فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب، وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله؛ ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب.
قال بعضهم لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان.
وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب) ].
ثم ذكر اعتراضاً على القول: بأن الحسنات تمحو السيئات، لما استدل بالنصوص: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، و: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، و: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وهذه كلها حسنات ماحية تسقط بها عقوبة الذنب، وذكر الاعتراض من بعض الناس وقولهم: إن هذا إنما يكون إذا اجتنبت الكبائر؛ لأن الحديث مقيد: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
فالحسنات الماحية إنما تخص الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة؛ بدليل أنها قيدت باجتناب الكبائر: (إذا اجتنبت الكبائر)، في حديث: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وفي حديث الوضوء لما ذكر في الحديث أن الوضوء يكفر السيئات قال: (ما لم تصب المقتلة)، والمقتلة هي الكبيرة.
أجاب المؤلف رحمه الله عن هذا الاعتراض بأجوبة:
الجواب الأول: أن شرط اجتناب الكبائر إنما جاء في الفرائض خاصة: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان)، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر.
الجواب الثاني: أنه قد جاء التصريح في بعض النصوص بأن المغفرة تكون مع الكبيرة، كحديث: (غفر له وإن فر من الزحف)، وحديث الرجل الذي أوجب، أي: فعل ذنباً أوجب له النار قال: (اعتقوا عنه يعتق الله عنه بكل عضو منه عضواً من النار)، وحديث أبي ذر : (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق)، فهذه كبائر.
الثالث: حديث حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين فقال عمر : (دعني أضرب عنقه، قال: وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فهذه كبيرة، وسماها الله تولياً، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1].
الجواب الرابع: أنه جاء في الحديث: (أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت به الفرائض)، وهذه التطوعات التي تكمل النقص في الفرائض تكمل الواجب ولا تكمل المستحب، فالمستحب إذا ترك لا يحتاج إلى جبران، وهذا يدل على أنه ترك واجباً من واجبات الصلاة فتجبره النوافل، فدل على أن النوافل لها شأن، وأن الحسنات من التطوعات والأعمال الخيرية يجبر الله بها الواجبات في الصلاة، وكذلك الزكاة والصوم والحج.
ثم ذكر المؤلف اعتراضاً على هذا، وهو: إن الصلاة إذا نقص شيء من واجباتها كمل هذا الواجب من النوافل، واعترض على ذلك؛ لأن العبد إذا نام عن الصلاة أو نسيها فإنه جاء في الحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فلو كان لها بدل من التطوعات ما وجب عليه القضاء، ولو كانت التطوعات تكفي عن الواجبات لكان من نام عن الصلاة أو نسيها نقول له: صل بدلها تطوعات، ولهذا قال المؤلف: قيل هذا خطأ، كونه يترك الفريضة كاملة اكتفاء ببدلها من التطوعات، وإنما هذه تطوعات يكمل بها النقص الذي يحصل في الصلاة، لا أن التطوعات تكفي عن الصلاة.
فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة فليس معنى ذلك أنه ينهى عن الفعل ويقال له: لا تفعل الواجبات اكتفاء بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات؛ لأن المسلم مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ ولأن ترك الواجب وفعل المحرم سبب للعقوبة، فكون الإنسان يترك الواجب أو يفعل المحرم يتسبب في عقوبته ويتسبب في ذمه، وإن كان يجوز أن تسقط عنه هذه العقوبة بمسقط من المسقطات وهي التوبة، أو الاستغفار، أو الحسنات الماحية، أو دعاء المؤمنين والصدقات، أو غير ذلك، فليس معنى ذلك: أن الإنسان يترك الواجب اكتفاء بالمسقط؛ لأن الإنسان المسلم مكلف بفعل الأوامر وترك النواهي، وإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي فقد عرض نفسه للعقوبة؛ ولأنه قد لا يوفق لمسقط من مسقطات العقوبة، وإن كان يجوز أن تسقط عنه العقوبة لسبب من الأسباب، ومثله من يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية.
فنقول للإنسان: اتق السموم القاتلة، ولا تأكل السم؛ لأن السم يقتلك فلا تتناوله، وإن كان يجوز إذا تناول سماً قاتلاً أن يأتي بأدوية ترفع هذا السم فلا يموت.
وهذا مثل من يقول: أنا أترك الواجب أو أفعل المحرم اكتفاء بأني أفعل ما يسقط هذه العقوبة عني، فنقول: يمكن أن تجد أدوية ترفع هذه السموم ويمكن ألا تجد، ثم كون الإنسان يكون سليماً من السم ليس كمن أكل السم أو تناول السم ثم أتى بشيء يرفعه فارتفع، فالأول أكمل حالاً وأحسن، وقد لا يوفق الإنسان لأدوية ترفع السم، كما أن الإنسان مأمور بفعل الأوامر وترك النواهي، فإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي تسبب في العقوبة، وقد تسقط العقوبة بسبب من الأسباب لكن قد لا يوفق لمسقط للعقوبة؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لأن الإخلال بفعل الواجبات وترك المحرمات سبب للذنب والعقاب وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم -أي: أمر العباد- بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم)، فالأوامر فيها صلاح للناس، والنواهي فيها سبب لفسادهم وسلب أحوالهم في الدنيا والآخرة، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته سبحانه وتعالى، فمن زلت به القدم بفعل الكبيرة أو المعصية أو ترك الواجب لم يؤيسه الله من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، فأمر العباد بما فيه صلاحهم وهو فعل الواجبات، ونهاهم عما فيه ضررهم وهو المحرمات، فيجب على المسلم أن يجاهد نفسه حتى يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا زلت به القدم وترك الواجب أو فعل المحرم فالله تعالى لا يؤيسه من رحمته، بل جعل أسباباً إذا فعلها سقطت هذه العقوبة، وكمل الواجب الذي أخل به، ورفعت العقوبة عن المحرم الذي فعله؛ ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصيه، فلا يقول: إن من فعل المعصية أو الكبيرة هالك ولا حيلة له، كما تقول الخوارج إن من فعل الكبيرة كفر وخلد في النار، بل يقول: إن الله جعل أسباباً ترفع العقوبة، فتب إلى الله من هذه المعصية، واستغفر، وافعل الحسنات، وهو كذلك لا يجرئهم على معاصي الله، فلا يقول: الأمر سهل وبسيط، ترك الواجب سهل، فعل المحرم سهل، التوبة تكفي والاستغفار يكفي، فلا نجرئ الناس على معاصي الله ولا نؤيسهم من رحمة الله.
وهذا كما جاء في الحديث الذي مر بنا لما وقع العبد في الذنب قال: (إني أذنبت ذنباً فتب علي يا رب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ، قد غفرت لك، ثم أذنب فقال: رب أذنبت، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)، وهكذا ثم قال في آخر الحديث: (فليفعل ما شاء) أي: أنه كلما أذنب تاب، والمعنى: أن التوبة مقبولة إذا تاب توبة نصوحاً، وليس معنى ذلك: أنه أذن له بالمعاصي.
قول المؤلف: (وفي المسند عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب) في بعض الألفاظ بدل المفتن: المفتقر، هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، قيل بضعفه، وقيل: إن إسناده ضعيف، وقيل: إن في إسناده راوياً لم يسم، وهو ضعيف جداً؛ لكن المؤلف رحمه الله ذكره لشواهده، ومن شواهده قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
وهو في المسند وهو من زيادات عبد الله ، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده ضعيف جداً، ورواه أبو يعلى في مسنده، والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه عبد الله وأبو يعلى وفيه من لم أعرفه، ولفظه: (إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب)، والمفتن بفتح التاء المشددة: هو الذي يفتن ويمتحن بالذنوب، ورواه في الحلية بلفظ: المفتقر بدل المفتن.
وعلى كل حال: الحديث وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد من القرآن ومن السنة، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]. نعم.
فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريدون أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه ].
هذا أيضاً جواب آخر عن الاعتراض، الجواب الأول: أنه وإن كانت له استطاعة على الذنب فإن الإنسان مأمور بأداء الواجبات وترك المحرمات، ولا يكلف بترك الواجب أو بفعل المحرم لاعتماده على أن له ما يمحوه.
وجاء الجواب الثاني عن هذا الاعتراض: وهو أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الإنسان عندما يستيقظ من النوم بدون اختياره ومن النوم الذي يكون معذوراً فيه كمن يجعل أسباباً توقظه كمنبه الساعة أو بعض أهله، فهذا معذور، ومتى استيقظ صلى، فهذا عمل بأسباب يريد أن يصلي الفرض في وقته فإذا نام مبكراً، وجعل أسباباً توقظه، لكن فاته الفرض دون اختياره، أما إنسان لا ينام إلا متأخراً أو يؤقت الساعة على موعد العمل ويستيقظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا ليس بمعذور، فهو تعمد ترك الصلاة؛ ولهذا لما نام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال: (من يكلؤ لنا الصبح؟ قال
ومن أخر الصلاة عن وقتها بعذر فكفارتها أن يصليها وقت ما يذكر، وكذلك الناسي؛ لأن الإنسان يعذر بالنوم والنسيان، فحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة الصلاة التي أخرت عن وقتها بالنوم أو بالنسيان أن يصليها حال استيقاظه وحال تذكره، وتبرأ بها الذمة فلا يطالب بها يوم القيامة، فلا يقال: صليت في غير وقتها، ويرتفع عنه الذم والعقاب، لا يذم شرعاً ولا عقلاً، وليس عليه عقوبة، ويستوجب بذلك المدح والثواب؛ لأنه أدى الفريضة بقدر استطاعته.
لكن الشخص الذي يترك الفريضة ويقول: أنا أفعل تطوعاً وحسنات تمحوها، نقول له: أولاً: إنك لا تعلم القدر الذي يقوم مقام ثواب الفريضة، ولو قدر لك أن تعلم قد لا يمكنك أن تفعله مع الواجبات، ثم لو قدر أنه أمر بتطوع يقوم مقام الفريضة نقول: صار هذا التطوع واجباً، وانتقل من كونه تطوعاً إلى كونه واجباً، أما التطوع فإنه شرع لزيادة القربة إلى الله، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
إذاً: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض من أسباب محبة الله.
قول المؤلف رحمه الله: (فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل)؛ لأن الإنسان يطالب أولاً بالفرائض، ثم بعد ذلك يأتي بالنوافل فيكون من أحباب الله، لكن إذا لم يكن أدى الفريضة كيف يقال: أنه يأتي بالنوافل؟! والذي أخل بالواجبات لا يقال: إنه يأتي بالنوافل، ولكن عليه أولاً أن يكمل الواجب، ثم يأتي بالنوافل، وذمته مشغولة بالواجب، فإذا فعل تطوعاً نقول: هذا التطوع يسمى فرضاً وليس تطوعاً، ولا يكون له تطوع إلا إذا كمل الفرض.
فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض.
أي: إذا أخل الإنسان أخل مثلاً بواجب من واجبات الصلاة ثم صلى النوافل، لا يكتب له النوافل، ونقول له: ذمتك مشغولة بترك الواجب، والله لا يظلمك مثقال ذرة، فالله تعالى يثمن النقص الذي حصل في فريضتك من هذه النوافل، فإذا كملت الفريضة وتمت ثم تطوعت كتب لك ثوابها.
ومثال ذلك: شخص ذمته مشغولة لشخص بألف ريال، فإذا أعطاه ألف ريال فهو عادل وإن أعطاه زيادة بدون شرط صار عادلاً محسناً، فإذا قال له: لك عندي ألف ريال لكن سأعطيك ألف ريال صدقة؛ لأنه فقير، وأوفيك الدين بعد ذلك، يقال له: كيف تتصدق عليه وذمتك مشغولة بالواجب؟! فعليك أن تجعل هذه الصدقة هي الدين الواجب، فأد الواجب ثم بعد ذلك تطوع.
كذلك الإنسان الذي يريد أن يتنفل وذمته مشغولة بالواجب نقول له: أولاً كمل الواجب، فإذا نقص الواجب يكمل من النوافل؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها) أي: يقيم النوافل مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء فإن وفاهم وتطوع وأعطاهم الزيادة كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع ولم يعطهم زيادة كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقه صاحبه، فإن قال المدين: شخص له عندي ألف ريال وأنا أريد أن أتصدق عليه بألف ريال، نقول: هذا غلط منك، فاجعل هذه الصدقة هي قضاء الدين.
وبهذا يتبين أن الإنسان إذا أخل ببعض الواجبات ثم تطوع فالتطوع يكمل به الواجب، ولا يعطى ثواب النوافل، وإنما يكمل الواجب الذي عليه.
من العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل، والمعتزلة عندهم في أصول الدين خلط، وكل أصل ستروا تحته معنى باطلاً، وعند أهل السنة أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وبدلاً من أصول الدين عند أهل السنة ألغى المعتزلة هذه الأصول وأحدثوا أصولاً لهم، فأصول الدين عند المعتزلة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكل أصل من هذه الأصول ستروا تحته معنى باطلاً، فالتوحيد ستروا تحته: نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة، فمعنى التوحيد عندهم نفي الصفات، ومن أثبت الصفات كان مشركاً؛ لأنه شبه الله بخلقه، ومن أثبت أن القرآن كلام الله وأن الله يرى في الآخرة فهو مشرك عند المعتزلة.
والعدل ستروا تحته: التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق المعاصي ولا يعذب عليها إلا أن يكون ظالماً.
وفي المنزلة بل المنزلتين قالوا: مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين الإيمان والكفر.
وإنفاذ الوعيد قالوا: مرتكب الكبيرة لابد أن ينفذ الله فيه الوعيد ويخلده في النار.
والأمر بالمعروف ستروا تحته إلزام الناس بآرائهم واجتهاداتهم الباطلة، والنهي عن المنكر ستروا تحته: الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي والظلم، فهذه أصول المعتزلة.
ومن العجب أنهم يقولون: نحن أهل التوحيد والعدل، ويفتخرون بذلك، وهم ينفون الصفات، ويكذبون بالقدر.
المؤلف رحمه الله يقول: ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل، وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل، قالوا: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا صوت ولا هو فوق ولا تحت، فعطلوا الرب، بل إن الشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا يوجد إلا في الذهن، وبذلك شبهوا الله بالمعدوم فأشركوا، فصار توحيدهم يستلزم التعطيل والإشراك.
وأما العدل فإنهم يقولون: العدل معناه القول بأن أفعال العباد هم الذين خلقوها، والله تعالى لا يقدر على خلقها، فالعباد خلقوا الطاعات والمعاصي، ولهذا يستحقون الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته، ويجب على الله أن ينفذ الوعيد في العاصي ولا يغفر له ولا يرحمه.
وأما وجوب إنفاذ الوعيد: فهم يرون وجوب تخليد العصاة في النار، يقولون: العدل منه أنه لا يخلف وعيده، ويجب على الله أن يجازي المطيع؛ لأنه هو الذي خلق فعله، والعبد إذا فعل الكبيرة حبط إيمانه وخرج من الإيمان، وهذا ليس بعدل بل هو ظلم.
وذكر المؤلف أن العدل الذي وصف الله به نفسه هو أنه لا يظلم مثقال ذرة وأن من يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فلا يمنع أحداً من ثواب حسناته، ولا يحمل أحداً أوزار غيره، فلا يظلم مثقال ذرة، بل من عمل أي عمل ولو مثقال ذرة من الخير يجده أو من الشر يجده، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
وهم -أي: المعتزلة- يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطاً بذنب واحد من الكبائر، ويقولون: إذا زنى أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا حبط العمل كله، وخرج من دائرة الإيمان، وخلد في النار، وهذا ظلم نزه الله نفسه عنه؛ فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله.
وذلك أن الله تعالى نزه نفسه عن الظلم، والظلم الذي نزه الله نفسه عنه هو وضع الشيء في غير موضعه؛ بأن يمنع أحداً من ثوابه لحسناته أو يحمله أوزار غيره، وهم جعلوا العدل التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق أفعال العباد، وأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات أو معاص، ويوجبون على الله أن يثيب المطيع، وأن يعذب العاصي، فالله أولى بوصف العدل الذي وصف به نفسه وهو أن لا يحرم أحداً من ثوابه أو يحمله وزر غيره.
ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]؛ لأن ذلك كفر، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والمعنى: كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف رحمهم الله: المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] وهي الكفر، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً وغيره أصابه عذاب أليم ].
هذا هو الجواب الخامس من الأجوبة على الاعتراض على مسقط من مسقطات العقوبة، وهي الحسنة الماحية، والاعتراض هو: أن هذه الحسنات الماحية إنما تكون ماحية للصغائر دون الكبائر.
فالجواب الخامس: أن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، وإذا فعل الكفر بطلت جميع الأعمال، وإذا مات على الكفر والعياذ بالله خلد في النار، لكن إذا فعل المعصية: كما إذا عق والديه، أو قطع رحمه، أو تعامل بالربا وهو يعلم أنه حرام، لا نقول له: بطلت صلاتك وصومك وحجك، لكن إذا دعا غير الله وذبح لغير الله ومات على ذلك بطلت جميع الأعمال.
فالله تعالى لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، حتى الكفر، فإذا تاب توبة نصوحاً من الشرك أو الكفر أو الزنا أو السرقة أو عقوق الوالدين أو التعامل بالربا بشروطها الثمانية فالتوبة تجب ما قبلها، وتزيل جميع المعاصي، كما أن الكفر يزيل جميع الحسنات.
والمعتزلة مع الخوارج يخالفون النصوص، ويجعلون الكبيرة محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، ويقولون: إذا زنا أو سرق أو شرب الخمر أو عق والديه أو تعامل بالربا بطلت جميع الأعمال حتى الإيمان، فخرج من الإيمان وخرج من الإسلام وبطلت جميع أعماله، وصار مخلداً في النار.
وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله تعالى بين في كتابه أن الذي يحبط الأعمال الكفر والشرك لا المعاصي، وبشرط: أن يموت على الكفر، فإذا منّ الله عليه بالإسلام لا تحبط أعماله بل تبقى له يخرجها الإيمان، فإن مات على الكفر بطلت جميع الأعمال، والدليل قول الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، ووجه الدلالة قوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217]، فعلق الحبوط بالموت على الكفر.
وقد ثبت أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وحبوط العمل معلق بشرط وهو الموت على الكفر، فإذا لم يمت على الكفر بعد عن حبوط العمل.
ومن الأدلة على أن الكفر يحبط الأعمال قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، ومنها: قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ [الأنعام:87] إلى قوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
ومن الأدلة على أن الشرك يحبط الأعمال قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
إذاً: الشرك يحبط الأعمال إذا مات على الكفر، وهو مطابق لقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فالشرك لا يغفر أبداً إذا مات صاحبه عليه، فإن الشرك إذا لم يغفر موجب للخلود في النار ويلزم من ذلك حبوط الحسنات وصاحبها، ولما ذكر الله سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال.
أما قول الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، فلأن ذلك كفر، ومن كره شيئاً مما جاء عن الله وعن رسوله حبط عمله، وهو ردة وكفر، فمن كره التشريع الذي أنزله الله في كتابه أو أنزله على رسوله حبط عمله بردته نعوذ بالله.
وأما قول الله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، هذا قد يتضمن الكفر الذي يقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والذي يرفع صوته فوق صوت النبي قد يحبط عمله وقد لا يحبط.
فإذاً: نهي عن رفع الصوت خشية أن يؤدي إلى حبوط العمل، فنهاهم الله عن رفع الصوت؛ لئلا يفضي إلى الكفر الذي يقتضي الحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، فينهى عن المعصية خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فهذا تخويف، للذي يخالف أمر الله وعليه أن يحذر، وقوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] هو الشرك، ولهذا قال بعضهم: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، ولعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الفتنة فيهلك، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره خالف أمر الله فأصابه عذاب أليم.
إذاً: الذي يخالف أمر الله قد يكون كافراً كإبليس، وقد يكون عاصياً يعرض نفسه للعذاب الأليم كالعاصي.
الجواب: التوبة عرفنا أن معناها: الرجوع إلى الله من الذنب الذي حصل منه بشروطه الثمانية، والاستغفار طلب المغفرة.
الجواب: الذكر الذي يقال بعد الأذان أولاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، كما جاء في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن المؤذنين يغبنوننا -أي: يحصلون على الأجر- فقال: من سمع المؤذن ثم قال مثل قوله، ثم صلى عليَّ، وقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، حصل له مثل ما يحصل للمؤذن)، وكذلك أيضاً في الحديث: (إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة).
الجواب: المريض ولو في مرض الموت تصح منه التوبة ما لم تصل الروح إلى الحلقوم؛ ولهذا ذكر العلماء أن المريض إذا حضره الموت يذكر بالتوبة ويذكر بالشهادة، فإنها تنفعه، ولا يقال له: قل: لا إله إلا الله، حتى لا يضجر ويرفض، بل يقال عنده: لا إله إلا الله، أمامه حتى يتذكر فيقولها.
فإذا قالها سكت، فإن تكلم بشيء من كلام الدنيا أعاد وقال: لا إله إلا الله.
كذلك ذكر العلماء أن من قرب موته يذكر بالتوبة فإنها تنفعه، مثل شخص سيقام عليه الحد قصاصاً فيذكر بالتوبة وبالاستغفار، ولو كان يعلم أنه سيقام عليه الحد عن قريب، فيذكر بالتوبة والاستغفار فإنها تنفعه ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا سيقت الروح من الجسد ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، وكشف للإنسان عن المستقبل وصار الغيب شهادة، وعاين الملائكة؛ فلا توبة حينئذ.
الجواب: إذا وجدت الشروط الثمانية بعد الذنب فهي صحيحة، وإذا اختل شرط منها فلا.
الجواب: أذكار الصباح بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وأذكار المساء بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: َسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130] .. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق:40]، ذكر هذا أهل العلم، وذكر هذا العلامة ابن القيم في الوابل الصيب، ولكن سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه يرى أن الأمر واسع، وأنه إذا فاته بعد العصر فله أن يأتي بالذكر بعد المغرب والعشاء، وكذلك في أذكار الصباح إذا فاتته له أن يأتي بالأذكار إلى الظهر.
الجواب: النصوص من السنة والقرآن فيها محكم وفيها متشابه، وكذلك أقوال أهل العلم، والقاعدة عند أهل العلم: أن المتشابه يرد إلى المحكم، ويوضح فيتضح، وأما أهل الزيغ فإنهم يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم.
مثال ذلك: النصوص التي أثبت الله فيها علوه على خلقه كثيرة لا حصر لها، قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3] في سبعة مواضع، وقال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وكل نص فيه إثبات العلو، وكل نص فيه الرفع قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وكل نص فيه الصعود: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، والتنزيل: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وأفراد هذه الأدلة تزيد ثلاثة آلاف، وجاء في النصوص الأخرى ما يدل على المعية كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فأهل الزيغ من أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والمعطلة تعلقوا بالمتشابه، وعارضوا النصوص وضربوا بعضها ببعض، وقالوا: إن نصوص المعية تبطل نصوص العلو والفوقية، وقالوا: إن الله مشترك بين مخلوقاته، وإنه مع الخلق في كل مكان. تعالى الله عما يقولون!
أما أهل الحق فإنهم ردوا المتشابه إلى المحكم، وعملوا بالنصوص من الجانبين، وقالوا: إنه لا معارضة بين النصوص، وليس معنى المعية الاختلاط والاهتزاز، فإن المعية في لغة العرب لمطلق المصاحبة، والمصاحبة لا تقتضي الاختلاط، والعرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا، ويقال: فلان المتاع معه، وإن كان فوق رأسه، ويقال: فلان زوجته معه وإن كانت في المشرق وهو في المغرب، فالمعية لا تقتضي المصاحبة، ولها معان على حسب متعلقها.
فالمقصود: أن النصوص المحكمة والمتشابهة في الكتاب أو في السنة أو في أقوال أهل العلم ترد إلى نصوص المحكم وتفسر بها.
أما أهل الزيغ فإنهم يتعلقون بالمتشابه ويتركون المحكم، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].
الجواب: المراد بأهل القبلة كل من اتجه إلى القبلة في الصلاة وفي الذكر وفي الذبح، وأهل القبلة لا يكفرون عند أهل السنة والجماعة إلا إذا ثبت عليهم مكفر، وإلا فالأصل أن أهل القبلة يحكم عليهم بالإسلام، ومن أهل القبلة المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر فإنهم يعاملون معاملة المسلمين في النكاح وغيره، إلا من أظهر منهم النفاق فإنه يقتل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل عبد الله بن أبي رئيس المنافقين وغيره من المنافقين معاملة المسلمين في جميع الأحداث.
ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ووضع في حفرته: (جاءه النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح
ولما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بن الخطاب ثوبه وجره وقال: يا رسول الله أتصلي على منافق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا
فالنبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لابنه عبد الله وللأوس، ورجاء أن يغفر الله له صلى عليه؛ ولأنه لم ينه عن ذلك، ثم بعد ذلك أنزل الله هذه الآية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فلم يصل على منافق مات بعد ذلك، وبين الله العلة فقال: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:84]، وهذا رواه البخاري في الصحيح.
الجواب: الصواب أنهما نفختان، كما قال الله تعالى في سورة الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، النفخة الأولى نفخة الصعق والموت، والنفخة الثانية نفخة البعث.
وبعض العلماء ذهب إلى أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق (الموت)، ونفخة البعث، وجاء في حديث الصور، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً ضعيفاً، جاء فيه أنها ثلاث نفخات، والصواب: أنهما نفختان: النفخة الأولى هي نفخة طويلة أولها فزع وآخرها صعقة الموت، كما قال الله في سورة النمل: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ[النمل:87]، وفي سورة الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ[الزمر:68]، فهي نفخة واحدة أولها فزع وآخرها صعقة الموت، وهي نفخة يطولها إسرافيل ولا يزال الصوت يقوى شيئاً بعد شيء حتى يموت الناس، جاء في الحديث: (أنه لا يسمعها أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)، أرأيتم صفارات الإنذار؟ رأيتم في حرب الخليج ماذا يحصل للناس من الرعب إذا جاء الصوت، وهو صوت عادي، وإذا زاد مثل هذا الصوت مائة مرة ماذا يحصل للناس، فهكذا صوت إسرافيل أوله ليس بالقوي ثم لا يزال الصوت يقوى ويقوى حتى يموت الناس، وهذه نفخة الصعق.
والثانية: نفخة البعث، يمكث الناس بعدها أربعين، كما جاء في الحديث: (قيل لـ أبي هريرة
والروح تعذب مفردة ومتصلة بالجسد، فروح الكافر تنقل إلى النار، ولها صلة بالجسد، فإذا نفخ إسرافيل في الصور دخلت الأرواح في أجسادها، فالصواب أنهما نفختان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر