قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته.
فعن عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه).
وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواهما مسلم .
وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت ].
هذا هو السبب الرابع من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم ويسلم بها من شر الذنب، وقد سبق ثلاثة أسباب:
السبب الأول: التوبة، السبب الثاني: الاستغفار، والسبب الثالث: الحسنة الماحية.
وهذا هو السبب الرابع الدافع للعقاب، وهو دعاء المؤمنين للمؤمن واستغفارهم له، وهذا مما يدفع الله به العذاب عن المؤمن حياً كان أو ميتاً، وبهذا يتبين أن من ارتكب الكبيرة فإنه لا يكون كافراً كما يقول الخوارج، ولا يكون في منزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة، وإنما يكون مؤمناً معه أصل الإيمان وإن كان إيمانه ناقصاً.
استدل المؤلف رحمه الله بحديثين في صحيح مسلم رحمه الله، الحديث الأول حديث عائشة وأنس : (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه).
والثاني حديث ابن عباس : (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فالدعاء ينفع الله به الحي والميت جميعاً، فالحي الذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر لو صلى عليها، والميت ينفعه الله بهذا الدعاء الذي يدعو به الأحياء، ويشفعهم الله فيه.
وهذه المغفرة التي تقع للميت بدعاء المصلين عليه يقول المؤلف: لا يجوز أن تحمل على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر، فإن المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر مغفور له حتى عند المنازعين من الخوارج والمعتزلة، إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر غفرت له الصغائر، يقول المؤلف: (فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت) حتى من عليه الكبيرة ينفعه الله بذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا غم ولا أذي، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) ].
السبب السابع من الأسباب التي يدفع بها العقوبة عن العاصي: المصائب التي يكفر الله بها من خطاياه، كالأمراض والهموم والغموم والأحزان وفقد الأحبة والمصائب في النفس أو في المال أو في الولد، فكل هذه يكفر الله بها الخطايا، كما في الصحيحين: (ما يصيب المؤمن من وصب -مرض-، ولا نصب -تعب-، ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما تكفر به الخطايا ].
السبب الثامن: مما يدفع الله به العقوبة عن العاصي هو: الفتنة، والمقصود سؤال منكر ونكير حين يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
وكل هذا امتحان يحصل له به تعب، فإذا حصل له التعب كفر الله من خطاياه، مثل الإنسان الذي يمتحن في الدنيا ويحصل له تعب من الامتحان، فكذلك هنا هذا التعب يكفر الله به من الخطايا.
ومن ذلك ضغطة القبر كما في الحديث: (ما من ميت يموت إلا ضمه القبر ضمة)، وفي الحديث أنه: (لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ) وهو الذي اهتز له عرش الرحمن، أصابته ضغطة القبر والروعة، وهذا مما تكفر به الخطايا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها ].
هذا هو السبب التاسع، وهو أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها، فهي مما يكفر الله به الخطايا، فقد يكون الإنسان مذنباً ثم تصيبه أهوال وشدائد وكرب في موقف القيامة من دنو الشمس فوق رأسه، وكونه يلجمه العرق، وغير ذلك من الأهوال والشدائد، فهذه يكفر الله بها الخطايا.
فقد يحصل لبعض الناس الشدائد والكرب وأهوال وبعضهم لا يحصل له، فالذي يحصل له كرب وشدائد يكفر الله به الخطايا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد ].
هذا هو السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب؛ لأن المؤمن العاصي تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له ورحمه بتوحيده وإيمانه وإسلامه من دون سبب وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه عذبه بقدر جرائمه ثم يخرجه من النار، وليس كل العصاة يدخلون النار، فبعضهم يدخل وبعضهم لا يدخل، وبعضهم يغفر له وبعضهم لا يغفر له، فهم تحت مشيئة الله، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
[النساء:48]، فإذا عفا الله عن العبد وغفر له سقطت عنه العقوبة، وإن كان مستحقاً لها، هذا هو السبب العاشر: (رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد).
قال المصنف رحمه الله: [ فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك ].
يعني: هذه الأسباب العشرة يدفع الله بها عن العصاة الموحدين العقوبة، وعلى هذا ترتفع العقوبات عن أهل الكبائر بواحد من هذه الأسباب العشرة، فقول المعتزلة والخوارج: إن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لابد أن يخلد في النار، باطل؛ لأن العقوبة تدفع عن مرتكب الكبيرة بواحد من هذه الأسباب العشرة.
فعند الخوارج صاحب الكبيرة -إذا زنى أو سرق- يخلد في النار إلا إذا تاب، والمرابي مخلد في النار إلا إذا تاب، والعاق لوالديه مخلد في النار إلا إذا تاب.
ونحن نقول: هذا ليس بصحيح، فقد تدفع عنه العقوبة ولو لم يتب بواحد من الأسباب العشرة المذكورة.