إسلام ويب

شرح الحموية لابن تيمية [12]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد وردت النصوص الكثيرة الصريحة التي تدل بما لا يدع مجالاً للشك أن الله عالٍ علواً يليق بجلال قدره وعظمته، وأنه مع الخلق بمعية خاصة وعامة بعلمه، ومعيته جل في علاه لا يلزم منها مخالطة ومماسة ومحاذاة، وهذا ما يثبته النص الصريح، واللسان العربي الفصيح، وهو سبحانه على العرش استوى، فسبحان من علا فارتفع، وعز فامتنع..
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ].

    وما يدل على أن الكتاب والسنة فيهما الكفاية والهدى والنور قوله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] وقوله: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته.

    ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً البتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه).. ونحو ذلك ].

    أي: أن نصوص المعية ونصوص العلو والفوقية لا يتنافيان ولا يتناقضان، فهو سبحانه وتعالى فوق العرش، وهو مع عباده بعلمه وقدرته وإحاطته، ومع المؤمنين بنصره وتأييده، فلا منافاة؛ لأن المعية ليس معناها: الاختلاط والامتزاج، والمعية لا تقتضي المماسة والمحاذاة، وإنما هي لمطلق المصاحبة، فالمعية معناها المصاحبة، وعليه فيصح القول بأن الله تعالى فوق العرش وهو مع عباده.

    تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا والنجم معنا أي: وهو فوقهم، وليس هناك اختلاط ولا امتزاج ولا محاذاة ولا مماسة.

    ويقال: فلان زوجته معه، وقد تكون في المشرق وهو في المغرب، والمقصود: أنها في عصمته، فهذه المعية المقصودة وهي بمعنى المصاحبة، ولهذا يقول الأحناف: إذا تزوج مشرقي مغربية ولم يثبت أنهما التقيا، ثم أتت بولد في ستة أشهر يلحق الولد بأبيه، أي: بالنسب، في جواز أن يكون من أهل الخطوة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) .. ونحو ذلك.

    فإن هذا غلط ].

    يعني: القول بأن هناك منافاة بين العلو والمعية غلط كبير؛ لأن المعية معناها: المصاحبة، والله تعالى فوق العرش.

    قال المصنف ر حمه الله تعالى: [ وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه). وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين وشمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي بمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة ].

    اختلاف المعية باختلاف مواردها

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه ].

    ولا يعتبر هذا تأويل؛ لأن الله تعالى نص على هذا المعنى فقال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ [الحديد:4]، ثم قال: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4]، فدل على معية علم، وكما في سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فافتتح الآيات بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أنها معية العلم بنص الكتاب لا كما يزعمه البعض أن هذا تأويل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، وكذلك في قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7]، إلى قوله: هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد ].

    أي: أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا) يدل على المعية الخاصة وهي معية نصر وتأييد وحفظ وكلاءة مع العلم والإحاطة، ويجتمع في المؤمن معيتان: معية عامة، وهي معية الإحاطة والعلم، ونفوذ القدرة والمشيئة، وهذه عامة للمؤمن والكافر، يقول تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4] وقال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة:7]، وقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء:108]، وقد تأتي المعية العامة في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].

    أما المعية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين وتأتي في سياق المدح والثناء، كقوله تعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].

    وتجتمع المعيتان في حق المؤمن، فالله تعالى مع المؤمنين بنصره وتأييده، وهو معهم بعلمه وإحاطته، وينفرد الكافر بالمعية العامة فقط.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد.

    وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف ويقول: لا تخف أنا معك، أو أنا حاضر ونحو ذلك، ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه، ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فتختلف باختلاف المواضع.

    فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطة بالخلق حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها ].

    لكن بعض أهل البدع فهموا فهماً معكوساً من عند أنفسهم، فهم لا يدل عليه دليل لا من العقل، ولا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من مدلولات المعية ودلالتها، فقالوا: إن معنى (وهو معكم) أي: مختلط بكم وهؤلاء هم الجهمية، حيث أبطلوا نصوص العلو والفوقية بنصوص المعية، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: معنى (وهو معكم) أي: أنه مشتق من مخلوقاته، وأن ذاته في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

    أنواع قرب الله من عباده

    واختلف أهل العلم في أنواع القرب الوارد في الآيات فذكر الإمام شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يأتي إلا خاصاً، أما قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، فهذا قرب ذوات الملائكة من العبد، بدليل أنه قيدها بوقت تلقي الملكين، فقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق:16-17] يعني: حين وقت تلقي الملكين، ولو كان المقصد قرب الرب لم يتقيد بوقت تلقي الملكين، وكذلك قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يرد القرب إلا خاصاً، وهو نوعان: قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة.

    وقال آخرون: إن القرب يكون عاماً وخاصاً، وذهب إلى هذا بعض العلماء، وفسروا قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] يعني: أقرب إليه بالعلم.

    وقال بعضهم: بالقدرة.

    وقال بعضهم: بالقدرة والرؤية.

    ومن أمثلة تقسيم شيخ الإسلام: تقسيم القرب الخاص إلى نوعين: فقوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، فالساجد قريب من الله، والنوع الثاني: القرب من الداعي بالإجابة، كقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فلم يقل: قريب من كل أحد، ولكن قريب لإجابة الداعي، ومثله حديث أبي موسى الأشعري في الصحيح لما قال: (كنا في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، قوله: (إن الذين تدعونه سميع قريب) أي: قريب من الداعي، ومثل قوله تعالى على لسان نبي الله صالح: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61] يعني: قريب لإجابة الداعي.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ونظيرها من بعض الوجوه الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والتعبيد، فلما قال: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122]، كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره: فقد ربه ورباه ربوبية وتربية أكمل من غيره ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088801031

    عدد مرات الحفظ

    779127303