وقد بشر صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه بالجنة وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح ، وكذلك قال لـثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه: (إنه من أهل الجنة. قال
من عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم يشهدون لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة وثابت بن قيس بن شماس ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أنت من أهل الجنة). وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرفع صوته في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطيب يحتاج إلى رفع الصوت، فلما نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] ، خاف رضي الله عنه، وجلس في بيته يبكي خشية أن يحبط عمله، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فقال للرسول: إنه من أهل النار؛ لأنه يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أنه من أهل الجنة وليس من أهل النار) . وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بها.
وكذلك الحسن والحسين فقد شهد لهما النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، وكذلك عكاشة بن محصن ، وعبد الله بن عمر ، وبلال بن رباح فقد سمع قرع نعليه في الجنة، وعبد الله بن سلام وجماعة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، والعشرة المبشرون بالجنة الذين عدهم المؤلف رحمه الله كلهم يشهد لهم بالجنة، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فإنا نشهد له بالجنة، وكذلك أهل بيعة الرضوان، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) وكانوا ألفاً وأربعمائة.
وأهل بدر كذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك يا
أما من لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فإنا نشهد له بالعموم، فنشهد لجميع المؤمنين بالجنة من باب العموم، لكننا لا نشهد بالخصوص إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، واليهود والنصارى والوثنيون في النار، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، لكن فلان ابن فلان بعينه لا نشهد له بالجنة إلا لمن شهد له الرسول، وفلان ابن فلان بعينه لا نشهد له بالنار إلا إذا علمنا أنه مات على الكفر، وقامت عليه الحجة، وهذه عقيدة أهل السنة، فـأبو لهب مثلاً شهدت نصوص القرآن بأنه في النار وأبو جهل كذلك، وما عدا ذلك فإننا نشهد للمؤمنين على وجه العموم بالجنة، ونشهد للكفار بالنار، لكن أهل السنة والجماعة يرجون للمحسن الثواب والعفو عن المسيئ، فإذا رأوا إنساناً مستقيماً على طاعة الله يؤدي ما أوجب الله عليه، وينتهي عما حرم الله عليه، فإنهم يرجون له خيراً، ويرجون أن يغفر الله له ويدخله الجنة، لكن لا يشهدون له بالجنة.
والمسيئ الذي يعمل المعاصي والكبائر يخافون عليه من النار، ولا يشهدون عليه بالنار؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فأما الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بأعيانهم بأنهم من أهل الجنة، فإن أصحاب الحديث يشهدون لهم بذلك تصديقاً للرسول عليه الصلاة والسلام فيما ذكره ووعده لهم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشهد لهم بها إلا بعد أن عرف ذلك، وقد أطلع الله تعالى رسوله على ما شاء من غيبه، وبيان ذلك في قوله عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].
والنبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، فإذا شهد لأحد بالجنة؛ فإن هذا من الغيب الذي أطلعه الله عليه، قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه بالجنة وهم: أبو بكر ، وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبو عبيدة بن الجراح ، فهؤلاء يقال لهم: العشرة المبشرون بالجنة.
وكذلك قال لـثابت بن قيس بن شماس : (أنت من أهل الجنة) . لما جلس في بيته يبكي، وقال: إنه من أهل النار، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فلقد كان يمشي بين أظهرنا ونحن نقول: إنه في الجنة ومن أهل الجنة.
يعتقد أهل السنة وأهل الحديث ويشهدون: أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، ويشهدون أنهم هم الخلفاء الراشدون، وترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة، فأفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهذا هو الذي عليه الجماهير، وروي عن الإمام أبي حنيفة : أن علياً أفضل من عثمان ولكن روي عنه أنه رجع ووافق الجمهور، وتفضيل علي على عثمان مسألة سهلة خفيفة، لكن تقديم علي على عثمان في الخلافة أمر منكر؛ ولهذا قال كثير من السلف: من قدم علياً على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، وقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. أي: احتقر رأيهم؛ لأن المهاجرين والأنصار أجمعوا على تقديم عثمان في الخلافة، فتقديم علي على عثمان في الخلافة أمر منكر شنيع باطل، أما تقديم علي على عثمان في الفضيلة فهذا سهل، وقد قال به بعض أهل السنة، وروي عن الإمام أبي حنيفة ، ولكن روي أنه رجع ووافق الجمهور، وهم الخلفاء الراشدون وخلافتهم خلافة نبوة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سفينة : (الخلافة بعدي ثلاثون سنة). وهو حديث حسن لا بأس به. ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشر سنوات، وخلافة عثمان ثنتا عشرة سنة، وخلافة علي ست سنوات، وهذا الترتيب، فتكون الجميع ثلاثون سنة، لكن هذا فيه جبر؛ فإن خلافة أبي بكر سنتان وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنوات ونصف، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة علي خمس سنين وأشهر، ثم بقي من الثلاثين السنة ستة أشهر وهي التي تولى فيها الحسن بن علي رضي الله عنه، وتنازل فيها لـمعاوية فتمت الخلافة ثلاثون سنة بنهاية الستة الأشهر التي تنازل فيها الحسن بن علي لـمعاوية ، وانتهت الخلافة الراشدة وبدأ الملك، وأول ملوك المسلمين هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ولهذا قال المؤلف: وبعد انقضاء أيامهم عاد الأمر إلى الملك العضوض على ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن معاوية صحابي جليل، وخلافته وإن لم تكن كخلافة الخلفاء الراشدين إلا أنه ملك عادل وصحابي جليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويشهد أصحاب الحديث بأن خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا].
يعني: أنه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيام مرضه وهي الدين، فرضيناه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم علينا في أمور دنيانا. وقولهم: قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يؤخره، وأرادوا أنه صلى الله عليه وسلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه، فصلينا وراءك بأمره فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر رضي الله عنه في حال حياته فيما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه وارتفعوا وارتفقوا، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف لما عبد الله. ولما قيل له: مه يا أبا هريرة ! قام بحجة صحة قوله، فصدقوه فيه وأقروا به ].
أهل الحديث وأهل السنة والجماعة يثبتون خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه الخليفة الأول خلافاً للرافضة الذين يقولون: الخليفة الأول هو علي رضي الله عنه، وأن أبا بكر اغتصب الخلافة منه، وكذلك عمر وعثمان ، وهذا قول باطل، والذي عليه أهل السنة والجماعة وأهل الحديث أن أبا بكر هو الخليفة الأول، وثبتت الخلافة لـأبي بكر باختيار الصحابة وانتخابهم، فهذا هو الأرجح.
وقال بعض العلماء: ثبتت خلافة أبي بكر بالنص واستدلوا بأدلة منها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءته امرأة وقال لها: ائتني في وقت كذا، أي: في وقت لاحق. فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك، تعني الموت. فقال: إن لم تجديني فأتي
فبعض العلماء قال: إن خلافته ثبتت بالنص، والذين قالوا بالنص على قولين: منهم من قال: ثبتت بالنص الجلي، ومنهم من قال: ثبتت بالنص الخفي.
وقال آخرون: إنما ثبتت بالانتخاب والاختيار، وهذا هو الأرجح، فإنها ثبتت باختيار الصحابة وانتخابهم، واستدلوا بهذه الأدلة على أنه هو الخليفة، واستدلوا بكون النبي صلى الله عليه وسلم قدمه للصلاة، فهذا دليل على أنه هو الأحق بالخلافة.
وكذلك أيضاً: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً واختلفوا عنده، قال: (قوموا، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا
وبعض أهل العلم قال: إن هذه الأدلة نص في خلافته، والصواب أنها ثبتت بالاختيار والانتخاب، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا؛ فرضيناه لدنيانا ]، يعني: أنه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيام مرضه وهي الدين، فرضيناه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دنيانا، وقولهم: (قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فمن ذا الذي يؤخرك؟! أرادوا أنه قدمه في الصلاة أيام مرضه، فصلينا وراءه بأمره، فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته، مما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده.
فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه، وارتفعوا به وارتقوا وعزوا وعلوا بسببه، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو! لولا أن أبا بكر استخلف لما عبد الله، ولما قيل له: مـه يا أبا هريرة ؟! ما تقول؟ قام بحجة صحة قوله، فصدقوه فيه وأقروا به. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت قبائل العرب؛ فمنهم من عبد الأوثان، ومنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من منع الزكاة، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وأشكل هذا على بعض الصحابة ومنهم عمر إذ قال: كيف تقاتل من قال: لا إله إلا الله؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله! لو منعوني عقالاً -وفي رواية: عناقاً- كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
فأجمع وعزم على قتالهم؛ حتى شرح الله صدر عمر ، وصدر من كان عنده إشكال، فأجمعوا على قتالهم فكان في قتالهم خير عظيم، فرجع الناس إلى دين الله بعد أن خرجوا منه، فلهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا أن أبا بكر استخلف لما عبد الله؛ لأن أكثر العرب ارتدوا فقاتلهم الصديق والصحابة حتى رجعوا إلى الإسلام.
أهل السنة والجماعة يثبتون ويعتقدون أن الخليفة بعد أبي بكر هو: عمر رضي الله عنه، فقد ثبت له الخلافة.
بالعهد من أبي بكر رضي الله عنه إليه، واتفاق الصحابة بعده عليه، ولهذا أنجز الله سبحانه وعده بإعلاء الإسلام وإعظام شأنه، فالخليفة الثاني هو عمر خلافاً للرافضة الذين يقولون: إن أبا بكر وعمر مغتضبان للخلافة، ويقولون عن الصحابة إنهم كفرة ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخفوا النصوص التي فيها أن الخليفة بعده علي ، وينكرون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ويقولون: إنهم ظلمة وفسقة وكفرة، فولاية هؤلاء الثلاثة زور وبهتان وظلم، وإلا فالخليفة الأول هو علي ، وهذا منصوص عليه. هكذا يقول الرافضة، وهذا من أبطل الباطل.
والخليفة الثالث هو عثمان ثبتت له الخلافة باختيار المهاجرين والأنصار جميعاً، وأجمعوا عليه إجماعاً.
والخليفة الرابع هو علي رضي الله عنه، ثبتت له الخلافة بمبايعة أكثر أهل الحل والعقد، وامتنع عن البيعة معاوية وأهل الشام، لا لأن معاوية يطلب الخلافة؛ بل لأنه يطالب بدم عثمان رضي الله عنه.
وخلاصة الأمر فقد ثبتت الخلافة لـأبي بكر بإجماع الصحابة، وثبتت لـعمر بولاية العهد من أبي بكر واتفاق الصحابة عليه، وثبتت لـعثمان بإجماع المهاجرين والأنصار، وثبتت لـعلي بمبايعة أكثر أهل الحل والعقد دون معاوية وأهل الشام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدين الذين نصر الله بهم الدين، وقهر وقسر بمكانهم الملحدين، وقوى بمكانهم الإسلام، ورفع في أيامهم للحق الأعلام، ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام، وحقق بخلافتهم وعده السابق في قوله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ [النور:55].. الآية.
وفي قوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] إلى قوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، فهؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدون خلافتهم راشدة، وهم أفضل الناس، وترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة، فأفضلهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، وخلافتهم خلافة نبوة، وقد نصر الله بهم الدين، وقهر وقسر بمكانهم الملحدين، وقوى بمكانهم الإسلام، ورفع في أيامهم للحق الأعلام، ونور الله بضيائهم وبهائهم الظلام، وتحقق في خلافتهم وعده في قوله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، وقد حصل هذا، فقد استخلفهم في الأرض، ومكن لهم الدين وبدلهم من بعد خوفهم أمناً.
قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، إلى قوله: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، هذه الآية فيها وصف للصحابة، ولهذا استنبط الإمام مالك رحمه الله من قوله تعالى: (ليغيظ بهم الكفار) أن من أغاظه الصحابة فإنه يكون كافراً بنص القرآن؛ لأن الله قال: (ليغيظ بهم الكفار).
(من أحبهم وتولاهم ودعا لهم ورعى حقوقهم وعرف فضلهم) فهو من أهل السنة والجماعة من الفائزين ومن أهل الحق.
(ومن أبغضهم وسبهم) وكفرهم فهو من الهالكين -نسأل الله العافية- لأن الله زكاهم ووعدهم بالجنة فمن كفرهم أو فسقهم فقد كفر؛ لأنه مكذب لله، ومن كذب الله فقد كفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبوا أصحابي فمن سبهم فعليه لعنة الله) ].
هذا الحديث كما يقول المحقق مركب من حديثين: فالجملة الأولى: (لا تسبوا أصحابي) فهي جزء من حديث صحيح، أما الجملة الثانية: (فمن سبهم فعليه لعنة الله) فهي جزء من حديث.
وفي اللفظ الآخر: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: (من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن سبهم فعليه لعنة الله) ].
هذا الحديث ذكر المحقق أنه ضعيف، ويحتمل أن المؤلف ذكره؛ لأن له شواهد.
عقيدة أهل السنة والجماعة في ولاة الأمر من المؤمنين: عدم الخروج عليهم، ويرون جواز صلاة الجمعة والعيدين خلفهم، ويرون الجهاد والحج معهم ولو كانوا فساقاً، ولو ارتكبوا الكبائر، ما داموا مسلمين؛ لأن هذه المعاصي التي يفعلها ولاة الأمر مثل: شرب الخمر، أو الظلم، أو قتله بغير حق، أو أخذ مالاً بغير حق، فإن هذه المعاصي تعتبر من الظلم والفسق، فلا يجوز الخروج عليهم بمثلها؛ لأن الخروج يؤدي إلى مفسدة أكبر، وقواعد الشريعة تدل على أنه إذا وجدت مفسدتان ولا يمكن تركهما جميعاً، فترتكب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى، وإذا وجدت مصلحتان كبرى وصغرى ولا يمكن فعلهما جميعاً نترك الصغرى ونأتي بالكبرى، فهذه المسألة تتماشى مع قواعد الشرع بهذه الكيفية.
فولي الأمر إذا فسق أو عصى فإن ذلك يعتبر مفسدة كبرى، لكن الخروج عليه يؤدي إلى مفسدة أكبر، وهي إراقة الدماء، وانقسام الناس إلى فريقين، واختلال الأمن، واختلال المعيشة، وتدهور الاقتصاد، والزراعة والتجارة والتعليم، وتربص الأعداء بهم الدوائر، وتأتي بفتن لا أول لها ولا آخر تقضي على الأخضر واليابس، فهذه مفاسد عظيمة فلا نرتكبها، بل على الرعية أن يصبروا على جور الولاة، فإن في هذا مصلحة كبيرة، والنصيحة مبذولة من قبل العلماء والدعاة وأهل الحل والعقد، فإن قبل الولاة فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أدى الناس ما عليهم، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور في مثل هذا الحال.
وولاة الأمور ما سلطوا على الناس إلا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، فعليهم أن يتوبوا إلى الله، فقد يكون جور الولاة تأديباً للفسقة، وامتحاناً وابتلاء للصالحين، ورفعاً لدرجاتهم، مثل المصائب والنكبات، والأمراض والأسقام، يكفر الله بها السيئات، فإذا أراد الناس أن يصلح الله لهم ولاة أمورهم فليصلحوا أحوالهم، وليتوبوا إلى ربهم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويرى أصحاب الحديث وأهل السنة الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلاة خلف كل إمام براً كان أو فاجراً) والمراد بالإمام: إمام المسلمين، وولي أمرهم، ويقوم مقامه رئيس الدولة أو الجمهورية أو الملك أو الأمير.
(براً كان أو فاجراً) أي: تقياً كان أو عاصياً.
ومعنى قوله: (ويرون جهاد الكفرة معه، وإن كانوا جورة فجرة) أي: إذا أراد ولي الأمر أن يقاتل الكفار وعقد راية فعلى الناس أن يقاتلوا معه ولو كان فاجراً، أو جائراً أو ظالماً.
فمن عقيدة أهل السنة والجماعة جهاد الكفرة مع ولاة الأمور وإن كانوا جورة فجرة، أي: جائرين، ظالمين وعاصين.
والحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر، ولابد ممن يقوم بهما ويقاتل العدو، وهذا يحصل بالإمام الفاجر، كما يحصل بالإمام البر، ولهذا فإن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يجاهدون ويصلون خلف الإمام ولو كان جائراً ظالماً، ما دام أنه لم يكفر.
وقوله: (ويرون الدعاء لهم بالصلاح والتوفيق، وبسط العدل في الرعية) فأهل السنة والجماعة يدعون لهم، ولهذا جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: لو أن لي دعوة صالحة لصرفتها للسلطان، لأن بصلاحه تصلح الرعية.
فيرون الدعاء لهم بالإصلاح، لأنهم إذا صلحوا صلحت الرعية.
قوله: (ولا يرون الخروج عليهم بالسيف) أي: لا يجوز الخروج عليهم بالسيف، والذين يخرجون على ولاة الأمور بالسيف هم أهل البدع.
قوله: (وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف) أي: أهل السنة والجماعة لا يخرجون على ولي الأمر بالسيف، ولو كانوا يرون أنهم عدلوا عن الحق، ومالوا وجاروا، فإن عليهم أن يصبروا على ذلك، والذين يرون الخروج على ولاة الأمور هم أهل البدع كالخوارج، فالخوارج يخرجون على ولاة الأمور بالمعاصي؛ لأنهم يرون أن الإنسان إذا فعل معصية كبيرة فقد كفر، وحل دمه وماله، وهو مخلد في النار.
وكذلك المعتزلة يرون الخروج على ولي الأمر بالمعاصي، وهذا أصل من أصولهم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فستروا تحت الأمر بالمعروف إلزام الناس باجتهاداتهم، وستروا تحت النهي عن المنكر الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي.
وكذلك الرافضة يرون الخروج على ولي الأمر؛ لأنها لا تصح الإمامة إلا للإمام المعصوم عندهم، وهو أحد الأئمة الاثنا عشر.
والخلاصة: أن الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي هو مذهب أهل البدع، كالخوارج والمعتزلة والروافض، أما أهل السنة فلا يخرجون على ولي الأمر، ولو ارتكب الكبائر بشرب الخمر، أو قتل أحداً بغير حق، أو أخذ ماله بغير حق، أو لم يوزع المال توزيعاً عادلاً، فلا يجوز الخروج عليه، بل الواجب الصبر، وبذل النصيحة.
وقوله: (ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل).
الفئة الباغية: هي جماعة من الناس يخرجون على ولي الأمر وتكون لهم شوكة، فهؤلاء إذا خرجوا للقتال فعلى ولي الأمر أن يرسل لهم من يناقشهم ويبحث معهم عن سبب خروجهم، فإن كان سبب خروجهم هو إنتشار المعاصي في البلاد وجب عليه أن يغير المعاصي حتى يرجعوا، فإن رجعوا وإلا قاتلهم، والناس يقاتلون معه؛ لأن هؤلاء أرادوا أن يشقوا عصا الطاعة ويفرقوا كلمة المسلمين.
هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فموقفهم من الصحابة أنهم يرون الترحم عليهم والترضي عنهم، وذكر محاسنهم وفضائلهم والكف عما شجر بينهم من الاختلاف والنزاع، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، كالخلافات والحروب التي وقعت بينهم، فلا يجوز ذكرها ولا كتابتها ولا تسجيلها في أشرطة، ولهذا فإن أشرطة طارق السويدان التي نشرت معايب الصحابة، يجب إتلافها وعدم سماعها؛ لأن هذا فيه نشر لعيوب الصحابة وهذا من أبطل الباطل، ويجب اعتقاد أن الصحابة خير الناس وأفضلهم، وما كان ولم يكن أحد مثلهم، وهم أفضل الناس بعد الأنبياء، اختارهم الله لصحبة نبيه، وهم الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة، وحملوا إلينا الدين والشريعة، فتجريحهم تجريح للقرآن والسنة.
أما ما شجر بينهم من الخلافات والنزاع فهذا كما ذكر القاضي ابن العربي في كتاب العواصم والقواصم وهو كتاب جيد، وكما بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية أن الخلافات التي وقعت بين الصحابة، منها ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنها ما له أصل، لكن زيد فيه أو نقص منه، ومنها ما هو صحيح، والصحابة ما بين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر.
والذنوب المحققة، هناك أسباب للمغفرة منها التوبة، فمن تاب تاب الله عليه، ومنها أن يكون حصلت له مصائب كفر بها عنه، أو كفر عنه بحسنات عظيمة، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والذين هم أولى الناس بها، هذا في الذنوب المحققة فكيف بغيرها.
فإطلاق الألسنة والكتابة وتسجيل معايب الصحابة من طريقة أهل البدع، أما طريقة أهل السنة والجماعة فهم يترضون عن الصحابة ولا يذكرون مساوئهم، ويعتقدون أن لهم من الحسنات العظيمة ما يغطي ما صدر عنهم من الهفوات، كجهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتهم له، وتبليغهم دين الله إلى مشارق الأرض ومغاربها.
فيجب الكف عما شجر بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم) أي: نواليهم ونترضى عنهم.
وقوله: (وكذلك يرون تعظيم قدر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين)، وأنهن زوجاته في الجنة، ومن قذف عائشة بما برأها الله منه فهو كافر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر