حدثنا هناد والحسن بن علي الخلال وغير واحد قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
[ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد.
وفي الباب عن ابن عباس وعائشة ].
حديث أبي سعيد هذا يدل على أن الأصل في الماء الطهارة، وأن الماء طهور لا ينجسه شيء، أي: إذا لم تتغير أحد أوصافه، فإذا تغيرت أحد أوصافه بالنجاسة تنجس، وليس المقصود أن المراد ما يلقى فيها، بل المراد: أنها تأتي الريح وتلقي فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
هذا هو حديث القلتين، وقد اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، والراجح أنه لا بأس بسنده، وقد أخذ به جمهور العلماء والفقهاء، وقالوا: إن القلتين حد فاصل، فإذا بلغ الماء القلتين فإنه لا يحمل الخبث ولا يتنجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة، أما إذا كان دون القلتين فإنه ينجس ولو لم تتغير أوصافه، فعملوا بمفهوم الحديث.
فقالوا: إن الحديث له منطوق وله مفهوم، فمنطوقه: أن الماء إذا بلغ القلتين فإنه لا ينجس ولا يحمل الخبث إلا إذا تغير أحد أوصافه، وهذا بالإجماع، أما إذا لم يبلغ القلتين فإنه ينجس بمجرد الملاقاة ولو لم تتغير أوصافه؛ عملاً بمفهوم الحديث.
وذهب بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من أهل العلم: إلى أن الماء لا ينجس إلا بالملاقاة، قليلاً كان أو كثيراً، وقالوا: إن مفهوم حديث القلتين ألغاه حديث أبي سعيد : (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، فهذا الحديث ألغى مفهوم حديث القلتين، والمنطوق مقدم على المفهوم، وهذا هو الصواب.
وجمهور العلماء قد أخذوا بحديث القلتين كما ذكرنا -حديث ابن عمر- وقالوا: إن ما كان دون القلتين فإنه ينجس، والقلة تقارب قربتين ونصف، يعني: تكون إلى خمس قرب، وقد حددها بعضهم بأنها: ذراع وربع، طولاً وعرضاً وعمقاً، فإذا كان هناك حفرة طولها ذراع وربع، وعرضها ذراع وربع، وعمقها ذراع وربع، فهذه هي القلتان.
والحديث يفيد أنه ينبغي للإنسان أن ينتبه ويتأمل في الماء القليل إذا أصابه نجاسة، هل تغير أو لا؟ فأما إذا كان أكثر من القلتين فالغالب في هذه الحالة أنه لا يتغير.
وبعض المساجد يكون فيها خزان واسع، فتسقط فيه طيور أو حمام، فإذا تغير الطعم أو اللون أو الريح فإنه ينجس، ويلزم إزالة هذا الماء كله، وأما ما جاء في الفأرة لما وقعت في السمن، قال: (ألقوها وما حولها وكلوه) فهذا في السمن الجامد، والمعروف أن السمن أقل ميوعة من الماء، فالماء ما فيه إشكال، وفي رواية: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان ذائباً فلا تقربوه)، لكن هذه رواية ضعيفة.
قال المصنف رحمه الله: [ قال عبدة: قال محمد بن إسحاق: القلة هي الجرار، والقلة التي يستقى فيها.
قال أبو عيسى : وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ما لم يتغير ريحه أو طعمه، وقالوا: يكون نحواً من خمس قرب ].
واستدلوا بحديث الباب، وأما حديث الشافعي وأحمد ، فهو حديث صحيح قابل للاحتجاج، وقد ضعفه جماعة، لكن الحق أنه صحيح، قال الحافظ أبو بكر العراقي في أماليه: قد صحح هذا الحديث الجم الغفير من الأئمة الحفاظ: الشافعي وأبو عبيد وأحمد وإسحاق ويحيى بن معين وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والدارقطني وابن مندة والحاكم والخطابي والبيهقي وابن حزم وآخرون.
وقال الحافظ في (فتح الباري): رواته ثقات، وصححه جماعة من أهل العلم.
وقال فيه أيضاً: الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترض الطحاوي من الحنفية بذلك، وقال في بلوغ المرام: صححه ابن خزيمة وابن حبان .
وقال في (التلخيص): قال الحاكم : صحيح على شرطهما، وقد احتج بجميع رواته، وقال ابن مندة : إسناده على شرط مسلم ، وقال ابن معين : الحديث جيد الإسناد، وقال ابن دقيق العيد : هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريق الفقهاء؛ لأنه وإن كان مضطرب الإسناد مختلفاً في بعض ألفاظه، فإنه يجاب عنه بجواب صحيح بأن يمكن الجمع بين الروايات. انتهى ما في (التلخيص).
والذين لم يقولوا بحديث القلتين، فمنهم من صرح بصحته، واعتبر العمل به من الإجمال في معنى القلة، قال الحافظ في (الفتح) قول: من لا يعتبر إلا التغير وعدمه قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى؛ لصحة الحديث، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به، فإن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة، كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما، فيكون، مجملاً فلا يعمل به، وقواه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام : المراد القلة الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد، فإن الصغير بين ].
حدثنا محمود بن غيلان حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه).
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب عن جابر ].
فيه دليل على تحريم البول في الماء الراكد، وأن النهي هنا للتحريم، فلا يجوز للإنسان أن يبول في الماء الراكد. والمعنى: لا يبولن في الماء الراكد ولو لم يغتسل فيه؛ لأنه قد يحتاج إلى الاغتسال فيه؛ فيقذره على غيره، فإذا بال هذا وهذا تقذر هذا الماء.
ونقل عن مالك: أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير، وهو قول الباقين في الكثير، قال القرطبي : يمكن حمله على التحريم مطلقاً على قاعدة سد الذريعة؛ لأنه يفضي إلى تنجيس الماء، وهذا هو الصواب.
حدثنا قتيبة عن مالك ح وحدثنا الأنصاري إسحاق بن موسى قال حدثنا معن قال حدثنا مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة -من آل ابن الأزرق- أن المغيرة بن أبي بردة -وهو من بني عبد الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ].
هذا الحديث فيه دليل على طهورية ماء البحر وفيه أنه ينبغي للمفتي أن يزيد السائل إذا كان يحتاج لذلك، فإن السائل قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التطهر بماء البحر، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بحكم ميتته؛ لأنه قد يحتاج إلى معرفة حكم الميتة ما دام أنه يركب البحر، فلهذا قال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، ففيه زيادة المفتي على سؤال المستفتي إذا كان متعلقاً به ويحتاج إليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفي الباب عن جابر والفراسي رضي الله عنهما.
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم، لم يروا بأساً بماء البحر.
وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر، منهم: ابن عمر وعبد الله بن عمرو ، وقال عبد الله بن عمرو : وهو نار ].
يعني: أصل النار.
قال المباركفوري في شرح الترمذي : قوله: (وقال عبد الله بن عمرو : وهو نار) قال القاضي أبو بكر بن العربي : أراد به طبق النار؛ لأنه ليس بنار في نفسه. انتهى. وقيل: إنه أراد أنه ضار يورث المرض.
ما قال ابن العربي هو الراجح وهو الظاهر، قال الشوكاني في (النيل): فإن قيل: كيف شكّوا في جواز الوضوء بماء البحر؟ قلنا: يحتمل أنهم لما سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تركب البحر إلا حاجاً، أو معتمراً، أو غازياً في سبيل الله؛ فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً) أخرجه أبو داود وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً؛ فظنوا أنه لا يجزئ التطهر به، وقد روي موقوفاً على ابن عمر بلفظ: (ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة؛ إن تحت البحر ناراً، ثم ماءً، ثم ناراً حتى عدّ سبعة أبحر وسبعة أنيار).
وروي أيضاً عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه لا يجزئ التطهر به، ولا حجة في أقوال الصحابة، لاسيما إذا عارضت المرفوع والإجماع.
وحديث ابن عمر المرفوع قال فيه أبو داود : رواته مجهولون، وقال الخطابي : ضعفوا إسناده، وقال البخاري : ليس هذا الحديث بصحيح، وله طريق أخرى عند البزار، وفيها ليث بن أبي سليم ، وهو ضعيف.
قال الشيخ أحمد شاكر : هذا رأي لـعبد الله بن عمر إن صح إسناده إليه.
قال صاحب التحفة: وقد صحح هذا الحديث غير الترمذي، كـابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن مندة وأبو محمد البغوي، كذا في (قوت المفتدي)، والحديث أخرجه أيضاً مالك والشافعي عنه، والأربعة، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه البخاري فيما حكى عنه الترمذي، كذا (في التلخيص).
حدثنا هناد وقتيبة وأبو كريب قالوا: حدثنا وكيع عن الأعمش قال: سمعت مجاهداً يحدث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستتر من بوله، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة) ].
فيه بيان أن هذين الأمرين من أسباب عذاب القبر، فالمشي بالنميمة، وعدم الاستبراء من البول أمران محرمان، وهما من كبائر الذنوب، فيجب التنزه من البول والاستتار منه، جاء في الحديث: (تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه).
وكذلك النميمة، وهي: نقل الكلام من شخص إلى شخص، أو من جماعة إلى جماعة على وجه الإفساد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عيسى : وفي الباب عن زيد بن ثابت وأبي بكرة وأبي هريرة وأبي موسى وعبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنهم.
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وروى منصور هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس، ولم يذكر فيه: عن طاوس ، ورواية الأعمش أصح.
قال: وسمعت أبا بكر محمد بن أبان البلخي مستملي وكيع يقول: سمعت وكيعاً يقول: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور ].
قال الخطابي في (معالم السنن): قوله: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا): فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي عليه الصلاة والسلام، ودعائه بالتخفيف عنهم, وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حداً لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنىً ليس في اليابس، والعامة في كثير من البلدان أن تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه.
قلت: وهذا خطأ، والصواب أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب (تحفة الأحوذي): قوله: (وروى منصور هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس ). منصور هذا هو ابن المعتمر ، (ورواية الأعمش أصح، أي: رواية الأعمش بذكر طاوس بين مجاهد وابن عباس أصح من رواية منصور ، ثم بيَّن الترمذي وجه كونه أصح بقوله: سمعت أبا بكر إلى آخره.
وروى البخاري هذا الحديث في صحيحه على الوجهين، قال الحافظ في (الفتح): وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيحمل على أن مجاهداً سمعه من طاوس عن ابن عباس ، ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس ، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معاً.
وقال الترمذي : رواية الأعمش أصح. انتهى.
قلت: وقال البخاري أيضاً: إن رواية الأعمش أصح، قال الترمذي في (العلل): سألت محمداً : أيهما أصح؟ فقال: رواية الأعمش أصح. انتهى.
ويؤيد صحة الروايتين: أن شعبة بن الحجاج رواه عن الأعمش كما رواه منصور، ولم يذكر طاوساً، قاله العيني .
قلت: شعبة إمام النقد.
حدثنا قتيبة وأحمد بن منيع قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها قالت: (دخلت بابن لي على النبي صلى الله عليه وسلم: لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء فرشه عليه) ].
فيه دليل على أن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام نجاسته مخففة، وأنه يكفيه الرش، ولا يلزم فيه الغسل، وهذا بخلاف ما إذا أكل الطعام، فإنه لابد من غسله، ولا يكفي فيه الرش والنضح، وكذلك الجارية الأنثى.
وقد اختلف العلماء في سبب الفرق بينهما، فقيل: إن سبب التفريق: أن الغلام بوله ينتشر ويتفرق في عدة مواضع، بخلاف الأنثى فإن بولها لا يتفرق، فكانت المشقة في غسل بول الغلام أكبر، فلذلك يكتفي فيه بالرش.
وقيل: إن الناس يكثرون من حمل الذكر ويحبونه أكثر من الأنثى، فتعم به البلوى في بوله فاكتفي بالرش.
وقيل: إن الأنثى مخلوقة من لحم؛ لأن حواء مخلوقة من آدم، وآدم من طين، وقيل غير ذلك، وكل هذه مجرد تعاليل، والمهم هو الحكم الشرعي، فنقول: سمعنا وأطعنا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وفي الباب عن علي وعائشة وزينب ولبابة بنت الحارث وهي: أم الفضل بن عباس بن عبد المطلب وأبي السمح وعبد الله بن عمرو وأبي ليلى وابن عباس رضي الله عنهم.
قال أبو عيسى : وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم مثل أحمد وإسحاق ، قالوا: ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية، وهذا ما لم يطعما، فإذا طعما غُسلا جميعاً ].
قال العلامة ابن القيم في (إعلام الموقعين): وهذا من محاسن الشريعة وتمام حكمتها ومصلحتها، والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه:
أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكر، فتعم البلوى ببوله، فيشق عليهم غسله.
الثاني: أن بوله لا يَنْزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقاً ههنا وههنا، فيشق غسل ما أصابه كله، بخلاف بول الأنثى].
الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر، وسببه حرارة الذكر ورطوبة الأنثى، فالحرارة تخفف من نتن البول، وتذيب منها ما يحصل مع الرطوبة، وهذه معان مؤثرة يحسن اعتبارها في الفَرْق.
قلت: وهذه التعليلات لا يجزم بأنها هي الفوارق قطعاً.
وعقَّب أحمد شاكر بقوله: وسواء سُلِّم لـابن القيم هذا التعليل أم لم يسلِّم، وسواء عرفنا الحكمة في الفرق بينهما أم لم نعرف، فإن الواجب على الفقيه أن يتبع أمر رسول الله حيث وجده، ولا يضرب له الأمثال.
قلت: الواجب هو اتباع الدين، وأما الحكمة فإن عرفت فالحمد لله، وإلا صرنا إلى الدليل وإن لم نعرفها.
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة حدثنا حميد وقتادة وثابت عن أنس رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، وارتدوا عن الإسلام، فأُتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، وألقاهم بالحرة قال وربما قال
وفي لفظ آخر: أن أنس قال: (إن هؤلاء سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله وارتدوا).
وفي هذا دليل على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يشربوا من أبوال الإبل، ولم يأمرهم بغسل أفواههم لكونها نجسة، فدل هذا على أنها طاهرة، أعني: بول الإبل والبقر والغنم وكل ما يؤكل لحمه.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام عليهم حد الحرابة، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم كما فعلوا بالراعي، فقد سمروا عينه، وتُركوا في الحرة يَستسقون ولا يُسقون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أنس رضي الله عنه ].
قلت: هو في الصحيحين، وعند أبي داود والنسائي وابن ماجة .
والسمر هو: أن يحمى المسمار من الحديد بالنار ويوضع على أعينهم. كما فعلوا بالراعي.
والمحاربون إذا تابوا بينهم وبين ربهم بعدما أخذوا تصح توبتهم، ويكون الحد مطهراً لهم.
فمن ارتد عن الإسلام ثم تاب بعد الردة وقبل الموت صحت توبته؛ لكن يقام عليه حد الحرابة؛ لقوله عز وجل: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33]، فكل واحد تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، فأقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حد القصاص والحرابة والردة جميعاً، فالقصاص كان في سمر أعينهم، والحرابة في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، والردة تركوا حتى ماتوا، ولما قطعت أيديهم وأرجلهم لم تحسم بالزيت، بل تركت تنزف دماً حتى ماتوا؛ لأنهم ارتدوا.
فإذا فعل شيئاً اقتص منه، وأما إذا قطع الطريق ولم يفعل شيئاً فتقطع يده ورجله من خلاف فقط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهو قول أكثر أهل العلم، قالوا: لا بأس ببول ما يؤكل لحمه ].
وهذا خلافاً للشافعي ، فإنه يقول: بنجاسة بول ما يؤكل لحمه، وهذا قول ضعيف، والصواب قول أكثر العلماء.
وأما قول الشارح: وهو قول مالك وأحمد وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والإصطخري والروياني ، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره.
فلعله يعني بالجمهور هنا جمهور الشافعية، وأما جمهور العلماء فهم على خلاف هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الفضل بن سهل الأعرج البغدادي حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سليمان التيمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة).
قال أبو عيسى : هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً ذكره غير هذا الشيخ عن يزيد بن زريع.
وهو معنى قوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45]، وقد روي عن محمد بن سيرين قال: إنما فعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا قبل أن تنزل الحدود ].
وهذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب القسامة من صحيحه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر