وعد الله المؤمنين في الدنيا بالنصر والعزة والتمكين والغلبة والأمن إن هم عبدوه وحكموا فيهم كتابه ولم يشركوا به شيئاً.
وإذا عبد الناس غير الله وحكموا غير شريعة الله حل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من العذاب والنكال، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب مهين في نار جهنم.
تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ... )
وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ ..[الحج:41] الآية ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها.
إذاً: الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف: يأمر ببر الوالدين.. بصلة الأرحام.. بالجهاد في سبيل الله والإحسان إلى الفقراء والأيتام، والنهي عن المنكر: النهي عن الشرك، والنهي عن الاعتداء على الناس في الدماء وفي الأموال وفي الأعراض، والنهي عن عقوق الوالدين وعن قطيعة الرحم، فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن الله يمكنه في الأرض، ولهذا قال: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:41].
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ...)
ثم قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أي: كم من قرية أهلكتها وَهِيَ ظَالِمَةٌ أي: مكذبة لرسولها، فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا . قال الضحاك : سقوفها، أي: قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها ].
هذه الآيات كما ذكر المؤلف رحمه الله فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه وآذوه، فالله تعالى يسلي نبيه ويقص عليه أخبار الأمم الماضية مع أنبيائهم وما أصابهم، يقص عليه نبأ نوح عليه الصلاة والسلام وما جرى له مع قومه، حيث صبر صبراً عظيماً، ولبث في قومه ألفاً سنة إلا خمسين عاماً وهم يؤذونه، وكذلك أيضاً صبر هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى وعيسى وغيرهم، ولهذا قال سبحانه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ[الحج:42-43]. وعاد هم قوم هود، وثمود هم قوم صالح، وفرعون كذب موسى عليه الصلاة والسلام وادعى الربوبية، فالله تعالى أمهلهم وأملى لهم ثم أخذهم، فلا يغتر الإنسان بالإملاء فقد أمهلهم سبحانه وتعالى ثم عاقبهم، ولهذا قال: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ[الحج:44] أي: فكيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟! فالله تعالى يملي للظالم ولا يهمل، يملي له ثم يأخذه: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ولهذا قال سبحانه: وَكُذِّبَ مُوسَى[الحج:44] مع ما جاء به من البينات العظيمة.
فقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني: كثير من القرى. أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ يعني: بسبب تكذيبها لنبيها.
يعني: أهلكهم الله سبحانه وتعالى وأزال ما هم فيه من النعيم والقصر المشيد المحكم أو المرتفع أو المطلي بالجص، فلم يغن عنهم ولم يدفع عنهم، وكذلك عطلت آبارهم بعد أن كان عليها الورد، فهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك أولئك فيصيبها ما أصابهم، ولهذا قال: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي: بعد أن كانوا أعداداً كثيرة وآبارهم لها ورد وقصورهم محكمة زالت هذه الأشياء، فصارت البئر معطلة والقصر خاوياً والبلدة خاوية على عروشها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ أي: بأبدانهم وبفكرهم أيضاً، وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب (التفكر والاعتبار): حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا، ثم سح في الأرض واطلب الآثار والعبر حتى تتخرق النعلان وتكسر العصا.
وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء: أحيي قلبك بالمواعظ، ونوره بالفكر، وموته بالزهد، وقوه باليقين وذلله بالموت وقدره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسر في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا، أي: فانظر ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال، فتكون فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا[الحج:46] أي: فيعتبرون بها فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان الأندلسي الشنتريني وقد كان وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:
يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى ولا النيِّران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها فراقها الثاويان البدو والحضر ].
قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاء عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو وهل يخلف الله الميعاد؟ قال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الإيعاد كرماً، أو ما سمعت قول الشاعر:
لا يرهب ابن العم مني سطوتي ولا أنثني عن سطوة المتهدد
فإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ].
كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة هو وواصل بن عطاء ، فجاء إلى أبي عمرو وقال له: هل يخلف الله وعيده؟ لأن المعتزلة يعتقدون أنه يجب على الله أن ينفذ وعيده في العصاة، وألا يغفر لهم ويرحمهم، بل يخلدهم في النار، فقال عمرو بن عبيد : هل يخلف الله وعيده؟ فبين له أبو عمرو وقال: إن هناك فرقاً بين إخلاف الوعد وبين إخلاف الوعيد، فالعرب تعد إخلاف الوعد لؤماً، وإخلاف الوعيد كرماً، فإذا هددت إنساناً وتوعدته ثم أخلفت وعيدك فهذا كرم منك، أما إذا وعدت إنساناً ثم أخلفت وعدك فهذا لؤم.
وعلى كل حال فالله أعلم كم مدة الدنيا، ولكن هناك أشراط للساعة، فإذا انتهت أشراط الساعة تكون الساعة بعدها، ولا يعلم في أي وقت، أما هذا التفسير أن عمر الدنيا على هذا الحديث سبعة آلاف سنة، وقد مضت ستة آلاف وبقي ألف فهذا المتن فيه نكارة، ثم أيضاً فيه رجل من أهل الكتاب مجهول، فلو ثبت أنه من الصحابة فالصحابة كلهم عدول، لكن ما ذكر أنه من الصحابة، وإنما ذكر أنه أسلم.
ثم إنه قال: (إن الله تعالى خلق السماء).
يعني: ما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه هذا الرجل المجهول، والمتن فيه نكارة.
تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين...)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستجعلوه به: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شيء، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[الرعد:41]، إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي: مغفرة لما سلف من سيئاتهم، ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم.
قال محمد بن كعب القرظي : إذا سمعت الله يقول: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فهو الجنة.
وقوله: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ قال مجاهد : يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين، وقال ابن عباس : معاجزين مراغمين.