أخبرنا قتيبة قال: حدثنا أبو عوانة عن خالد بن علقمة عن عبد خير قال: (أتينا علي بن أبي طالب
هذا الحديث فيه بيان أنه توضأ ليعلمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسل كل عضو ثلاثاً إلا الرأس، فإنه لا يمسح إلا مرة واحدة، وهذا هو الأكمل أن يغسل كل عضو ثلاثاً، والواجب مرة، وإن غسل مرتين أو ثلاثاً أو خالف بينهما فكل هذا لا بأس به.
أخبرنا سويد بن نصر قال: أنبأنا عبد الله -وهو ابن المبارك - عن شعبة عن مالك بن عرفطة عن عبد خير عن علي رضي الله عنه: (أنه أتي بكرسي فقعد عليه، ثم دعا بتور فيه ماء فكفأ على يديه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق بكف واحد ثلاث مرات، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، وأخذ من الماء فمسح برأسه -وأشار
وقال أبو عبد الرحمن : هذا خطأ، والصواب خالد بن علقمة ، ليس مالك بن عرفطة ].
الخطأ في ذلك من شعبة حيث أخطأ فقال: مالك بن عرفطة ، والصواب خالد بن علقمة وشعبة إمام حافظ، بل هو جبل الحفظ، ولكنه هنا أخطأ، فالكمال لله.
وفي الحديث أن علياً رضي الله عنه علم الناس، فأتى بالكرسي وجلس عليه؛ لأنه مرتفع، وقد شك شعبة في رد علي يديه من مؤخر رأسه بعد مسحه، والصواب أنه ردهما كما في الحديث الآخر. وهذه الأحاديث كلها ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما، وقد أخرج حديث علي أبو داود والترمذي رحمهما الله تعالى.
أخبرنا عمرو بن علي وحميد بن مسعدة عن يزيد وهو ابن زريع قال: حدثني شعبة عن مالك بن عرفطة عن عبد خير قال: (شهدت
المؤلف يكرر التراجم لتمام استنباط الأحكام، فهذا حديث واحد كرره، وفيه غسل الوجه ثلاثاً، وتكرار غسل اليدين، وتكرار الاستنثار، ومسح الرأس مرة.
أخبرنا إبراهيم بن الحسن المقسمي قال: أنبأنا حجاج قال: قال ابن جريج : حدثني شيبة أن محمد بن علي أخبره قال: أخبرني أبي علي أن الحسين بن علي قال: (دعاني أبي
هذا أكمل الوضوء، وهو غسل كل عضو ثلاثاً، وغسل الكفين ثلاثاً قبل الوضوء، وهو مستحب إلا من نوم الليل فيتأكد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، والقول بالوجوب قول قوي؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب، وإن كان الجمهور يرون أنه للاستحباب.
وفي هذه الأحاديث كلها المضمضة والاستنشاق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حافظ عليهما، فدل على وجوبهما، خلافاً لمن قال: إنهما ليسا واجبين.
وفيه أنه شرب فضل وضوئه قائماً، ففيه بيان الجواز.
وفيه أن الماء الذي يتوضأ به الإنسان يبقى طاهراً، فيستعمل في الشرب وفي الأكل وفي التطهير، وفيه جواز الشرب قائماً، كما فعل علي رضي الله عنه، وإن كان الشرب قاعداً أفضل وأهنأ وأمرأ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تناول دلواً من زمزم فشرب وهو قائم، وهذا يدل على الجواز، وقد ثبت في الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً) وشرب قائماً، فدل على أن النهي ليس للتحريم.
والقاعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله فإن فعله يدل على أن النهي للتنزيه، فالشرب قاعداً أفضل، والشرب قائماً جائز؛ كما يدل عليه حديث علي هذا، وحديث فعله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، خلافاً لما قرره العلامة ابن القيم رحمه الله من تحريم الشرب قائماً كما في زاد المعاد، فالعلماء لهم أقوال في هذا، لكن الصواب أنه ليس حراماً، وإنما هو جائز.
ولا يقال بأن ذلك كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالخصوصية تحتاج إلى دليل.
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحق عن أبي حية -وهو ابن قيس -قال: (رأيت
هذا هو الحديث السابق، وبه ترجم لعدد غسل اليدين، والأكمل أن يغسلا ثلاثاً، وإن غسلهما مرتين أو مرة كفى.
أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع -واللفظ له-، عن ابن القاسم قال: حدثني مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال لـعبد الله بن زيد بن عاصم -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو جد عمرو بن يحيى -: (هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال
هذا هو الوضوء الثابت في الأحاديث، وفي الأحاديث أنه يغسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وفي بعضها أنه يغسل كل عضو مرتين، وفي بعضها أنه يغسل كل عضو مرة مرة، وفي بعضها أنه يغسل مخالفاً: فبعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثاً، كل هذا جاءت به السنة.
وهنا يذكر حد الغسل، وحد الغسل الواجب مرة في كل عضو، وما زاد على المرة فهو مستحب، والأكمل أن يغسل ثلاثاً ثلاثاً.
أخبرنا عتبة بن عبد الله عن مالك -هو ابن أنس - عن عمرو بن يحيى عن أبيه أنه قال لـعبد الله بن زيد بن عاصم -وهو جد عمرو بن يحيى - : (هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال
وهذا فيه بيان كيفية الغسل، وبيان أن الأفضل أن يبدأ بمقدم رأسه بيديه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وفي بعض الأحاديث أنه يبدأ بالمؤخر ثم يرجع إليه، والمهم أنه يعمم المسح على الرأس بيديه أو بيد واحدة، لكن الأفضل هو أن يبدأ بمقدم رأسه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد الذي أري النداء قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين، وغسل رجليه مرتين، ومسح برأسه مرتين) ].
هذا ليس بظاهر، فالترجمة هي في عدد المسح، والمسح ليس له عدد بل هو مرة واحدة. وقوله: (مرتين) معناه: أنه اعتبر الذهاب من مقدم الرأس مرة والرجوع مرة، وهذا ليس بمرتين، وإنما مرة واحدة، وكونه ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى مكانهما كي يمسح جميع الشعر؛ لأنه إذا ذهب بهما إلى قفاه ارتفع بعض الشعر من المقدمة فإذا ردهما مسح أطراف الشعر الذي لم يرتفع من القفا في المرة الأولى.
قوله: [ الذي أري النداء ] قالوا: هذا خطأ؛ لأن راوي حديث الوضوء هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني ، وراوي الأذان هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه .
أخبرنا الحسين بن حريث قال: حدثنا الفضل بن موسى عن جعيد بن عبد الرحمن قال: أخبرني عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب قال: أخبرني أبو عبد الله سالم سبلان قال: وكانت عائشة تستعجب بأمانته وتستأجره، فأرتني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، (فتمضمضت واستنثرت ثلاثاً، وغسلت وجهها ثلاثاً، ثم غسلت يدها اليمنى ثلاثاً واليسرى ثلاثاً، ووضعت يدها في مقدم رأسها، ثم مسحت رأسها مسحة واحدة إلى مؤخره، ثم أمرت يديها بأذنيها، ثم مرت على الخدين).
قال سالم : كنت آتيها مكاتباً ما تختفي مني، فتجلس بين يدي، وتتحدث معي حتى جئتها ذات يوم فقلت: ادع لي بالبركة يا أم المؤمنين! قالت: وما ذاك؟ قلت: أعتقني الله. قالت: بارك الله لك. وأرخت الحجاب دوني، فلم أرها بعد ذلك اليوم ].
هذا الحديث منكر المتن وشاذ وضعيف السند، فهو حديث ليس بصحيح، فأما الشذوذ والنكارة ففي موضعين أحدهما أشد من الآخر، الموضع الأول: أن عائشة لم تحتجب عن سالم سبلان وهو ليس عبداً لها، ولا مكاتباً لها، وقد قال الله تعالى في كتابه المبين: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]، ثم قال: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [النور:31]، وهذا ليس مما ملكت يمينها وليس عبداً لها ولا مكاتباً لها، فكيف كشفت له عائشة وتجلس معه!! والشاذ: هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، وهو هنا قد خالف نص القرآن.
الموضع الثاني: في قوله: إنها لما مسحت رأسها أمرت يديها على خدها فهذا -أيضاً- منكر شاذ مخالف للأحاديث، إذ ليس فيها مسح الخدين بعد مسح الرأس.
وعبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب قال فيه الحافظ ابن جحر : مقبول، وقال فيه الذهبي في الميزان: لم يروه عنه إلا شعيب وقال في التهذيب: ذكره ابن حبان، في الثقات، فمثل هذا لا يقبل حديثه، فيكون حديثه ضعيفاً إلا إذا جاء له متابع.
فيكون الحديث شاذ المتن، ومنكراً لمخالفته للقرآن، والشاذ هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه في الحديث، وهذا خالف القرآن، والمقبول إنما يقبل حديثه في الشواهد والمتابعات لا في الأصول التي تثبت بها الأحكام، فالمقصود أن هذا الحديث ليس بصحيح.
أخبرنا الهيثم بن أيوب الطالقاني قال حدثنا عبد العزيز بن محمد قال حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل يديه، ثم تمضمض واستنشق من غرفة واحدة، وغسل وجهه وغسل يديه مرة مرة، ومسح برأسه وأذنيه مرة).
قال عبد العزيز : فأخبرني من سمع ابن عجلان يقول في ذلك: (وغسل رجليه) ].
هذا هو الوضوء الشرعي، وهو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والرأس والرجلين، فثلاثة أعضاء تغسل، وهي الوجه واليدان والرجلين، والعضو الرابع يمسح وهو الرأس.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ واستنشق من غرفة واحدة، وهذا هو الأفضل، وإن تمضمض من غرفة واغتسل من غرفة فلا حرج.
وفيه أنه توضأ مرة مرة، وهذا هو الحد الأدنى، والأكمل أن يغسل ثلاثاً، فالثانية والثالثة مستحبتان، والواجب تعميم العضو مرة واحدة.
وفيه أنه مسح رأسه وأذنيه، وهذا هو الشاهد للترجمة، فالأذنان من الرأس ولابد من أن يسمحا، ومن لم يمسحهما لم يصح وضوؤه، ويمسح باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بالإبهامين، فيدير السبابتين في الداخل، ويمسح بالإبهامين الصفحة التي تلي الرأس.
أخبرنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن إدريس قال: حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرف غرفة فمضمض واستنشق، ثم غرف غرفة فغسل وجهه، ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى، ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى) ].
الواجب هو تعميم هذه الأعضاء، وفيه أنه غرف غرفة، فإذا عمم في الغرفة فهذا هو المطلوب، وإن لم تكف الغرفة غرف غرفة ثانية حتى يعمم الوضوء كله، وإذا عمم بغرفة أو بغرفتين أو بثلاث اعتبر ذلك غسلة واحدة، فالعبرة بالتعميم وليست العبرة بالغرفات وإن لم يعمم، والواجب في كل عضو التعميم مرة واحدة، وفيه أنه مسح أذنيه باطنهما وظاهرهما.
قال قتيبة عن الصنابحي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ].
هذا الحديث فيه بيان فضل الوضوء، وأن الوضوء من أسباب غفران الذنوب وتكفير الخطايا، ففيه أنه إذا تمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، وإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، وإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفاره.
ثم كان مشيه وصلاته نافلة، أي: زيادة في الثواب والأجر، وهذا عند أهل العلم مشروط بترك ارتكاب الكبائر التي تُوعد عليها بالنار أو باللعنة أو بالغضب، أو فيها حد في الدنيا؛ لقول الله عز وجل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، ولما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فلابد من اجتناب الكبائر، وأما من لم يجتنب الكبائر فإنها تبقى عليه الكبائر والصغائر، وإن كان يثاب على عمله.
أخبرنا الحسين بن منصور قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش ح: وأنبأنا الحسين بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والخمار) ].
مراده بالخمار العمامة، سميت خماراً لأنها تخمر الرأس، أي: تغطيه، ومنه سمي الخمر خمراً، لأنه يستر العقل ويغطيه، ولذلك لابد من أن تكون العمامة مدارة تحت الحنك، ولابد من أن يلبسها على طهارة، فإذا لبس العمامة على طهارة، وكانت مدارة تحت الحنك، فإنه في هذه الحال يشق نزعها، فإذا توضأ فإنه يمسح عليها ولا ينزعها؛ لأن نزعها يشق عليه في هذه الحالة. وعند الفقهاء أنه لابد من أن تكون العمامة محنكة أو ذات ذؤابة، أي: ذات طرف يكون من الخلف، لكن إذا كانت ذات الذؤابة لا يشق نزعها, وكذلك العمامة الصماء وهي التي لا تدار على الحنك وليس لها ذؤابة، فهذه لا يشق نزعها، وعليه فإنه ينزعها ويمسح على الرأس.
وأما إذا كانت العمامة محنكة: بأن شدها على رأسه بعد أن توضأ وأدارها تحت الحنك، فهذه هي التي يمسح عليها، وإن بدا شيء من الناصية فإنه يمسح على الناصية، ثم يكمل المسح على العمامة كما جاء في الأحاديث.
المسح على الخفين متواتر، وهذا الحديث فيه شيخ المؤلف حسين الجرجرائي ، وفيه عنعنة الأعمش، لكن الحديث له شواهد كثيرة، فحديث المسح على الخفين من الأحاديث التي بلغت حد التواتر، وقد رواه من الصحابة ما يزيد على سبعين صحابياً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وفيه الرد على الرافضة الذين لا يرون المسح على الخفين، بل يوجبون خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، فإذا كانت الرجلان مكشوفتين وجب مسح ظهور القدمين عندهم، وإن كانتا مستورتين بالخفين وجب نزع الخفين ومسح ظهور القدمين عندهم، ويستدلون بقراءة الجر في آية المائدة: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم).
فقالوا: الأرجل مجرورة بالعطف على الرءوس، والرءوس ممسوحة، والمعطوف على الممسوح ممسوح.
وأجاب أهل السنة أن قراءة الجر محمولة على المسح على الخفين، وقراءة النصب بالعطف على غسل اليدين.
والجواب الثاني: التوسع في لفظ (امسحوا) فيشمل الإسالة والإصابة.
فإن المسح يطلق على الغسل الخفيف، والمعنى: امسحوا برءوسكم إصابة وإمراراً باليد على العضو مبلولة بالماء، وامسحوا بأرجلكم إسالة وصباً للماء، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة.
والرافضة أجابوا عن قراءة النصب وهي: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] فقالوا: إن قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على محل (رءوسكم) ؛ لأن محلها هو النصب، ويظهر ذلك إذا نزعت الخافض.
فـ(أرجلكم) بالنصب معطوف على محل (رءوسكم) بعد نزع الخافض، وعلى هذا يكون العطف على المسح. ولكن أجاب أهل السنة بأن العطف على المحل لا يصح إذا تغير المعنى، وهنا يتغير المعنى؛ لأن الباء تفيد معنى زائداً؛ لأنها هنا للإلصاق، والمعنى: ألصقوا بأيديكم شيئاً من الماء وامسحوا برءوسكم. فإذا حذفت الباء صار معناها مسح الرأس بدون إلصاق شيء من الماء، فيتغير المعنى، فلا يصح العطف، ولو كانت زائدة صح العطف على المحل، ومنه قول الشاعر:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فالباء زائدة، و(الحديدا) معطوف على محل (الجبال)، أي فلسنا الجبال ولا الحديدا. وبهذا يبطل دعوى الرافضة في أن الأرجل تكون معطوفة على محل الغسل.
في هذا الإسناد يروي عبد الرحمن عن بلال ، وفي الإسناد الأول يروي عن البراء بن عازب عن بلال ، وهذا فيه رواية الصحابي عن الصحابي، وأن عبد الرحمن قد يكون أدرك كلاً منهما.
أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: حدثنا سليمان التيمي قال حدثنا بكر بن عبد الله المزني عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن المغيرة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح ناصيته وعمامته وعلى الخفين).
قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه ].
قوله: (فمسح ناصيته وعمامته) معناه أنه بدا شيء من الناصية فمسح الناصية وأكمل على العمامة، فإذا كانت العمامة على الرأس وبدا شيء منه فإنه يمسح على الرأس ويكمل على العمامة.
هذا فيه أنه عليه الصلاة والسلام استعان بـالمغيرة ، فدل على جواز الاستعانة في الوضوء، وهي أن يأتي إنسان ويصب على إنسان وهو يتوضأ، فيعينه بأن يصب عليه فيتمضمض، ويصب عليه فيغسل وجهه، ويصب عليه فيغسل يديه، ويصب عليه فيغسل رجليه، ولا بأس بذلك.
وفيه جواز لبس ضيق الأكمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة ضيقة الكمين، وفي اللفظ الآخر أنها جبة شامية، وكانت الشام في ذلك الوقت من بلاد كفار قبل أن تفتح، ففيه دليل على أنه لا بأس بلبس الثياب التي تأتي من الكفار، وأن الأصل فيها الطهارة، ولا بأس بلبس الضيق، ولهذا لما ضاق كما الجبة حسر وأخرج يديه من تحت وجعل الجبة على الكتفين.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الناصية وعلى العمامة، ثم مسح على خفيه.
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال أخبرني عمرو بن وهب الثقفي قال سمعت المغيرة بن شعبة قال: (خصلتان لا أسأل عنهما أحداً بعد ما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنا معه في سفر فبرز لحاجته، ثم جاء فتوضأ ومسح بناصيته وجانبي عمامته، ومسح على خفيه، قال: وصلاة الإمام خلف الرجل من رعيته، فشهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر فحضرت الصلاة، فاحتبس عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأقاموا الصلاة وقدموا
هذا أخرجه البخاري في الصحيح، وفي الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الناصية وعلى العمامة، أي: أكمل على العمامة.
وهذا الحديث فيه فوائد: ففيه جواز الاستعانة في الوضوء؛ لأن المغيرة صب عليه.
وفيه المسح على الخفين إذا لبسهما على طهارة.
وفيه المسح على العمامة.
وفيه أن الإمام إذا تأخر عن الوقت المعتاد فإن الناس يقدمون من يصلي بهم ولا يحبس الناس، فلهذا لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته ومعه المغيرة - وكان هذا في غزوة تبوك- قدم الصحابة عبد الرحمن بن عوف يصلي بهم، فإذا تأخر الإمام فإن المأمومين يقدمون من يصلي بهم، ولا يحبس الناس.
وفيه أنه لا ينبغي للإمام أن يغضب إذا تأخر، فيجمع بين السيئتين كما يفعل بعض الجهال، فبعضهم يقول للمأموم: أعد، أعد.
والذي ينبغي للمأمومين هو أن ينتظروه بعض الوقت، فإذا غلب على الظن أنه لا يأتي فإنهم يقدمون من يصلي بهم، كما فعل الصحابة في غزوة تبوك، حيث قدموا عبد الرحمن بن عوف ، وكما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب للإصلاح بين بني عوف، حيث جاء بلال إلى أبي بكر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس، وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تصلي بالناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه، فكبر للناس، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر أبو بكر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى لكنه تأخر. ولهذا جاء في قصة عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: أحسنتم أو أصبتم.
ففيه جواز صلاة الإمام خلف الرجل من رعيته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف وهو من رعيته، ومثله صلاة إمام الحي خلف واحد من المأمومين.
وفيه أن الأولى أن الإنسان إذا فاته شيء من الصلاة ومعه غيره لا يأتم أحدهما بالآخر، فكل واحد يقضي وحده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة فاتتهما ركعة، حيث جاءا ليصليا الفجر وقد صلى عبد الرحمن بن عوف ركعة، فلما سلم عبد الرحمن قام النبي صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة التي فاتت، وقام المغيرة ، ولم يأتم المغيرة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كل قضى وحده، وإن ائتم أحدهما بالآخر فلا حرج.
وفي القصتين أن الإمام إذا جاء ولم يفته شيء من الصلاة فلا بأس بأن يتقدم ويتأخر الإمام، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أبي بكر ، وأما إذا فاته شيء من الصلاة فالأولى ألا يتقدم؛ حتى لا يشوش على الناس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الرحمن بن عوف ؛ لأنه فاته ركعة، فلم يتقدم وصلى خلفه، وأما أبو بكر فإنه كان في الركعة الأولى، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر