حدثنا علي بن محمد قال حدثنا وكيع ومحمد بن فضيل وأبو معاوية ح وحدثنا علي بن ميمون الرقي قال: حدثنا أبو معاوية ومحمد بن عبيد عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقول: أكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
حديث ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله، وهذا السند فيه عنعنةالأعمش، وقد صرح الأعمش بالتحديث عند أحمد ، والبخاري ، وأبي داود ، والترمذي .
وإن كان في هذا السند قد عنعن لكن تدليسه قليل، وقد صرح في أماكن أخرى، وهذا الحديث حديث عظيم، وهو دليل على أن الإنسان عندما يخلق في بطن أمه يكون على أطوار وعلى مراحل، فالطور الأول: يكون أربعين يوماً نطفة، فيجتمع فيها ماء الرجل وماء المرأة، ثم بعد الأربعين ينتقل إلى طور آخر، فتكون النطفة علقة، أي: قطعة دم، كانت ماءً، ثم تنتقل إلى الطور الثالث بعد الأربعين فتكون مضغة، أي: قطعة لحم، قدر ما يمضغ الفم.
فإذا تجاوز الجنين هذه الأطوار الثلاثة -أي: بعد مائة وعشرين يوماً- يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، فيكون إنساناً آدمياً، ويؤمر الملك بكتابة أربع كلمات: الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة.
وجاء في بعض الأحاديث أن الملك يأتي بعد اثنين وثمانين يوماً، فلعل معظم النطف بعضها تخلق بعد ثمانين يوماً، وبعضها تخلق بعد مائة وعشرين يوماً.
وفيه أن الشقاوة والسعادة سابقة قد كتبت على الإنسان، وأن الله تعالى ييسر الإنسان لما خلق له، ولما قال الصحابة رضوان الله عليهم: (يا رسول الله! ما يكدح فيه الناس أفي شيء قضي وفرغ منه أم في شيء يستقبل؟ قال: في شيء قضي وفرغ منه، قالوا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]).
الثالث: التقدير السنوي، وهو ما يكتب في ليلة القدر، حيث يقدر الله فيها ما يكون من سعادة وشقاوة، وإعزاز وإذلال، وصحة ومرض، وحياة وموت في تلك السنة.
الرابع: التقدير اليومي، وهو قول الله عز وجل: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، أي: أن الله كل يوم يخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويحيي ويميت، ويسعد ويشقي، سبحانه وتعالى.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده) فيه إثبات اليد لله عز وجل، وهذا قسم يقسم به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق عليه الصلاة والسلام، فهو مصدق وإن لم يقسم، لكن هذا لتأكيد المقام، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق في كلامه وفي قوله عليه السلام، وهو المصدوق من ربه عز وجل.
قوله: (فوالذي نفسي بيده! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب)، قوله: (الكتاب): هو الذي كتب عليه أولاً في اللوح المحفوظ وهو في بطن أمه.
قوله: (فيعمل بعمل أهل الجنة) أي: فيختم له بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة.
قوله: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب -أي: الكتاب الأول- فيعمل بعمل أهل الجنة)، فيختم له بعمل أهل الجنة، فيموت على عمل من أعمال الجنة فيدخلها.
ويروى عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحها واكتبني سعيداً. وقوله هذا يحمل على أنه يمحى ما في كتب الحفظة، ليوافق ما في اللوح المحفوظ، وأما ما في اللوح المحفوظ فلا يغير ولا يبدل، كما قال الله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39] أي: من صحف الحفظة، ليوافق ما في اللوح المحفوظ؛ ولهذا قال: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فهذا إن صح عن عمر فهو محمول على ما ذكرنا، لكن الأولى أن يسأل الإنسان ربه السلامة والعافية، وأن يوفقه للعمل الصالح، وإلى الخاتمة الحسنة.
فالجنين قبل أربعة أشهر لا يتخلق، فإذا أسقطت المرأة قبل أربعة أشهر فسيكون قطعة لحم أو دم فقط.
ولا يجوز إلقاؤه عند العلماء إلا إذا كان الإنسان نطفة في الأربعين الأولى، ويجوز إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح عند الحاجة، وأما إذا انتقل إلى طور آخر فلا يجوز.
ولا شك أن من تفعل ذلك فهي جانية، لكن هل عليها حكم جناية الإنسان؟ هذا محل تأمل، وإن كنا لا نشك أنها جانية مخطئة.
ولو قال قائل: هل يجوز أن تلقي المرأة الجنين إن كان مشوهاً؟ والجواب: لا يجوز إلقاؤه إلا إذا كان يخشى موتها هي، وأما مجرد التشويه فليس لها ذلك، بل ينبغي أن تتركه كما خلقه الله؛ إذ ليس لأحد أن يسقط الجنين مطلقاً.
وهذا فيه بيان وجوب الإيمان بالقدر، وأن من لم يؤمن بالقدر فليس بمسلم، والقدر له مراتب أربع:
المرتبة الأولى: العلم، ويراد به علم الله الأزلي السابق الشامل لما كان في الماضي، وما يكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
المرتبة الثانية: الكتابة، ويراد بها كتابة جميع ما يكون في هذا الكون في اللوح المحفوظ.
المرتبة الثالثة: المشيئة، وهي إرادة الله الشاملة لكل شيء في هذا الوجود، فلا يقع في ملك الله إلا ما أراد.
المرتبة الرابعة: الخلق، ويراد به خلق الله للأشياء كلها.
ومن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر.
وكان القدرية الأوائل ينكرون مرتبتي العلم والكتابة، وهم الذين قال فيهم ابن عمر : أخبرهم أني منهم برئ، وأنهم برآء مني. وكانوا يزعمون أن الأمر أنف، أي: مستأنف، فيقولون: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، وهم الذين قال فيهم شيخ الإسلام رحمه الله: ناظر القدرية بالعلم، فإن أقروا به فسلهم: كيف يقر الله العصاة على عمل المعصية ولم يمنعهم وهم الذين خلقوها؟ فسيفهمون.
وإن أنكروه كفروا، وقد كفرهم الأئمة: مالك والشافعي وأحمد ؛ لأنهم ينسبون الله إلى الجهل، وقد انقرضت هذه الطائفة، وبقيت عامة القدرية يؤمنون بعلم الله الشامل، ولكن ينكرون عموم إرادة الله للأشياء حتى تشمل أفعال العباد، وينكرون عموم خلق الله للأشياء، ويقولون: إن الله خلق كل شيء إلا أفعال العباد فإن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم، وهم في قولهم هذا مبتدعة.
وهذا الحديث في بعضه شواهد، وهو من ما ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد في باب منكري القدر، وفيه أن ابن الديلمي قال: إنه وقع في نفسه شيء من القدر، وجاء إلى أبي بن كعب وقال: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من نفسي، وفي لفظ أنه قال: خشيت أن يفسد علي ديني، فبين له رضي الله عنه أنه لا بد من الإيمان بالقدر، وقال: والذي نفسي بيده! لو كان لك مثل أحد ذهباً ثم أنفقته ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، يريد: المكتوب في اللوح المحفوظ، فلا يمكن أن يصيبك شيء لم يقدره الله، ولا يمكن أن يخطئك شيء قدر الله عليك أن يقع، وقال له: ائت عبد الله بن مسعود ، فأتى عبد الله بن مسعود فأخبره مثل ذلك، قال: وائت حذيفة ، فأتى حذيفة فقال له مثل ذلك، قال: وائت زيد بن ثابت فأتاه، فكلهم حدثوه بمثل ما حدثه به أبي بن كعب .
وفي بعض ألفاظه: أن من لم يؤمن بهذا أحرقه الله في النار.
والحديث إسناده صحيح، وأبو سنان هو سعيد بن سنان البرجمي الشيباني الكوفي: ثقة، والحديث مرفوع من حديث زيد بن ثابت ، وموقوف من حديث أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة بن اليمان .
وابن الديلمي هو أبو بسط عبد الله بن فيروز من كبار التابعين الثقات.
هذا الحديث أخرجه الشيخان، وهو حديث ثابت ومعروف، وفيه أن الله تعالى كتب الشقاوة والسعادة على البشر، بدليل قوله: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار)، وقد أشكل هذا على الصحابة، وقالوا: (يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ الآية: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]).
والكيس اللبيب لا يزيده الإيمان بالقدر إلا نشاطاً وقوة في العمل، فلا يحجم عن العمل وإنما يزداد من أعمال الخير ما ييسر له ذلك، والقدر من شئون الله وليس من شئون العبد، فالعبد مأمور بالعمل فحسب، والقدر من اختصاص الله ومن شئون الله، وهو مغيب عنك، وعليك أن تعمل بطاعة الله، وتجتنب معاصي الله.
ولا يجوز أن يتكل الإنسان ويكسل عن العمل، وإذا وقع في المعصية فليحرص أن يدفع هذه المعصية، وإن كانت بقدر يدفعها بقدر آخر، فيدفع قدر المعصية بقدر الطاعة، ويدفع قدر السيئة بقدر الحسنة، فهذا مقدر وهذا مقدر.
ولهذا لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالصحابة إلى الشام، وقد فشا فيها الطاعون -طاعون عمواس- استشار الناس هل يدخل بهم إلى البلد وفيها الطاعون أم لا يدخل؟ فاستشار الأنصار، فأشار بعضهم بأن يدخل، وبعضهم أشار بأن يرجع، واستشار المهاجرين، واستشار من أسلم في الفتح، فقال بعضهم: إن هذا الوباء قد وقع في البلاد، ومعك خيار الناس وأصحاب رسول الله، فلا نرى أن تقدمهم عليه، وبعضهم قال: نرى أن تقدم وأن تدخل، وما قدره الله كان.
ثم عزم عمر رضي الله عنه على أن يرجع، فقال له أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله يا عمر ؟!
قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان عندك عدوتان: عدوة فيها عشب، وعدوة ليس فيها عشب، في أيها ترعى جملك؟ قال: في العدوة التي فيها عشب، قال: أليس إذا رعيت العدوة المعشبة بقدر الله، وإذا رعيت الأرض الأخرى بقدر الله؟ قال: بلى، قال: فكذلك هذا، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في حاجة وهم يتحاورون فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وقع الطاعون في بلد وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا كنتم في أرض ليس فيها فلا تقدموا عليها)، فحمد الله عمر رضي الله عنه أن وافق اجتهاده النص، ورجع بالناس.
فإذا وقع الطاعون في بلد فلا يشرع للإنسان أن يدخل فيها، وإذا وقع في أرض فلا يقدم عليها، كما لا ينبغي أن يخرج منها فراراً منه؛ بل يبقى فيها، ويعتمد على الله ويتوكل عليه.
هذا الحديث إسناده حسن، وربيعة بن عثمان بن ربيعة التيمي المدني ، روى له مسلم هو صدوق حسن الحديث، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث.
والمؤمن القوي هو الذي يتعدى نفعه إلى الآخرين بشفاعته، أو ببدنه، أو بماله، أو بتوجيهه وإرشاده، وأما المؤمن الضعيف فهو الذي يقتصر نفعه على نفسه؛ ولهذا قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وإن اشتركا في الخيرية بالإيمان إلا أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وليس المراد من قوله: (القوي) قوي الجسم فقط، فقد يكون قوي الجسم وهو مؤمن ضعيف لا ينفع إلا نفسه، وقد يكون على فراشه وهو مؤمن قوي ينفع الناس بشفاعاته، وبنفقاته، وبتوجيهه وإرشاده، وبتعليمه.
ثم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) أي: على الأسباب التي تنفعك في أمور الدين وأمور الدنيا، قوله: (ولا تعجز)، أي: لا تكسل، ثم قال: (وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله)، أي: هذا قدر الله، (وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)، قوله: لو يعني: هي التي فيها الاعتراض على القدر، والتحسر من وقوعه، كأن يقول الإنسان حين تنزل به مصيبة: لو فعل كذا ما أصابه كذا وكذا، أو لو أصاب كذا ما أصابه المرض، لو ذهب إلى كذا ما أصابه كذا، فهذا اعتراض على قدر الله، ولو في قوله هذا تفتح عمل الشيطان.
أما لو في تمني الخير فلا بأس بقولها، إذ هي ليست من هذا الباب، كأن يقال لشخص: إن هناك درس في المسجد الفلاني، وما علم بإقامته، فقال: لو علمت بالدرس لحضرت، فهذا لا بأس به، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولأحللت معه)، فلو في تمني الخير شيء لا بأس به، لكن إذا كان قولها من أجل الاعتراض على القدر، فهذه هي الممنوعة، وهي التي تفتح عمل الشيطان.
وهذا الحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله، كما أخرجه أبو داود في السنن، وفيه ذكر احتجاج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأن موسى لقي آدم فقال له: يا آدم! أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ وفي هذا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وكلمك، -وفي هذه الرواية- وخط لك التوراة بيده، أتلومني على شيء كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً؟ وفي لفظ آخر: (هل وجدت ذلك مكتوباً علي؟ قال: نعم، فقال النبي: فحج آدم موسى).
قوله: (حج آدم موسى) أي: غلبه بالحجة وخصمه، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لامه على المصيبة التي لحقته وذريته، وهي الخروج من الجنة، وليس المراد أن موسى لامه على الذنب؛ لأنه قد تاب منه، والتائب من الذنب لا يلام عليه، وإنما لامه على المصيبة التي لحقته وذريته وهي الخروج من الجنة؛ فاحتج آدم بأن هذه المصيبة مكتوبة عليه، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به، وأما الاحتجاج بالقدر على المعاصي فهو ممنوع، فلا يصح أن يحتج الإنسان بالقدر على المعصية، لكن يحتج بالقدر على المصائب.
الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح، وفيه شريك بن عبد الله النخعي ، وهو حسن الحديث عند المتابعة، وقد تابعه شعبة ، وشريك بن عبد الله القاضي ، كان جيد الحفظ، فلما تولى القضاء اشتغل به؛ فساء حفظه، وصار ضعيفاً، لكن إذا وجد له متابع صار حديثه حسناً.
وقد نص الحديث على أربع لابد منها: الإيمان بالله، والإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، والإيمان بالبعث، والإيمان بالقدر، فمن لا يؤمن بواحدة منها فليس بمؤمن.
وهذا الحديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة لما شهدت لهذا الصبي بالجنة، وقالت: هذا عصفور من عصافير الجنة، قال: (أو غير ذلِك يا
وإن كان لا شك أن أطفال المسلمين في الجنة تبعاً لآبائهم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة شهادتها للمعين، أي: لهذا الشخص بعينه، فالمؤمنون كلهم في الجنة يشهد لهم على العموم، لكن لا يشهد لواحد بالجنة إلا لمن شهدت لهم النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة، وعكاشة بن محصن ، فلما شهدت عائشة لهذا الصبي بعينه أنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أنه أنكر عليها قبل أن يخبره الله بأن أطفال المسلمين في الجنة، ثم بعد ذلك بين الله للنبي عليه الصلاة والسلام أن أطفال المسلمين في الجنة.
القول الأول: أنهم يمتحنون يوم القيامة مع أهل الفترة، فمن أجاب دخل الجنة، ومن أبى دخل النار.
والقول الثاني: أنهم في الجنة، وهذا هو الراجح، والدليل على هذا ما ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري في قصة إبراهيم في الرؤيا، وأن النبي رأى إبراهيم وحوله ولدان، وهم أولاد الكفار، فهم في الجنة؛ لأنهم ماتوا قبل البلوغ ولم يكلفوا، وهم أيضاً ولدوا على الفطرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرناه، أو يمجسانه).
وأطفال المشركين لهم أحكام في الدنيا غير أحكامهم في الآخرة، فأحكامهم في الدنيا: أنهم يسبون مع آبائهم، وإذا قتلوا قتلوا معهم، ويرثهم آبائهم ويرثونهم، وأما في الآخرة فلهم أحكام أخرى تختلف عنها في الدنيا، وظن بعض الناس أنهم إذا كانوا مع آبائهم، وأنهم يتوارثون فيرثهم آباؤهم ويرثونهم، أن حكمهم في الآخرة كذلك، وهذا ليس بصحيح، بل الصواب أنهم في الجنة.
قال بعضهم: إسناده ضعيف؛ زياد بن إسماعيل المخزومي ، وإن أخرج له مسلم فهو ضعيف، وإنما يخرج له في المتابعات، فقد ضعفه يحيى بن معين ، ويعقوب بن سفيان ، وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه، يعني ولا يحتج به، وقال النسائي وحده: لا بأس به.
وهذا قد أخرجه مسلم والترمذي، وصححه الألباني .
ولا شك أن في هذه الآية الكريمة إثبات للقدر، وأن الله خلق وقدر كل شيء، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فلما جاء كفار قريش يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم نزّل الله هذه الآية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فكانت حجة عليهم.
وزياد وإن كان ضعيفاً لكن قد أخرج له مسلم وكذلك البخاري، وإنما يختاران من أحاديث من تكلم فيهم من ثبتت روايته عنه وصح سماعه منه، فالشيخان ينتقيان.
وأما قولهم: هذا الحديث رجاله رجال الصحيح، أو رجاله رجال مسلم ، فلا يدل على صحة السند؛ لأن مسلم ينتقي وغيره لا ينتقي، فما كل أحد مثل الإمام مسلم ، وما كل أحد عنده القدرة والنقل، وهم ليسوا في منزلة البخاري ومسلم حتى ينتقون من أخبار من تكلم فيه؟!!
قال أبو الحسن القطان : حدثناه خازم بن يحيى قال: حدثنا عبد الملك بن سنان قال: حدثنا يحيى بن عثمان ، فذكر نحوه ].
هذا الحديث ضعيف وإن صح معناه، فالقول أن من خاض في القدر ولم يؤمن به فإنه يسأل عما خاض فيه صحيح، أما من تكلم بالقدر على وفق ما جاء في النصوص، وبين للناس وجوب الإيمان به، فلا يُسأل، ولذا فلو صح الحديث فإنه محمول على من تكلم في القدر وخاض فيه بما حرم الله، ولم يؤمن به، أو تكلم بشيء لا ينبغي أن يتكلم فيه، فإنه يُسأل عنه.
ولكن الحديث إسناده ضعيف جداً؛ فإن يحيى بن عثمان متروك، كما ذكر في تحقيق أحكام التقريب، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف يحيى بن عثمان .
كما أن السلف تكلموا في القدر، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الإيمان بالقدر، وأنه أصل من أصول الدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، وهذا كلام في القدر.
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديث حسن، وإن كان بعضهم صححه، لكن المعروف أنه حديث حسن، وفيه التحذير من ضرب النصوص بعضها ببعض؛ ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتكلمون في القدر، وقد جاء في لفظ آخر: (هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فلما رآهم على ذلك كأنما تفقأ في وجه حب الرمان من الغضب، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! ما علمتم منه فاعملوا به، وما لم تعملوه فكلوه إلى عالم)، والحديث وإن صححه بعضهم إلا أن الصواب أنه حسن، فرواية بهز بن حكيم ، ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تنبئ أن الحديث حسن.
وهذا الحديث فيه أبو جناب الكلبي وهو ضعيف مدلس، وبعضهم شدد فيه، لكن قوله في الحديث: (لا عدوى ولا طيرة)، ثابت من غير هذه الطريق، ففي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، قيل: يا رسول الله! البعير الأجرب يأتي إلى الإبل فتجرب كلها؟ قال: فمن أعدى الأول؟).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا عدوى ولا طيرة) أي: لا عدوى على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من أن العدوى تنتقل بنفسها وبذاتها وبطبعها من دون قدر الله وإرادته، وهذا باطل، ولكن العدوى تنتقل إذا أراد الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، وقال: (لا يورد ممرض على مصح)، وقال: (إذا سمعتم الطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا كان في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)، وهذا كله من باب اجتناب أسباب الهلاك وأسباب الشر، فالإنسان مأمور باجتناب الشر، وقد يجعل الله تعالى مخالطة المريض للصحيح سبباً للعدوى؛ فينتقل إذا أراد الله، وإذا لم يرد الله فلا تنتقل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى)، فإن المعنى كما تقدم: لا عدوى على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من أن العدوى تنتقل بنفسها وبذاتها وبطبعها، لكنها تنتقل إذا أراد الله.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: يحيى بن أبي حية بمهملة وتحتانية الكلبي أبو جناب بجيم ونون خفيفتين وآخره موحدة مشهور بها، ضعفوه لكثرة تدليسه، من السادسة مات سنة خمسين أو قبلها.
قال ابن سعد : كان ضعيفاً في الحديث، وقال ابن حنبل : لم يكن به بأس إلا أنه كان يدلس، وقال ابن معين : لم يكن به بأس إلا أنه كان مدلس، وقال أبو داود : لم يكن به بأس إلا أنه كان مدلس، وقال الدارمي : ضعيف، وقال ابن جريج : ضعيف، قال العجلي : كوفي ضعيف الحديث، يكتب حديثه، وقال أبو زرعة : صدوق، وقال الجرجاني : يضعف الحديث، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي، وقال النسائي : ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم : ليس بقوي عندهم، وقال ابن حبان : هذا يدلس عن الثقات ما سمع عن الضعفاء، فتلك المناكير التي يرويها عن المشاهير.
وخلاصة الأقوال أنه ضعيف كثير التدليس.
وأما متن الحديث فهو صحيح دون قوله: (ذلكم القدر).
الحديث فيه عبد الأعلى بن أبي المساور وهو ضعيف، ولكن المعنى صحيح، والإيمان بالأقدار كلها لا شك أنه واجب، ولا شك أن من أسلم فإنه يسلم، فإنه يعصم دمه وماله في الدنيا إذا أسلم إسلاماً صحيحاً، كما يسلم من الخلود في النار في الآخرة.
الحديث فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وأصح منه قوله عليه الصلاة والسلام: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فإذا أراد الله عز وجل أن يقلب قلب عبد قلبه.
قال البوصيري : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وهذا الحديث حق، فلا شك أن ما قدر الله سيكون، والعزل هو: أن يجامع الرجل فإذا أراد أن ينزل أخرج ذكره فأنزل خارج الفرج، ولا يجوز العزل للحرة إلا بإذنها، وأما الجارية فلا بأس به، قال جابر رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن)، يعني: الجواري، وسئل النبي عن العزل فقال: (ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها)، فما قدر الله فلا بد أن يخلق، فقد يسبقه الماء، أو يسبقه جزء منه فتحمل.
وفي هذه القصة: أنه قال: لي جارية أعزل عنها؟ قال: (ما قدر لها سيأتيها) ثم جاءه بعد مدة فقال له: إن الجارية التي ذكرت لك حبلت، أي حملت، أي: أنه سبق شيء من الماء فحملت.
قال البويصري : سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن.
والحديث إسناده ضعيف، وما قاله البوصيري عن العراقي فإنما قصد حكم متنه لا حكم إسناده كما سيأتي بيانه.
قوله: (لا يزيد العمر إلا البر)، ثبت بمعناه زيادة العمر بسبب صلة الرحم.
فقد ورد في الصحيح أن صلة الرحم سبب في طول العمر؛ وذلك لأن الله قدر السبب والمسبب في اللوح المحفوظ، فجعل صلة الرحم سبباً في زيادة العمر.
وقوله: (ولا يرد القدر إلا الدعاء)، فإن الدعاء من القدر، وقوله: (وإن الرجل ليحرم الرزق) في مسند الإمام أحمد : (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).
و عبد الله بن أبي الجعد لم يوثقه سوى ابن حبان ، وقال ابن القطان : مجهول الحال، وقال الذهبي في الميزان: وعبد الله هذا وإن كان قد وثق ففيه جهالة.
وقال في التقريب: عبد الله بن أبي الجعد الأشجعي مقبول من الرابعة.
ومعنى مقبول أي: يحتاج إلى متابعة، ومن الشواهد على أن الدعاء يرد القدر ما جاء في الحديث الآخر: (إن القدر والدعاء يعتلجان فأيهما كان أقوى غلب صاحبه).
هذا الحديث معناه صحيح، وإن كان مجاهد لم يسمع من سراقة ، لكن الحديث ثابت من غير هذه الطريق، وفيه أن الناس يعملون في شيء قد فرغ منه، إذ أن كل شيء كتبه الله، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] أي: كل شيء مكتوب، وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، وقرأ قوله سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].
قال البوصيري : هذا إسناده فيه مقال، فإن مجاهد لم يسمع من سراقة ، فالإسناد منقطع، وعطاء بن مسلم مختلف فيه.
وهذا الحديث فيه ثلاثة مدلسين: بقية بن الوليد ، وابن جريج ، وأبو الزبير ، فكلهم مدلسون، وقد عنعنوه، والأحاديث في ذم القدرية كلها ضعيفة، ورفعها إلى النبي ضعيف، والصحيح أنها موقوفة على الصحابة، وهي تقارب عشرة أحاديث، لكنها ثابتة عن الصحابة، قال البوصيري : هذا إسناد ضعيف فيه بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعنه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر