إسلام ويب

شرح كتاب السنة للبربهاري [1]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، فلا قيام لأحدهما دون الآخر، ومن كفر بالسنة أو زعم أنه لا حاجة إليها فقد مرق من الدين وخلع ربقة الإسلام.

    1.   

    شرح مقدمة الكتاب

    تعريف السنة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فسوف نشرح -إن شاء الله- كتاب السنة للعالم الفاضل الحنبلي أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري وقد سمي بـالبربهاري نسبة إلى الأدوية التي تجلب من الهند، والمتوفى سنة (329) هجرية، فهو من علماء القرن الرابع والقرن الثالث الهجريين.

    وقد سمى هذه الرسالة: شرح السنة، والسنة هي ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوحي عن الله عز وجل، وهي الوحي الثاني، وتشمل: مسائل الاعتقاد، ومسائل الفقه، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة وحي ثانٍ، وقال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    والسنة عند العلماء القدامى تشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، وتشمل الواجب والمستحب، واصطلح المتأخرون من الفقهاء والأصوليين على إطلاق السنة على المندوب والمستحب.

    ومراد المؤلف رحمه الله بقوله: شرح السنة، ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من مسائل الاعتقاد والإيمان والجنة والنار، ومسائل الفقه أيضاً، ويشمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره، كما يبين المؤلف رحمه الله حيث يقول: السنة هي الإسلام والإسلام هو السنة، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    وقد ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاءته امرأة وكان قد قال رضي الله عنه: لعن الله النامصة والمتنمصة، وما لي لا ألعن من لعن الله. فجاءت امرأة فقالت: إنك تقول إن لعن النامصة في القرآن، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد فيه ما ذكرت من لعن النامصة. فقال رضي الله عنه: إن كنت قرأته فقد وجدته، أما تقرئين قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54].

    ومن أنكر السنة وزعم أنه لا يعمل بها أو أنه لا حاجة إليها فهو كافر بإجماع المسلمين، وقد بين بعض السلف أن السنة هي التي توضح المشكل من القرآن وهي التي تقيد المطلق، وهي التي تخصص العام، ففي القرآن العظيم وجوب الصلاة، لكن ليس فيه بيان عدد الصلوات وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، وإن كان قد يؤخذ هذا من قوله تعالى إجمالاً: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130].

    وليس في القرآن بيان عدد ركعات صلاة الظهر، ولا عدد ركعات صلاة العصر، ولا عدد ركعات صلاة المغرب، ولا عدد ركعات صلاة العشاء أو صلاة الفجر.

    وقد أوجب الله في القرآن الزكاة، ولكن ليس في القرآن بيان اشتراط وجوب النصاب وبيان اشتراط الحول.

    وفي القرآن بيان وجوب الحج، وليس فيه تفصيل المناسك، وأنه يجب على الإنسان أن يقف بعرفة في اليوم التاسع وأنه ركن الحج الأعظم، ويجب عليه أن يقف بمنى ومزدلفة وأن يرمي الجمار.

    فمن يزعم أنه لا يحتاج إلى السنة فلا دين له، وكما سيأتي أن السنة تقضي على القرآن والقرآن لا يقضي على السنة، ولهذا ألف العلماء الكتب في العقائد وفي مسائل الإيمان ودخول الأعمال في مسمى السنة، كما ألف الإمام أحمد رحمه الله كتاب السنة، والسنة لابنه عبد الله ، والسنة لـابن أبي عاصم ، ومنها ما ألفه المؤلف.

    فالمقصود أن السنة اسم عام يشمل مسائل الإيمان ومسائل التوحيد ويشمل الفروع والأصول، ولهذا فإن المؤلف رحمه الله ذكر في هذا الكتاب جملاً كثيرة من مسائل التوحيد والإيمان، وجملاً كثيرة من مسائل الفقه، وهذه المسائل والموضوعات كثيرة جداً، ولو أردنا أن نتوقف طويلاً عند كل مسألة لما تجاوزنا الصفحة الأولى من الكتاب أو لما تجاوزنا مسألة أو مسألتين، ولكننا إن شاء الله نتكلم على كل مسألة بما يغلب على الظن أن فيه الفائدة، ونحاول أن نأتي على جميع المسائل بحول الله وقوته مع بيان وإيضاح المراد باختصار غير مخل حتى تعم الفائدة إن شاء الله تعالى، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، ونعوذ بالله من فتنة القول كما نعوذ به من فتنة العمل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    تعريف الحمد والفرق بينه وبين الثناء والمدح

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط ].

    ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز، فالله تعالى افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين، والحمد هو الثناء على المحمود بالصفات والنعم المتعدية مع حبه وإجلاله، بخلاف الثناء على المحمود بالصفات الثابتة الملازمة التي لا تتعدى فإنه يسمى مدحاً، فالثناء على المحمود بالصفات الاختيارية التي يفعلها باختياره يسمى ثناء، والثناء عليه بالصفات الملازمة التي لا تكون له باختيار يسمى مدحاً، ولا يسمى حمداً.

    والحمد أكمل من المدح، فأنت تمدح الأسد بأنه قوي، ولا يسمى هذا حمداً؛ وتمدح الرجل بالكرم والشجاعة والإحسان فيكون هذا حمداً؛ لأن هذه الصفة باختياره وقعت منه باختياره.

    والله تعالى له جميع المحامد، ملكاً واستحقاقاً، فهو سبحانه وتعالى ذو العبودية والألوهية على خلقه أجمعين وما في العباد من نعمة فمن الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، فالله تعالى هو المحمود؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة وبما أنعم به على عباده سبحانه وتعالى، فجميع أنواع المحامد لله ملكاً واستحقاقاً، ولهذا استفتح الله تعالى كتابه العزيز بالحمد لله رب العالمين، ثم قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ثناء بعد ثناء.

    قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام) وهذه من النعم المتعدية، قال تعالى عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، فهذه من النعم العظيمة التي لا يحمد بها إلا الرب عز وجل، فلولا هداية الله لنا بالإسلام لما كنا مهتدين، لكنه هدانا سبحانه وتعالى، فنحمده سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ونسأله أن يثبتنا عليها حتى الممات.

    تعريف الإسلام

    والإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والخضوع والذل، والانقياد لله تعالى بالتوحيد، وأداء الأوامر واجتناب النواهي.

    وسمي الإسلام إسلاماً لما فيه من الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، فالمسلم منقاد مستسلم لأمر الله خاضع ذليل، فالإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص والبراءة من الشرك وأهله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا به) ولا شك أن الله تعالى هو الذي من علينا، والعباد ليس لهم حق على الله، لكن الله هو الذي تفضل عليهم وأنعم عليهم، فالله تعالى له النعمة وله الفضل، فنحمده سبحانه أن هدانا للإسلام ومن علينا بالإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى في ضعفاء الإيمان في سورة الحجرات: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

    ثم قال المؤلف رحمه الله: (وأخرجنا في خير أمة) يعني: فنحمد الله على هذه الأمور، نحمد الله على أن هدانا للإسلام وأخرجنا في خير أمة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

    وهذه الخيرية إنما حصلت للأمة بالإيمان بالله ورسوله وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، فمن حقق هذه الصفات حصلت له الخيرية، ومن ضيع هذه الصفات فاتته الخيرية.

    والإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية لأهميتهما وعظم شأنهما، ولأنهما قوام الدين، فالدين كله أمر ونهي، فأنت تأمر نفسك بالخير وتنهاها عن الشر، وتأمر غيرك بالخير وتنهاه عن الشر، فتأتمر بالأوامر، وتنهى نفسك عن النواهي، وتأمر غيرك بالأوامر وتنهاه عن النواهي، ولهذا قدم الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآية، وإن كان الإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة.

    ثم قال المؤلف رحمه الله: (فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط)، وهذا دعاء المؤلف رحمه الله لطالب العلم، فهو يعلمك وينصحك ويدعو لك، فقد سأل لنفسه ولإخوانه وللطلبة، قال: (نسأله التوفيق لما يحب ويرضى)، يعني: نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والذي يحبه ويرضاه هو ما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو يحب سبحانه وتعالى من عباده أن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة ويمتثلوا الأوامر ويجتنبوا النواهي.

    التوفيق: يعني الإعانة الإلهية، وهو إعانة يخص الله بها المؤمن، والتوفيق من الله والإعانة من الله، فالإعانة نعمة جليلة خص الله بها المؤمن دون غيره، وحبب إليه الإيمان وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، كما قال سبحانه وتعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8]، فالمؤمن له نعمة جلية فقد أنعم عليه نعمة جلية وخصه بها دون الكافر، فلولا الإعانة من الله لما اهتدى المهتدون، ولهذا سأل المؤلف رحمه الله الإعانة والتوفيق من الله.

    قال: (ونسأله سبحانه التوفيق لما يحب ويرضى) أي: من الأقوال والأعمال، فيفعل المسلم ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ويترك ما يسخطه من الأقوال والأعمال، ولهذا قال: (والحفظ مما يكره ويسخط) يعني: نسأل الله أن يحفظنا مما يكره ويسخط وهي النواهي، وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم العدوان على الناس في الدماء والأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فهذا دعاء عظيم جعله المؤلف رحمه الله في مقدمة هذه الرسالة بعد حمد الله والثناء عليه.

    ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في تفاصيل مسائل السنة.

    1.   

    بيان مدى تلازم وترابط السنة والإسلام

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ اعلموا أن الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر ].

    يقول المؤلف رحمه الله: (اعلموا) يعني: أيها المخاطبون ومن يقرأ هذا الكتاب من طلبة العلم اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هو الإسلام؛ لأن السنة هي التي جاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي وحي ثانٍ، كما قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    إذاً: السنة هي الإسلام، والإسلام: هو الاستسلام لله تعالى والخضوع والذل والانقياد وفعل الأوامر والنواهي، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن وبالسنة، فالإسلام هو السنة؛ لأن السنة توضح القرآن وتفسره وتبين المشكل وتقيد المطلق وتخصص العام، فهي مرتبطة بالقرآن ولا يمكن فصلها عنه أبداً، فالإسلام هو السنة؛ لأن من ألغى السنة فقد ألغى الإسلام وبطل إسلامه، فمثلاً: لو أراد إنسان أن يفصل السنة عن الإسلام فكيف سيصلي؟ لا يستطيع أن يصلي، فهل في القرآن تحديد للأوقات؟ وذكر عدد الركعات؟ وكيف يزكي وكيف يصوم، وكيف يحج، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يتعامل مع الناس..؟ فالقرآن مجمل، والسنة هي التي فصلت ووضحت وقيدت.

    فالإسلام هو السنة يعني: مع القرآن؛ لأنها مرتبطة بالقرآن ولا يمكن فصلها عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن وجاء بالسنة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، ولهذا قال: (اعلموا) والعلم: هو حكم الذهن الجازم، فيقال له علم ويقال له يقين، بخلاف الشك والتردد فلا يسمى علماً، ولا يقيناً؛ لأن الذهن يتردد في صحته.

    ولهذا قال: (اعلموا) يعني: تيقنوا أيها المسلمون! ويا طلاب العلم! أن الإسلام هو السنة، وتيقنوا أن السنة هي الإسلام وأنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، وأن من ألغى السنة فلا إسلام له، ومن ألغى الإسلام فلا سنة له، فالإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، فلا يقوم أحدهما إلا بالآخر، لا إسلام لمن ترك السنة ولا سنة لمن ترك الإسلام.

    وبهذا يتبين أن من زعم أنه لا يحتاج إلى السنة فهو كافر، وهناك طائفة يسمون أنفسهم القرآنيين، ويزعمون أنهم يعملون بالقرآن ولا يعملون بالسنة، وهذا كفر وضلال، فقد جاء في الحديث ما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته -أو متكئاً على أريكته- يأتيه الحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه، وما وجدنا في كتاب الله من حرام حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وبهذا يتبين ارتباط الإسلام بالسنة وارتباط القرآن بالسنة وأنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، فمن زعم أنه يعمل بالقرآن ولا يحتاج إلى السنة فهو كافر.

    1.   

    بيان وجوب لزوم الجماعة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب عن الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاً مضلاً ].

    قوله: (ومن السنة لزوم الجماعة)، يعني: لزوم جماعة المسلمين، وجماعة المسلمين هم الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة من بعدهم، فيجب على المسلم أن يلزم جماعة المسلمين ولا يشذ عنهم في الاعتقادات وفي الأعمال وفي الأقوال وفي الأفعال، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فمن زعم أنه مخالف لجماعة المسلمين فهو متبع لغير سبيل المؤمنين وهو متوعد بأن يوليه الله ما تولى ويصليه جهنم.

    والجماعة هم الصحابة والتابعون، وهم الذين يعملون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي، ويحذرون من البدع في الأقوال والأعمال والاعتقادات والنيات، قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وفي لفظ: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة).

    وروي هذا الحديث بألفاظ متعددة، وفيه أنه يجب لزوم الجماعة، وهي الفرقة الناجية، وهم أهل السنة والجماعة وهم أهل الحق، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).

    فإذاً: من السنة لزوم الجماعة ولزوم الجماعة هو العمل بالسنة، والعمل بما كان يعمل به جماعة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهم أهل الحق، ولزوم طريقتهم في الاعتقادات وفي الأعمال وفي الأقوال، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فمن رغب عن الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكان ضالاً مضلاً) فمن رغب في غير جماعة المسلمين وفارقها فهو كافر؛ لأنه خرج عن الطريق المستقيم الذي كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة، فالصحابة والتابعون والأئمة يعتقدون ما جاء في الكتاب والسنة من توحيد الله والإخلاص في الدين له، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، فيمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي، فمن رغب عن الجماعة خالفهم في الاعتقاد وخالفهم في الأعمال، ومن خالفهم فقد خرج من الإسلام وكان ضالاً مضلاً.

    1.   

    أساس الجماعة هم الصحابة وما كانوا عليه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ورحمهم الله أجمعين وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار ].

    الأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب رسول الله، وهم أهل السنة والجماعة، أي: أن الجماعة هم المجتمعون على الحق، وأول المجتمعين على الحق هم الصحابة في هذه الأمة، أي: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الاعتقادات والأعمال والأقوال هو الأساس الذي تبنى عليه الجماعة.

    فإذاً: أهل السنة والجماعة هم الصحابة وهم الفرقة الناجية، ومن قال إن الفرقة الناجية طائفة وأهل السنة طائفة فقد أخطأ، فأهل السنة والجماعة هم الصحابة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق، فأهل السنة والجماعة هي الفرقة التي توصف بكل هذه الأوصاف، فتوصف بأنها الجماعة، وتوصف بأنها الفرقة الناجية، وتوصف بأنها أهل السنة والجماعة، ويدخل فيهم دخولاً أولياً الصحابة والتابعون ومن بعدهم.

    (والأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمهم الله أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع)، بل قد يقال إنه يكفر؛ لأن الذي نقل إلينا الشريعة هم الصحابة والتابعون، فقد نقلوا إلينا القرآن ونقلوا إلينا السنة، فمن زعم أنه لا يؤخذ عن الصحابة فقد كفر، فليس له طريق إلا طريق الصحابة؛ لأنهم نقلة الشريعة، ونقلة الدين، ولهذا فإن من طعن فيهم فقد طعن في الدين.

    بعض الفرق الضالة كالرافضة يطعنون في الصحابة ويكفرونهم ويفسقونهم، وهذا كفر وضلال؛ لأن الطعن في الصحابة طعن في الدين الذي حملوه، فالذي يقول إن الصحابة كفروا وارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد طعن في الدين الذي حملوه، ولهذا فإن من كفر الصحابة وفسقهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، فقد زكاهم وعدلهم ووعدهم بالجنة، ومن كذب الله كفر، وإذا كانوا كفاراً فكيف يوثق في دين حمله كفار وفساق؟! فالطعن في الصحابة زندقة وكفر وضلال.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، فقد بُينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر؛ وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله، وتبين للناس، فعلى الناس الاتباع ].

    هذا القول وهذا الأثر عن عمر رضي الله عنه وقد ذكر المحقق أن الذي أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى من طريق الأوزاعي وأن إسناده منقطع، ولكن له شواهد عن السلف وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها ويحسب أنه هدى، وأيضاً معناه صحيح.

    فهذا القول عن عمر رضي الله عنه حتى ولو لم يصح سنده فمعناه صحيح دلت عليه النصوص، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى)، أي: أنه لا يعذر الإنسان في الضلالة التي يرتكبها يظن أنها من الهدى، ولا في الهدى الذي يتركه يحسب أنه ضلالة؛ لأنه من الواجب على الإنسان أن يسأل عن دينه، وأن يسأل عما أشكل عليه ولاسيما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن فقد قامت الحجة، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. وقد بعث الرسول.

    وكما أن الإنسان يسأل عن دنياه إذا أراد أن يشتري سلعة فيسأل أهل الخبرة، فعليه أن يسأل عن دينه وعما أشكل عليه، فلا عذر له؛ في العمل بما يخالف شرع الله وهو يستطيع أن يسأل أهل العلم، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (فقد بُينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر) أي: ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبنزول القرآن، إنما يعذر الذي لم يبلغه القرآن ومن كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فأهل الفترات هم الذين يعذرون، ولهم أحكام خاصة جاءت بها النصوص، وهي أنهم يمتحنون يوم القيامة، وكذلك من لم يبلغه شيء من القرآن.

    أما من يعيش بين المسلمين ويسمع القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام فقد بُينت الأمور وثبتت الحجة والقرآن يتلى والسنة موجودة بين الناس، فلا عذر في هذه الحالة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، ولهذا قال: (وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله وتبين للناس فعلى الناس الاتباع).

    السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله ولم يبق شيء إلا وقد بُين في السنة وفي الكتاب العزيز واجتمع المسلمون من الصحابة والتابعين على العمل بهذا الدين، فمن ترك السنة والجماعة بعد وضوح ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

    1.   

    الدين وحي من الله لم يوضع على آراء الرجال

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واعلم رحمك الله! أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى، لم يوضع على أقوال الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله، فلا تتبع شيئاً بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك، فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته السنة وأوضحها لأصحابه وهم الجماعة، وهم السواد الأعظم.

    والسواد الأعظم: الحق وأهله، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر الدين فقد كفر ].

    يقول المؤلف رحمه الله: (واعلم رحمك الله)، وهذا من باب التنبيه، يعني: اجزم وتيقن بهذا الأمر الذي سأبينه لك؛ لأن العلم هو حكم الذهن الجازم.

    وقوله: (رحمك الله)، هذا خبر بمعنى الدعاء، أي: أسأل الله أن يرحمك، وهذا من نصح المؤلف فهو يعلمك ويدعو لك.

    قوله: (اعلم رحمك الله أن الدين، إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله) يعني: تيقن واجزم أن الدين إنما جاء من الله؛ لأن الدين وحي الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أوحى إليه القرآن وأوحى إليه السنة، والدين هو ما جاء في القرآن والسنة، وهو من قبل الله لم يوضع على عقول الرجال وآراؤهم، فعقول الرجال وآرائهم لم يجعلها الله هي الميزان الذي يرجع إليه، وإنما الميزان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدين إنما جاء من قبل الله تعالى بالوحي المنزل على نبيه قرآناً وسنة وعلمه عند الله وعند رسوله.

    ثم قال: (فلا تتبع شيئاً بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك)، أي: لا تتبع الهوى؛ لأن اتباع الهوى ضلال، ولهذا قال الله تعالى لنبيه داود: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26]، فمن اتبع شيئاً بهواه مرق من الدين ومن مرق من الدين خرج من الإسلام، ولا حجة له في هذه الحالة.

    وقد بين المؤلف السبب بقوله: (فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته السنة وأوضحها لأصحابه وهم الجماعة)، إذاً: ليس هناك حجة لمن خرج عن الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لأمته السنة وأوضحها لأصحابه، والرسول عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فقامت الحجة على الناس.

    قوله: (وهم السواد الأعظم، والسواد الأعظم: الحق وأهله)، أي: المراد بالسواد الأعظم الحق وأهله، فأهل الحق هم السواد الأعظم، (عليك بالسواد الأعظم)، كما جاء في بعض الأحاديث الأمر بلزوم السواد الأعظم، والمراد بالسواد الأعظم من ثبت على الحق ولو كان واحداً، كما قال بعض السلف: إذا كنت على الحق فأنت الجماعة ولو كنت وحدك، وليس المراد أن الحق يعرف بكثرة الناس، بل إن الكثرة في الغالب تكون هالكة، قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال سبحانه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17]، وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].

    والسواد الأعظم يكثرون ويقلون، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة هم السواد الأعظم، وفي عهد التابعين كان التابعون هم السواد الأعظم، وفي عهد تابعيهم والأئمة وهكذا، وفي بعض الأزمنة يكون على الحق واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وقد يكون على الحق جماعة متفرقون قلة، فيكون في هذا البلد أفراد وفي هذا البلد أفراد وفي هذا البلد أفراد، فهم الحق وهم السواد الأعظم، وفي آخر الزمان وفي وقت الفتن وقبيل خروج الدجال يجتمعون في الشام.

    وأهل السواد الأعظم هم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق وهم أهل السنة وهم الجماعة، وقد يكون الإنسان من أهل السنة والجماعة وهو مزارع أو تاجر أو جزار أو سباك وقد يكون محدثاً وفقيهاً، ومقدم أهل السنة والجماعة أهل الحديث وأهل العلم وأهل الفقه وأهل البصيرة ومن كان على طريقتهم، ولهذا قال الإمام أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث -يعني الجماعة- فلا أدري من هم! فيكون في مقدمتهم أهل الحديث وكل من تبعهم فهو منهم، ومقدمتهم الأولى الصحابة والتابعون ومن تبعهم من الأئمة.

    قال المؤلف رحمه الله: (فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر الدين فقد كفر) وهذا كلام مجمل من المؤلف رحمه الله، أن من خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من أمور الدين فقد كفر؛ لأنه إذا خالف في أمر من الأمور الاعتقادية بأن فعل ناقضاً من نواقض الإسلام، أو أشرك في العبادة، أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة فقد كفر، وقد يكون كفره كفراً أصغر، كما إذا حلف بغير الله أو طعن في النسب أو ناح على الميت؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)، وكذا من قال لأخيه: يا كافر، والقتال بين المسلمين، فكل هذه أعمال كفريه، لكنها لا تخرج من الملة، وقد يكون دون ذلك فيكون مخالفة، فكلام المؤلف مجمل ليس على إطلاقه وفيه تفصيل، فإن المخالفة قد تكون كفراً أكبر وقد تكون كفراً أصغر، وقد تكون بدعة، وقد تكون معصية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765741848