إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [17]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت الأدلة الشرعية تدل على أن الذنب قد تسقط عقوبته عن العاصي بواحد من عشرة أمور، منها دعاء المؤمنين له والتصدق عنه ونحو ذلك، وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما يصيبه من مصائب في الدنيا والآخرة، وسقوط العقوبة بذلك يرد على الوعيدية الذي يحكمون بخلوده في النار.

    1.   

    من أسباب سقوط العقوبة عن العاصي دعاء المؤمنين له

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته.

    فعن عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه).

    وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواهما مسلم .

    وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت ].

    هذا هو السبب الرابع من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم ويسلم بها من شر الذنب، وقد سبق ثلاثة أسباب:

    السبب الأول: التوبة، السبب الثاني: الاستغفار، والسبب الثالث: الحسنة الماحية.

    وهذا هو السبب الرابع الدافع للعقاب، وهو دعاء المؤمنين للمؤمن واستغفارهم له، وهذا مما يدفع الله به العذاب عن المؤمن حياً كان أو ميتاً، وبهذا يتبين أن من ارتكب الكبيرة فإنه لا يكون كافراً كما يقول الخوارج، ولا يكون في منزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة، وإنما يكون مؤمناً معه أصل الإيمان وإن كان إيمانه ناقصاً.

    استدل المؤلف رحمه الله بحديثين في صحيح مسلم رحمه الله، الحديث الأول حديث عائشة وأنس : (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه).

    والثاني حديث ابن عباس : (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).

    وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فالدعاء ينفع الله به الحي والميت جميعاً، فالحي الذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر لو صلى عليها، والميت ينفعه الله بهذا الدعاء الذي يدعو به الأحياء، ويشفعهم الله فيه.

    وهذه المغفرة التي تقع للميت بدعاء المصلين عليه يقول المؤلف: لا يجوز أن تحمل على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر، فإن المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر مغفور له حتى عند المنازعين من الخوارج والمعتزلة، إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر غفرت له الصغائر، يقول المؤلف: (فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت) حتى من عليه الكبيرة ينفعه الله بذلك.

    1.   

    سقوط عقوبة الذنب بأعمال البر التي تعمل عن الميت وانتفاعه بها

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الخامس: ما يعمل عنه من أعمال كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة رحمهم الله، وكذلك العتق والحج، بل قد ثبت في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وثبت مثل ذلك في الصحيح في صوم النذر من وجوه أخرى، ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، لوجهين:

    أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه، كدعاء الملائكة واستغفارهم له، كما في قول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].

    ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99]، وقوله عز وجل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين.

    الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه، وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه، وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله تعالى ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم، وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب تفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب، فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل).

    وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له ].

    أقوال العلماء في وصول الثواب إلى الميت

    هذا هو السبب الخامس من الأسباب التي يدفع الله بها العقوبة والعذاب عن الشخص، وهو ما يهدى للميت من ثواب أعمال البر، والذي يهدى للميت من ثواب أعمال البر بالاتفاق عند أهل السنة والجماعة أربعة أشياء: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، والأضحية داخلة في ذلك لأنها نوع من الصدقة، فهذه أربعة أشياء متفق عليها، وكذلك الصوم الواجب؛ فإذا كان عليه صوم واجب كصيام رمضان أو النذر أو الكفارة قضي عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فهذه من الأعمال التي ينتفع بها الميت بالاتفاق.

    أما إهداء ثواب الصلاة كأن يصلي ركعتين وينوي ثوابها للميت، أو يصوم أياماً ويهدي ثوابها للميت، أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه للميت، أو يسبح ويهدي ثوابه للميت، أو يطوف بالبيت سبعة أشواط ويهدي ثوابها للميت، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم:

    فمن العلماء من ذهب إلى أنها تنفع الميت، وذهب إلى هذا الحنابلة والأحناف قياساً على الأربعة.

    ومن العلماء من قال: نقف عند ما وردت به النصوص؛ لأن العبادات توقيفية، ولا قياس في العبادات، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية، وقالوا: نقتصر على الدعاء والصدقة والعمرة والحج والأضحية وصوم الواجب.

    وهذا هو الأرجح؛ أن نقتصر على هذه الأربع؛ لأن العبادات توقيفية، ولم يرد سوى هذه الأربعة، فلم يرد أن الميت يصلى عنه ركعتين، أو يصام عنه يوم ويهدى له ثوابه، أو يقرأ القرآن ويهدى ثوابه للميت، ولكن من أجازه من العلماء قاسوا على هذه الأربع، ومن منع قال: لا قياس في العبادات، فالعبادات توقيفية، ووصفوا العبادات بالمنع والحظر، وهذا هو الأصوب، فما أهدي للميت من ثواب أعمال البر ينفعه الله به، ويدفع عنه العقاب بذلك، وينتفع بالصدقة وكذلك العتق، فالعتق داخل تحت الصدقة.

    يقول المؤلف رحمه الله: (إن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة كالصدقة ونحو ذلك بل قد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، قوله: (وعليه) أي: الصوم الواجب، أما صوم النفل والتطوع فهو محل خلاف.

    وكذلك الخلاف أيضاً في صوم النذر، جاء في اللفظ الآخر: (من مات وعليه صوم نذر)، فبعض العلماء حمله على صوم النذر خاصة، أما الصوم الذي وجد بأصل الشرع كصوم رمضان فلا يقضى عنه، والصواب: أنه يقضى على الميت الواجب سواء كان صوم رمضان أو صوم نذر أو صوم كفارة، فهذا ينفع الله به الميت، ويكفر عنه، ويدفع الله به العقوبة عنه إذا أهدي له، وكذلك الدعاء أو صدقة أو عمرة أو حج.

    الرد على من يمنع انتفاع الميت بعمل الحي

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39])، فهذه احتج بها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم على أن الميت لا ينتفع إلا بسعي نفسه فقط، وقالوا: لا ينتفع الميت لا بالدعاء ولا بالصدقة ولا بالحج ولا بالعمرة، ولا ينتفع إلا بما تسبب فيه في الحياة كالعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح، كما جاء في الحديث، وكذلك الصدقة الجارية، واحتجوا بهذه الآية: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وقالوا: إن المعنى: لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإنسان ينتفع بسعيه وبسعي غيره إذا وهبه له، وأجابوا عن هذه الآية بجوابين ذكرهما المؤلف رحمه الله هما:

    الجواب الأول: أنه ثبت أن هذه الآية ليس فيها دليل على منع الإنسان من الانتفاع بسعي غيره، وقد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه: كدعاء الملائكة، والاستغفار له، كما في الآية الكريمة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وينتفع بدعاء النبيين، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقوله سبحانه: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99] فتنفعهم صلوات الرسول، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وينفعه دعاء ولده أيضاً، وكذلك دعاء المصلين عليه، ودعاء زائر القبور.

    الجواب الثاني: أن قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] لم ينف الانتفاع وإنما نفى الملك، وفرق بين نفي الملك ونفي الانتفاع، والمعتزلة قالوا: الآية فيها حصر فقوله تعالى: لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، يدل على أنه لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه.

    وفي الجواب الثاني نقول: الآية ليس فيها نفي الانتفاع وإنما فيها نفي الملك، فاللام للملك، والمعنى: لا يملك الإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو لغيره، إن أبقاه لنفسه فهو لنفسه، وإن وهبه لغيره انتفع به، فأنت لا تملك إلا سعيك وأما سعي غيرك فهو ملك لذلك الغير، إن أبقاه لنفسه فهو له وإن وهبه لغيره انتفع به، ولهذا قال المؤلف: (لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)، فهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع، مثل: الإنسان إذا دعا لأخيه فله أجره حينما دعا لأخيه والميت ينتفع بهذا الدعاء، وإذا تصدق عن أخيه له أجر؛ لأنه أحسن لأخيه وصار الثواب للمتصدق عنه، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، فإذا دعوت لأخيك فلك مثلها، والحديث صحيح رواه مسلم وغيره.

    فإذا دعوت لأخيك المسلم أجابك ملك وقال: آمين ولك بالمثل، أي: اللهم استجب ولك أيها الداعي مثل ذلك من الأجر، فتكون دعوت لأخيك واستفاد أخوك من دعائك وأنت تستفيد وتعطى مثل ذلك.

    وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فالذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر فاستفاد هو، والميت استفاد بأن يشفعه الله فيه، فانتفع الحي والميت؛ ولهذا قال: (فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له).

    1.   

    سقوط عقوبة الذنب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

    قال المصنف رحمه الله: [ السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة، كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكثر، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) ].

    هذا هو السبب السادس من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم، وهو: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة.

    وأحاديث الشفاعة بلغت حد التواتر فتفيد العلم بيقين، ومع كونها متواترة أنكرها الخوارج والمعتزلة وقالوا: لا شفاعة للعاصي ولو كان موحداً، فأنكروها مع أنها متواترة، والمتواتر لا يجوز إنكاره، ومن أنكر المتواتر قد يحكم بكفره في بعض الأحيان، لكن هؤلاء متأولون؛ ولهذا أنكر عليهم أهل السنة وبدعوهم وصاحوا بهم وضللوهم: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة؟!

    وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والشهداء يشفعون، فكيف تنكرونها وهي أحاديث صحيحة؟!

    فمنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) أي: لأهل الكبائر الموحدين.

    ومنها: حديث أبي هريرة : (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) والحديث في الصحيح، فمن قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه استحق الشفاعة ولو مات عاصياً.

    وكذلك الحديث الذي ذكره المؤلف: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكثر أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) أي: من الموحدين، فالمؤمن الموحد الذي مات على التوحيد استحق الشفاعة ما دام قد مات على التوحيد.

    أما المشرك فلا نصيب له في الشفاعة؛ لأنه مات على الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وهذا لا خلاف فيه، كما قال الله: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] وقال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، وهذه كلها في الكفار.

    1.   

    سقوط عقوبة الذنب بالمصائب، وأهوال القبر والقيامة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا غم ولا أذي، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) ].

    السبب السابع من الأسباب التي يدفع بها العقوبة عن العاصي: المصائب التي يكفر الله بها من خطاياه، كالأمراض والهموم والغموم والأحزان وفقد الأحبة والمصائب في النفس أو في المال أو في الولد، فكل هذه يكفر الله بها الخطايا، كما في الصحيحين: (ما يصيب المؤمن من وصب -مرض-، ولا نصب -تعب-، ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما تكفر به الخطايا ].

    السبب الثامن: مما يدفع الله به العقوبة عن العاصي هو: الفتنة، والمقصود سؤال منكر ونكير حين يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟

    وكل هذا امتحان يحصل له به تعب، فإذا حصل له التعب كفر الله من خطاياه، مثل الإنسان الذي يمتحن في الدنيا ويحصل له تعب من الامتحان، فكذلك هنا هذا التعب يكفر الله به من الخطايا.

    ومن ذلك ضغطة القبر كما في الحديث: (ما من ميت يموت إلا ضمه القبر ضمة)، وفي الحديث أنه: (لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ) وهو الذي اهتز له عرش الرحمن، أصابته ضغطة القبر والروعة، وهذا مما تكفر به الخطايا.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها ].

    هذا هو السبب التاسع، وهو أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها، فهي مما يكفر الله به الخطايا، فقد يكون الإنسان مذنباً ثم تصيبه أهوال وشدائد وكرب في موقف القيامة من دنو الشمس فوق رأسه، وكونه يلجمه العرق، وغير ذلك من الأهوال والشدائد، فهذه يكفر الله بها الخطايا.

    فقد يحصل لبعض الناس الشدائد والكرب وأهوال وبعضهم لا يحصل له، فالذي يحصل له كرب وشدائد يكفر الله به الخطايا.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد ].

    هذا هو السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب؛ لأن المؤمن العاصي تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له ورحمه بتوحيده وإيمانه وإسلامه من دون سبب وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه عذبه بقدر جرائمه ثم يخرجه من النار، وليس كل العصاة يدخلون النار، فبعضهم يدخل وبعضهم لا يدخل، وبعضهم يغفر له وبعضهم لا يغفر له، فهم تحت مشيئة الله، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فإذا عفا الله عن العبد وغفر له سقطت عنه العقوبة، وإن كان مستحقاً لها، هذا هو السبب العاشر: (رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد).

    قال المصنف رحمه الله: [ فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك ].

    يعني: هذه الأسباب العشرة يدفع الله بها عن العصاة الموحدين العقوبة، وعلى هذا ترتفع العقوبات عن أهل الكبائر بواحد من هذه الأسباب العشرة، فقول المعتزلة والخوارج: إن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لابد أن يخلد في النار، باطل؛ لأن العقوبة تدفع عن مرتكب الكبيرة بواحد من هذه الأسباب العشرة.

    فعند الخوارج صاحب الكبيرة -إذا زنى أو سرق- يخلد في النار إلا إذا تاب، والمرابي مخلد في النار إلا إذا تاب، والعاق لوالديه مخلد في النار إلا إذا تاب.

    ونحن نقول: هذا ليس بصحيح، فقد تدفع عنه العقوبة ولو لم يتب بواحد من الأسباب العشرة المذكورة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767974692