مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في (الغنية عن الكلام وأهله) قال: فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤُها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف ].
يعني: قوم نفوها وعطلوا الرب عن صفاته، وقوم غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه ومثلوه بعباده، وقوله: حققها يعني: معناها، يعني: زادوا في الإثبات حتى وصلوا إلى التشبيه.
قال: [ وإنما الفصل في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه ].
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أثبتوا الصفات، ونفوا مماثلة ومشابهة المخلوقات، وهو وسط بين مذهب المعطلة الذين غلوا في التنزيه حتى عطلوا صفات الله وصفات كماله، وبين المشبهة من الشيعة والرافضة غلوا في الإثبات حتى مثلوا الله بخلقه.
مداخلة: وإنما الفصل في سلوك الطريق المستقيمة بين الأمران.
يعني: القصد في التوسط والاعتدال.
قال: [ ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه، والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه وأمثاله ].
أي: كما أن الله له ذات لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات.
قال: [ فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد: القوة أو النعمة.
وهذا قول المعطلة، فسروا اليد بالقوة وبالنعمة، وهذا من أبطل الباطل، قال تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] .
وهذا يقول: بقوتي وبنعمتي يفسد المعنى، لأن نعم الله كثيرة.
قال: [ ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح ].
يقولون: السمع والبصر يعني: العلم وهذا باطل، الله يسمع ويبصر يقولون: يعني: يعلم.
وقوله: [ ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ].
لا نقول لها: جوارح هذا مما أطلقه أهل البدع، يقولون: اليد هي الجارحة.
ولا نشبهها بأبصار المخلوقين وأسماعهم التي هي الجوارح بالفعل وأدوات للفعل، فهو سبحانه متنزه بجلاله وعظمته لا يماثله أحد من خلقه، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وقال سبحانه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
فعلى ذلك فإن الأشياء التي لم ترد ولم تثبت لا تكيَّف ولا يقال: لله جوارح، ولا يقال: له جسمٌ أو حجم أو حيز أو جهة، لا ننفي ولا نثبت.
قال: [ ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا ترى قول السلف في أحاديث الصفات انتهى هذا كله كلام الخطابي وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك، وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحواً منه من العلماء من لا يحصى عددهم، مثل: أبي بكر الإسماعيلي ، والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين وذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب وغيرهم ].
سبحان الله العظيم، وفيه رد على أهل البدع الذي يقولون: إنه مختلط في المخلوقات وهذا كفر، بل هو مستو على عرشه بائن من خلقه.
قال: [ وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه: وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عالٍ على عرشه، مستوٍ عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية: إنه بكل مكان، خلافاً لما نزل في كتابه : أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] .
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] ] .
والصعود من أسفل إلى أعلى فدل على أن الله في العلو.
قال: [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .
له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وهو قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] .
وكرسيه جسم، والسماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة ].
والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة أيضاً.
فالكرسي جسم، كما جاء عن ابن عباس : وموضع قدميه الكرسي والعرش لا يعلم قدره إلا الله.
قال: [ وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية ].
وليس الكرسي هو علمه كما قالت الجهمية: وهذا قول من الأقوال وهو مروي عن ابن عباس فقد روي عنه روايات في الكرسي قيل: الكرسي العرش وقيل: الكرسي موضع القدمين، وقيل: الكرسي العلم فهذه ثلاث روايات لكن رواية فكرسيه: علمه باطله ويوافق تفسير الجهمية، ويفسد بها المعنى فإذا قرأت: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] .
أي: وسع علمه السماوات والأرض وعلم الله وسع كل شيء فإذا فسر الكرسي بالعلم صار وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] صار العلم ما يسع إلا السماوات والأرض مع أن العلم كما قال الله: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7].
قال: [ وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية ؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه ؛ كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه - تعالى وتقدس - يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفاًّ صفاًّ كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] ].
وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء.
كما قال تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:284].
أثبت استواء الرب بلا حلول ولا ممازجة، وهذا فيه رد على الجهمية القائلين بالحلول والاختلاط، مثلاً يقولون: إن الله مختلط بالمخلوقات نعوذ بالله، وهذا كفر وضلال، فالجهمية نفوا أن يكون الله في العلو، وقالوا: إنه حال في كل مكان، وهذا اختلاط في ذاته نعوذ بالله، ولهذا قال: بلا حلول ولا اختلاط ولا ممازجة.
قال: [ وأن الله عز وجل سميع بصير عليمٌ خبيرٌ يتكلم، ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء (فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر)، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا ].
قد يقال: إن ثلث الليل يختلف من دولة إلى دولة وهذا يقتضي نزول الرب أكثر من مرة
.
هذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فلا يقال هذا، نقول له إنما قال: يزداد الليل والنهار في الأمكنة لأنك شبهت نزول الخالق بنزول المخلوق فظننت أن نزول الخالق كنزول المخلوق، ولذلك اشتبه عليك الأمر أن تقول: يختلف الليل فقد يكون مثلاً ثلث الليل هنا الآن، وهو ثلث مثلاً في أمكنة بعيدة في أمريكا بعد اثنتي عشرةَ ساعة وفي ثلث الليل بعد كذا فلا يزال الرب كل وقت ينزل نقول هذا الإشكال إنما نشأ لكونك لم تفهم من نزول الخالق إلا كما فهمت من نزول المخلوق لكن نقول الله ينزل بلا كيف، فلا نعلم الكيفية ففي أي مكان أنت في أرض الله إذا جاء ثلث الليل فإنه وقت تنزل الله سبحانه ولا نعلم الكيفية، ولا إشكال هنا.
فلا يشبهه الإنسان ولا يمثل، وكل ما توهمه الإنسان فالله بخلاف ذلك، فلا يكيفه الإنسان ولا يمثل ولا يتوهم، وإنما يصف الله بما وصف به نفسه ويسميه بما سمى به نفسه.
قال: [ وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء ].
وهذا قاله بعض السلف، يعني: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول من مكانه فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء.
قال: [ ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في أفعال العباد ].
أي: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الحنبلي الصوفي .
وكتاب الفاروق هو كتاب في إثبات الصفات، وهذا شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الصوفي الحنبلي وهو الذي صنف كتاب (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، وشرحه ابن القيم في كتاب مدارج السالكين وكتاب شيخ الإسلام الفاروق كتاب جيد في إثبات الأسماء والصفات، وفيه رد على المعطلة وأهل البدع ونفاة الصفات، حتى حصل بينهم مشادة، حتى أنهم أرادوا قتله، وسعوا به إلى السلطان.
لكن لما جاء في باب السلوك عطل العبادة، وصار يتعلق بالفناء ويشير إليه، فكما أن أولئك عطلوا الخالق من الصفات، فهذا عطل الخالق من العبادة، فوافقهم من حيث لا يشعر، وافقهم في التعطيل، فالذين أنكروا الأسماء والصفات عطلوا الخالق من صفاته وهو لما جاء في باب السلوك عطل الخالق من العبادة واكتفى بالشهود والنظر إلى الله، وابن القيم يعتذر عنه كثيراً في مدارج السالكين، ويقول شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.
قال: [ ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه (الفاروق) فقال: حدثنا يحيى بن عمار ، حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن يعقوب ، حدثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل ، وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه: (التعرف بأحوال العباد والمتعبدين) قال: (باب ما يجيء به الشيطان للتائبين)، وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكيك، أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل. فقال بعد ذكر حديث الوسوسة:
واعلم رحمك الله تعالى، أن كل ما توهمه قلبك، أو سنح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن، أو بهاء، أو ضياء، أو إشراق أو جمال، أو شبح مائل، أو شخص متمثل، فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، أي: لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أولم تعلم أنه تعالى لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفء ].
وفي نسخة أخرى: فرد بما بين الله في كتابه من نفيه عن نفسه، وهي مثل قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فيمكن تصلح هنا، وهذه العبارة لها وجهان، فالله سبحانه رد عن نفسه النفي في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، وقوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن اعتصمت بها، وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تبارك وتعالى وتقدس، في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لك: إذا كان موصوفاً بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى.
واعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى واحد لا كالآحاد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، إلى أن قال: خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خلياً، واسماً كان منه برياً، تبارك وتعالى، فكان هادياً سيهدي، وخالقاً سيخلق، ورازقاً سيرزق، وغافراً سيغفر، وفاعلاً سيفعل، لم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله.
قال الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجوداً بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية، فتستحسر العقول، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلاً ولا مشبهاً، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلماً، مستسلماً، مصدقاً، بلا مباحثة التنفير، ولا مناسبة التنقير، إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أَنَا اللَّهُ [القصص:30]، لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائياً ].
في نسخة أخرى فيستحسر العقل، بدلاً من: فتستحسر العقول، يعني: تنقطع وتعجز.
وقوله: فهو تبارك وتعالى القائل: أَنَا اللَّهُ [القصص:30] لا الشجرة، رد على الجهمية والمعتزلة حيث يقولون: إن الشجرة هي التي قالت: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، وذلك في قصة موسى عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:29-30].
فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الشجرة هي التي قالت: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، أي: خلق الله الكلام في الشجرة، فالمؤلف هنا يقصد الرد عليهم فيقول: إن الله هو الذي قال: إِنِّي أَنَا اللَّهُ [القصص:30]، لا الشجرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الجائي قبل أن يكون جائياً، لا أمره ].
كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، يعني: هو الجائي بنفسه سبحانه وتعالى، ليس المراد جاء أمره، كما تقول ذلك الأشاعرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ المتجلي لأوليائه في الميعاد، فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان، تبارك وتعالى، الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله؛ لأنه قربه نجياً، تقدس أن يكون كلامه مخلوقاً أو محدثاً أو مربوباً، الوارث بخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسادهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه، وهو أمره -تعالى وتقدس- أن يحل بجسم، أو يمازج بجسم، أو يلاصق به تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
أي: أنه تعالى نفخ فيه من روحه، وهو أمره، أي: أن الروح مأمورة، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، فالروح من مخلوقاته سبحانه وتعالى، أي: من الأرواح التي خلقها، وأضيفت إلى الله للتشريف، مثل قوله: عيسى روح الله، يعني: روح من الأرواح التي خلقها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الشائي له المشيئة ].
هنا المؤلف رحمه الله اشتق الشائي من المشيئة، وهذا الاشتقاق وإن كان فيه نظر، إلا أن المؤلف رحمه الله ينقل النقول ولا يعني هذا أنه يوافق أهل البدع في كل ما يقولون، فهو إنما يبين أن العلماء كلهم يخالفون مذهب المعطلة ويردون عليهم، فكلمة الشائي، اشتقاق من المشيئة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس، إلى أن قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، القائل: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:16-17]، تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء، جل عن ذلك علواً كبيراً ].
هذا الكلام فيه فائدة: وهي أن الأخبار لا يدخلها النسخ، إنما النسخ يدخل على الأوامر والنواهي، أما الأخبار فلا يدخلها النسخ، فمثلاً ما أخبر الله عن قصص الأنبياء وقصص المنافقين، هذا لا يدخله النسخ؛ لأنه أخبار، والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي، فإذا أمر الله بأمر، أو نهى عن شيء، فإنه قد ينسخ للتخفيف، مثل: (نهى النبي عن الشرب قائماً، ثم شرب قائماً)، فهذا قد يقال إنه نسخ، لكن هنا يمكن الجمع بينهما بأن النهي محمول على التنزيه، والفعل محمول على الجواز.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا كلام كان منه، وأنه تحت الأرض، لا على العرش، جل وعلا عن ذلك ].
أي: أن هذه الأخبار لا يمكن أن تنسخ بعد أن أخبر الله بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا عرفت ذلك واستيقنته؛ علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز ].
أي: ستعلم أنه يجوز النسخ على الأوامر والنواهي دون الأخبار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ.. [يونس:90] الآيات، وقال تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31]، وقال: قد تأول قوم أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار؛ لأنه آمن عند الغرق، وقالوا: إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه، وقال: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98]، وقال: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45]، ولم يقل بفرعون.
وقال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25] ].
فهذه شبهة وضعها بعض الملاحدة بعد أن تأولوا الآيات، فقالوا: إن فرعون مؤمن، ولن يدخل النار؛ لأن الله يقول: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:92]، فقالوا: هذه نجاة من النار، بدليل أنه آمن، فالله قد قال عنه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ [يونس:90]، وقالوا: أما قوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهو خطاب لآل فرعون وهو لا يدخل معهم.
وهذا من أبطل الباطل، فهو أول من يدخل مع آل فرعون، فكما أن آل إبراهيم أول من يدخل فيهم وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام، فكذلك آل فرعون على رأسهم فرعون، وأما النجاة المذكورة في الآية، فهي نجاة من الغرق في البحر حتى يراه الناس: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:92]، وليس المراد بها النجاة من النار كما زعموا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:3]، فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علماً بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر عليه أن يصنعه -تجده ضرورة- ].
يعني: لا يمكن أن يخلق الشيء إلا إذا تقدم العلم به، أي: يسبق الخلق علم بالمخلوق.
فالمراد أن الله سبحانه سبق علمه بالأشياء قبل كونها، والإنسان مثلاً إذا لم يعلم عن شيء فلا يمكن أن يكونه، فلو قيل لك مثلاً: اصنع سيارة من كذا وكذا، وأنت لم تر سيارة من قبل، ولا علمتها، ولا سبق في ذهنك شيء عنها، فلا يمكن أن تصنعها، فلا بد أن يسبق علمك بشيء، فالله تعالى خلق الأشياء التي سبق علمه بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، قال: وإنما قوله: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ [محمد:31]، إنما يريد: حتى نراه فيكون معلوماً موجوداً ].
وهذا هو علم الظهور، أي: يظهر علمه سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ [محمد:31]، يعني: حتى نعلمه موجوداً وظاهراً، وإلا فقد علمه قبل ذلك سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوماً من قبل أن يكون، ويعلمه موجوداً كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدوماً موجوداً وإن لم يكن، وهذا محال ].
وهذا لا يمكن؛ لأنه جمع بين النقيضين، والجمع بين النقيضين محال، وذلك بأن يعلم الشيء موجوداً معدوماً في نفس الوقت.
والمراد أن الله تعالى سبق علمه بالأشياء قبل كونها، ولا يقال: سبق علمه بالعدم، أي: علمه معدوماً، ثم علمه موجوداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وذكر كلاماً في هذا في الإرادة، إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15]، ليس معناه: أن يحدث له سمعاً، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعاً حادثاً في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت.
وكذلك قوله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة:105]، لا يستحدث بصراً محدثاً في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكوناً، كما لم يزل يعلمه قبل كونه ].
وقال: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، وقال لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] ].
وهذه وما بعدها كلها أدلة تدل على صفة العلو للرب سبحانه وتعالى، فالعروج يكون من أسفل إلى أعلى، والصعود كذلك من أسفل إلى أعلى، والرفع كذلك، فدل على أن الله في العلو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقال:إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف:206] ].
فقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف:206]، يعني في العلو؛ لأن تخصيصهم بها يدل على أنهم في العلو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر الآلهة: أن لو كانوا آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً، إلى طلبه حيث هو، فقال: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42] ].
فهذا فيه إثبات العلو وأن الله تعالى فوق العرش.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] ].
فاسمه الأعلى سبحانه وتعالى يثبت العلو.
وهناك آلاف الأدلة، كما قال ابن القيم ، بأن هناك ما يزيد على ثلاثة آلاف دليل، كلها تدل على إثبات علو الرب سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك أبداً ].
أي: الأخبار التي أخبر الله بها عن نفسه، ووصف بها نفسه لن تنسخ.
يعني: نصوص المعية ليست ناسخة لنصوص العلو والفوقية، وليست ضدها؛ لأن المعية ليس معناها أنه مختلط بالخلق سبحانه وتعالى، فإن معنى المعية في اللغة: المصاحبة، يقال: فلان مع فلان، يعني: مصاحب له، ولا يلزم منه المحاذاة أو الاختلاط والامتزاج، تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا، مع أن القمر والنجم في الأعلى، فهذه المعية هي بمعنى: المصاحبة.
فالمبتدعة من الجهمية أبطلوا نصوص الفوقية بنصوص المعية، وقالوا: نصوص المعية تدل على أن الله مختلط بالمخلوقات، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وهذا يبطل نصوص العلو، فضربوا النصوص بعضها ببعض، ولهذا قالوا: إن نصوص المعية تبطل نصوص الفوقية وتنقضها، فقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات.
وهذا من أبطل الباطل، فالشيخ رحمه الله يقول: ليس هناك معارضة بين هذه النصوص، فإن نصوص المعية حق، ونصوص العلو حق، فنصوص العلو محكمة، بأن الله فوق العرش، وفوق المخلوقات، ونصوص المعية معناها: المصاحبة، فهو سبحانه مع المخلوقات بعلمه واطلاعه وإحاطته، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، فلا منافاة، وهو مع المؤمنين بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده، ومعهم بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو فوق العرش، وفوق المخلوقات ولا منافاة، فالمعية لا تفيد اختلاط المخلوقات، فقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة:7]، يعني: بعلمه، بدليل أن الله استفتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، ثم قال في آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فهذه معية علم واطلاع وإحاطة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته، فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك ].
يقصد المؤلف رحمه الله أن آيات المعية لا تدل على أن الله تعالى خلق المخلوقات بذاته، فينقل بانتقالها، أو يتبعض فيها على أقدارها، أو يزول عند زوالها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فهو سبحانه وتعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وينزل إلى السماء الدنيا، نزولاً حقيقياً، كما يليق بجلاله وعظمته، لا نزول أمره، ولا نعلم الكيفية، فالنزول معلوم، والكيف مجهول.
فهو سبحانه ينزل كما يشاء سبحانه وتعالى، فلا نكيف، ولا نقول: إنه ينزل ويكون بين طبقتين، مثل نزول المخلوق، فإن هذا تشبيه وتمثيل، ولا يقوله إلا المشبهة والممثلة، فإنهم يقولون: إن الله تعالى بين طبقتين، فهذا لا يقوله مسلم، إنما هو قول الجهمية والمعتزلة، حيث يقولون: إنه سبحانه مختلط بالمخلوقات، فهذا الكلام الذي رده الشيخ وقال: لا توجد منافاة، فنصوص العلو محكمة، والنزول يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيته، نزوله معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائناً، كما هو على العرش، ولا فرقان بين ذلك عندهم ].
هذا قول الجهمية الملاحدة الحلولية نعوذ بالله، فقد قالوا: إن الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، حتى قالوا إنه في أجواف الطيور، وبطون السباع، وفي كل مكان، ولم ينزهوه عن شيء نعوذ بالله، وهل يجرؤ عاقل أن يقول مثل هذا الكلام، قالوا: إنه مثل الهواء الذي ما يخلو منه مكان، نعوذ بالله من الزيغ والضلال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئاً في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائناً، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء ].
يعني: هم قالوا: إنه في كل مكان، ثم قالوا: إنه يستحيل عليه أن يكون في كذا، ويستحيل أن يكون في كذا، وهذا لا يفيدهم؛ لأنهم أثبتوا أنه في كل مكان، فما يفيدهم قولهم إنه يجوز عليه كذا، ولا يجوز عليه كذا.
والآيات التي احتجوا بها هي آيات المعية مثل قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، قالوا: هذا يدل على أنه مختلط بكل المخلوقات.
فهم يقولون: إنه في كل مكان، ثم قالوا: لا كالشيء في الشيء، يعني: لا كالماء حينما يكون في الكوز. فهذا تناقض عجيب عندهم، وأحياناً يقولون: إنه مثل الهواء، وأحياناً يقولون: إنه لا يكون كالشيء بالشيء، يعني: لا يكون ملاصقاً، فهو في كل مكان لكن ليس ملاصقاً، لا كالشيء في الشيء، لا كالماء إذا حل في الكوز، وهذا من تناقضهم، كما قال أبو عبد الله المحاسبي رحمه الله: هذا تناقض، فإنهم قد أثبتوا أنه داخل المخلوقات، فلا يفيدهم قولهم: إنه لا كالشيء في الشيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبد الله : أما قوله: حَتَّى نَعْلَمَ [محمد:31]، وَسَيَرَى اللَّهُ [التوبة:94]، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15]، فإنما معناه: حتى يكون الموجود، فيعلمه موجوداً، ويسمعه مسموعاً، ويبصره مبصراً، لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
وأما قوله: وَإِذَا أَرَدْنَا [الإسراء:16] إذا جاء وقت كون المراد فيه.
وأن قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16]، إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42] فهذا وغيره مثل قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، هذا مقطع يوجب أنه فوق العرش ].
يعني: أن الأدلة على صفة العلو أنواع، منها قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ [فاطر:10]، فهذا نوع من الأدلة؛ لأن الصعود يكون من أسفل إلى أعلى.
وقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، هذا نوع آخر من الأدلة، فهي أنواع متعددة.
وقوله: مقطع، أقرب من قوله: منقطع، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا مقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، يعنى: فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء ].
قوله: من كان فوق كل شيء على السماء فهو في السماء، يعني: في العلو، فهنا (في) ظرفية، ولا يلزم من ذلك أن يكون داخل السماوات، فالعلو: كل ما كان فوق العرش، والله تعالى له أعلى العلو وهو فوق العرش.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال مثل ذلك في قوله: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2]، يعنى: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، يعني: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، يعني: فوقها عليها ].
ومثله قولهم: فلان في السطح، ليس المراد: أنه داخل الجدران، بل المراد: أنه موجود فوق السطح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، ثم فصل فقال: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16]، ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذ فصل قوله: مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، ثم استأنف التخويف بالخسف- إلا أنه على عرشه فوق السماء ].
أي: قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، يعني: في العلو، ويعني: على السماء، فالسماء تطلق على إطلاقين: على العلو فتكون (في) ظرفية، وهذا هو الأصل، وتطلق السماء على الطباق المبنية، وهنا تكون (في) بمعنى على.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]فقال: صعودها إليه، وفصله بقوله: (إليه)، كقول القائل: أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو، وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه، فإنهم صعدوا من الأرض، وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال الله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، ولم يقل عنده ].
فقوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] يعني: العروج يكون إليه، لكن ذلك يكون حاصلاً في يوم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلى إِلَهِ مُوسَى [غافر:36-37]، ثم استأنف الكلام فقال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:37]، فيما قال لي أن إلهه فوق السماوات، فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال، وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ].
وفي نسخة بزيادة منه قال: وعمد لطلبه حيث قاله من الظن منه بموسى أنه كاذب، وهذا أحسن؛ لأنه أوضح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته: لطلبه في بيته، أو بدنه، أو حشه، فتعالى الله عن ذلك، ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح ].
وذلك أن المبتدعة حرفوا الآية وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام لم يثبت العلو، وإنما الذي أثبت العلو هو فرعون، وقالوا: من أثبت العلو فهو على مذهب فرعون، والصحيح أن الله تعالى بين في الآية أن موسى أخبر فرعون بأن الله في العلو، فلذلك طلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً؛ ليطلع إلى إله موسى ليكذبه فيما ادعاه من أن الله في العلو، فالمبتدعة حرفوا الآية والعياذ بالله، ولهذا بين الحافظ رحمه الله الرد عليهم.
[ قال أبو عبد الله : وأما الآية التي يزعمون أنها قد وصلها ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ [المجادلة:7] ].
وما جاء أن الإمام أحمد أمر بهجر الحارث المحاسبيأمر محتمل ويحتاج إلى مراجعة وقد قيل في ترجمته: وقد كان على خلاف كبير مع والده؛ بسبب أن والده كان ممن يقف في مسألة خلق القرآن فلا يقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق فأنكر عليه الحارث ذلك حتى قيل أنه لم يرث من مال أبيه شيئاً، وقد دخل في شيء من علم الكلام وصنف فيه، وكان على قول ابن كلاب في نفي ما يقوم بذات الله من الأمور الاختيارية المتعلقة بمشيئته وقدرته؛ ولهذا أمر الإمام أحمد بهجر الحارث وقيل: إن الحارث رضي عن ذلك.
وقد هجر أباه؛ لكونه توقف في خلق القرآن والإمام أحمد هجره؛ لأنه يقول في الصفات الاختيارية على مذهب ابن كلاب كالغضب والرضا والمحبة.
قال المؤلف -شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى:
[ قال أبو عبد الله : وأما الآية التي يزعمون أنها قد وصلها، ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، فأخبر بالعلم، ثم أخبر أنه مع كل مناج، ثم ختم الآية بالعلم بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فبدأ بالعلم وختم بالعلم، فبين أنه أراد: أنه يعلمهم حيث كانوا، لا يخفون عليه، ولا يخفى عليه مناجاتهم.
ولو اجتمع القوم في أسفل، وناظر إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقاً -ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق- فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة، وقالوا هذا منكم دعوى، خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين أو أكثر هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء فقد خلا منه جسمه، وهذا خروج من قولهم ].
وذلك أن أهل البدع يفهمون من قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4]، الاختلاط، وهي في الحقيقة لا تفيد الاختلاط؛ لأن من كان مع الاثنين فهو خارج عنهم، وليس داخلاً فيهم.
وفي كلام المؤلف هذا رد على الجهمية الذين أبطلوا نصوص الفوقية والعلو بنصوص المعية، وقالوا: إنه مختلط بالمخلوقات، وهذا من أبطل الباطل -كما ذكرنا من قبل- لأن المعية في لغة العرب تفيد مطلق المصاحبة، ولا تفيد الاختلاط ولا الامتزاج ولا المحاذاة عن يمين أو شمال، تقول العرب: ما زلنا نسير والنجم معنا، والقمر معنا، مع أن النجم والقمر فوق، وكقولهم: فلان متاعه معه، وإن كان فوق رأسه، فهذه لغة العرب، والقرآن نزل بها، فقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4]، يعني: معكم بعلمه واطلاعه وإحاطته، وسماع كلامكم ورؤيتكم، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد ].
فقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، هم يقولون: إنه في حبل الوريد؛ لأنه مختلط به، وهذا من أبطل الباطل، فإن من كان قريباً من الشيء لا يكون داخلاً فيه.
وهذا على أحد القولين في الآية، وهو أن الضمير في الآية يعود إلى الله، فقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، يعني: بالعلم والإحاطة.
والقول الثاني: أن مراده الملائكة، أي: ونحن أقرب إليه -بملائكتنا- من حبل الوريد؛ بدليل أنه قيد ذلك بوقت تلقي المتلقيان فقال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق:17]، ولو كان المراد قرب الرب لم يقيد ذلك بوقت تلقي المتلقيان، وأقر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: إن الآية في الملائكة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، لم يقل في السماء ثم قطع، كما قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، ثم قطع، فقال: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16]، فقال: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، يعني: إله أهل السماء وإله أهل الأرض ].
يعني: أنه معبود في الأرض ومعبود في السماء سبحانه وتعالى، فهو في السماء معبود وفي الأرض معبود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك موجود في اللغة، تقول: فلان أمير في خراسان، وأمير في بلخ، وأمير في سمرقند، وإنما هو في موضع واحد، ويخفى عليه ما وراءه، فكيف العالي فوق الأشياء، لا يخفي عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما إذ كان مدبراً لهما، وهو على عرشه فوق كل شيء تعالى عن الأشباه الأمثال].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر