفضل من أن يؤديها بمشقة وأرفق به، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقد أمر الصحابة أن يتحللوا لما أحرموا بالحج مفردين وقارنين، وألزمهم بذلك؛ لأن هذا أرفق بهم، فالأفضل ما كان أرفق بالمتعبد، وعليه ألا يتعمد المشقة، لكن إذا أصابته فهو مأجور.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن عباس : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات ].
قال في نسخة أخرى: الذبائح بدلاً من الربح، لكن كلمة البدن تكفي عن الذبائح، فالربح أحسن هنا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ].
وهذا هو الصواب، أنها منافع الدنيا والآخرة، فالحاج يشهد منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الآخرة فإنه يتعلم أمور دينه، يلتقي بإخوانه المسلمين ويستفيد منهم، فكم من حاج استفاد وتعلم صحة في عقيدته، واستقامة في أخلاقه وأعماله، وأما منافع الدنيا فهي ما يحصل من التجارات وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28].
قال شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به ].
والقاعدة أن البخاري رحمه الله إذا علق بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى من فوقه، فيكون صحيحاً عن ابن عباس ، فالأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة، يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، فهي أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.
والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، من اليوم الأول من ذي الحجة إلى نهاية اليوم العاشر، وهي التي أقسم الله بها في قوله عز وجل: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروي مثله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي ، وهو مذهب الشافعي والجمهور عن أحمد بن حنبل .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بنحوه.
وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر .
قلت: وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزءاً على حده، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)، وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه.
وقال البخاري : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعاً: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] ].
وهذه الأحاديث فيها بيان فضل العمل الصالح في الأيام العشر، والعمل الصالح هنا عام، فيشمل الصلاة والصوم والصدقة، والإحسان إلى الناس بالشفاعة وبالتوجيه، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وذكر هنا من الأمثلة: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ولذلك كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يدخلان السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، فينبغي إظهار التكبير ورفع الصوت به في الأسواق وفي مجامع الناس، وهذه الأيام العشر هي أفضل أيام العام على الإطلاق، وأما العشر الأواخر من رمضان فلياليها أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر.
وقد سئل أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أيهما أفضل، العشر الأول من ذي الحجة، أو العشر الأواخر من رمضان؟ فأجاب بجواب سديد رحمه الله فقال: العشر الأول من ذي الحجة نهارها أفضل؛ لأن فيها يوم عرفة ويوم النحر، فيوم النحر هو أفضل أيام السنة على الإطلاق، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، في أصح قولي العلماء، وفيه أعمال عظيمة، كرمي جمرة العقبة، ونحر الهدايا، وفيه حلق الرأس وفيه الطواف بالبيت والسعي، فمعظم أعمال الحج فيه، وهو يوم الحج الأكبر، ثم يليه يوم عرفة.
وقال: وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142]، وفي سنن أبي داود : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصوم هذه العشر) ].
وعلى هذا يكون الصوم مستحباً في أيام العشر؛ لأن بعض الناس يقول: إنه لم يرد الصوم في هذه الأيام العشر، فذكر المؤلف هذا الحديث لـأبي داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العشر)، وحتى إذا لم يثبت هذا الحديث أو أن النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر؛ فإن الصوم داخل في العمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يكون لم يتمكن من صومه لأجل انشغاله بالدعوة وتبليغ الرسالة، ولكن قوله: (العمل الصالح) عام، والصيام من العمل الصالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا العشر مشتملة على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: (أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية)، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله.
وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل، فبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم ].
وهذا هو الصواب والأرجح، كما فسر هذا أبو العباس بن تيمية ، فتبين لنا أن المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: إن العشر الأول من ذي الحجة أفضل، والقول الثاني: إن العشر الأواخر من رمضان أفضل، والقول الثالث: التوسط، وهو أن أيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل، وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن ليالي العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر؛ ولأن أيام العشر الأول من ذي الحجة فيها يوم النحر ويوم عرفة، فهذا القول الوسط، وهو الأرجح والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن المديني حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر، هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28] يعني به: ذكر الله عند ذبحها.
قول رابع: إنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال ابن وهب : حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق.
وقوله: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28] يعني: الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143] الآية.
وقوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي، وهو قول غريب، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها).
وقال عبد الله بن وهب : قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:28] فالأكل من الأضحية مستحب، وبعض أهل العلم قال: إنه واجب ولعل هذا القول للظاهرية، أخذاً من الأمر، فإن الله تعالى: قال: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:28] فيجب، وعلى هذا فهو يأثم إن لم يأكل ].
والصواب أن الأكل من الأضحية ليس بواجب، وإنما هو مستحب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن وهب : وسألت الليث فقال لي مثل ذلك، وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:28]، قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
قال هشيم عن حصين عن مجاهد في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:28]، هي كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [الجمعة:10]، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره ].
يعني: أن الأمر للإباحة، كقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [الجمعة:10]، فهذا أمر إباحة؛ لأنه قبل ذلك أمر بالتوجه إلى الصلاة وترك البيع فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، ثم قال سبحانه: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، فليس بواجب أن ينتشروا وأن يبتغوا من فضل الله وإنما هو مباح ومثل قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، بعد قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، فالمحرم يحرم عليه الصيد، وإذا حل جاز له الصيد، وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، فليس الصبر بواجب وإنما هو مباح، إن أحب أن يصطاد اصطاد، وإن ترك الاصطياد فلا حرج عليه في ذلك، فإن الأمر بعد النهي يكون للإباحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها بالنصف بقوله في هذه الآية: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، فجزأها نصفين: نصف للمضحي ونصف للفقراء ].
وجعلوا الأمر هنا للوجوب، أي: نصف يأكله ونصف يتصدق به، وهذا على القول الأول بأن لأن الأمر للوجوب، بمعنى أنه يجب عليه أن يأكل النصف، ويتصدق بالنصف الباقي.
والمشهور عند جمهور العلماء أن الأمر للاستحباب، وأنه يستحب للإنسان أن يجزئ الأضحية ثلاثة أجزاء: يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث، كما جاء في الحديث، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والقول الآخر: أنها تجزأ ثلاثة أجزاء ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به، لقوله في الآية الأخرى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة.
وقوله: الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، قال عكرمة : هو المضطر الذي عليه البؤس، والفقير: المتعفف.
وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده، وقال قتادة : هو الزمن، وقال مقاتل بن حيان : هو الضرير ].
والزمن يعني: المريض، وقوله: الذي عليه البؤس، يعني: يظهر عليه البؤس.
وظاهر الآية يدل على أن المراد الضعيف الذي يظهر عليه الفقر والبؤس، سواء كان ضريراً أو مريضاً أو لم يكن، فإنه ليس كل ضرير فقير، فقد يكون ضريراً وعنده أموال، وكذلك المريض، قد يكون مريضاً على فراشه لكن عنده أموال كثيرة، فلابد أن يكون عليه الفقر، فالبائس هو الذي تظهر عليه علامة الفقر والبؤس، سواء كان ضريراً أو مبصراً، وسواء كان مريضاً أو صحيحاً؛ لأنه قد يكون صحيحاً وهو فقير، وقد يكون مريضاً وهو غني، فالمهم وصف البؤس والفقر.
فقوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]، يعني: يتحلل من إحرامه بأن يحلق رأسه أو يقصره بعد أن يرمي جمرة العقبة ثم يتحلل، وله بعد ذلك أن يقص شاربه وأظفاره، فقوله: لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29] يعني: يتنظف بأن يتحلل ثم يتوضأ، وكذلك في العمرة يتحلل إذا طاف وسعى وقصر من شعر رأسه أو حلق، فقضاء التفث يعني: التحلل وإزالة الأوساخ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عكرمة عن ابن عباس : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]، قال: التفث المناسك، وقوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني: نحر ما نذر من أمر البدن ].
يعني: إذا نذر أن ينحر إبلاً مثلاً، فلابد أن يفي بنذره، فإذا نذر أن يذبح عشراً من الإبل أو خمساً فإنه ينحرها يوم العيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، نذر الحج والهدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج ].
ونحن نعلم أن الوفاء بالنذر عام، لكن هذا المذكور في الآية نذر يتعلق بالحج، فإذا نذر مثلاً أن يذبح في مكة كذا من الإبل أو من البقر أو من الغنم، فيجب عليه أن يفي بنذره هذا؛ لأن الوفاء بالنذر واجب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، قال : الذبائح، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، كل نذر إلى أجل، وقال عكرمة : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، قال: حجهم، وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثني أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان في قوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29] قال: نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به، وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قال مجاهد : يعني: الطواف الواجب يوم النحر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت، قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت.
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) ].
وهذا لا شك فيه، فإن الطواف بالبيت هو آخر المناسك، كما في حديث ابن عباس : (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن الحائض).
وثبت أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا ينفرون في حجة الوداع من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، فالطواف بالبيت هو آخر المناسك، وهو طواف الوداع، وإذا سافر ولم يرجع فعليه دم عند جمهور العلماء، يذبح في مكة، وإذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت السفر كفاه عن طواف الوداع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة ].
وهذا هو الصواب، أنه يجب الطواف من وراء الحجر، وأن من دخل في أثناء الطواف في الحجر، فلا يصح طوافه، كما يفعل بعض الناس الجهلة، فإنك تجده يدخل في بعض الأطوفة بين الحجر والكعبة، وهذا لا يسمى طوافاً؛ لأنه لم يطف بالبيت، فإن جزءاً كبيراً من الحجر -يقال: ستة أذرع ونصف- يعتبر من البيت؛ وذلك أن قريشاً لما بنوا الكعبة حين تصدعت قبيل البعثة، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ خمساً وثلاثين سنة، أرادوا أن يبنوها بالمال الحلال، فجمعوا مالاً حلالاً فلم يجدوا مالاً حلالاً يكفي لبناء البيت، فقاموا ببنائه بعدما أنقصوا جزءاً منه، وهو ما يسمى بالحجر.
فهذا معنى قول المؤلف: وقصرت بهم النفقة، يعني: قصرت النفقة من الحلال، فلم تكف لبناء البيت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ].
وإنما استلم صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانيين، وهما: الركن الذي فيه الحجر الأسود، والركن اليماني الآخر، فهذان الركنان استلمهما؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان يليان الحجر؛ وهما الشامي والعراقي، فلم يستلمهما؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم.
ولهذا ثبت أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، طاف بالبيت وجعل يستلم الأركان الأربعة كلها، فأنكر عليه عبد الله بن عباس وقال: لا يستلم إلا الركنان اليمانيان، فقال معاوية رضي الله عنه لـابن عباس : يا ابن عباس ! أفي البيت شيء مهجور؟ فقال له ابن عباس : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال له: صدقت، فرجع إلى قوله.
ولما بنى عبد الله بن الزبير الكعبة في خلافته، وأدخل الحجر فيها، صارت الأركان الأربعة كلها على قواعد إبراهيم، فجعل يستلم الأركان الأربعة كلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن هشام بن حجير عن رجل عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه.
وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح، وقال خصيف : إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه، وكذا قال قتادة .
وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد : لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك ].
ولهذا أهلك الله أبرهة الحبشي لما أراده بالسوء، حين جاء من اليمن ومعه الفيلة فأهلكه الله، وجعله عبرة للمعتبرين، وأنزل الله في شأنه سورة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة الفيل، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5]، نعم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق : عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة، وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار)، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به، وقال: إن كان صحيحاً، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلاً ].
ولعل الصواب في السند محمد بن سهل البخاري وليس النجاري ومثلما قال ابن جرير رحمه الله عن هذه المعاني لمعنى العتيق، فإن كل هذه المعاني صحيحة، فالعتيق يعني: لقدمه، ولهذا يقول العلماء: الصلاة في المسجد العتيق أفضل من الصلاة في المسجد الجديد، ويقال هو عتيق؛ لأنه أعتقه من الجبابرة، فلا مانع من حصول المعاني كلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ [الحج:30] أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30] أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات ].
فيكون قد جمع بين الأمرين، يعني: الثواب العظيم لمن فعل الطاعات وأدى المناسك، وكذلك من يعظم شعائر الله ويجتنب المحرمات فله أجر، فكما أن لفاعل الواجبات ثواباً، فكذلك تارك المنهيات له ثواب.
وقوله تعالى: ذَلِكَ يعني: يعود إلى ما مضى من أداء المناسك والطواف بالبيت، فيكون معنى الآية: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ [الحج:30] يعني: من فعل الواجبات فله أجر، وكذلك من ترك المحرمات فله أجر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جريج : قال مجاهد في قوله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ [الحج:30]، قال: الحرمة مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وكذا قال ابن زيد .
وقوله: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [الحج:30] أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [الحج:30] أي: من تحريم: الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ [المائدة:3]، الآية، قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة .
وقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، مِنَ ههنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ومنه شهادة الزور.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) ].
فالشرك بالله أعظم الذنوب، وهو الذنب الذي لا يغفر لمن لقي الله به، وذلك لأنه أظلم الظلم، وأقبح القبيح، حيث أن المشرك صرف محض حق الله الذي لا يستحقه غيره، لمخلوق ضعيف ناقص، فالله تعالى خلق الإنسان، وأوجده من العدم، ورباه بنعمه، وهو الرب العظيم الذي له الصفات العظيمة، وله على عباده النعم الظاهرة والباطنة، فكيف يعبد غيره سبحانه وتعالى، ويصرف الحق إلى غيره، فهذا أظلم الظلم وأقبح القبيح.
ثم يليه قتل النفس، فهو من أعظم الذنوب كذلك، ثم عقوق الوالدين.
وشهادة الزور ليست أعظم من الشرك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كررها، كما ورد في الحديث: (وما زال يكررها، قال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، حتى قال الصحابة ليته سكت) يعني: أنهم خافوا عليه حتى لا يشق على نفسه، والسبب في تكرارها هو أن شهادة الزور الحامل عليها والدوافع إليها كثيرة، فيحمل عليها مثلاً حب المال، ويحمل عليها إرادة منفعة القريب فيشهد له، أو اضرار العدو فيشهد عليه، فالحامل عليها والباعث لها أمور متعددة، فلهذا كررها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن أعظم الذنوب، فمعلوم أن الشرك أعظم، وقتل النفس أعظم، وعقوق الوالدين أعظم منها في الإثم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]).
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به، ثم قال: غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لـأيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل، ثم تلا هذه الآية: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30-31]) ].
وهذان الطريقان وإن كان فيهما خريم بن فاتك وهو مجهول ولم يعرف له سماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إن ذكر الله لقول الزور مقروناً بالشرك بالله يكفي في تحريمه وأنه من أعظم الذنوب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ هذه الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: حُنَفَاءَ لِلَّهِ [الحج:31] أي: مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق، ولهذا قال: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:31].
ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال سبحانه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ [الحج:31] أي: سقط منها، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ [الحج:31] أي: تقطعه الطيور في الهواء، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] أي: بعيد مهلك لمن هوى فيه، ولهذا جاء في حديث البراء : (إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحاً من هناك، ثم قرأ هذه الآية)، وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه، وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام وهو قوله: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71] ].
وقوله: حُنَفَاءَ لِلَّهِ [الحج:31] يعني: مخلصين لله، والحنيف: هو المائل المقبل على الله.. الموحد المخلص عمله لله.. المعرض عن الشرك، ولهذا وصف الله إبراهيم بذلك في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123].
السؤال: متى يقول المأموم آمين في الفاتحة؟
الجواب: إذا قال الإمام: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، عندها يقول الإمام والمأموم جميعاً: آمين، وفي الحديث: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)، وأيضاً جاء في الحديث الآخر: (إذا قال الإمام وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين)، فهذا يوضح الحديث الأول، وورد في بعض الروايات الأخرى: (إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين)، فهذا فيه تقييد لكن الأحاديث الأخرى ليس فيها التقييد بهذا، فالمشروع للمصلي، سواء كان إماماً أو مأموماً، أن يقول: آمين بعد انتهاء الإمام من قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، وسواء أمن الإمام أو لم يؤمن.
الجواب: يقول العلماء: لو أخر الحاج رمي الجمار إلى اليوم الثالث عشر ورماها بالترتيب قبل غروب الشمس أجزأه، لكن ينبغي للإنسان أن يرمي كل يوم بيومه، فهذا هو الأصل، ولو أخرها إلى الثالث من أيام التشريق ورتبها بأن رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم رمى الجمرة الصغرى سبع، ثم الوسطى بسبع، ثم العقبة بسبع عن اليوم الأول، ثم أعاد ورمى الثلاث عن اليوم الثاني ثم رمى عن اليوم الثالث أجزأه، فإن غابت الشمس يوم الثالث عشر فقد فات وقت الرمي، ويستقر الدم في ذمته.
فينبغي للإنسان على كل حال أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يؤدي عباده كل يوم بيومها، فكل يوم له عبادة مستقلة، لكن لو كان الإنسان معذوراً بسبب شدة الزحام ثم أخر يوماً فلا بأس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للسقاة والرماة أن يرموا يوماً ولرعاة الإبل أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً.
الجواب: هذه المسألة محل تأمل ففتوى هيئة كبار العلماء بالأغلبية أنه يجوز أن يرمي بالليل؛ لأنه يؤدي العبادة في يومها، والحنابلة وجماعة يمنعون من الرمي ليلاً، وعلى هذا يرميها من الغد، فيرمي عن اليوم الحادي عشر بالترتيب قبل اليوم الثاني عشر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر