هذا هو الدليل الأول على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله أمر بقطع يد السارق ولم يأمر بقتله، ولو كان السارق كافراً كما يقول الخوارج لوجب قتله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فدل هذا على أن الخوارج مذهبهم باطل، وعلى أن العاصي والسارق ليس بكافر، ولكنه مؤمن ناقص الإيمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل بها) ].
هذا الحديث روي عن عثمان وهو محصور في الفتنة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم ، وهو صحيح، وفيه أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا إذا فعل واحد من الثلاث: إذا ارتد، أو زنا وهو محصن، أو قتل نفساً بغير نفس، والعاصي كالسارق لا يقتل، وإذا زنا وهو محصن يرجم بالحجارة حتى يموت حداً، وإذا قتل عمداً عدواناً يقتل قصاصاً، وإذا ارتد يقتل، وما عدا هذه الثلاثة فلا يحل دمه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما ].
هذا هو الدليل الثاني على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الزاني والزانية يجلدان ولا يقتلان، ولو كان العاصي كافراً كما تقول الخوارج لوجب قتل الزاني والزانية، والله تعالى يقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأمر سبحانه أن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافراً لأمر بقتله ].
هذا هو الدليل الثالث على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله تعالى أمر بجلد القاذف، والقاذف فاسق وعاصي، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ولم يقل فاقتلوهم، ولو كان القاذف كافراً لوجب قتله كما تقول الخوارج.
هذا هو الدليل الرابع على بطلان مذهب الخوارج: أن شارب الخمر يجلد ولا يقتل ولو كان كافراً لوجب قتله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: (أن رجلاً كان يشرب الخمر وكان اسمه
في لفظ آخر: كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً ، وهذا الرجل كان كثيراً ما يؤتى به ويجلد في الخمر، فأتي به مرة من المرات وجلد، فقال رجل: لعنه الله، وفي لفظ آخر: (أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ ولأن الحد طهارة يطهره من الذنب، فإذا أقيم عليه الحد طهر، والتوبة طهارة.
والمرأة الغامدية وماعز جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين، وأقيم عليهما الحد، فاجتمع لكل منهما طهارتان: طهارة التوبة، وطهارة الحد.
وهذا الحد يطهره؛ ولهذا لما لعنه الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ لأن عنده أصل الإيمان، وكل مؤمن عنده أصل المحبة لله ورسوله، فمن لم يحب الله ورسوله فهو كافر، ولا تنتهي محبة الله ورسوله إلا إذا جاء الشرك، والعاصي عنده أصل المحبة، ولذلك اتقى الشرك بسبب حبه لله ورسوله، فإذا جاء الشرك انتهت محبة الله ورسوله نعوذ بالله.
فهذا الرجل وإن كان قد جلد في الخمر فعنده أصل المحبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه يحب الله ورسوله)، فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن شارب الخمر عموماً فقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها وساقيها)، وهذا على العموم، وفرق بين اللعن للعموم ولعن الخصوص، ففي العموم لا يوجد مانع فلك أن تقول: لعن الله اليهود والنصارى، ولعن الله السارق، كما في الحديث: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)، ولعن الله شارب الخمر.
لكن فلان بن فلان السارق، وفلان بن فلان شارب الخمر لا يلعن بعينه على الصحيح؛ لأن الشخص المعين قد يتوب، وقد يكون لم يعلم الحكم، وقد يعفو الله عنه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتي به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز ].
المؤلف رحمه الله استطرد لما ذكر قصة هذا الرجل الذي كان يؤتي به كثيراً ويجلد في الخمر، والجواب عن الحديث الذي ورد: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه) الصواب: أن قتله في الرابعة منسوخ، ودليل ذلك أن هذا الرجل كثيراً ما يؤتي به فيجلد في الخمر ولم يقتله، أي: أنه أتي به مرات كثيرة فيجلد، فلو كان القتل باقياً لقتله، فلما لم يقتله دل على أن الأمر بقتله منسوخ.
أي: أن الأمر بقتله منسوخ لكن إذا رأى الإمام المصلحة في قتله من باب التعزير، وأنه لا يندفع الشر إلا بذلك، كما إذا كثر الناس وتجرءوا على شرب الخمر وأكثروا من شربه، فلا بأس أن يقتلهم الإمام في الرابعة تعزيراً لا وجوباً.
كما أن عمر رضي الله عنه لما تتابع الناس في الطلاق في الثلاث ألزمهم بطلاق الثلاث تعزيراً فصار يوقع الثلاث، وكان الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة، فلما تتابع الناس في الطلاق وأكثروا منه في زمن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس استعجلوا شيئاً لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ردعاً لهم حتى لا يتجرءوا، فصار من طلق بالثلاث يوقع عليه الثلاث.
فكذلك شارب الخمر يجلد ثم يجلد ثم يجلد، لكن إذا تتابع الناس ولم يرتدعوا فلا بأس أن يقتل الإمام في الرابعة تعزيراً وردعاً للناس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين يرجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة كغيرها في أنواع التعزير ].
شارب الخمر جاء في الحديث أنه يجلد أربعين، فكان شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يجلد أربعين جلدة، فلما تتابع الناس استشار عمر الصحابة، فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانين، فجلده عمر ثمانين.
فالزيادة من أربعين إلى الثمانين اجتهاد، فكذلك للإمام أن يجتهد إذا تتابع الناس وأكثروا من شرب الخمر فيقتل شارب الخمر ردعاً وتعزيراً، كما أنه يزيد من الأربعين إلى الثمانين تعزيراً .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك صفة الضرب فانه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب ].
وصفة الضرب كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، جاء في الحديث: (أتي برجل شرب الخمر، قال: فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، حتى عد أربعين).
فكما أنه للإمام أن يجتهد فيجلد من الأربعين إلى الثمانين، كذلك يجتهد في صفة الضرب فبدل أن يكون بالثياب والنعال يضرب بالجريد كما فعل الصحابة، وكذلك أيضاً للإمام قتله تعزيراً واجتهاداً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بخلاف الزاني والقاذف ].
الزاني يجلد مائة ولا اجتهاد فيه، والقاذف يجلد ثمانين بنص القرآن كما قال تعالى في الزاني: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وفي القاذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].
أما شارب الخمر فالزيادة على الأربعين اجتهاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجوز أن يقال: قتله في الرابعة من هذا الباب ].
يجوز أن يقال إن قتل شارب الخمر في الرابعة من باب التعزير اجتهاداً، بخلاف الزاني والقاذف، فهذه جملة معترضة.
فقد وصفهم بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم ].
ما زلنا في ذكر المرجحات والأدلة التي تدل على أن من وصفوا بالإسلام دون الإيمان في النصوص هم ضعفاء الإيمان، وأنهم لم يخرجوا من دائرة الإسلام، خلافاً لمن قال إنهم منافقون.
وقد سبق ذكر مرجحات منها: أن الحرف (لما) في قوله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده.
ومنها أنه قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14].
فأثبت لهم طاعة لله ورسوله فدل على أنهم مؤمنون وليسوا منافقين، ومنها أن الله وجه الخطاب إليهم، ولو كانوا منافقين لكان هذا خلاف مدلول الخطاب.
ومن المرجحات المذكورة هنا قول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم مثل الفاسق، وفيها قولان لأهل العلم: من العلماء من قال: يجوز لعن الفاسق بعينه، ويجوز لعن الكافر بعينه.
والقول الثاني:أنه لا يلعن الفاسق ولا الكافر بعينه وإن كان ميتاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا)، أي: ولو كان ميتاً فلا تسبوه بعينه فإنه أفضى إلى ما قدم، وإذا كان حياً فكذلك؛ لأنه قد يجوز أن يتوب الله عليه، إلا إذا اشتد أذى الكافر للمسلمين في الحياة فيجوز لعنه، وكذلك إذا كان الميت الكافر أو الفاسق صاحب بدعة، فتحذر الناس من هذه البدعة ولو كان فيه سب له؛ لأن هذا فيه مصلحه للأحياء.
أما إن لم يكن صاحب بدعة فلا يلعن على الصحيح لا الكافر بعينه ولا العاصي بعينه، وإنما يلعن بالعموم، فتقول: لعن الله السارق أي: جنس السارق، لعن الله شارب الخمر أي: جنسه، لعن الله القاذف، أي: جنسه، لعن الله الكافر أي: جنس الكافر، أما فلان بن فلان الكافر فلا يلعن؛ لأنه أفضى إلى ما قدم إن كان ميتاً، وإن كان حياً فلعل الله أن يهديه فيدعى له بالهداية، ولما عصت دوس، فقيل: يا رسول الله! إن دوساً أبت وعصت فادع الله عليهم، فقال أحد الصحابة: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم)، فهداهم الله وجاءوا مسلمين.
فالمقصود: أن لعن المعين سواء كان كافر أو فاسقاً فيه قولان لأهل العلم: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز.
والصواب من القولين: أنه لا يجوز لعن المعين الفاسق ولا الكافر، إلا إذا كان الميت كافراً أو فاسقاً أو صاحب بدعة فيحذر الناس من بدعته؛ لأن فيه مصلحة للأحياء، وإلا إذا اشتد أذى الحي منهم على المسلمين الأحياء فلا بأس بلعنهم والدعاء عليهم والقنوت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على رعل وذكوان، ودعا على شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة في الصلاة وقال: اللهم اللعن فلاناً وفلاناً؛ لأنه اشتد أذاهم للمسلمين.
الجواب: لا أعلم له دليلاً وإنما تقوم في أي وقت، قال بعض السلف: يقوم إذا رأى الإمام، لأنه قد يكون بينه وبين الإمام علامة فيقيم والإمام في البيت إذا كان بيته قريباً ثم يأتي، فيشق على الإنسان، فإذا رأى الإمام قام، وهذا هو الأولى، وإن قمت فلا حرج لكن هذا فيه مشقه عليك، ولا يوجد تحديد للقيام.
الجواب: هذا الرجل الذي نكح زوجة أبيه استحلها فكفر بالاستحلال؛ ولذلك عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً للبراء وأمره بأن يذهب إليه ويقتله ويأخذ ماله لكفره؛ لأنه رأى أن زوجة أبيه حلال واستحلها ونكحها.
مثل من استحل الخمر، فقال: الخمر حلال، أو الربا حلال، أو الزنا حلال فهو كافر، أو قال: نكاح زوجة الأب حلال فيكفر، فهذا الرجل استحل نكاح زوجة أبيه ونكحها مستحلاً لذلك، فلهذا كفر، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً للبراء وأمره أن يقتله ويأخذ ماله لكفره وضلاله، فمن استحل الكبيرة المعلومة من الدين بالضرورة كفر، وإذا لم يستحلها كان عاصياً، لكن هذا استحلها.
الجواب: شيخ الإسلام قال: إن الصحابة عاملوا الخوارج معاملة أهل البدع والعصاة لا معاملة الكفرة؛ لأنهم متأولون، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
والقول الثاني لأهل العلم: أنهم كفار وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا بظواهر الأحاديث كما قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وفي لفظ: (ثم لا يعودون إليه)، وفي لفظ: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد - أو قتل ثمود -)، شبههم بـعاد وثمود وهم قوم كفار، فدل على كفرهم، والجمهور والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة.
ولا يقال: إن معاملة الصحابة رضي الله عنهم للخوارج كفساق قبل أن يقيم ابن عباس رضي الله عنهما عليهم الحجة، وبعد إقامة الحجة من لم يرجع عن مذهبه فهو كافر؛ لأنهم متأولون وبعضهم بقي على شبهته.
الجواب: نسأل الله السلامة والعافية، فهذا تعدى مذهب الخوارج، كيف يقال: المجاهد في سبيل الله خارجي؟ ومن أنكر المنكر خارجي؟
والله تعالى يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، فالذي يعتقد أن من ينكر المنكر يكون خارجياً فهو مصادم للنصوص، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى أثنى على المجاهدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:10-12].
وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، أفبعد هذه النصوص الآن في الثناء على المجاهدين يقال للمجاهد خارجي؟!
وكذلك الذي ينكر المنكرات أيكون خارجياً! قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فالخيرية حصلت في هذه الأمة بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف يقال للذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: خارجي، ما يقول هذا إلا فاسد العقيدة، أو جاهل جهلاً مركباً.
الجواب: لا بأس به فهو جائز مباح، لكن تركه أولى، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلق إلا في حج أو عمرة، قال الإمام أحمد رحمه الله: هو سنة، أي: ترك الرأس وإبقاء الشعر، لو نقوى عليه لا تخذناه، لكن له كلفة ومشقة، جاء في الحديث: (ومن كان له شعر فليكرمه).
فالسنة تربيته اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، لكن يحتاج إلى تعب ومشقة من غسل ودهن وشد، فهذا لا نقوى عليه، وحلقه مباح.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي رآه حلق بعض رأسه وترك بعضه: (احلقه كله أو اتركه كله) فهو مباح؛ لكن الأفضل تركه إذا كان يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أما إذا أراد أن يقلد الفسقه أو يقلد -كما يقال- طائفةً من الخنافس، وقد كان قبل سنوات طائفة تسمى الخنافس يربون شعورهم في بريطانيا وفي غيرها، فإذا كان قصده أن يقلد الكفرة فهذا شيء آخر، أما إذا أراد أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم فشيء طيب.
وقد تجد بعض الناس يحلق لحيته ويربي شعره، فإذا قلت له: لماذا تربي شعرك؟
قال: أقتدي بالرسول، فيقال له: تقتدي بالرسول في إبقاء شعر الرأس وأنت تحلق لحيتك،
فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، وهو كما قال الإمام أحمد سنة، فيكون متبعاً للسنة، وحلقه جائز لا بأس به.
وإذا كان شعره كشعر الفسقة أو كان الإنسان شاباً يخشى عليه من الفتنة فحلقه أفضل في هذه الحالة، حتى يبتعد عن شعار الفسقة وحتى يسلم من الشر؛ لأنه قد يكون الشاب إذا فرد شعره وهو أمرد وليس له لحية قد يخشى عليه من بعض الفسقة.
الجواب: نعم، صاحب الدين من الغارمين، قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60].
من عليه دين هو الغارم، والغارمون صنفان:
الصنف الأول: غارم لمصلحة نفسه، وهو الذي عليه ديون من أجل النفقة على نفسه، والكسوة لنفسه وأهله وأولاده وأجرة السكن، فهذا يعطى ما يكفيه لمدة سنة من نفقة وكسوة وأجرة مسكن.
والثاني: غارم لإصلاح ذات البين، كالذي يصلح بين الناس ويتحمل في ذمته ديوناً، فيصلح بين القبائل أو بين الأشخاص ولا يصطلحون إلا إذا تحمل، فيأتي إلى القبيلتين بينهما شر فيقول: أنا أتحمل، ويعطي هؤلاء مائة ألف وهؤلاء مائة ألف حتى يصطلحون، ويتحملها في ذمته، فهذا يعطى من الزكاة ما يسدد هذه الديون ولو كان غنياً؛ تشجيعاً له على هذا العمل النبيل، وقد كان هذا في الجاهلية وأقره الإسلام، قال الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
الجواب: هذا المستدل جهله مركب، فإبليس ليس كفره بالمعصية بل كفره بالإباء والاستكبار، والإباء والاستكبار نوع من أنواع الكفر، فالكفر أنواع:
منها: التكذيب، فمن كذب الله ورسوله كفر، ومنها: الإباء والاستكبار، وهو: أن يتلقى أمر الله وأمر رسوله بالإباء والاستكبار، بالرفض لا بالتكذيب.
وإبليس ما كذب الله، فالله تعالى قال: اسجدوا لآدم، وهو وامتنع واعترض على الله، وقال: لا يمكن أن أسجد لآدم؛ لأن عنصري أحسن من عنصر آدم ، فعنصر آدم الطين، وأنا عنصري النار، والنار خير من الطين، ولا يمكن أن يخضع الفاضل للمفضول كما قال تعالى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
فإذاً: كفر إبليس بالرفض والإباء والاستكبار، وليس بمعصية. واليهود يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، فكفرهم بالإباء والاستكبار.
وكفر أبي طالب عم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
كان بالإباء والاستكبار، فكان مستكبراً عن عبادة الله، وحملته الحمية أن يكون على دين قومه، فكان مستكبراً عن عبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفره بالإباء والاستكبار.
فإبليس كفره بالإباء والاستكبار وهو نوع من أنواع الكفر، والكفر أنواع منها: كفر التكذيب، وكفر الإباء والاستكبار، وكفر الإعراض، وكفر الشك، وكفر الرفض، وقد يكون بالاعتقاد، بأن يعتقد أن لله صاحبة أو ولداً، أو يكذب الله ورسوله، كما يكون بالقول كأن يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهزئ بالله وبرسوله، وكفر يكون بالعمل كالسجود للصنم، وكفر بالرفض والامتناع كأن يعرض فلا يتعلم دين الله ولا يعبد الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، فإبليس كفره بالإباء والاستكبار.
الجواب: أن الواجب على المسلم أن يترضى على الصحابة، وأن يكف اللسان عن ما صدر منهم، وأن يعتقد أن ما حصل بينهم كما قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: الأخبار التي تروى عن الصحابة منها ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنها ما له أصل لكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، ومنها ما هو صحيح، والصحيح هم فيه ما بين مصيب له أجران، ومخطئ له أجر.
ويجب على الجميع أن يعتقد أن الصحابة أفضل الناس وخير الناس لا كان ولا يكون مثلهم، وهم قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فهم أفضل الناس وخير الناس، سبقونا إلى الإيمان والجهاد، وحملوا الشريعة، وبلغوا دين الله، فلهم من الحسنات والسبق إلى الإيمان وتبليغ دين الله ونشر الإسلام ما يغطي ما صدر منهم من الهفوات.
ولما أراد بعض العلماء أن يقارن بين عمر بن عبد العزيز وورعه ومعاوية بن أبي سفيان ، قال: عمر بن عبد العزيز له إيمانه وتقاه وورعه، لكن ليس له مزية الصحبة فلا يلحق الصحابة، والصحابة لهم مزية الصحبة ولا يلحقهم من بعدهم إلى يوم القيامة، ولهم مزية الجهاد في سبيل الله مع الرسول عليه الصلاة والسلام والسبق إلى الإسلام، وهي مزية لا يمكن أن يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا لما جاء في الحديث أن: (الصابر على دينه له أجر خمسين من الصحابة)، قال العلماء: له أجر خمسين في ناحية الصبر، لكن ليس معناه أنه أفضل من الصحابة، فالصحابة فاقوا عليه بالجهاد، وفاقوا عليه بالصحبة، وفاقوا عليه بنشر دين الله، لكن في هذه الخصوصية فقط.
ولهذا قال بعض العلماء: الغبار الذي دخل في أنف معاوية في جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم يعدل ورع عمر بن عبد العزيز ، فالصحابة لا كان ولا يكون مثلهم، فهم خير الناس وأفضل الناس بعد الأنبياء.
ثم أيضاً باب التوبة مفتوح، ولهم من الحسنات والمصائب التي يشاركون الأمة فيها، فكيف بعد هذا يكون مسلم يؤمن بالله ورسوله يسب الصحابة أو يكفرهم أو يضللهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر