وللناس في الإسلام والإيمان من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن نبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها، فنقول:
مما علم بالكتاب والسنة والإجماع، وهو المنقول نقلاً متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام دين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا على عهده بالمدينة ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق ظاهره الإسلام وهو في الباطن كافر.
ولهذا التقسيم أنزل الله تعالى في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين.
فقوله تعالى :هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5] في صفة المؤمنين.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] الآيتين في صفة الكفارين الذين يموتون كفاراً.
وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] الآيات في صفة المنافقين، إلى أن ضرب لهم مثلين أحدهما بالنار والآخر بالماء، كما ضرب المثل بهذين للمؤمنين في قوله: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17] ].
قول المؤلف: (وللناس في الإسلام يعني: في مسمى الإسلام والإيمان، من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك ).
فلما كان هذا الاختلاف كبيراً كان لابد من معرفة الحق في ذلك، وكيف يعرف الحق في ذلك؟
قال المؤلف: (هذا يكون بأن تبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بعد ذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها ).
يعني: تبين الأصول المعلومة المتفق عليها بين الجميع، فإذا علمت الأصول وبينت ووضحت واتفق عليها الجميع انتقلنا إلى الأصول المختلف فيها، وبينا الحقيقة في ذلك.
فالمؤلف رحمه الله ذكر من الأصول المتفق عليها: انقسام الناس إلى ثلاثة أصناف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: مؤمن باطناً وظاهراً, وكافر باطناً وظاهراً, ومسلم في الظاهر وكافر في الباطن وهو المنافق، فهذا أصل متفق عليه لا يخالف عليه أحد، وهناك أصل آخر سيذكره المؤلف وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان. فهذان أصلان متفق عليهما.
وقد ذكر الله أقسام الناس في أول سورة البقرة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولهذا التقسيم أنزل الله في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في سورة المؤمنين باطناً وظاهراً، وآيتين في صفة الكفار ظاهراً وباطناً، وبضعة عشرة آية في صفة المنافقين ).
والبضع من ثلاثة إلى تسعة، يعني: نزل فيهم ثلاث عشرة آية.
إذاً: في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتان، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين؛ ولأن المنافقين شاركوا الكفار بالكفر وزادوا عليهم بالخداع، فكانوا يظهرون الإسلام خداعاً، أما الكافر فهو عدو مكشوف ظاهراً وباطناً، فاليهودي والنصراني والوثني والشيوعي والملحد كافر ظاهراً وباطناً، وتستطيع الحذر منه، أما العدو الباطن كالمنافق الذي هو كافر في الباطن ومسلم في الظاهر يعيش بين المسلمين، ويخطط ويدبر المؤامرات للقضاء على الإسلام والمسلمين، قد يصلي إلى جنبك وهو منافق فلا تعلمه، فلهذا بيّن الله هذه الأصناف الثلاثة.
وصفهم الله بأنهم المتقون، أي: اتقوا الله، واتقوا النار، واتقوا عذاب الله وسخطه، فوحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، فالمتقي: هو الذي جعل بينه وبين النار وقاية تقيه من غضب الله وسخطه بالإيمان والتوحيد وأداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم وصف المتقين بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] أي: ما غاب من الأمور الغيبية، والمعنى: يصدقون الله في أخباره الماضية والمستقبلة، ويصدقون الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي أخبر بها من الأخبار الماضية والمستقبلة، كإخباره عن الأمم السابقة وعن بدء الخلق، وعن ما أخبر الله به عن نفسه من أفعاله وصفاته وأسمائه، فكل هذه من أمور الغيب، ويؤمن بما أخبر الله بأنه عليم حيكم، عزيز، وأنه مستوٍ على العرش، وأنه التواب، وأنه الرحيم، وأنه الملك، وأنه القدوس، وأنه السلام، وأنه المؤمن، وأنه المهيمن، وأنه العزيز، وأنه الجبار، وأنه المتكبر، وأنه بكل شيء عليم، وأنه خالق الخلق، وبكل ما أخبر الله به عن نفسه.
وكذلك ما أخبر به عن الأمم السابقة، وعن العرش، واللوح المحفوظ، والقلم، والسماوات، والأرضين، والنجوم.
ويؤمنون أيضاً بما أخبر الله من أخبار المستقبل مما يكون قبل الساعة، وما يكون للإنسان إذا وضع في قبره من سؤال منكر ونكير، ومن عذاب القبر ونعيمه، ويؤمن ببعث الأجساد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، والوقوف بين يدي الله للحساب، وتطاير الصحف، والميزان، والحوض، والصراط، والجنة، والنار، وكل هذا داخل في قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3].
الوصف الثاني: قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3] يعني: يؤدونها كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
والإقامة غير الصلاة، فهو لم يقل: يصلون، بل قال: يقيمون، فقد يفعل الإنسان صلاة صورية ولكن لا يقيمها، ولهذا توعد الله من فعل الصلاة مع السهو بالويل، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] ولم يقل: ويل للذي يقيم الصلاة، بل له الجزاء، فمن أداها كما أمر الله وكما أمر الرسول، بإخلاص، وصدق، ومحبة، ورهبة، وأتى بها في الوقت بشروطها وخشوعها وهيئاتها وجماعتها فقد أقامها، وإلا فلا.
الوصف الثالث: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] أي: ينفقون مما رزقهم الله من الأموال التي استخلفهم فيها، ويدخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكاة والكفارات والنفقة على الأولاد والزوجات وعلى الأقارب والمماليك والبهائم والعبيد والأرقاء، إلى غير ذلك.
الوصف الرابع: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] أي: يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب والحكمة: القرآن والسنة؛ لأن السنة وحي ثانٍ، ويؤمنون أيضاً بما أنزل من قبلك على الأمم السابقة، كالتوراة التي أنزلها الله على موسى, والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى, والزبور الذي أنزله على داود, وصحف إبراهيم وصحف موسى، وغيرها من الكتب التي لم تسم.
الوصف الخامس: قوله تعالى: وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] أي: لا يشكون، بل يتيقنون بالآخرة ويؤمنون بها، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، ويؤمنون بالبعث والجزاء والحساب والحشر والنشر، وما بعد تطاير الصحف والحوض والميزان والصراط والجنة والنار.
فهذه هي أوصافهم، وهؤلاء مؤمنون باطناً وظاهراً.
ثم بعد ذلك حكم عليهم سبحانه بالهداية في الدنيا والفلاح في الآخرة، فقال تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5] أي: هؤلاء هم المهديون الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم، وهداهم الله للحق والدين، واستقاموا على شرع الله ودينه، فهم على هدايتهم من ربهم، ليسوا ضالين كالنصارى ولا مغضوب عليهم كاليهود، بل هؤلاء أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، فعلموا ثم عملوا فصاروا مهتدين في الدنيا، وفي الآخرة لهم الفلاح كما قال تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] والفلاح: هو الحصول على المطلوب، والنجاة من المرهوب.
وأعظم ما يطلبه المسلم هو رضا الله عز وجل، والتمتع بدار كرامته وجنته، وأعظم ما يكره الإنسان ويخافه عذاب الله وسخطه والنار، فهؤلاء المتقون حصلوا على الفلاح، وحصل لهم ما يطلبون، ونجوا مما يخافون منه.
فهذه هي الآيات الأربع في صفات المؤمنين باطناً وظاهراً.
هذا الصنف الثاني، وهم الكفار ظاهراً وباطناً، وذكرهم الله في آيتين: الآية الأولى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] يعني: جحدوا توحيد الله، وجحدوا حق الله، والصواب أنهم لم يوحدوا الله، ولم يخلصوا له العبادة، فهم كفار.
ويسمى الكافر كافراً؛ لأنه ستر الحق، والكافر من الكفر وهو الستر والتغطية، وسمي الزارع كافراً؛ لأنه يغطي الحب في الأرض، وسمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي الحق ويجحده، والحق هو توحيد الله وإخلاص العبادة له، فجحوده الحق، وتركه لعبادة الله، وتكذيبه لله ولرسوله، صيره كافراً.
يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] هؤلاء الكفار لا يستفيدون من المواعظ ولا الإنذار، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يستفيدون، كما قال الله عن قوم هود وعاد: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136] أي: نحن مستمرون على كفرنا وعنادنا، قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136]، وهنا قال سبحانه سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6].
ثم بين الله جزاءهم لما تركوا الحق عناداً، فقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] .
فقوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) أي: جعل على القلوب ختماً، وعلى السمع ختماً معنوياً يمنع وصول الحق إليه، فلا يعون الحق، ولا يستمعون إليه، وإن كانوا يسمعون أمور الدنيا، لكن الحق لا يسمعونه ولا يعونه.
قال تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي: غطاء معنوي على الأبصار، فلا يرون الحق ولا يبصرونه، مع أنهم يبصرون أمور دنياهم في أكلهم وشربهم وبيعهم، لكن الحق لا يبصرونه؛ لأن على أعينهم غشاوة، عقوبة لهم وجزاء لما عملوا قال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].
وقال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] أي: جزاؤهم في الآخرة العذاب العظيم من الله، وهو عذاب الله والخلود فيها أبد الآباد، نسأل الله السلامة والعافية.
أي: ذكر الله في صفات المنافين الذين هم كفار في الباطن ومسلمون في الظاهر ثلاث عشرة آية.
الكفار ظاهراً وباطناً ذكرهم الله في آيتين؛ لوضوح أمرهم, أما العدو اللدود فهو المنافق الذي يعيش بين المسلمين، ولهذا فإن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يخطب في الناس ويقول: اتبعوا هذا النبي، وهو كذاب، هذا من النفاق، وكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدبر المؤامرات ويخطط الخطط للقضاء على الإسلام والمسلمين، وهذا العدو المستور الذي يلتبس أمره على كثير من الناس جلى الله صفاته حتى لا ينخدع الناس به، فذكر الله في ذلك ثلاث عشرة آية.
قال المؤلف: (إلى أن ضرب لهما مثلين أحدهما بالنار والآخر بالماء) أي: ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً، ومثلاً مائياً.
قال فيهم سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فهذا هو الوصف الأول: أنهم يؤمنون بألسنتهم ويكذبون بقلوبهم، فقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني: بألسنتهم، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني: بقلوبهم.
وهنا إشكال، وهو: كيف أثبت الله لهم الإيمان ونفاه عنهم، فهل هذا تناقص؟
والجواب: معاذ الله! فإن شرط التناقض اتحاد الجهة كما هو معروف عند المناطقة وغيرهم، والجهة هنا منفكة، فإذا ورد النفي والإثبات على محل واحد كان تناقضاً، لكن إذا كان النفي في جهة والإثبات في جهة فلا يكون هناك تناقض، لأن الجهة منفكة، وهنا الجهة منفكة عن الأخرى، فقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ أثبت لهم الإيمان من جهة اللسان.
وقوله تعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] نفى عنهم الإيمان من جهة القلب، فالإثبات مسلط على اللسان، والنفي مسلط على القلب، والمعنى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) بألسنتهم، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بقلوبهم، كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] فقوله: (قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه) أي: بألسنتهم, وقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) أي: بقلوبهم، نسأل الله العافية.
الوصف الثاني: قوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] ، فوصفهم الله بالخداع له وللمؤمنين، فيخادعون الله بإظهارهم الإيمان، ويظنون أن هذا ينفعهم، ويخادعون المؤمنين ويظنون أنه تنطلي مكائدهم وتدبيراتهم، وهي لا تنطلي، فالله تعالى عليم بأحوال الناس، والمؤمنون لابد أن يعلموا، إذ قد بين الله لهم وصف هؤلاء المنافقين.
وقوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] أي: أن خداعهم يعود على أنفسهم فيضرهم.
قوله: (وَمَا يَشْعُرُون) أي: وما يشعرون أن ضرر خداعهم راجع إليهم.
ثم جاءت الآية الثالثة فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] وهو مرض الشك والريب والتردد، فليس عندهم علم ولا يقين.
والمنافقون أقسام: منهم من هو مكذب، ومنهم من عنده شك وريب، ومنهم من يؤمن تارة ويكفر تارة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال تعالى: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] أي: إلى مرض الشبهة والشك، فالمرض مرضان: مرض جسمي، ومرض قلبي، فالمرض الجسمي أمره هين، وعلاجه عند الأطباء، والثاني مرض القلب، وهذا هو المصيبة.
ومرض القلب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة.
فمرض الشبهة والشك هو الأشد؛ لأنه مرض في الاعتقاد، وشك في العقيدة.
ومرض شهوة المعاصي كمن يحب الزنا والفواحش, ويحب الغناء، فهذا عنده مرض شهوة المعاصي، قال الله تعالى في سورة الأحزاب مخاطباً لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] أي: مرض الشهوة، فنهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لأنها إذا رخمت الصوت وحسنته طمع فيها الفاسق، لكن إذا تكلمت كلاماً عادياً لم يطمع فيها، وإن كانت المرأة مأمورة بخفض صوتها حتى لا يفتتن بصوتها فلا تخاطب إلا بقدر الحاجة وبقدر الضرورة، لكنها مع ذلك ليس لها أن تخضع بالقول.
فالمقصود أن مرض القلب مرضان: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأشدهما مرض الشبهة والشك؛ لأنه في العقيدة، وهذا هو الذي أصاب المنافقين، والعياذ بالله، قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]؛ لأن المرض يزيد وينقص، والكفر يزيد وينقص، والإيمان يزيد وينقص. قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] فتوعدهم الله بالعذاب بما كانوا يكذبون، حيث إنهم أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم مكذبة، فهم مكذبون.
الوصف الرابع: قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] هذا هو الوصف الرابع، وهو أنهم يفسدون في الأرض ويسمون إفسادهم صلاحاً.
أي: من صفات المنافقين أنهم يفسدون في الأرض وينشرون الفساد ويعلنونه ويرون ذلك صلاحاً، كذلك اليوم يسمون موالاة الكفار حضارة ومدنية وسياسة وتقدماً وما أشبه ذلك، مع أنه فساد، والواجب البراءة من الكفار, والواجب التوبة من المعاصي، فهم يظهرون المعاصي والكفر وموالاة الكفار ويسمون هذا إصلاحاً.
لقد حكم الله عليهم بقوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].
الوصف الخامس: قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] أي: يسمون الإيمان سفهاً، ويصفون المؤمنين بالسفه، ويصفونهم بضعف العقل والبصيرة والرأي، يقولون: هؤلاء سفهاء ضعفاء البصائر.
الوصف السادس: قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
في هذه الآية بين الله أن للمنافقين باطناً وظاهراً، ظاهراً مع المؤمنين، وباطناً مع رؤسائهم.
قوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم.
قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي رؤسائهم وكبرائهم وسادتهم.
قوله: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، أي: نحن معكم.
قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] أي: نستهزئ بالمؤمنين، وهم الصحابة، فقال الله تعالى رداً عليهم: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] هذا جزاء وعقوبة، فاستهزاء الله بهم في مقابلة استهزائهم هو صفة كمال في حق الرب، كما قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] فالله تعالى يوصف بالمكر في مقابلة مكرهم، والكيد في مقابلة كيدهم، قال عز وجل: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16] فقابلهم الله بهذه الصفات عقوبة لهم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] أي: أن هؤلاء اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، يعني: تركوا الهدى واعتاضوا عنه بالضلالة، فالشراء معناه الاعتياض.
قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] أي: بل هم الخاسرون.
أي: ضرب لهم مثلين: المثل الأول: مثلاً نارياً، والمثل الثاني: مثلاً مائياً.
المثل الناري قال فيه سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18].
أي: ضرب الله لهم مثلاً في كفرهم بعد وضوح الحق، وهؤلاء قوم وضح لهم الحق وآمنوا، ثم بعد ذلك كفروا بعد إيمانهم، فهؤلاء مثلهم مثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت النار وأبصر ما حوله وأمامه وما يخشاه أمن، ثم ما لبث أن انطفأت عليه النار فصار لا يرى شيئاً، ولا يبصر ما عنده ولا يعرف ما عنده، ولهذا قال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ [البقرة:18] أي: لا يسمعون الحق، بُكْمٌ [البقرة:17-18] أي: لا ينطقون بالحق، عُمْيٌ [البقرة:18] أي: لا يرون الحق، فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9].
هذا المثل الناري الذي ضربه الله للمنافقين الذين أبصروا الحق ثم عموا عنه، وآمنوا ثم كفروا فصاروا يتخبطون في الظلمات.
والمثل الثاني: المثل المائي الذي قال الله فيه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] الصيب: هو المطر وهذا المثل ضربه الله لطائفة أخرى من المنافقين عندهم شك وريب، يؤمنون أحياناً ويكفرون أحياناً، يؤمنون حين يلمع بهم الحق ويضيء، ولكن إيمانهم ضعيف، فإذا غاب عنهم الحق ولم يبصروه يكفرون، فشبههم بالصيب.
قوله تعالى: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] الرعد: الصواعق التي تصيبهم، والبرق: النور الذي يلمع ويضيء لهم أحياناً.
قال الله تعالى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] فإيمانهم تارة يظهر وتارة يختفي، ولهذا قال: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] يعني: إذا أضاء البرق مشوا، وإذا أظلم وقفوا، فهم في حيرة وتردد.
قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20].
هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (إلى أن ضرب لهم مثلين: أحدهما بالنار والآخر بالماء)، وبهذا انتهت الآيات في وصف المنافقين، من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20].
أي: فكذلك ضرب الله للمؤمنين مثلين: مثلاً مائياً ومثلاً نارياً في سورة الرعد، في قوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [الرعد:17] أي: ضرب الله مثلاً مائياً ومثلاً نارياً للحق في ثباته وبقائه، وللباطل في ذهابه وفنائه.
المثل الأول: المثل المائي قال فيه عز وجل: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي: المطر، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا منها الوادي الكبير ومنها الوادي الصغير، فالوادي الكبير يحمل ماء كثيراً، والوادي الصغير يحمل ماء قليلاً، كل بقدره.
قوله: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا [الرعد:17] أي: احتمل السيل الزبد وهي الفقاقيع التي تكون فوق الماء، ثم قال بعد ذلك: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17] أي: هذا الزبد سرعان ما يتبخر ويكون على شاطئ الوادي ويذوب، ويبقى الماء، فمثل للحق بالماء، ومثل للباطل بالزبد الذي يذهب جفاء.
المثل الثاني: المثل الناري قال فيه عز وجل: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17] أي: ضرب الله مثلاً بالحداد الذي يأتي بالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ويصهرها على النار ويذيبها، فتخرج منها الشوائب وهو الزبد المقصود في هذه الآية، ويبقى الذهب الصافي الخالص، فالذهب والفضة الصافي هذا مثل الحق فإنه يثبت، فأما الزبد والوسخ فإنه يذهب ويزول، والزبد والوسخ هو مثل الباطل في ذهابه وبطلانه.
إن أمثال القرآن أمثال عظيمة، وقد أكثر الله منها في كتابه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام ضرب أمثلة كثيرة، والأمثلة فيها فوائد عظيمة، وقد كان بعض السلف إذا لم يعرف المثل يبكي، ويقول: إن الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] أي: أني لست من العالمين.
أي: أن الناس كانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: مؤمن باطناً وظاهراً، وكافر باطناً وظاهراً، وكافر بالباطن مسلم في الظاهر، وكان هذا في المدينة بعد غزوة بدر، وأما قبل الهجرة، فلم يكن هناك إلا قسمان من الناس: مؤمن باطناً وظاهراً، وكافر باطناً وظاهراً، ولم يكن هناك منافق، لماذا لم يكن هناك منافق في مكة؟
قال المؤلف: (فإن المسلمين كانوا مستضعفين؛ فكان من آمن آمن باطناً وظاهراً، ومن لم يؤمن فهو كافر)، أي: باطناً وظاهراً؛ لأن الكفار كانوا أقوياء يعلنون كفرهم ليسوا بحاجة إلى أن يخفوا ذلك الكفر، لكن عندما تقوى المؤمنون في المدينة خاف المنافقون فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ ولهذا قال المؤلف: (فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصار للمؤمنين بها عز وأنصار).
أي: بعد أن صالح النبي صلى الله عليه وسلم قبائل اليهود في المدينة ووادعهم، وكانوا ثلاث قبائل: بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج، وبني قريظة وبني النضير وكانوا حلفاء الأوس، ودخل أكثر الأنصار في الإسلام، ووقعت غزوة بدر، حينها تقوى المسلمون، وخذل الله الكفار، مما جعل بعض الأوس والخزرج الذين ليس في قلوبهم إيمان يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، حتى قال عبد الله بن أبي : هذا أمر قد توجه، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر.
وكان عبد الله بن أبي بن سلول رئيساً في المدينة، وكان أهل المدينة قبيل الهجرة يصنعون له الخرز ليتوجوه ملكاً عليهم، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فاته ذلك، فشرق بالإسلام، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر، وتبعه على ذلك بعض الناس، فصاروا منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ خوفاً من القتل وسلب الأموال.
أما في مكة فلا حاجة إلى إظهار الإسلام وإبطان الكفر؛ لأن الكفار كانوا أقوياء والمسلمين كانوا ضعفاء قلة، بل إن بعض المسلمين كان يخفي إسلامه خوفاً من الكفار، فقد كان بلال وعمار وغيرهما يعذبون.
قوله: (ودخل جمهور أهلها في الإسلام طوعاً واختياراً)، أي: جمهور الأوس والخزرج.
قوله: (كان بينهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم من أظهر الإسلام) يعني: نفاقاً.
قوله: (موافقة رهبة أو رغبة، وهو في الباطن كافر، وكان رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول ، وقد نزل فيه وفي أمثاله من المنافقين آيات) أي: كالآيات التي في سورة البقرة وغيرها.
يذكر القرآن المؤمنين والمنافقين في مواضع كثيرة، كما ذكرهم في سورة البقرة، وذكرهم في سورة آل عمران، كما سيبين المؤلف رحمه الله في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156] إلى أن قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167].
وذكرهم أيضاً في سورة النساء في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60] وقال: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، إلى قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
وكذلك في سورة المائدة: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] وفي سورة العنكبوت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] وفي سورة الأحزاب ذكر كثيراً من أوصافهم، قال الله تعالى: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13].
وكان هؤلاء المنافقون في المدينة وفي البوادي التي حول المدينة، كما قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ [التوبة:101] يعني: ومن أهل المدينة منافقون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان في المنافقين من هو في الأصل من المشركين وفيهم من هو في الأصل من أهل الكتاب ].
يعني: بعض المنافقين كانوا في الأصل مشركين وهم من الأوس والخزرج الذين دخلوا في الإسلام نفاقاً، حيث أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ وذلك لما تقوى الإسلام خافوا من القتل فأظهروا الإسلام وأبطنوا الشرك، وبعض المنافقين كانوا في الأصل من اليهود والنصارى كما أخبر الله عنهم في سورة البقرة قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78]، أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:75-76].
إذاً: المنافقون لهم ظاهر وباطن، فقد يكون مشركاً في الأصل فيخاف من القتل فيظهر الإسلام ويبطن الشرك، وقد يكون من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيخاف ويظهر الإسلام ويبطن اليهودية أو النصرانية.
ذكر الله المنافقين في كثير من السور، بل في عامة السور المدنية، منها: سورة الفتح، قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6].
ومنها: سورة القتال وتسمى سورة محمد، فقد ذكر الله فيها كثيراً من صفات المنافقين، قال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9].
ومنها: سورة الحديد، قال عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13].
ومنها: سورة المجادلة، قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14].
ومنها: سورة الحشر، قال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر:11].
وسورة (المنافقون) فهي سورة كاملة باسمهم، قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] إلى آخر السورة.
يقول المؤلف: (بل عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقين) بخلاف السور المكية التي نزلت قبل الهجرة ليس للمنافقين فيها ذكر؛ لأن النفاق إنما ظهر بعد الهجرة.
قال الله تعالى في سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156].
نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكفار الذين يقولون لإخوانهم المنافقين: لو كانوا عندنا ولم يحضروا المعركة لما ماتوا ولما قتلوا، فرد الله عليهم بقوله في الآية الأخرى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154].
ثم قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167] أي: ليعلم الذين نافقوا أن القتال يظهر فيه المؤمن الصادق من المنافق الكاذب.
ثم قال تعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167] أي: إذا قيل لهم: قاتلوا قالوا: لو كنا نعلم أن هناك قتالاً لاتبعناكم، فرد الله عليهم بقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167] فمن أوصاف النفاق أن القلوب تختلف عن الألسنة، فهم يقولون بأفواههم هذا القول لكن قلوبهم مكذبة لأقوالهم.
الآية الأولى فيها تحذير من المنافقين واتخاذهم بطانة يفشى إليهم الأسرار ويؤتمنون، فالله تعالى نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة من الكفار؛ لأنهم أعداء لا يؤتمنون، فقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] يعني: من غير المؤمنين، أي: لا تتخذوا بطانة من اليهود ولا النصارى ولا الوثنيين ولا الشيوعيين وغيرهم، فكل هؤلاء أعداء.
قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118] يعني: لا يقصرون في الشر والعداوة والإيذاء وإيصال الضرر إليكم؛ لأنهم أعداء.
قوله: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118] يعني: يودون الشيء الذي يعنتكم ويشق عليكم ويعييكم، فهم يفرحون به ويتمنونه.
قوله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118] أي: تخرج كلمات وتفلت من ألسنتهم تدل على عداوتهم.
قوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] أي: من شدة ما في قلوبهم من الغيظ والنفاق تبدو أحياناً على اللسان الكلمات التي تدل على ما في صدورهم من الشر والعداوة؛ لأنه إذا امتلأ صدره شراً وعداوة، فإنه كالقدر الممتلئ لا بد أن يفور ويظهر شيء منه.
وهذا موجود في القديم وفي الحديث، فبعض الكفرة وبعض رؤسائهم يصرح مثلاً بالعداوة والحرب على الإسلام والمسلمين، ويعلنها حرباً صليبية وما أشبه ذلك، فتبدو على فلتات ألسنتهم، كما قال الله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] أي: الذي في صدروهم من الغيظ والعداوة والبغضاء أكبر وأعظم مما يظهر على ألسنتهم.
ثم قال الله: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] أي: إن كنتم تعقلون ما ينفعكم وما يضركم، فالله تعالى قد بين لكم.
ثم قال بعد ذلك: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119] هذه الآية فيها دلالة على أن النفاق يكون في أهل الكتاب.
ثم قال سبحانه بعد ذلك: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [آل عمران:120] أي: إذا أصابكم نصر وعز وسلامة وغنيمة ساءهم ذلك، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:120] أي: إذا أصابكم جدب وقحط وهزيمة فرحوا بذلك.
ثم قال الله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] لو طبق المسلمون هذه الآية لانتصروا على الكفار، فلابد من صبر وتقوى، والتقوى هي توحيد الله وإخلاص الدين له وأداء الواجبات وترك المحرمات، ومن ذلك إعداد العدة للكفرة، والجهاد بالعدة الروحية والمعنوية والحسية، والأسلحة المناسبة في كل وقت وفي كل زمان والتدرب عليها مع الإيمان والتقوى.
وما أصاب المسلمين من كيد الكفار فهو بسبب التقصير في الشرع، إما التقصير في الصبر أو التقصير في التقوى.
قوله: إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] أي: لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فهم في قبضته وتحت تصرفه، فلا يضركم كيدهم بشرط الصبر والتقوى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر