المعنى: أن من عقيدة أهل السنة والجماعة السمع والطاعة للأئمة فيما يحب الله ويرضى، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، والمراد بالأئمة ولاة الأمور قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني).
لكن هذا مقيد بالأحاديث الأخرى، (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)، وحديث أبي ذر : (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف) وحديث عوف بن مالك الأشجعي : (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة) ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور للمعاصي بل يجب الصبر وعدم الخروج.
فالسمع والطاعة تكون لولاة الأمور في طاعة الله، أما المعاصي فلا يطاع فيها، فإذا أمر الأمير شخصاً بشرب الخمر فلا يطيعه، أو أمره أن يقتل أحداً بغير حق لا يطيعه، إذا أمر الوالد ولده بالمعصية فلا يطيعه، وإذا أمر الزوج زوجته بالمعصية فلا يطيعها، وإذا أمر السيد عبده بالمعصية فلا يطيعه، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) لكن لا يتمرد عليه، فليس للرعية أن يتمردوا على الأمير أو ولي الأمر، بل لا يطيعونه في المعصية وما عدا ذلك فيطيعونه، في الأمور المباحة ويطيعونه في طاعة الله ورسوله.
وهذا بخلاف أهل البدع، فإنهم لا يسمعون ولا يطيعون لولاة الأمور، كالخوارج، فهم يرون أن ولي الأمر إذا عصى كفر ووجب قتله وخلعه وإزالته من الإمامة، وكذلك المعتزلة فإنهم يرون أنه إذا عصى ولي الأمر وفعل الكبيرة خرج من الإمامة فلا يطيعونه، بل إن من أصول الدين عندهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه الخروج على ولاة الأمور إذا جاروا وظلموا، والروافض كذلك يرون أنه ليس هناك طاعة إلا للإمام المعصوم ، وأما ولاة الأمور الموجودين في كل وقت فهم كفرة فسقة يجب قتلهم وخلعهم وإزالتهم من الإمامة، ولا طاعة إلا للإمام المعصوم، وهم الأئمة الاثنا عشر الذي نص عليهم بزعمهم.
قالوا: إن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي ، ولكن أهل السنة كفروا وفسقوا وارتدوا وخالفوا النصوص التي تنص على أن الخليفة بعده علي ، فولوا أبا بكر زوراً وبهتاناً وظلماً، ثم ولوا عمر زوراً وبهتاناً وظلماً، ثم ولوا عثمان زوراً وبهتاناً وظلماً؛ لأنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اثني عشر إماماً: علي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي ثم الحسين بن علي ثم البقية كلهم من نسل الحسين وهم: علي بن الحسين زين العابدين ثم محمد بن علي الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم علي بن موسى الرضا ثم محمد بن علي الجواد ، ثم علي بن محمد الهادي ثم الحسن بن علي العسكري ثم المهدي المنتظر الذي دخل سرداباً في العراق سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن، وأبوه الحسن بن علي قد مات عقيماً ولم يولد له، فاختلقوا له ولداً وأدخلوه السرداب قالوا: دخل السرداب وهو ابن سنتين أو خمس يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : مضى عليه أربعمائة سنة ولم يخرج في زمانه، ونحن الآن نقول: مضى عليه ألف ومائتين سنة ولم يخرج حتى الآن.
وهو شخص موهوم لا حقيقة له؛ لأن أباه الحسن مات عقيماً ولم يولد له، فهؤلاء الأئمة عند الشيعة وهم منصوصون معصومون.
فالروافض يقولون: ليس هناك طاعة إلا للإمام المعصوم، أما الولاة الموجودين كلهم فكفرة ظلمة يجب قتلهم ولا سمع لهم ولا طاعة. إذاً: من عقيدة أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمور فيما يحبه الله ويرضاه -كما قال المؤلف- خلافاً لأهل البدع.
فقوله: (ومن ولي الخلافة بإجماع الناس عليه ورضاهم به فهو أمير المؤمنين)، بمعنى: أنه اجتمع عليه أهل الحل والعقد، وليس المراد بإجماع الناس كل فرد بعينه، بل المراد أهل الحل والعقد ورؤساء القبائل والأعيان والوجهاء فإذا بايعوه تمت البيعة، ولا يشترط أن يبايع كل واحد بعينه، وتسقط الخلافة بالانتخاب والاختيار كما ثبتت الخلافة لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه بالاختيار والانتخاب، وكما ثبتت الولاية أيضاً لـعثمان باختيار أهل الحل والعقد وبالإجماع، وكما ثبتت الخلافة لـعلي بمبايعة أكثر أهل الحل والعقد.
وتثبت الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق كما ثبتت الخلافة لـعمر رضي الله عنه بولاية العهد من أبي بكر ، وتثبت الخلافة أيضاً بالقوة والغلبة إذا غلب الناس بسيفه وقهرهم بسيفه واجتمعت عليه الكلمة فتمت له البيعة ولا يجوز الخروج عليه.
الأمر الأول: الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، وفي هذه الحالة يجب أن يكون الخليفة من قريش إذا وجد فيهم من يقيم الدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان) فإن لم يوجد من قريش من يصلح للخلافة فينتخب من غيرها.
ثانياً: تثبت الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق.
ثالثاً: تثبت الخلافة بالقوة والغلبة، فإذا غلب الناس بسيفه وقوته ولو لم يكن من قريش ثبتت له البيعة؛ ولهذا جاء في حديث أبي ذر : (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف) لكن لو كان الاختيار والانتخاب للمسلمين فلا يختارون عبداً حبشياً مجدع الأطراف، إنما يختارون من قريش، فدل على أن الخلافة تثبت بواحد من هذه الأمور الثلاثة.
يقول المؤلف: (ولا يحل لأحد أن يبيت ليلة، ولا يرى أن عليه إماماً براً كان أو فاجراً)، فلا يجوز للإنسان أن يبيت وهو لا يرى الإمامة لأحد أي: يعتقد في نفسه أنه ليس عليه إمام، ويرى أن يخلع الإمام، ولا يرى له بيعة، بل على الإنسان أن يرى البيعة لولي الأمر الذي اجتمعت عليه الكلمة براً كان أو فاجراً، براً يعني: تقياً، فاجراً يعني: فاسقاً، خلافاً للخوارج والمعتزلة والروافض الذين لا يرون الإمامة للفاجر؛ لأن الخوارج يرون أن الفاجر يكفر، وإذا كفر وجب قتله وحل دمه وماله ولا يكون إماماً، والمعتزلة عندهم أصل: أن ولي الأمر إذا فجر وفسق يجب الخروج عليه، والروافض لا يرون الإمامة لأهل السنة إطلاقاً، ولا يرون الإمامة إلا للأئمة المعصومين.
فإذاً: أهل السنة تميزوا عن أهل البدع، فهم يرون السمع والطاعة لولي الأمر ولو كان فاسقاً فاجراً.
الشرط الأول: أن يكفر كفراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه.
الشرط الثاني: وجود البديل المسلم، ووجود القدرة على إزالة الإمام الفاجر الكافر وتولية الإمام العادل، فإذا وجدت هذه الشروط جاز الخروج عليه، وإذا لم توجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، لكن إذا وجدت قدرة، ووجد البديل فيزال الإمام الكافر ويكون بدله إماماً مسلماً، أما إذا زال كافر وجاء بدله كافر مثل ما يحدث في الانقلابات العسكرية في الجمهوريات، فقد يكون الانقلاب على حكومة كافرة فتأتي حكومة أخرى أكفر منها.
ولا يجوز الخروج على الحاكم في حال عدم تواجد هذه الشروط، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته جاهلية) وهذا فيه دليل على أن الخروج على ولاة الأمور من الكبائر؛ لأنه قال: (فميتته جاهلية).
إذاً اصبر وتحمل؛ لأنك إذا أنكرت على ولي الأمر المعصية مثل شرب الخمر، أو أخذ مال شخص بغير حق، أو قتل شخص بغير حق ففيه مفسدة، لكن الخروج عليه يترتب عليه مفسدة أكبر، وهي إراقة الدماء؛ لأن عنده جيشاً، والذين يخرجون كذلك، فيكون الناس فرقتين، فتراق الدماء ويختل الأمن، وتختل أحوال الناس المعيشية في الاقتصاد والزراعة والتجارة والدراسة والاجتماع، ويتربص بهم العدو الدوائر، وتأتي فتن تقضي على الأخضر واليابس، ففسقه ومعصيته مفسدة صغرى، والقاعدة أنه: إذا اجتمع مفسدتان كبرى وصغرى لا يمكن تركهما، ندرأ المفسدة الكبرى بارتكاب المفسدة الصغرى.
وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الحج والغزو مع الإمام ماض؛ لأن الحج والغزو فرضان يتعلقان بالسفر فلا بد من سائس يسوس فيهما الناس ويقاوم العدو، وهذا يحصل بالإمام الفاجر وبالإمام البر فيحجون مع الإمام ولو كان فاجراً، ويغزون معه ويجاهدون، وهذا خلافاً للخوارج والمعتزلة والروافض فإنهم لا يرون الحج والغزو مع ولي الأمر الفاجر؛ لأنه ليس الإمام عندهم.
قوله: (وصلاة الجمعة خلفهم جائزة) أي كذلك الصلاة جائزة خلف الأئمة ولو كانوا فجاراً.
ثم قال المؤلف: (ويصلي بعدها ست ركعات) بعد صلاة الجمعة (يفصل بين كل ركعتين هكذا قال أحمد بن حنبل )، فالذي ورد في الأحاديث في صحيح مسلم وغيره أنه يشرع للمسلم إذا صلى الجمعة أن يصلى بعدها أربع ركعات، سواء كان في البيت أو في المسجد، وفي حديث ابن عمر أنه إذا صلى في البيت صلى ركعتين، وإذا صلى في المسجد صلى أربع ركعات، أما قول المؤلف: إنه يصلى بعدها ست ركعات يفصل بين كل ركعتين ونسبه إلى الإمام أحمد بن حنبل ، فالصواب أنه يصلي أربع ركعات بسلامين، وأن يصلي أربع ركعات سواء في المسجد أو في البيت، وهذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص، خلافاً لما ذكره المؤلف.
هذا إذا كان الاختيار والانتخاب للمسلمين فهم يختارون من قريش إذا وجد فيهم من يقيم الدين.
أما إذا لم يوجد من يقيم الدين فإنها تكون في غيرهم، لحديث معاوية بن أبي سفيان عند الشيخين: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان) وفي رواية: (ما أقاموا الدين) يعني: ما دام أنه وجد من قريش من يقيم الدين فتكون الخلافة فيهم، فإذا لم يوجد فيهم من يقيم الدين فتكون في غيرهم، فإن لم يكن هناك اختيار للمسلمين وغلب الناس بسيفه وقوته وسلطانه ثبتت له الخلافة.
إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة الكبرى، وأول أشراط الساعة الكبرى خروج المهدي ، ثم خروج الدجال ، ثم نزول عيسى بن مريم وهي العلامة الثالثة، ثم خروج يأجوج ومأجوج.
ثم تتوالى الأشراط: الدخان الذي يملأ ما بين السماء والأرض ويصيب المؤمن الزكام، ويصيب الكافر أذى عظيماً، وهدم الكعبة في آخر الزمان من أشراط الساعة الكبرى، ونزع القرآن من الصدور ومن المصاحف إذا ترك الناس العمل به، ثم تأتي الأشراط الأخيرة لقرب الساعة وهي: طلوع الشمس من مغربها ثم خروج الدابة وهي التاسعة، ثم العاشرة، وهي آخرها: خروج نار من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر فتبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا.
من خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي يعني: فهو يدين بدين الخوارج، ويتمذهب بمذهب الخوارج.
والخوارج هم: الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر عهد الصحابة، ولهم عقيدة خبيثة، وهي تكفير المسلمين بالمعاصي، فهم يقولون: إن من فعل الكبيرة كفر وهو مخلد في النار، فالزاني عند الخوارج كافر، وشارب الخمر كافر، والعاق لوالديه كافر حلال الدم والمال، والذي يخرج على إمام من أئمة المسلمين بالمعاصي خارجي على طريقة الخوارج، وقد يكون ليس من الخوارج فيكون من البغاة الذين يخرجون على الإمام، والبغاة: جمع باغٍ، وهم الذين ينقمون على ولي الأمر شيئاً من المعاصي.
يقول العلماء: إذا خرجت طائفة من البغاة على ولي الأمر يرسل إليهم من يكشف شبهتهم، وينظر ما هي مطالبهم، فإن كانت مظالم فإنه يزيليها فإن استمروا قاتلهم.
ومن خرج عن إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي وقد يكون معتزلياً، وقد يكون رافضياً فكل هؤلاء يخرجون على ولي الأمر؛ لأنه أصبح من الخوارج أو لأنه من البغاة أو لأنه من المعتزلة أو لأنه من الرافضة، وقد شق عصا المسلمين، وخالف الآثار والأحاديث التي جاء فيها النهي عن الخروج على ولاة الأمور.
(وميتته ميتة جاهلية) يشير إلى الحديث: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية).
وهذا يدل على أن الخروج على ولي الأمر من الكبائر؛ لكونه توعد بأن تكون ميتته ميتة جاهلية.
لا يحل قتال السلطان، والخروج عليهم وإن جاروا؛ لأن الأحاديث أمرت بالصبر على ولاة أمور الجور، فلا يحل قتالهم فمن قاتلهم فإنه من الخوارج، أو من البغاة، أو من الرافضة، أو من المعتزلة.
قوله: وذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر : (اصبر وإن كان عبداً حبشيا)، والمؤلف رواه بالمعنى ولفظ الحديث: (أمرني خليلي أن أصبر وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف)، يعني: أن ولي الأمر إذا غلب الناس بسيفه فيجب الصبر عليه وعدم الخروج عليه ولو لم يكن من قريش، لكن لو كان الاختيار للمسلمين فيجب أن يختاروا من قريش.
يقول أبو ذر : (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف) وفي لفظ: (ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)، وكذا قوله للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) يعني: سترون من ولاة الأمور من لا يعطيكم حقكم ويؤثر غيركم عليكم فاصبروا يعني: لا تخرجون على ولاة الأمور ولو لم يعطوكم حقكم، فدل على أنه لا يجوز الخروج على السلطان بالمعاصي.
قوله: (إنكم ستلقون بعدي أثره) يعني: من يؤثر غيركم عليكم، ولا يعطيكم حقكم، (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، والشاهد قوله: (اصبروا) دل على عدم جواز الخروج.
وليس من السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدين والدنيا؛ لأن قتاله والخروج عليه فيه إراقة الدماء وفيه اختلال الأمن، وحصول المفاسد الكثيرة؛ ولهذا قال المؤلف: (وليس من السنة قتال السلطان فإنه فيه فساد الدين والدنيا) فساد الدين بأن تختل أحوال الناس الدينية فلا تقام الحدود، ولا ينصف للمظلوم من الظالم، فولاة الأمور قد رتب الله عليهم إقامة مصالح عظيمة منها: أن الله تعالى يقيم بهم الأمن، ومنها: أن المظلوم يأخذ حقه من الظالم، ومنها: إقامة الدين للناس مثل: صلاة الجمعة، والعيدين، والجهاد، والحج، وقد يحصل منه ظلم لكن هذا الظلم قليل بالنسبة للمصالح التي علقها الله بولاة الأمور.
فلو قيل للناس في ليلة واحدة: كل يفعل ما يشاء، يحصل من الفساد ما الله به عليم؛ ولهذا يقول بعض السلف: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، فالليلة الواحدة التي تكون بلا إمام يحصل فيها فساد كثير من القتل والزنا والسرقة ونهب الأموال إلى غير ذلك؛ لأن ولاة الأمور علق الله بهم المصالح عظيمة ولو كانوا فسقه ولو كانوا جبابرة، فاستتباب الأمن مصلحة عظيمة، وإقامة الحدود مصلحة عظيمة، وإنصاف المظلوم من الظالم مصلحة عظيمة، وإيصال الحقوق إلى أصحابها مصلحة عظيمة، لا تقوم هذه المصالح إلا في حالة وجود الإمام.
أما فسقه ففسقه على نفسه، والناس ليس بيدهم إلا النصيحة المبذولة من قبل أهل الحل والعقد، فإن استجاب فالحمد لله، وإن لم يستجب فليس على الناس من ظلمه، وإنما سلط على الناس الظلمة بسبب تفريطهم في أمر الله فعوقبوا، فإذا أراد الناس أن يصلح الله لهم ولاة الأمور فليستقيموا على طاعة الله؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، فجور الولاة مما كسبت أيدي الرعية وما يحصل من الجور به تكفر السيئات، فالجور من جنس المصائب التي تكفر بها السيئات، وفيه تأديب للرجال الصالحين، وعقوبة للعصاة.
يحل قتال الخوارج إذا قاتلوا المسلمين بأنفسهم وأموالهم؛ لأنهم بذلك يستحلون دماء المسلمين وأموالهم بالمعاصي، فإذا قاتل الخوارج المسلمين قوتلوا كما قاتلهم علي رضي الله عنه، وكما جاء في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، من لقيهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يأخذ فيئهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم ].
وهكذا فعل الصحابة، فإذا قاتل المسلمون الخوارج ثم هربوا فلا يطلبونهم وإنما يتركونهم، وإذا وجد المسلمون جريحاً من الخوارج فلا يقتلونه ولا يؤخذ فيئهم وأموالهم؛ لأنهم ليسوا كفاراً، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، وهم الذين فارقوهم وهربوا فلا يلحق المسلمون الفارين من الخوارج فإذا فارقوا تركوا، فقد عامل الصحابة الخوارج معاملة العصاة، ولم يعاملوهم معاملة الكفار؛ لأنهم متأولون، ولما سئل علي رضي الله عنه: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.
وقال بعض العلماء بكفرهم، واستدلوا بالأحاديث التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الصحيحين: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وفي لفظ: (يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه) وفي لفظ: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد) فشبههم بقوم عاد وهو قوم كفار.
وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لقيهم فليقتلهم فإن في قلتهم أجراً لمن قتلهم عند الله)، وقالوا: بأن هذه النصوص تدل على كفرهم، وهي رواية عن الإمام أحمد ، لكن الجمهور على أنهم عصاة مبتدعة، وهذا هو الذي عمله الصحابة؛ ولهذا ذكر المؤلف: أنه لا يطلب من فارق، ولا يجهز على الجريح، ولا تؤخذ أموالهم، ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم؛ لأنهم عصاة مبتدعة وليسوا كفاراً.
وهذا ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (إنما الطاعة في المعروف)، فلا يطاع أي بشر في المعصية ولو كان أميراً، فإذا أمرك الأمير وقال: اشرب الخمر، فلا تطعه، أو أمرك بالقتل بغير الحق فلا تطعه، أو أمرت زوجة زوجها بالمعصية فلا يطعها.
يقول: (من كان من أهل الإسلام فلا تشهد له بعمل خير ولا شر، فإنك لا تدري بما يختم له عند الموت، ترجو له الرحمة وتخاف عليه ذنوبه) يعني: أن المعين من أهل القبلة لا يشهد له بالجنة ولا يشهد له بالنار، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
فإذا رأينا إنساناً مستقيماً على طاعة الله فنرجو له الخير، ونرجو أن يكون من أهل الجنة، ولا نشهد له بها، وإذا رأينا إنساناً عاصياً فنخاف عليه ونخشى عليه من النار ولا نشهد له بالنار، ولا نشهد لأي مسلم بالجنة إلا لمن شهدت له النصوص كالعشرة المبشرين بالجنة كـالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وجماعة من الصحابة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومن لم تشهد له النصوص فنشهد له بالجنة بالعموم، فكل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، لكن فلان ابن فلان بعينه نشهد له بالجنة فهذا لا يصح، ونحن لا ندري بهذا الشيء لكن إذا كان فلان ابن فلان بعينه مستقيماً على طاعة الله فنرجو له الخير، ونرجو أن يكون من أهل الجنة وفلان ابن فلان الذي يفعل المعاصي لا نشهد له بالنار لكن نخاف عليه من النار، ولا نشهد لأحد بالنار إلا من عرفنا إنه مات على الكفر وأنه قامت عليه الحجة.
فإذا عرفت أن فلاناً يعبد الأصنام وقامت عليه الحجة ومات على ذلك فلا شبهة له فهو من أهل النار، وكذلك اليهود والنصارى نشهد عليهم بالنار.
إذاً من كان من أهل الإسلام فلا تشهد له بخير ولا شر فإنك لا تدري بما يختم له عند الموت وإنما ترجو له رحمة الله وتخاف عليه ذنوبه، ولا تدري ما يسبق له عند الموت؛ لأنك لا تدري ما هي الخاتمة، ولا ما يسبق له عند الموت فإذا مات الإنسان على الإسلام فإنك ترجو له رحمة الله، وتخاف عليه ذنوبه.
فمن تاب تاب الله عليه، والمهم أن تكون التوبة نصوحاً بأن يندم صاحب الذنب على ما مضى، ثم يعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليه، أما إذا كانت التوبة مؤقتة كأن يتوب في رمضان وهو ينوي أنه يرجع إلى المعاصي بعد انتهاء رمضان فهذه ليست توبة، فلا بد أن يعزم عزماً جازماً على ألا يعود إلى المعصية بعد تركه إياها، والندم عليها.
ولا بد من رد المظالم إلى أهلها، وأن تكون التوبة قبل وصول الروح إلى الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فإذا تحققت هذه الشروط فهي توبة نصوح.
وأي ذنب ولو كان كفراً أو شركاً فإن له توبة، فقد عرض الله التوبة على أكثر الناس كفراً وهم المثلثة من النصارى الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:73-74].
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ والرجم حق ].
وهو رجم الزاني المحصن، فإذا زنا وثبتت عليه البينة بشهادة أربعة عدول أو بإقراره على نفسه، وكان قد تزوج ولو في العمر مرة ولو لم يكن معه زوجة، وإذا تزوج ولو ليلة واحدة ودخل بها فإنه يسمى محصناً، فإذا زنا بعد ذلك رجم، وإن لم يكن محصناً بأن لم يتزوج فإنه يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً عن البلد، قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].
وفي حديث عبادة بن الصامت ، قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً : الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام).
فالثيب يرجم بالحجارة حتى يموت، والبكر يجلد مائة جلدة ويغرب عن البلد عاماً.
وقوله: (الرجم حق) هذه من مسائل الفروع، لكن المؤلف نص عليها للرد على الخوارج الذين أنكروا الرجم، بحجة أنه زيادة على القرآن وهم لا يقبلون ما زاد عن القرآن بزعمهم.
والأحاديث في ذلك متواترة خلافاً للروافض الذين أنكروا المسح على الخفين، فالعلماء يذكرون المسح على الخفين في كتب العقائد للرد على الروافض الذين ينكرون المسح على الخفين، وكذلك غسل الرجلين في الوضوء وهم يقولون: إن الواجب مسح ظهور القدمين، فإذا كانت الرجلان مكشوفتين فيمسحونها بعد تبليل أيديهم بالماء، وإذا كان عليهما الخفان وجب خلع الخفين ومسح ظهور القدمين.
والأحاديث في المسح على الخفين بلغت حد التواتر حتى إن الذين نقلوا كيفية الوضوء عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: غسلاً للرجلين المكشوفتين ومسحاً للخفين، وأكثر الذين نقلوا نص الآية وهي قوله عز وجل في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فالآية متواترة؛ لأن القرآن كله متواتر، لكن تواتر كيفية الوضوء غسلاً ومسحاً أقوى من تواتر نص الآية، وذلك أن الصحابة كلهم يتوضئون، وكلهم شاهدوا غسل الرجلين ومسح الخفين من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد نقله عن غيره بخلاف نص الآية، فليس كل أحد يحفظ الآية فالبعض يحفظ الآية والبعض لا يحفظها، أما الوضوء فكلهم يتوضئون وليس هناك أحد لا يتوضأ، فالآية متواترة ونقل كيفية الوضوء أقوى تواتراً وأكثر عدداً من الذين نقلوا نص الآية.
قصر الصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء، أما المغرب والفجر فلا يقصران.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ والصوم في السفر: من شاء صام، ومن شاء أفطر ].
والإنسان مخير في الصوم فمن شاء صام ومن شاء أفطر؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ومعه أصحابه فبعضهم صائم وبعضهم مفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
واختلف العلماء هل الأفضل للمسافر الصوم أو الفطر؟ فقيل الصوم أفضل؛ لأنه أسرع في براءة الذمة، وقيل: الفطر أفضل؛ لأنه أخذ برخصة الله، وقيل: هما سواء.
والصواب: إن كان الصوم يشق على المسافر فالفطر أفضل، وإن لم يشق فقيل الفطر أفضل؛ لأنه فيه أخذ برخصة الله، وإن كان الإنسان نشيطاً فله أن يصوم وإن رأى أن يفطر فلا حرج، الأمر في هذا واسع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ ولا بأس بالصلاة في سراويل ].
والسروال هو الذي يستر النصف الأسفل من جسم الإنسان، ويضع على كتفيه الرداء ويصلي في رداء وسروال أو رداء وإزار، أو قميص وهو الثوب.
هذا معنى النفاق الأكبر: وهو أن يظهر الإنسان الإسلام ويبطن الكفر وصاحبه مخلد في النار، بل في الدرك الأسفل من النار.
وهناك كفر عملي وهي المعاصي كالكذب في الحديث، وخلف الوعد، والفجور في الخصومة، والغدر في العهود، وهذا يسمى نفاقاً أصغر، لكن النفاق الأكبر الذي يخرج من الملة ما ذكره المؤلف فهو يظهر الإسلام ويخفي الكفر، وهذا نفاق عبد الله بن أبي وأصحابه.
قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي في اعتقاد أهل السنة: ويرون -أي: أهل السنة- أن الدار دار إسلام لا دار كفر كما رأته المعتزلة، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين وأهلها ممكنين.
فإذا كان في البلد من يقيم الإسلام وينادي بالصلاة فهي دار إسلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغار على قوم انتظر فإن سمع النداء تركهم، وإن لم يسمع النداء أغار عليهم؛ لأنهم ليسوا مسلمين.
فتكون الدار دار إيمان وإسلام إذا كانت شعائر الإسلام ظاهرة فيها، وإن لم تكن فيها شعائر الإسلام ظاهرة فهي دار كفر.
وقال بعضهم: العبرة بالحكم الذي يحكم فيها، فإن كان يحكم فيها بالشريعة فهي دار إسلام، وإن لم يحكم فيها بالشريعة فليست دار إسلام.
فمعنى قول المؤلف : (اعلم بأن الدنيا دار إيمان وإسلام) يعني: مادام أن شعائر الإسلام ظاهرة كالنداء بالصلاة والإقامة بها وإظهار شعائر الإسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها مؤمنون في أحكامهم، ومواريثهم، وذبائحهم، والصلاة عليهم ].
يعني: يعاملون معاملة المسلمين، فالمواريث يرث كل واحد من أقاربه، وذبائحهم حلال، ويصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون خلافاً للمعتزلة والخوارج الذين يقولون: ليس هناك دار إيمان ولا إسلام، فإذا كان الناس يفعلون المعاصي فليست دار إسلام، ولا تحل ذبائحهم، ولا يصلى عليهم؛ لأنهم كفار، وهذا هو مذهب الخوارج والمعتزلة والروافض.
يقول الشوكاني في السيل الجرار: الاعتبار بظهور الكلمة، فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام، ولا يضر ظهور خصال الكفر فيها؛ لأنها لم تظهر بقوة الكفار، ولا بصولتهم، وإذا كان الأمر بالعكس، فالدار بالعكس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر