أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن الأغر - وهو ابن الصباح - عن خليفة بن حصين عن قيس بن عاصم رضي الله عنه: (أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر) ].
هذا الحديث فيه اغتسال الكافر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل، وقد اختلف العلماء في حكم غسل الكافر هل هو واجب أو مستحب، فالجمهور على أنه مستحب.
وفي هذا الحديث أنه أمره النبي أن يغتسل، لكن صرف الأمر عن الوجوب أنه أسلم يوم فتح مكة جمع غفير، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل، فدل على أن هذا الغسل مستحب.
وذهب أحمد وجماعة على أنه للوجوب.
وسواء تقدم الغسل على الإسلام أو تأخر، فقد جاء هذا وهذا، يعني: أنه إذا أسلم يغتسل، أو يغتسل ثم يسلم، وجاء في اللفظ الآخر: (ألق عنك شعر الكفر وأسلم) ، وفي هذا استحباب حلق الشعر.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (إن
هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وهو حديث ثمامة بن أثال وكان سيد بني حنيفة، أراد أن يذهب ليعتمر وهو على شركه وعلى طريقة المشركين، فأخذه فرسان النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا به إلى المدينة، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فربط في سارية من سواري المسجد ثلاثة أيام؛ وإنما ربط لأجل أن يرى المسلمين ويشاهد الصلاة، ويشاهد المسلمين عند دخولهم وخروجهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم يمر عليه -كما في صحيح البخاري - يقول: (ما عندك يا
يعني: إن أنعمت علي فأنا شاكر أقدر المعروف، وإن تقتل تقتل رجلاً عظيماً له مكانته في مجتمعه، وإن كنت تريد المال فاسأل ما بدا لك.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتركه، ثم يأتيه من الغد فيقول مثل ذلك: (ما عندك يا
فتوسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه رغب في الإسلام، فقال: (أطلقوا
وهذا الحديث فيه أنه اغتسل هو، وأنه لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال فاغتسل قبل أن يسلم، ثم قال: (يا رسول الله! ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك - يعني: قبل أن يسلم - فوجهك الآن أحب الوجوه إلي) .
وفي صحيح البخاري زيادة: (وما كان دين على وجه الأرض أبغض إلي من دينك، فالآن دينك أحب الأديان إلي، وما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فبلدك الآن أحب البلاد إلي) .
فانظر إلى الإسلام كيف غيره في ساعة واحدة، وكيف غير وجهه وغير ما في قلبه في لحظة وفي ساعة واحدة، فقد كان أبغض الوجوه إليه وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار أحب الوجوه إليه، وكانت أبغض البلاد إليه بلد النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت أحب البلاد إليه، وكان أبغض الأديان إليه دين الإسلام فصار أحب الأديان إليه.
قوله: (فانطلق إلى نجل) روي بالجيم ورواية بالخاء، والنجل هو: الماء الجاري القليل. (ثم قال: يا رسول الله ! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر) .
وهذا فيه دليل على أن الكافر إذا أسلم ونوى شيئاً من الخير عليه أن ينفذه.
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) فوفى بنذره الذي كان قد نذره في الجاهلية.
وفي البخاري أن ثمامة بن أثال لما ذهب إلى مكة قالوا له: صبوت يا ثمامة ! خرجت من دينك، وجعلوا يذمونه، فقال: لا، بل أسلمت لله رب العالمين، والله لا تأتينكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا حصار اقتصادي؛ لأن أهل مكة ليس عندهم حبوب ولا أرض يزرعون فيها، وإنما عندهم جبال تحيط بهم، فقال لهم: إذا أنتم تسبونه وتعيبونه فلن تأتيكم حبوب إلا إذا أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من الحديث: أنه اغتسل قبل أن يسلم.
وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل) ، وأما هنا ففيه أنه اغتسل بدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره، وفيه أنه اغتسل قبل أن يسلم.
وهذا يدل على أن الغسل ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لقال له: اغتسل، لكن ليس فيه أن النبي عارض ذلك، وليس فيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سأسلم، بل هو من نفسه ذهب واغتسل ثم جاء وتشهد شهادة الحق، وشهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ربطه ثلاثة أيام في المدينة، وهذا ممنوع في مكة، وهذا من المفارقات بين مكة والمدينة، فمكة لا يدخلها كافر، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].
وأما في المدينة فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال ، وجاءت الوفود أيضاً في سنة الوفود، وكان الوفود كلهم كفاراً، ومع هذا جاءوا ودخلوا المدينة وأسلموا، وأيضاً نصارى نجران جاءوا المدينة ودخلوا المدينة، فمنع الكافر إنما هو خاص بمكة والمسجد الحرم، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].
أخبرنا محمد بن المثنى عن محمد حدثني شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن
ابن إسحاق في السنن الكبرى عنعن، لكنه هنا صرح بالسماع، فزال ما يخشى من تدليسه.
وهذا الحديث فيه دليل على مشروعية الاغتسال من مواراة المشرك ودفنه، فالمشرك يوارى، والمسلم يدفن على ما جاء به الشرع: يغسل ويصلى عليه ويدفن في اللحد.
أما الكافر فإنه يحفر له حفرة ويوارى فيها؛ حتى لا يتأذى المسلمون برائحته ولا يتأذى به أهله برؤيته؛ لأن الكافر لا حرمة له، ولهذا قال : (إن
وقوله: (إن عمك الشيخ الضال مات) فيه دليل على أن أبا طالب مات على الشرك، وفيه الرد على الرافضة الذين يقولون بإسلامه، فإن الرافضة يقولون: إن أبا طالب مسلم، ويزورونه، فهم مثله، نسأل الله السلامة والعافية.
ومما يؤيد أنه مات مشركاً ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر أبا طالب لما حضرته الوفاة، فقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، وعنده
والصحيح: أنه مات على الشرك، نسأل الله السلامة والعافية.
ولله في ذلك الحكمة البالغة، ومن الحكم: أن يعلم الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، وأنه ليس بيده شيء من هداية القلوب، بل هداية القلوب بيد الله، ولو كان يستطيع أن يهدي أحداً لهدى عمه الذي يأويه وينصره، ولهذا صار يقال: النبي عليه الصلاة والسلام ما هدى عمه، كما أن إبراهيم ما هدى أباه، وكذلك نوح ما هدى ابنه، فالهداية بيد الله.
وهذا الحديث فيه دليل على استحباب الغسل من مواراة المشرك ودفن المسلم، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن المسلم إذا دفن قريبه أو واراه إذا كان مشركاً يحصل له بعض الضعف؛ فشرع الغسل ليكون جبراً لما حصل له من الضعف؛ لأن الغسل يفيده النشاط وإزالة الضعف الذي حصل من مواراته لقريب مشرك، كما أنه يستحب الاغتسال من غسل الميت إذا غسله، وليس بواجب؛ لأنه إذا غسل ميتاً أو قلبه حصل له بعض الضعف، فشرع الغسل؛ ليفيده النشاط وليكون جبراً لهذا الضعف.
وغسل الميت لا يوجب الوضوء، وليس من النواقض، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه من نواقض الوضوء.
والصواب أن غسل الميت لا يوجب الوضوء؛ لأن الحديث ضعيف في هذا. وكذلك مس المرأة بشهوة الصواب أنه لا ينقض الوضوء، وهذه ذكرها الحنابلة في النواقض، فإنهم قالوا: نواقض الوضوء ثمانية، وذكروا منها: مس المرأة بشهوة، ومس الفرج باليد قبلاً كان أو دبراً، وهذا صحيح، وأما مس المرأة بشهوة فالصواب أنه لا ينقض الوضوء إلا إذا خرج منه شيء، وكذلك غسل الميت لا ينقض الوضوء.
والقيء إذا كان قليلاً يعفى عنه، أما إذا كان كثيراً فإنه ينبغي أن يتوضأ؛ لأن العلماء حكموا عليه بالنجاسة إذا كان كثيراً.
وأما لحم الإبل فيجب الوضوء منه كله حتى ولو كان نيئاً غير مطبوخ، ولو لم تمسه النار، وهذا خاص بلحم الإبل.
والأمر بالغسل من غسل الميت يدل على الاستحباب؛ لأنه وقعت قضايا أخرى وما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، فيكون هذا صارفاً للأمر إلى الاستحباب.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت الحسن يحدث عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم اجتهد فقد وجب الغسل) .
أخبرنا إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني حدثني عبد الله بن يوسف حدثنا عيسى بن يونس حدثنا أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قعد بين شعبها الأربع ثم اجتهد فقد وجب الغسل) .
قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، والصواب: أشعث عن الحسن عن أبي هريرة ، وقد روى الحديث عن شعبة النضر بن شميل وغيره كما رواه خالد ].
هذه الأحاديث دليل لما ترجم له المؤلف رحمه الله، وهو أن الغسل يجب من التقاء الختانين، فإذا التقى الختانان فإنه يجب الغسل، ففي صحيح مسلم : (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإن لم ينزل) .
وكان في أول الإسلام لا يجب الغسل إلا إذا أنزل، وإذا جامع ولم يمذ فإنه يغسل ذكره ويتوضأ، ثم نسخ ذلك واستقرت الشريعة على أن الغسل يجب من التقاء الختانين، فإذا غيب الحشفة في الفرج فإنه يجب الغسل، والحشفة هي: طرف الذكر، فإذا غيبها يجب الغسل ولو لم ينزل، وإذا أنزل فإنه يجب الغسل أيضاً بالإنزال حتى ولو بغير الجماع.
وقوله: (وإذا جلس بين شعبها الأربع) يعني: شعب المرأة، وهي يداها ورجلاها أو فخذاها على خلاف بين العلماء، وذكر هذا فيه كناية عن الجماع.
وقوله: (فقد وجب الغسل) في صحيح مسلم : (وإن لم ينزل) فدل على أن الغسل يجب بالتقاء الختانين، وقد يخفى هذا على بعض الناس، ومن العجائب أن بعض الناس يسأل ويقول: أظن أنه لا يجب الغسل إلا من الإنزال، ويجامع وإذا لم ينزل لا يغتسل، فهذا من العجائب!
وقول المؤلف رحمه الله: (وهذا خطأ) يعني: أن السند الثاني خطأ، والصواب السند الأول، وأنه من رواية خالد عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: عن الحسن عن أبي هريرة لعله سقطت كلمة ( أبي رافع )؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة .
أخبرنا قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر واللفظ لـقتيبة قالا: حدثنا عبيدة بن حميد عن الركين بن الربيع عن حصين بن قبيصة عن علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، وإذا فضخت الماء فاغتسل).
أخبرنا عبيد الله بن سعيد قال: أنبأنا عبد الرحمن عن زائدة ح وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم واللفظ له حدثنا أبو الوليد حدثنا زائدة عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن حصين بن قبيصة عن علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ واغسل ذكرك، وإذا رأيت فضخ الماء فاغتسل) ].
الأحاديث الأولى فيها الغسل من الجماع ولو لم ينزل، وهذا فيه الغسل من المني، فإذا خرج المني دفقاً فإنه يوجب الغسل.
والفضخ: هو خروج المني دفقاً بقوة، سواء كان في اليقظة أو في النوم، فإنه يوجب الغسل، أما إذا خرج بدون دفق فإنه لا يجب الغسل كما إذا خرج من المريض، فقد يصاب الإنسان بالمرض فيخرج منه المني مثل خروج البول، فقد يصاب بمرض يسمى الإبرة، فإذا خرج بدون دفق فلا يوجب الغسل، وإنما يوجب الوضوء، ويكون من جنس البول، ولهذا قال: (إذا فخضت) والفضخ: الخروج بقوة، سواء في اليقظة أو في النوم.
والجماع وحده يوجب الغسل ولو لم ينزل، فإذا أنزل دفقاً بلذة في اليقظة أو في النوم وجب الغسل ولو بغير جماع.
فالغسل له موجبات، ومن موجباته: الجماع، ومن موجباته: خروج المني دفقاً بلذة.
وهذا الحديث فيه: أن المذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب غسل الذكر، ولذا قال: (واغسل ذكرك).
وقول علي رضي الله عنه: (كنت رجلاً مذاءً) يعني: كثير المذي، وفي اللفظ الآخر قال: (فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت
ولعل الحكمة في ذلك: أن يتقلص الخارج، وأما البول فإنه لا يغسل الذكر ولا الأنثيين، وإنما يغسل رأس الذكر مكان الخارج.
والمذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب الوضوء، وأما خروج المني دفقة بلذة فإنه يوجب الغسل، سواء كان في اليقظة أو في النوم.
فإذا خرج المني من دون احتلام بدون دفق فلا يوجب الغسل، كما يحصل عند الملاعبة أو عند التذكر، فقد يخرج منه المني بدون دفق ولذة فلا يجب الغسل، والاحتلام يوجب الغسل حتى ولو لم يذكر احتلاماً.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبدة حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه : (أن
هذا فيه أن المرأة إذا رأت ما يرى الرجل فإنها تغتسل إذا خرج منها المني، فإذا رأت في النوم ما يرى الرجل من الاحتلام والجماع ثم خرج منها الماء ورأت الماء فأنه يجب عليها الغسل، كالرجل سواء بسواء؛ والنساء شقائق الرجال.
أما إذا احتلم الإنسان ورأى أنه يجامع ولم يجد بللاً لا في ثيابه ولا في بدنه، فلا يجب عليه الغسل، كما سيأتي في الحديث: (إنما الماء من الماء) وهذا في النوم، فإذا احتلم في الليل ورأى أنه يجامع ولم يخرج منه مني فلا يجب عليه الغسل، وإذا وجد المني في ثيابه أو في بدنه يجب عليه الغسل ولو لم يذكر احتلاماً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء).
وإذا وقع المني على الثوب يجب غسله؛ لحديث عائشة قالت: (كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإني أرى أثر بقع الماء في ثوبه) ، وفي الحديث الآخر: (كنت أحكه يابساً بظفري من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وهذا يدل على أنه طاهر، لكن يحت من باب النظافة.
هذا الحديث فيه أن المرأة تحتلم، وإنكار عائشة رضي الله عنها وكذلك أم سلمة يدل على أن الاحتلام في النساء قليل، ولذا أنكرت عائشة وقال بعضهم: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتلمن؛ تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود: أن المرأة تحتلم، ولذا قال: (فمن أين يكون الشبه؟) يعني: أن الإنسان مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة، والشبه يكون للرجل ويكون للمرأة، كما سيأتي، فإذا سبق ماء الرجل كان الشبه له، وإذا سبق ماء المرأة كان الشبه لها.
هذا الحديث فيه إثبات صفة الحياء لله عز وجل، وذلك في قوله: (إن الله لا يستحي من الحق)، وفي الحديث: (إن الله حيي ستير) ، والله تعالى قال في كتابه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]، فصفة الحياء ثابتة لله كما يليق بجلاله وعظمته، لا يشابه حياء المخلوقين.
وقوله: [ (هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم؛ إذا رأت الماء) أي: المني، وفيه دليل على أنه لا حياء في الدين، وأن المرأة لها أن تسأل عما أشكل عليها، وفيه دليل على أن النساء شقائق الرجال، كما في الحديث الآخر، وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يعلم أهله فيما يستحى منه.
وقوله: (نعم؛ إذا رأت الماء) هذا يدل على أنه يشترط رؤية الماء، ويدل على أن الانتقال وحده لا يكفي، بل لا بد من رؤية المني.
وقوله: (فضحكت أم سلمة فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيمَ يشبهها الولد؟) يعني: أنه مخلوق من مائها وماء الرجل؛ فلهذا يشبهها ولدها، وهو يدل على أنها تحتلم وترى الماء.
هذا الحديث صريح في وجوب الغسل من رؤية المني في النوم، سواء كان رجلاً أو امرأة، وأنه معلق برؤية الماء، كما في الحديث الآخر: (إنما الماء من الماء).
ويحتمل أنها قصتان، أو أنها قصة واحدة أيدتها رواية أم سلمة .
أخبرنا عبد الجبار بن العلاء عن سفيان عن عمرو عن عبد الرحمن بن السائب عن عبد الرحمن بن سعاد عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الماء من الماء) ].
عبد الرحمن بن السائب مقبول، وعبد الرحمن بن سعاد أيضاً مقبول، فالحديث فيه مقبولان فلا يحتج به في الأصول وإنما يحتج به في المتابعات، فيكون شاهداً للحديث الذي في الصحيحين: (إنما الماء من الماء).
فسند النسائي هذا فيه مقبولان، فيكون متابعاً لما ثبت في الصحيح: (إنما الماء من الماء)، وهذا من الجناس: فالماء الأول ماء الغسل، والماء الثاني ماء المني، فقوله: (إنما الماء من الماء) أي: إنما يجب ماء الغسل من ماء المني.
وهذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا احتلم في البيت ولم ير المني فلا يجب عليه الغسل.
والجناس معروف في علم البلاغة، وهو: أن يتفق اللفظان أو تتفق الكلمتان في اللفظ وتختلفان في المعنى، فإن الماء الأول هو ماء الغسل، والماء الثاني هو ماء المني، يعني: إنما يجب ماء الغسل من ماء المني.
وهذا يكون في اليقظة وفي النوم، فيجب الغسل إذا وجد الماء من الاحتلام، أما الجماع فإنه يوجب الغسل أيضاً ولو بدون خروج المني، فيكون الجماع موجباً مستقلاً للغسل سواء خرج المني أو لم يخرج، فخروج المني موجب للغسل في اليقظة وفي النوم.
فقوله: (إنما الماء من الماء) منسوخ في الجماع، وباقٍ في الاحتلام، وقد كان في أول الإسلام إذا جامع الإنسان ولم يمن يغسل ذكره ويتوضأ، ثم نسخ ذلك، فاستقر في الشريعة وجوب الغسل من الجماع، وبقي حديث: (إنما الماء من الماء) في وجوب الغسل في اليقظة أو في النوم عند خروج المني.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أنبأنا عبدة حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما سبق كان الشبه) ].
ماء الرجل ماء أبيض غليظ، وماء المرأة ماء رقيق أصفر، وأيهما سبق كان الشبه له، وقد اختلف العلماء في المراد بالسبق، فقيل: المعنى: سبق في الإنزال، وقيل: معنى سبق: أي: غلب، كما ذكرنا، فأيهما سبق في الإنزال كان الشبه له، فإن سبق ماء الرجل في الإنزال كان الشبه له، وإن سبق ماء المرأة كان الشبه لها، وقيل: معنى (إن سبق) يعني: غلب، بمعنى: كثر، فمن غلب ماؤه أو كثر كان الشبه له، فإذا غلب ماء الرجل، كان الشبه له، وإذا غلب ماء المرأة كان الشبه لها.
والإمام مسلم رحمه الله أتى بهذا الحديث بروايات متعددة، وفي بعض رواياته: (إذا غلب ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا غلب ماء المرأة أنث بإذن الله) .
وذكر الحديث من طرق متعددة أوسع من الأحاديث التي ذكرها النسائي هنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر