حدثنا هناد قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنه عن خالته ميمونة قالت: (وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً فاغتسل من الجنابة، فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل كفيه، ثم أدخل يده في الإناء، فأفاض على فرجه، ثم دلك بيده الحائط أو الأرض، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه ثلاثاً، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تنحى فغسل رجليه) .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب عن أم سلمة وجابر وأبي سعيد وجبير بن مطعم وأبي هريرة ].
هذا هو الغسل الكامل، وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث ميمونة ، وفيه بيان الغسل الكامل، وهو أنه ينوي الغسل عن الجنابة ثم يسمي، والنية معروف أنه لا بد منها؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، والإنسان إذا دخل الحمام قاصداً الغسل كان قصده هو النية، فلو اغتسل بدون نية رفع الجنابة، أو نوى التبرد؛ لم يرتفع الحدث، فلا بد من النية، ثم يسمي ويقول: (باسم الله) في الوضوء وفي الغسل، ثم يغسل يديه ثلاثاً بنية رفع الحدث عنهما، ثم يغسل فرجه وما حوله، ثم يستنجى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يتمضمض ويستنشق، ويغسل وجهه، ويغسل ذراعيه، ثم يفيض الماء على رأسه، ويغسل شقه الأيمن ثم شقه الأيسر ثم يغسل رجليه بعد ذلك، وفي حديث عائشة أنه أكمل الوضوء، وأنه توضأ وغسل رجليه، ثم أكمل الغسل، فالإنسان مخير بين أن يكمل الوضوء على ما في حديث عائشة، وبين أن يؤخر غسل الرجلين حتى يغسل جسده؛ لأنهم في الزمن الأول كانوا يغتسلون في أماكن وليس لهم أحذية، وليست الأرض مبلطة، فيؤخر أحدهم غسل رجليه حتى يغسل ما أصابه من الطين ثم ينتهي، وهذا هو الغسل الكامل.
أما الغسل المجزئ فإنه يسمي وينوي رفع الحدث ويعمم جسده بالماء، فالغسل غسلان: غسل كامل وغسل مجزئ، فالكامل أن: ينوي ثم يسمي ثم يغسل كفيه ثلاثاً ثم يستنجي ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يصب الماء على رأسه ثم على شقه الأيمن وشقه الأيسر.
وأما المجزئ فإنه بعد النية والتسمية يعمم جسده بالماء.
وتشترط النية في الوضوء، فمن لم يقصد الوضوء لا يكون متوضئاً، كأن قصده ليتبرد، وعليه أن يعرف لماذا يتوضأ هل لأجل أن يصلي؟ أو ليكون على طهارة ليصلي؟
فإذا كان ناوياً الوضوء فهذه النية هي الأصل، وإذا غسل أعضاءه قاصداً التبرد فهذا الغسل لا يجزئ، أما إذا اغتسل وتوضأ لأجل أن يرفع الحدث فهذه هي النية.
ولا بد من المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، ولا يتم الغسل إلا بهما على الصحيح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء، ثم غسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يشرب شعره الماء، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات) .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وهو الذي اختاره أهل العلم في الغسل من الجنابة، أنه يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفرغ على رأسه ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يغسل قدميه، والعمل على هذا عند أهل العلم ].
هذا هو الغسل الكامل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقالوا: إن انغمس الجنب في الماء ولم يتوضأ أجزأه، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق ].
أجزأه إذا نوى رفع الحدثين عند بعضهم، فإذا انغمس ناوياً رفع الحدثين أجزأه.
وقال آخرون: لا يجزئه، بل لابد من أن يتوضأ، فإن لم يتوضأ قبل ذلك فلا بد من أن يتوضأ لذلك.
أي أن الوضوء ليس بواجب في غسل الجنابة، وهو قول الشافعي وأحمد ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي في الأم: فرض الله تعالى الغسل مطلقاً، ولم يذكر فيه شيئاً يبدأ به قبل شيء، فكيفما ما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى الغسل على جميع بدنه، والاحتياط في الغسل ما روت عائشة.
وقال ابن عبد البر : هو أحسن حديث روي في ذلك، فإن من لم يتوضأ قبل الغسل، ولكن عم جسده ورأسه ونواه فقد أدى ما عليه بلا خلاف، لكنهم مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل، كذا ذكره الزرقاني في شرح الموطأ.
وقال الحافظ في الفتح: نقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل، وهو مردود، فقد ذهب جماعة -منهم أبو ثور وداود وغيرهما- إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث. انتهى كلام الحافظ .
فالظاهرية وأبو ثور يقولون: إنه لا بد من الوضوء للاحتياط، فعليه أن يتوضأ ثم يكمل الغسل.
والوضوء يدخل في الغسل؛ لأن الأصغر يدخل في الأكبر إذا نواهما.
حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أيوب بن موسى عن سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثين على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضين على سائر جسدك الماء فتطهرين، أو قال: فإذا أنت قد تطهرت) .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ].
الأصل (أن تحثي)؛ لأنه مجزوم بحذف النون، وقد يكون بالنون على لغة، لكن الأكثر (أن تحثي). والحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري .
وفيه دليل على أنه لا يجب على المرأة نقض شعرها من الجنابة، وإنما تروي أصول الشعر ويكفي، وفي رواية: (أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة)، فلغسل الحيض الأفضل أن تنقضه؛ لأن الحيض مدته تطول، أما الجنابة فإنها تتكرر، فلا تحتاج إلى نقض شعر الرأس، ونقضه في غسل الحيض والنفاس مستحب، وإذا لم تنقضه فلا حرج، لكن الأفضل أنها تنقضه في غسل النفاس والحيض؛ لأن مدتهما تطول، أما الجنابة فلا، لما في الحديث: (أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا).
ولا يجب للغسل الوضوء، لعموم الحديث السابق، وقد ذكر الله في القرآن الغسل من الجنابة ولم يذكر الوضوء، وكل هذه من أدلة من قال: إنه يدخل الحدث الأصغر في الأكبر إذا نواهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والعمل على هذا عند أهل العلم، أن المرأة إذا اغتسلت من الجنابة فلم تنقض شعرها أن ذلك يجزئها بعد أن تفيض الماء على رأسها ].
فيكفي أن تحثو على رأسها الماء ولو كان الشعر كثيراً، إذا وصل الماء إلى أصول الشعر.
وقوله: (أن تحثين) بكسر ثائه وسكون يائه، وأصله (تحثيين) كـ(تضربين) أو تنصرين، فحذف حرف العلة بعد نقل حركته أو حذفها وحذف النون للنصب، كذا في مجمع البحار، قال القارئ : ولا يجوز النصب فيه.
وقولها: (أفأنقضه لغسل الجنابة) معناه: أفرقه حتى يصل الماء إلى باطنه، وفي رواية مسلم : (أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ قال: لا).
والعمل على هذا عند أهل العلم، وهو أن المرأة إذا اغتسلت من الجنابة فلم تنقض شعرها أن ذلك يجزئها بعد أن تفيض الماء على رأسها، ومذهب الجمهور أن المرأة إذا اغتسلت من الجنابة أو الحيض يكفيها أن تحثو على رأسها ثلاث حثيات، ولا يجب عليها نقض شعرها.
وقال الحسن وطاوس : يجب النقض في غسل الحيض دون الجنابة، وبه قال أحمد ، ورجح جماعة من أصحابه أنه للاستحباب في الجماع.
واستدل من قال بوجوب النقض في غسل الحيض دون الجنابة بقوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (وانقضي رأسك وامتشطي) .
واستدل الجمهور بحديث أم سلمة المذكور في الباب، وبالرواية التي لـمسلم : (للحيضة والجنابة)، وحملوا الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: (وانقضي رأسك) على الاستحباب جمعاً بين الروايتين، أو يجمع بالتفصيل بين ما لا يصل الماء إلى أصوله بالنقض فيلزم وإلا فلا، وهذا خلاصة ما ذكره الحافظ .
والصواب الذي ذكره عند الجمهور أنه لا يجب النقض، أما القول بوجوب النقض فهو مذهب الحسن ، ورواية عن الإمام أحمد ، وأما استدلالهم بحديث عائشة : (وانقضي رأسك) فهذا في الاغتسال للحج وليس للجنابة، وعليه العادة الآن، فالصواب ما عليه الجمهور، أنه لا يجب النقض وأنه مستحب في غسل الحيض؛ لأن المدة تطول.
حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا الحارث بن وجيه قال: حدثنا مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر) .
قال أبو عيسى : حديث الحارث بن وجيه حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وهو شيخ ليس بذاك، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة، وقد تفرد بهذا الحديث عن مالك بن دينار، ويقال: الحارث بن وجيه ، ويقال: ابن وجبة ].
قوله: (تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر) حديث ضعيف عند أهل العلم، وفي بعضها أن علياً قال: ومن ثم عازيت رأسي، أي: جعل يحلقه، وهو ضعيف، فالواجب أن يغسل الإنسان الشعر، ويروي أصول شعره، أما قوله: (تحت كل شعرة جنابة) فضعيف، فقد تفرد به الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار ، والحارث بن وجيه -بالواو والجيم والياء التحتانية والهاء بوزن فعيل وقيل: بفتح الواو وسكون الجيم بعدها موحدة- الراشدي أبو محمد البصري، ضعيف، كذا في التقريب.
قال في الشرح: قوله: (تحت كل شعرة جنابة) فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها الماء بقيت جنابة، والشعر بفتح الشين وسكون العين للإنسان وغيره، فيجمع على شعور، مثل: فلس وفلوس، وبفتح العين فيجمع على أشعار، مثل: (سبب) و(أسباب)، وهو مذكر، الواحد شعرة، والشعرة -بكسر الشين- على وزن سدرة، شعر الركب للنساء خاصة، قاله في العباب.
وقوله: فاغسلوا الشعر -بفتح العين وسكونها-، أي: جميعه، قال الخطابي : ظاهر هذا الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من الجنابة؛ لأنه لا يكون شعره مغسولاً إلا أن ينقضها.
وهذا ليس بصحيح؛ إذ قد سبق في الحديث الصحيح عن أم سلمة : (أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا)، وهذا الحديث يقول: (تحت كل شعرة جنابة)، أي: لا بد من النقض، وهو ضعيف، ومعارض للحديث السابق حديث أم سلمة الذي فيه أنه لا يجب النقض.
قال الخطابي : ظاهر هذا الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من الجنابة؛ لأنه لا يكون شعره مغسولاً إلا أن ينقضها. وما قاله الخطابي ذهب إليه إبراهيم النخعي ، وقال عامة أهل العلم: إيصال الماء إلى أصول الشعر وإن لم ينقض شعره يجزئه، والحديث ضعيف.
فالسند ضعيف؛ لأن فيه الحارث بن وجيه، وهو كذلك مخالف للحديث الصحيح.
فإن قيل: لو أفاض الماء على جسده هل يكفي ذلك عن الوضوء؟
فالجواب: لا يكفي عن الوضوء، إذ لا بد من الترتيب في الوضوء.
حدثنا إسماعيل بن موسى حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ بعد الغسل).
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عيسى : وهذا قول غير واحد من أهل العلم -أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين- ألا يتوضأ بعد الغسل ].
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ قبل الغسل، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد الاغتسال غسل كفيه ثلاثاً واستنجى، ثم توضأ وضوءه للصلاة، وفي حديث عائشة أنه غسل وجهه ويديه وغسل رجليه، وأكمل الوضوء، وفي حديث ميمونة أنه أخر رجليه، فغسل الرجلين في آخر الغسل، فكان عليه الصلاة والسلام يتوضأ قبل الغسل ولا يتوضأ بعد الغسل، وهذا هو الغسل الكامل.
والغسل المجزئ أن ينوي رفع الحدثين بعد أن يستنجي، ويدخل الأصغر في الأكبر عند كثير من العلماء، وبعض العلماء يرى أنه لا بد من الوضوء.
والحديث فيه شريك ، وعنعنة ابن إسحاق وإن كان ظاهره السلامة فـشريك بن عبد الله النخعي القاضي ضعيف؛ لأنه ساء حفظه لما تولى القضاء.
قال في النيل: قال الترمذي : حديث حسن صحيح. قلت: ليس في النسخ الموجودة عندنا قول الترمذي، وقال القاضي الشوكاني : قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : تختلف نسخ الترمذي في تصحيح حديث عائشة ، وأخرجه البيهقي بأسانيد جيدة.
قلت: كيف يكون حديث الباب صحيحاً وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي، وهو وإن كان صدوقاً لكنه يخطئ كثيراً، وتغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة؟
قلت: قال أحمد : هو في أبي إسحاق أثبت من زهير ، وقد روي حديث الباب عن أبي إسحاق ، ثم لم ينفرد هو في روايته، بل تابعه زهير في رواية أبي داود ، وأخرجه البيهقي بأسانيد صحيحة كما عرفت.
ولعل النسخة التي فيها (حسن صحيح) لكون الترمذي لاحظ الطريق الأخرى، فلذلك قال: حسن صحيح.
وتختلف نسخ الترمذي، فبعضها كأن فيه (حسن صحيح)، وبعضها (حسن).
وهذا يحمل على أن الترمذي رحمه الله أراد الطرق الأخرى؛ لأن زهيراً تابع شريكاً ، وكذلك البيهقي رواه بأسانيد أخرى، فلاحظ الطريق الثاني للحديث، فلهذا حكم عليه بأنه حسن صحيح.
و أبو إسحاق تدليسه قليل، وهو ثقة.
حدثنا أبو موسى محمد بن مثنى قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا).
قال: وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ورافع بن خديج ].
وهذا الحديث رواه الشيخان، وفي لفظ لـمسلم : (إذا التقى الختانان وجب الغسل وإن لم ينزل) والمراد بالتقاء الختانين: مجاوزة الختان الختان، وهي: إدخال طرف الذكر في الفرج، فإذا غيب طرف الذكر والحشفة فهو التقاء الختانين، وليس المراد بالالتقاء المس فقط؛ لأنه لا يلتقي الختانان إلا بالإدخال، فلا بد من أن يدخل طرف الذكر في فرج المرأة، فإذا غيب الحشفة التقى الختانان، فيجب الغسل وإن لم ينزل، وبعض الناس يظن أنه إذا لم ينزل لا يجب الغسل، لا، بل يجب الغسل، وهذا كان في أول الإسلام، وهو أنه إذا لم ينزل لا يجب عليه الغسل، وإنما يغسل ذكره ويتوضأ، ثم نسخ ذلك بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ولـمسلم وأحمد: (وإن لم ينزل) وهذه الزيادة (فعلته أنا ورسول الله) ليست موجودة في الصحيحين، وأصل الحديث في الصحيحين.
وكذلك حديث الماء، وهذا قال عنه بعضهم: إنه منسوخ، ولكنه باقٍ في الاحتلام، والاحتلام لا بد فيه من الإنزال، فقوله: (الماء) أي: ماء الغسل، و(من الماء) ماء المني، فهذا نسخ بحديث: (إذا التقى الختانان) وبقي (الماء من الماء) في الاحتلام.
والغسل له موجبات، منها الجماع ومنها الإنزال، ويجب الغسل من الإنزال ولو لم يجامع، فإذا أنزل في اليقظة أو في النوم وجب عليه الغسل، فهذا موجب وهذا موجب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل).
قال أبو عيسى : حديث عائشة حديث حسن صحيح ].
هذا الحديث فيه: علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، لكن الحديث أصله في الصحيحين.
والترمذي رحمه الله يتساهل في الحكم، فلا يضعف علي بن زيد، والجمهور على أنه ضعيف.
وعلي بن زيد بن جدعان التيمي البصري أصله حجازي، وهو ضعيف، روى عن ابن المسيب، وعنه قتادة والسفيانان والحمادان وخلق.
وقال أحمد وأبو زرعة : ليس بالقوي، وقال ابن خزيمة : سيئ الحفظ. وقال شعبة : حدثنا علي بن زيد قبل أن يختلط، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة.
وقد صححه ابن حبان وابن القطان، وأعله البخاري؛ لأن الأوزاعي أخطأ فيه.
وكذلك أحمد شاكر مثل الترمذي متساهل في الحكم رحمهما الله، فكلاهما كانا يتساهلان في علي بن زيد بن جدعان وغيره من الضعفاء، فيتساهلون في تحسين أحاديثهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد روي هذا الحديث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل).
وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة والفقهاء من التابعين، ومن بعدهم، مثل سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا التقى الختانان وجب الغسل ].
قال الشارح: والحديث صححه ابن حبان وابن القطان، وأعله البخاري بأن الأوزاعي أخطأ فيه، ورواه غيره عن عبد الرحمن بن القاسم مرسلاً، واستدل على ذلك بأن أبا الزناد قال: سألت القاسم بن محمد : سمعت في هذا الباب شيئاً؟ قال: لا.
وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم قد نسيه، ثم تذكر فحدث به ابنه، أو كان حدث به ثم نسي، ولا يخلو الجواب عن نظر، قال الحافظ وأصله في مسلم بلفظ: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل).
وقال النووي: هذا الحديث أصله صحيح، لكن فيه تغير، وتبع في ذلك ابن الصلاح.
والمقصود أن الحديث ثابت، وأن مجاوزة الختان الختان توجب الغسل، والجماع يوجب الغسل، بمعنى: تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل.
وأما زيادة علي فالحديث ثابت من غيرها، والحديث يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره، والقول أبلغ من الفعل.
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب قال: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها ].
هذا هو الصواب، كان في أول الإسلام إذا جامع الإنسان ولم ينزل، فإنه لا يجب عليه الغسل، وإنما يغسل ذكره ويتوضأ، ثم نسخ هذا، وبقي (إنما الماء من الماء) في الاحتلام، وكذلك أيضاً في الإنزال في اليقظة، فإذا أنزل يجب عليه الغسل.
قال المصنف رحمه الله: [ حدثنا أحمد بن منيع حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد مثله. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.
وهكذا روى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبي بن كعب ورافع بن خديج ].
قوله: (حسن صحيح)، وقد رواه البخاري فيما أظن، وأخرجه أحمد وأبو داود والدارمي.
وقال الحافظ في الفتح: إسناده صالح لأن يحتج به، وقال فيه: صححه ابن خزيمة وابن حبان .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، على أنه إذا جامع الرجل امرأته في الفرج وجب عليهما الغسل وإن لم ينزلا ].
هذا هو الصواب الذي تدل عليه الأحاديث، والذي عليه الجماهير.
الحديث باقٍ في الاحتلام، وكذلك في اليقظة، فإذا أنزل المني يجب عليه الغسل للإنزال، وإذا استمنى كذلك وجب عليه الغسل مع التوبة، سواء استمنى باليد أو بغيرها، وهو ما يسمى بالعادة السرية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عيسى : سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم نجد هذا الحديث إلا عند شريك .
قال أبو عيسى : وأبو الجحاف اسمه داود بن أبي عوف ، ويروى عن سفيان الثوري قال: حدثنا أبو الجحاف وكان مرضياً.
قال أبو عيسى : وفي الباب عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة وأبي أيوب وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الماء من الماء) ].
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا حماد بن خالد الخياط عن عبد الله بن عمر -هو العمري- عن عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً، قال: يغتسل، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد بللاً، قال: لا غسل عليه. قالت
قال أبو عيسى : وإنما روى هذا الحديث عبد الله بن عمر عن عبيد الله بن عمر حديث عائشة في الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً، وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث ].
عبد الله بن عمر المكبر ضعيف، والمصغر ثقة، وعبد الله بن عمر يروي عن أخيه عبيد الله .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، إذا استيقظ الرجل فرأى بلة أنه يغتسل، وهو قول سفيان الثوري وأحمد .
وقال بعض أهل العلم من التابعين: إنما يجب عليه الغسل إذا كانت البلة بلة نطفة، وهو قول الشافعي وإسحاق .
وإذا رأى احتلاماً ولم ير بلة، فلا غسل عليه عند عامة أهل العلم ].
هذا هو الصواب والمعتمد، وهو أنه إذا استيقظ ووجد بللاً، وتيقن أنه مني وجب عليه الغسل، ولو لم يذكر احتلاماً.
أما إذا احتلم ولم ير بللاً في ثوبه أو في فخذيه فلا يجب عليه الغسل.
وحال النوم يختلف عن حال اليقظة، ففي اليقظة إذا جامع وجب عليه الغسل ولو لم ينزل، وفي النوم إذا جامع ولم يجد بللاً لا يجب عليه الغسل، وإن وجد بللاً وجب عليه الغسل إذا تحقق أنه مني.
وعبد الله بن عمر بن حفص العمري المذكور في السند ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث، قال الذهبي في الميزان: صدوق في حفظه شيء، روى عن نافع وجماعة.
روى أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال الدارمي : قلت لـابن معين : كيف حاله في نافع ؟ قال: صالح ثقة.
قال الشارح: حديث عائشة في الرجل يجد البلل قال عنه في المنتقى بعد أن ذكر هذا الحديث: رواه الخمسة إلا النسائي .
وقال في النيل: رجاله رجال الصحيح، إلا عبد الله بن عمر العمري، وقد اختلف فيه، ثم ذكر أقوال الجرح والتعديل فيه، ثم قال: وقد تفرد به المذكور عند من ذكره المصنف من المخرجين له، ولم نجده عن غيره.
وهكذا رواه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه، فالحديث معلول بعلتين:
الأولى: العمري المذكور.
والثانية: التفرد وعدم المتابعة، فقصر عن درجة الحسن والصحة، انتهى.
وقال الخطابي (في معالم السنن): ظاهر هذا الحديث - أي: حديث عائشة - المذكور في الباب يوجب الاغتسال إذا رأى بلة وإن لم يتيقن أنها الماء الدافق.
وروي هذا القول عن جماعة من التابعين، منهم عطاء والشعبي والنخعي ، وقال أحمد بن حنبل : أعجب إلي أن يغتسل. وقال أكثر أهل العلم: لا يجب، قاله النسائي في سننه.
قلت: ما مال إليه الجماعة الأول من أن مجرد رؤية البلة موجب للاغتسال هو أوفق بحديث الباب، وبحديث أم سلمة رضي الله عنها الذي أخرجه الشيخان بلفظ: (إذا رأت الماء) ، وبحديث خولة بنت حكيم بلفظ: (ليس عليها غسل حتى تنزل).
فهذه الأحاديث تدل على اعتبار مجرد وجود المني، سواء ضم إلى ذلك الدفع والشهوة أم لا، وهذا هو الظاهر، وبه قال أبو حنيفة ، والله تعالى أعلم.
والمهم أنه إذا تحقق أنه مني وأنه ليس بمذي وجب عليه الغسل، فإذا رآه في ثوبه أو في فخذيه وجب عليه الغسل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر