الفقه الأكبر هو ما يتعلق بالتوحيد وأصول الدين، ويقابله الفقه الأصغر، وهو فقه الأحكام الفرعية، قال: (لا تكفرن أحداً بذنب) هذا هو معتقد السنة والجماعة لا يكفروا المسلم بالذنب الذي دون الشرك، فلا يكفر إلا بالشركين.
قال: [ وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ].
هذا هو الإيمان بقدر الله.
أما مسألة التكفير بالذنب فقد جاء في الطحاوية ذكر عموم السلب وسلب العموم، فعموم السلب هو قول القائلين: نكفر بكل ذنب وهو مذهب الخوارج، أما سلب العموم فهو قول القائلين:كل ذنب لا يكفر به، وهو مذهب المرجئة، والقول الوسط قول القائلين: لا نكفر بكل ذنب وهو قول أهل السنة، فمذهب أهل السنة ألا نكفر بكل ذنب بل نكفر بالذنوب الكفرية، أما المرجئة فإنهم لا يكفرون مطلقاً حتى بالذنوب الكفرية، والخوارج يكفرون بكل ذنب وكل كبيرة، وأهل السنة يقولون: لا نكفر بكل ذنب، إنما إذا كان هذا الذنب يوصل إلى الكفر فإنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة.
وإذا استحل المرء الكبائر صار كافراً، كأن يكون استحل الكبيرة واستحل الزنا والربا والخمر هذا كفر.
قال: [ ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توالِ أحداً دون أحد ].
هذا كما يفعل الرافضة فإنهم تبرءوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: ولا توالِ أحداً دون أحد، أي: لا توالِ بعض الصحابة دون البعض الآخر، كالشيعة والرافضة فإنهم يوالون علياً وأهل البيت، ويتبرءون من بقية الصحابة ].
قال: [ وأن ترد أمر عثمان وعلي رضي اللّه عنهما إلى اللّه عز وجل ].
أي: لا تتكلم فيما شجر بينهم واعلم أن لهم من الفضل والسوابق ما تغطي ما صدر عنهم، وما صدر عنهم اجتهاد، وهم مابين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر، فـعلي رضي الله عنه في قتاله مع معاوية كلً منهما مجتهد لكن دلت النصوص على أن علياً ومن معه هم المصيبون فلهم أجران، ومعاوية وأهل الشام مخطئون فاتهم أجر الصواب ولهم أجر الاجتهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمار تقتله الفئة الباغية فقتله جيش معاوية (وتمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) فخرجت الخوارج فقتلهم علي رضي الله عنه.
قال: [ قال أبو حنيفة رحمه اللّه: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يفقه الرجلُ كيف يعبد ربَّه خير له من أن يجمع العلم الكثير ].
الفقه الأكبر في الدين يعني: الفقه في عبادة الله وتوحيده، وأن يتفقه كيف يعبد ربه، وهذا الفقه يشبه علوماً أخرى في الفروع، كما في سورة البقرة في غير التوحيد والعبادة - هذا فقه وهذا فقه - لكن هذا هو الفقه الأكبر، وهو الفقه في عبادة الله وتوحيده، وفي أسمائه وصفاته.
قال: [قال أبو مطيع : قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه، قال: يتعلّم الرجلُ الإيمانَ والشرائع والسننَ والحدودَ واختلافَ الأئمة، وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه.
ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس، فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك؛ لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون ].
من أكبر الكبائر الخروج على جماعة المسلمين بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثال ذلك كأن يرى في البلد مثلاً شرب خمر أو فجوراً فيحرص على الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولي الأمر بدعوى أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإذا ذكرته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس هذا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يبايع ولي الأمر ثم يخرج عليه؛ لأنه إذا خرج على الجماعة وعلى ولي الأمر قد يغير شرب الخمر أو سفور النساء، لكن يقع في إراقة الدماء وتفريق المسلمين وفي إفزاع الناس، ويتربص بهم العدو الدوائر، وتأتي فتن تقضي على الأكثر، فأيها أعظم هذه، أو شرب الخمر؟ ولذلك بين أبو حنيفة رحمه الله أنه يفسد في الأرض؛ لأن الخروج على جماعة المسلمين وولاة الأمر يترتب عليه ما لا يحمد عقباه، فينبغي للإنسان أن لا يرتكب المفاسد العظيمة من أجل أن يزيل مفسدة صغرى وهي إنكار المنكر، فإن إنكار المنكر يحل بطرق إيجابية لا بالوسائل السلبية ولا بالعنف، ولا بالخروج، ولا بالقتال، بل بالبيان والإيضاح والمناصحة ومشاورة أهل الحل والعقد، فإن منعوا هذا المنكر وإلا فقد أديت ما عليك وهذا هو الفقه، وهذا هو البصيرة، أما كون إنسان يكون عنده غيرة غير موافقة للشرع تؤدي به إلى القتال وإلى منكر أكبر فهذا نشاط مخالف للشرع وهو باطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: هو كذلك، ولكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام ].
ومن أنكر أن الله فوق العرش فقد كفر.
قال: [ قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل ].
يقول: إذا قال: إذا أقر بأن الله فوق العرش فإن ذلك يقتضي أن العرش في السماء؛ لأن العرش فوق السماء ولأن الله فوق العرش، يقول: فمن أنكر أن يكون الله استوى على العرش هذا كفر، ومن قال: لا أدري: ربي في السماء أو في الأرض هذا يكفر؛ لأن الله في السماء، ومن قال: إن الله على العرش استوى، لكن لا أدري العرش في الأرض أو في السماء كفر؛ لأن عرشه في السماء، ولأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل.
قال: [ وفي لفظ - سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ قال: قد كفر. قال: لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .
وعرشه فوق سبع سموات قلت: فإن قال إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال: قد كفر ، قال؛ لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .
وعرشه فوق سبع سموات، قال: فإنه يقول: إنه على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؛ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء؛ أو ليس في الأرض ولا في السماء؟ ].
يعني يقول: إذا كان الإمام كفر المتوقف وهو يثبت أن الله فوق العرش لكنه لا يدري هل العرش في السماء أو الأرض فتراه متردداً فهذا يكفي لكفره، فإذا كان هذا المثبت لوجود الله وأثبت النوع والأصل لكنه متوسط وكفر، فكيف بمن قال: ليس فوق العرش إله وليس في السماء إله من الملاحدة، والذي يقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته؟ هذا مبني على الكفر بعض على بعض.
قال: [ واحتج على كفره بقوله : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .
قال: وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. يبين أن الله فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله نفسه فوق العرش ثم أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن الله في أعلى عليين؛ وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء.
واحتج على ذلك بأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر ].
فهو معلوم أن الله يدعى من أعلى لا من أسفل يعني: إذا كنت تعلم أن هذا أمر فطري أن الله فوق العرش، وفطر الله الخلق على أنهم يدعونه من أعلى ولا يدعونه من أسفل، فإذا قال: لا أدري العرش في السماء أو في الأرض أنكر أن يكون الله يدعى من أعلى فيكفر بذلك.
وحيث قال: إن الله فوق العرش، لكن لا أدري العرش في السماء أو في الأرض فهذا يكفر؛ لأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل؛ ولأن الله في أعلى عليين، وهذا الشاك لا يدري هل هو فوق أو هو تحت فيكفر.
يعني: هو مقر أن الله على عرشه، ولكنه قال: ما أدري بائن من خلقه، أي: نفى أن يكون بائناً من خلقه، فجعل الله مختلطاً مع المخلوقات نعوذ بالله فردوه إلى الحبس.
قال: [ وروى أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان.
وروي أيضاً عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة ؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السموات على العرش استوى، فسئل عن قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] فقال: اقرأ ما قبلها : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7] ].
يعني: لا يكون إلا هو معهم بعلمه، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى.
قال: [ وروى أيضاً عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.
وروى عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن تفسير قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فقال: تفسيره كما تقرؤه، هو على العرش وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله ].
إن جهم عطًّلَ الصفات عن الله عز وجل، ووصفه بصفة لا شيء، وهو المعدوم فخصص أنه شيء ليس له صفات، لا سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا فوق ولا تحت، يعني: هذا لا شيء هذا معدوم.
قال: [ محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء ].
يبين أن محمد بن حسن من العلماء ويأخذ عن أهل العلم، وهو قد حكا الإجماع على كفر الجهمية.
قال: [ محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكا هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالباً أو دائماً وقوله من غير تفسير: أراد به تفسير الجهمية المعطلة، الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات.
وروى البيهقي وغيره بأسانيد صحيحة عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه) (وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه) (والكرسي موضع القدمين) ، وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق، حملها الثقات بعضهم عن بعض؛ غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركنا أحدا يفسرها ].
يعني: لا نفسر تفسير الجهمية، ولا نكيف.
قال: [ أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة: الذين هم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد ، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها أي: تفسير الجهمية.
وروى اللالكائي والبيهقي عن عبد الله بن المبارك : أن رجلاً قال له: يا أبا عبد الرحمن ! إني أكره الصفة - عنى صفة الرب - فقال له عبد الله بن المبارك : وأنا أشد الناس كراهة لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه، ونحو هذا ].
يعني: أنا مثلك أكره الصفة التي لم تثبت فلا أثبتها لله، فالأسماء والصفات توقيفية، فلا يخترع الناس لله أسماء وصفات من عند أنفسهم، فما جاء في الكتاب والسنة يسمى به ويثبت، لأن الله تعالى أعلم بنفسه من عباده، وهو الذي أثبت هذه الصفة لنفسه، فنثبتها له وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] .
فإذا أثبت رسول النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى الصفات والأسماء أثبتنا ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [ أراد ابن المبارك أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من ذات أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار ].
قال المحشي: وقد طبع الكتاب عدة طبعات إلى أن قالوا: وفي صحة نسبته إلى أبي حنيفه نظر، أما من ناحية السند فإن كلاً من الروايتين لا تخلو من مقال، وحماد بن أبي حنيفة، وأبو مطيع كلاهما متكلم فيه من ناحية الرواية، فمن العلماء من ينسب الكتاب لأبي حنيفة مطلقاً مثل: شيخ الإسلام وابن أبي العز الحنفي والبغدادي وحاجب خليفة ، بينما نجد الإمام الذهبي واللكنوي ينسبان الفقه الأكبر الذي في رواية أبي مطيع إلى أبي مطيع نفسه ولعل هذا أصله من أمالي أبي حنيفة ، جمعها ودونها أبو مطيع ويذكر بروكل مان أن الفقه الأكبر ما دون إلا بعد وفاة أبي حنيفة .
هذا كتاب ويقول: أما هؤلاء فهم ثقات.
وهذا قول عبد الله بن المبارك أن الله فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول: إنه هاهنا، يعني: إسقاط المخلوقات كما تقول الجهمية، فالجهمية قاتلهم الله يقولون: إن الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً وقالوا: هو موجود في بطون السباع وفي أجواف الطيور تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا كفر وضلال نعوذ بالله، وقالت طائفة أخرى من الجهمية بنفي النقيضين، قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، ولا مبين له ولا محيط له، ولا متصل به ولا منفصل عنه هذا أشد كفراً نعوذ بالله.
قال: [ وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام: سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء ].
أي: ينكرون وجود الله، وهذه محاولتهم لما أنكروا العلو وقالوا: لا داخل عليه ولا خارج أنكروا وجود الله، وكذلك الذين يقولون: إنه حل في كل مكان، فقد جعل الرب مثل الهواء نعوذ بالله.
قال: [ وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علماً وديناً من شيوخ أحمد أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء ].
فاليهود والنصارى وأهل الأوثان أقروا بأن الله موجود، وبأنه فوق العرش، وهؤلاء أنكروا وجود الله؛ لأنه لما أنكروا العلو وقالوا في كل مكان، أو قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه أنكروا وجود الله، فمن أقوالهم كما قال عبد الملك بن مروان أنهم يقولون: ليس على العرش إله، فاليهود تحت هذه الحالة ومن هذه الناحية من جهة اعترافهم بالرب وأنه في العلو هم أفضل من هؤلاء الجهمية الذين قالوا: ليس هناك رب فوق نعوذ بالله.
قال: [ وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة، لئلا يتأذى بنسم ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح ].
وهذا يدل على أن الإمام ابن خزيمة رحمه الله يرى أن من أنكر علو الله فهو مرتد، فيكون أشد من اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى يدفعون الجزية، أما هؤلاء لا يدفعون الجزية، بل يعيشون تحت راية الإسلام، ولذلك لا بد من ضرب أعناقهم، ولهذا قال: يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة من مكان مرتفع، وهي مزبلة بعيدة عن البلد حتى لا يتأذى بنتن ريحه أهل الإسلام ولا أهل الذمة، فلا يتأذى به المسلمون، ولا يتأذى به اليهود والنصارى؛ فعلى ذلك دل على أنهم أشد كفراً من اليهود والنصارى.
قال: [ وقد روى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد قال: كلمت بشراً المريسي ، وأصحاب بشر؛ فرأيت آخر كلامهم أن يقولوا: ليس في السماء شيء ].
و بشر المريسي هذا جهمي، زعيم طائفة المريسية في القرن الثالث الهجري، قال الإمام عباد : إني تأملت كلامهم فرأيت أن مكسب كلامهم إنكار أن الله في السماء، وهذا الكلام يدور على أنه ليس فوق العرش نعوذ بالله هذا مقتضى قول الجهمية.
قال: [ وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا ].
وليس هناك أشد في البدع من الجهمية يدور كلامهم على إنكار الرب، قوله: أرى أن لا يناكحوا ولا يورثوا لأنهم كفار، يعني: حكم عليهم بالكفر.
قال: [ وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وإن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت الدباغين، فقال رجل عندها: الله على عرشه فقالت: محدود على محدود فقال الأصمعي: كافرة بهذه المقالة ].
امرأة جهمية لما دخلت الدباغين وسمعت رجلاً يقول: الرحمن على العرش استوى، قالت: محدود على محدود تقصد بذلك إنكار علو الرب، يعني: كيف يكون محدوداً وهو الرب على محدود وهو العرش، يعني: هذا تنقص لله، وبذلك يكون محدوداً على محدود، وقصدهم من ذلك: نفي أن يكون الله فوق العرش؛ فلهذا قال الأصمعي : كفرت بهذه المقالة؛ لأنها أنكرت علو الله على عرشه، وإنكارها ذلك بمعنى: أن الله ساقط في المخلوقات وهذا كفر وضلال، ولهذا كفرها الأصمعي .
قال: [ وعن عاصم بن علي بن عاصم - شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما - قال: ناظرت جهماً؛ فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء رباً.
وروى الإمام أحمد قال: أخبرنا سريج بن النعمان قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء، وعلمه في كل مكان؛ لا يخلو من علمه مكان ].
هذا هو قول أهل السنة والجماعة، فالله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وهو سبحانه وتعالى فوق العرش ويعلم كل شيء، ويسمع كلام عباده ويراهم من فوق العرش سبحانه وتعالى بتوفيق قدرته ومشيئته فيها، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى.
قال: [ وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده ].
فقوله: قضاها الله في سمائه، أي: إثبات أن الله في السماء، والرد على الجهمية.
قال: [ وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات وهذا مثل قول الشافعي ].
وهذا فيه أنَّ الله فوق العرش فوق سبع سماوات، وذلك أن الله سبحانه وتعالى زوج نبيَّه زينب لما طلقها زيد بن حارثة ، وقد زوجها الله من فوق سبع سماوات من دون ولي، فوليها الله، ولهذا كانت تفخر على أزواج النبي وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات، قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] وهذا من مناقب زينب رضي الله عنها، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بدون ولي وبدون شهود، كذا بدون الشروط المعتبرة من ولي وشاهد ومهر.
قال: [ وقصة أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة- مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر الصفات وأظهر قول جهم ، قد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره ].
أي: أن العرش سقف المخلوقات.
قال: [ كما أخبر عن نفسه في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ [الحديد:4] .
فسبحان من بَعُدَ وَقرُبَ بعلمه، فسمع النجوى، وذكر حديث أبي رزين العقيلي (قلت: يا رسول الله! أين ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء) ].
والعماء هو السحاب الرقيق، كان في عماء ما فوقه هواء ولا تحته؛ لأن الذي فوقه هو، والذي تحته هو، وهذا الحديث فيه وكيع بن الحدس ويقال: عدس وفيه ضعف، فالحديث في سنده ضعيف، لكن هناك نصوص كثيرة كلها تدل على علو الله على خلقه.
قال: [ قال محمد : العماء: السحاب الكثيف المطبق فيما ذكره الخليل وذكر آثاراً أخر ].
هكذا صح عن ابن عباس ، فقد صح عن ابن عباس أنه قال: يكون في موضع القدمين، والعرش لا يعلم قدره إلا الله عز وجل.
قال: [ ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: (فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر ؛ ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها) .
وهذا الحديث فيه إثبات العلو.
قال:[ وذكر ما ذكره يحيى بن سلام صاحب التفسير المشهور حدثني المعلى بن هلال عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه) ].
من رواة الحديث عمار الذهني ، هو عمار بن معاوية بن أسلم البجلي وثقه الإمام أحمد والجماعة.
قال: [ وذكر من حديث أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) ].
قال محمد : وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض، وهو أيضاً بين في كتاب الله، وفي غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5].
وقال تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:16-17] .
وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] .
وقال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] .
وقال تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] .
وقال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] .
وذكر من طريق مالك : قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة) ].
كل هذه أدلة واضحة، فالرفع يكون من أسفل إلى أعلى والصعود كذلك، والجارية أجابت أن الله في السماء، فدل على أن الله في العلو، وقال: وأهل البدع أنكروا أن يسأل عن الله بأين، قالوا: هذا سؤالٌ فاسد، وأقرها على الجواب الفاسد، هكذا اتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: [ قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جداً فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلي العظيم.
وقال قبل ذلك في باب (الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه) قال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً والعجز عن ما لم يدع إليه إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ].
يعني: يقفون عند هذا الحد ينتهون إليه ولا يزيدون.
قال: [ وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] ].
يثبت أن لله وجهاً.
قال: [ وقال تعالى: قُلْ أي شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] ].
يثبت أن الله شيء.
قال: [ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] ].
فيها إثبات النفس لله.
قال: [ وقال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] ].
فيها أثبات أن لله روح.
قال: [ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] ].
فيها إثبات أن الله يرى.
قال:[ وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] ].
فيها إثبات أن الله يرى.
قال: [ وقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] ].
فيها إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى.
قال: [ وقال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] ].
فيها إثبات القبضة لله.
قال: [ وقال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ].
فيها إثبات السمع والرؤية.
قال: [ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] ].
فيها إثبات أن الله يتكلم مع من شاء من خلقه.
قال: وقال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] .
وقال تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] ومثل هذا فالقرآن كثير.
فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن، بطن علمه بخلقه فقال: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] ].
وهذا كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هذه الأسماء (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) .
قال: [ قيوم حيٌّ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255].
وذكر أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] لم تره العيون فتحده كيف هو؟ ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر