ذكر المؤلف رحمه الله فيما سبق الكلام على الصحابة، وأنه يجب على المسلم الاقتصاد والاعتدال في الصحابة، وليس له أن يغلو في الصحابة ولا في آل البيت فيرفعهم عن مقامهم إلى مقام النبوة أو الألوهية، وليس له أن يجفو الصحابة أو يسبهم، بل يقتصد ويعتدل.
ثم قال المؤلف: (وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَامْتِحَانِهَا بِمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ شكيلي ، أَوْ قرفندي) هذه أسماء كأنها ألقاب أو فرق كانت موجودة عندهم في ذلك الوقت، ولذا قال (فَإِنَّ هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شكيلي وَلَا قرفندي. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَلْ أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.) يعني: ينبغي للإنسان المسلم أن يكون انتسابه للإسلام وأن يجتمع المسلمون تحت فرقة واحدة، يقول: أنا من أهل السنة أنا مسلم، لا كما هو موجود في هذا العصر، هذا يسمى إخوانياً وهذا يسمى سرورياً وهذا يسمى سلفياً، كل هذه الأسماء مفرِّقة فالواجب على الإنسان المسلم اتباع الكتاب والسنة، ويجب على المسلمين أن ينضووا تحت راية الإسلام، لك أن تقول: أنا مسلم، أنا متبع للكتاب والسنة، أنا من أهل السنة والجماعة، أنا متبع لآثار السلف من أهل السنة والجماعة، ولذلك جاء في الحديث: (أنه حصل خلاف في بعض الغزوات بين مهاجري وأنصاري فنادى الأنصاري: يا للأنصار، ونادى المهاجري: يا للمهاجرين. فلما تنادوا فيما يزيد التفرقة، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة) والمهاجري والأنصاري اسمان إسلاميان، لكن لما كان هناك تحزب، وتعصب غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة)، أي: لا تتحزبوا وإنما اجتمعوا.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال عن اسمين إسلاميين: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فكيف بغيرها من الأسماء؟! كيف يتفرق المسلمون؟! يجب على كل مسلم أن يحكم الكتاب والسنة، وينظر إن كانت أعماله موافقة للكتاب والسنة فهي حق، وإن كانت مخالفة للكتاب والسنة فهي باطل، وإن كان فيها حق وفيها باطل فيأخذ الحق ويرد الباطل.
ولا ينبغي التحزب، بعض الشباب الآن يتحزبون، صار بعضهم ينشغل بهذا، فتراه يسأل: أنت تنتسب إلى الإخوان؟ أنت سروري؟ أنت سلفي؟ وهكذا.. حتى صار بينهم تحزبات وعداوات ومشاحنات، وتركوا العلم. الواجب على الشاب طالب العلم أن يقبل على العلم، ويترك هذه النعرات وهذه التحزبات والعصبيات، وأن يعمل بالكتاب والسنة، ولا ينتمي إلى هذه الفرق، فهذه الفرق يجب أن تجتمع وتتحد وأن تعمل بكتاب الله وسنة رسوله، ومن خالف الكتاب والسنة سواء كان في العقيدة أوفي العبادة أو في المعاملات فعليه الرجوع إلى الكتاب والسنة.
ولهذا المؤلف رحمه الله أنكر على التحزبات في زمانه: كأن يقال أنت شكيلي أو أنت قرفندي، هذه تحزبات كانت موجودة في زمانه، ونحن في زماننا تحزبات، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) كون بعض الناس يقول: أنت سروري أو أنت إخواني أو أنت من أهل كذا، أو أنت من جماعة التبليغ، هذه كلها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، الواجب الانتساب إلى الكتاب والسنة، وسلف الأمة ولهذا قال المؤلف رحمه الله (هَذِهِ أَسْمَاءٌ بَاطِلَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شكيلي وَلَا قرفندي. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَلْ أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.) إذا قال لك: أنت إخواني أو سلفي أو سروري أو تبليغي فقل له: أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله، أنا من أهل السنة والجماعة، أعمل بكتاب الله وسنة رسوله، وحينئذ تلقمه حجراً وتقطع باب الجدال بينك وبينه.
تقول: أنا مسلم متبع للكتاب والسنة، لا أنا إخواني ولا سروري ولا من جماعة التكفير والهجرة، ولا من جماعة التبليغ، إنما أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله، من أهل السنة والجماعة.
وما يفعله بعض الشباب من إضاعة الأوقات في العداوات والتحزبات، ويصنفون الناس إلى كذا وإلى كذا، وينشغلون عن طلب العلم، كل هذا من مكر الشيطان وتسويله وخداعه، حتى يفرق المسلمين، وهذه من دسائس الكفرة وأهل البدع الذين يريدون أن يفرقوا بين المسلمين، ويريدون أن يفسدوا على الشباب التزامهم واتباعهم للكتاب والسنة، وأن يقطعوا عليهم طلب العلم، والطريق الموصل إلى العلم؛ بهذه التحزبات وهذه الحزازات والعداوات، فالواجب على طالب العلم أن يقبل على طلب العلم، ويدع هذه التحزبات.
انظر إلى البصيرة عند ابن عباس حبر هذه الأمة، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه في الدين وأن يعلمه التأويل، وقال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)، فـمعاوية لما سأل عبد الله بن عباس قال له: أنت على ملة علي أو ملة عثمان ؟ قال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان ، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: علي ليس معصوماً وعثمان ليس معصوماً فكلاهما يخطئ ويصيب، وكل الصحابة يخطئ ويصيب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعصوم عن الخطأ فيما يبلغ عن الله، قال عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، وملة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المعصومة، فأنا على ملة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وَكَذَلِكَ كَانَ كُلٌّ السَّلَفِ يَقُولُونَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي النَّارِ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَا أُبَالِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ؟ عَلَى أَنْ هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، أَوْ أَنْ جَنَّبَنِي هَذِهِ الْأَهْوَاءَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ، فَلَا نَعْدِلُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللَّهُ بِهَا إلَى أَسْمَاءٍ أَحْدَثَهَا قَوْمٌ -وَسَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ- مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. ]
يقول المؤلف: (وكذلك كان كل السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار) المراد بالأهواء البدع، فهذه الأهواء في النار، (ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم؟ أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء) يعني: كلاهما نعمتان، النعمة الأولى: أن هداك الله للإسلام، والنعمة الثانية: أن جنبك الله البدع، وجنبك هذه الأهواء.
ثم يقول المؤلف رحمه الله: (وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ، فَلَا نَعْدِلُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللَّهُ بِهَا إلَى أَسْمَاءٍ أَحْدَثَهَا قَوْمٌ -وَسَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ- مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.) فإذا قيل لك: ما أنت؟ فقل: أنا مسلم أنا مؤمن أنا من عباد الله، أنا من أهل السنة والجماعة، فإذا قال: أنت سروري؟ أنت سلفي؟ أنت إخواني؟ أنت من جماعة الهجرة والتكفير؟ إن قلت أنا سروري، قال: أنت فيك كذا وكذا وكذا، وإن قلت: أنا إخواني، قال فيك: أنت كذا وكذا وكذا، وأنت تغلو في الحاكمية وتترك العبادة.. وهكذا، وصار الجدال بينك وبينه، فالأسلم لك والأفضل أن تقول: لست سرورياً ولا إخوانياً، ولا من جماعة التكفير والهجرة، بل أنا مسلم من المسلمين المؤمنين من عباد الله، من أهل السنة والجماعة. فتقطع عليه الطريق وتقطع الجدال بينك وبينه، وتنتهي الخصومة وتشتغل بما ينفعك، وتقول: هذه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لها أصل في الكتاب والسنة، فأنا لا أعترف بها.
فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا، وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عليها، بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ. ]
يعني: الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها ولا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، مثل أن يقول: أنا حنفي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنبلي، فهذه أسماء إلى الأئمة الفقهاء، فيجوز للإنسان أن ينتسب إليها، إذا كان ليس عنده أهلية أن يأخذ بالأدلة فله أن يقلد إماماً من الأئمة، وإذا كان عنده أهلية للنظر فلا يقلد، بل يعمل بالأدلة، ولا يضره كونه يوافق الإمام في الأصول، مثل: شيخ الإسلام حنبلي، لكن ليس مقلداً للإمام، لكن المعنى أنه يوافقه في الأصول: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والعمل بقول الصحابي، وكذلك ابن القيم وغيره يسمون حنابلة، ولكن ليس معنى ذلك أنه يأخذ بأقوال الإمام أحمد بغير دليل، لا، قد يوافقه في الأصول، فلا يضر هذا، ومع ذلك يجوز للإنسان أن ينتسب ويقول: أنا حنبلي أو حنفي، لكن لا يجوز لأحد أن يمتحن الناس ويوالي ويقول: أنت حنبلي فأوالي الحنبلي، أما الحنفي والشافعي فأبغضهم، أو يقول: أنا حنفي ويوالي الأحناف أو يقول: شافعي ويعادي المالكي أو العكس، فهذا غلط، لا يجوز أن يوالي ولا يعادي على المذاهب.
وكذلك أيضاً الانتساب إلى شيخ كالقادري والعدوي، أوالانتساب إلى القبائل كالقيسي واليماني، أو إلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري، كل هذه أسماء لا يجب أن يوالى عليها ولا يعادى عليها، قال الله تعالى في كتابه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لأي شيء؟ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، فلا يجوز للإنسان أن يوالي هذا الشخص؛ لأنه من قبيلته، أو يوالي هذا الشخص؛ لأنه من أهل بلده، أو يوالي هذا الشخص؛ لأنه موافق للمذهب، فالموالاة والمعاداة لا تكون إلا في الله، فيوالي في الله ويعادي في الله، فمن كان مستقيماً على أمر الله نواليه، ولو كان من أقصى الدنيا، ولو كان بعيداً، سواء كان من العرب أو من العجم. ومن كان مخالفاً لأمر الله يعادى ولو كان من أقرب الناس إليك، ولو كان أخاك لأبيك وأمك، تعاديه عداوة دينية، أما الموالاة لأجل القبائل أو لأجل الانتساب إلى المذهب، أو لأجل الانتساب إلى البلد كل هذا ما أنزل الله به من سلطان.
يقول المؤلف رحمه الله: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ: هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يعني: ولي الله هو المؤمن التقي، له وصفان، الوصف الأول: الإيمان، والوصف الثاني: التقوى، فمن كان مؤمناً تقياً فهو ولي الله، وولي الله هو المؤمن التقي، ولي الله هو الذي يوافق الله في محابه ومساخطه، فيفعل ما يحبه الله، ويترك ما يسخطه الله، هذا هو ولي الله.
ليس ولي الله كما يزعم بعض الصوفية هو الذي يتصرف في الكون، هذا كفر وردة، من ادعى أن أحداً يتصرف في الكون فهو كافر مرتد، ومن يسمونهم أولياء يشرعون لهم تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان، ويرون أن بعض الأولياء الصوفية تسقط عنهم التكاليف، وأنه لا يسأل عن شيء، وأنك تكون بين يدي شيخك وإمامك كالميت بين يدي المغسل، فالصوفية لهم قبائح، فهم يزعمون أن أولياءهم ترفع عنهم التكاليف، يدخل بعض الصوفية على تلميذه ولا يمنعه من شيء، فيدخل على زوجته ويفعل بها الفاحشة، ولا يُسأل لأنه يجب أن يكون التلميذ بين يديه كالميت بين يدي الغاسل لا يتحرك ولا يسأل. هكذا يقولون والعياذ بالله.
هذا من أولياء الشيطان ليس من أولياء الرحمن، بعضهم يزعم أن الولي هو الذي يتصرف في الكون، وأن له تدبيراً مع الله، وهذا شرك أكبر أعظم من شرك كفار قريش، يقول بعضهم: إن بعض الأولياء يتصرف في هذا الكون، ويقولون: هناك أوتاد وأقطاب، قد يكون الولي غير معروف؛ وقد يتصرف في الكون وأنت تراه وعليه ثياب مخرقة ومرمي على زبالة وشعوره وأظافيره طويلة، ولا يؤبه له، هذا حسب زعمهم، أقول: كل هذا من الكفر والضلال نعوذ بالله، إن ولي الله هو المؤمن التقي، بدليل قول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عليهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، ما ثوابهم؟ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64] .
إذاً فولي الله هو المؤمن التقي، وليس الولي كما يزعم الصوفية هو الذي رفعت عنه التكاليف ويفعل الكبائر والكفر ولا يُسأل عما يفعل، أو يزعمون أنه يتصرف في الكون، فهذا كفر وضلال.
قوله: (فقد أخبر الله أن أولياءه هم المؤمنون المتقون وقد بين المتقين في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
أي: هؤلاء هم الصادقون، وهذه تسمى آية البر؛ لأن الله تعالى بين خصال البر في هذه الآية، فأهل التقوى هم الذين يفعلون هذه الخصال، والتقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه. وأصلها توحيد الله عز وجل، وفعل الأوامر، وترك النواهي، هذه هي التقوى.
فالْأُولَى دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:22-26].
قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. ]
بيّن المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن حال أولياء الله وما صاروا إليه، وذكر الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، هذا حديث قدسي منسوب إلى قدسية الله، يعني: كونه كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه فيقول: يقول الله تعالى. فهو من كلام الله لفظاً ومعنى مثل القرآن، إلا أن له أحكاماً تختلف عن القرآن، بخلاف الحديث غير القدسي فهو من النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً ومن الله معنى، أما الحديث القدسي فهو من الله لفظاً ومعنى، ولهذا يرويه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، فهذا الحديث القدسي بين فيه الرب سبحانه وتعالى حال الأولياء ومنزلتهم، فقال: (يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)، وفي لفظ: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وهذا فيه الوعيد الشديد على من عادى أولياء الله، والولي كما سبق هو المؤمن التقي، أي: من عادى المؤمن التقي فقد بارز الله بالمحاربة، وفي لفظ: (فقد آذنته بالحرب)، وهذا وعيد شديد لمن آذى المؤمنين المتقين، وأنه على خطر عظيم؛ لأنه محارب لله، ومن حارب الله فهو هالك.
فقوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) هذه بشارة للمؤمن التقي، وهي أن الله يدفع عنه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، لأن من عادى ولي الله فهو مبارز لله بالحرب، ثم يقول الرب سبحانه: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه) يعني: أن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله هو أن يؤدي الفرائض، والفرائض هي: الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وبر الوالدين وصلة الرحم وهكذا.
ثم قال الرب سبحانه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) يعني: فيه أن العبد إذا تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض صار من أحباب الله، مثلاً: يتقرب إلى الله بأداء الصلوات الخمس ثم يتقرب إلى الله بأداء السنن الرواتب، وهي: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، ويتقرب إلى الله بصلاة الضحى، ويتقرب إلى الله بصلاة الليل، وسنة الوضوء، وتحية المسجد، كل هذه من النوافل.
كذلك يتقرب إلى الله بالصدقة بعد أداء الزكاة.
كذلك تتقرب إلى الله بعد صيام رمضان بصيام التطوع.. صيام الإثنين والخميس.. صيام أيام البيض.. صيام ست من شوال.. صيام تسع من ذي الحجة.. صيام التاسع والعاشر من شهر محرم.
كذلك الحج تؤدي الفريضة ثم تحج نافلة.
إذاً: إذا تقرب العبد إلى الله بالنوافل بعد الفرائض صار من أحباب الله، وإذا صار من أحباب الله يحصل له ما قال الرب سبحانه: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَني لَأُعِيذَنَّهُ) هذه كلها آثار ناتجة عن كون العبد محبوباً لله، وقوله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي) المعنى: أن الله يسدده في جوارحه: في سمعه وبصره ويده ورجله، فلا ينظر بعينيه إلى ما حرم الله؛ لأن الله سدده، ولا يسمع بأذنه ما حرم الله، ولا يتناول بيده ويبطش بيده ما حرم الله، ولا يمشي برجله إلى ما حرم الله؛ لأن الله سدده ووفقه، وليس كما يظن بعض الاتحادية الملاحدة، حيث استدلوا بهذا، قالوا: إن الله حل في العبد (فبي يسمع وبي يبصر) (كنت سمعه الذي يسمع به) قالوا: إن الله حل في العبد فصار سمعه، هذا قول الملاحدة الاتحادية، وهذا من أبطل الباطل، تقول: المعنى: أن الله يسدده في جوارحه، فلا يعمل بجوارحه ما يغضب الله، وإنما يستعملها في طاعة الله، وأيضاً مع ذلك: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) المعنى: أن الله يجيب سؤاله، ويعيذه مما استعاذ، ثم قال الرب سبحانه: (وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) هذا التردد ليس كتردد المخلوق، المخلوق يتردد في الشيء؛ لضعفه وجهله وعدم علمه بالنتائج، أما هذا التردد فهو وصف يليق بالله وجلاله وعظمته، ليس فيه نقص، وإنما هو شيء يليق بجلال الله وعظمته، لا يشابه فيه أحداً من خلقه، وصف يليق بالله ليس كتردد المخلوق الذي يدل على ضعفه وجهله وعدم علمه بالنتائج أو بالعاقبة.
وذلك أن العبد يكره الموت والله تعالى يكره ما يكره عبده المؤمن، ولكن هذا التردد لا يمنع من تغليب إحدى الإرادتين، فتتغلب الإرادة التي قدرها الله، ولهذا قال: (ولا بد له منه) فالعبد يكره الموت والله تعالى يكره ما يسيء للعبد، ولكن لا بد من تغليب إحدى الإرادتين، فالله تعالى يريد للعبد الموت؛ لأنه قدره له، ويريد ما يريده عبده وهو كراهة الموت؛ لأن العبد يكره الموت، لكن لا بد من تغليب إحدى الإرادتين، وهو الموت؛ لأنه مقدر ولا بد له منه.
يقول المؤلف رحمه الله: (ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ.) هذه عرفناها (وَالثَّانِيَةُ: هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، فَالْأُولَى دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ. وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ) الأولى: درجة المقتصدين الذين تقربوا إلى الله بالفرائض فقط، والمقتصدون هم أصحاب اليمين الأبرار؛ لأنهم تقربوا إلى الله بالفرائض وهي الواجبات، ووقفوا عند هذا الحد، ما كان عندهم نشاط لفعل النوافل، وهؤلاء المقتصدون تركوا المحرمات فقط، لكن ليس عندهم نشاط لترك المكروهات كراهة تنزيه، فترى المقتصد يتوسع في المباحات، فهؤلاء يسمون المقتصدين الذين يدخلون الجنة لأول وهلة.
الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين أدوا الفرائض، وكان عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات وكان عندهم نشاط فتركوا أيضاً المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا التوسع في المباحات حتى لا يقعوا في المكروهات، هذه درجة عالية، فالسابقون هم أعلى درجة من القسم الأول، وكل من الصنفين يدخل الجنة من أول وهلة، وهناك درجة ثالثة للمؤمنين وهم الظالمون لأنفسهم، الذين يقصرون في بعض الواجبات ويفعلون بعض المحرمات، فهؤلاء ما فعلوا الشرك، لكن فعلوا بعض المعاصي، فهم على خطر من دخول النار، وعلى خطر من عذاب القبر، فقد يعذبون في قبورهم، وقد تصيبهم الأهوال والشدائد، وقد يسلمون وقد يعفى عنهم، وقد يدخلون النار وقد يمكثون فيها مدة طويلة، لكن في النهاية لا بد أن يدخلوا الجنة، وهؤلاء يسمون الظالمين لأنفسهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي.
وكل من الأصناف الثلاثة من أهل الجنة، لكن الصنفان الأول والثاني وهم المقتصدون والسابقون يدخلون الجنة من أول وهلة ولا يدخلون النار، أما الظالمون فهم على خطر، فقد يعفو الله عنهم، وقد يعذبون في قبورهم، وقد تصيبهم الأهوال والشدائد، وقد يشفع فيهم فلا يدخلون النار، وقد يدخلون النار.
وكل من الأصناف الثلاثة مصطفون، وأورثهم الله الكتاب، قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33]، أي: كلهم يدخلون الجنة، لكن المقتصدون والسابقون يدخلونها من أول وهلة، والظالمون قد يتأخر دخولهم، وقد يعفو الله عنهم فيدخلون من أول وهلة، وقد لا يعفى عنهم فيطهرون بالنار، ويعذبون على قدر جرائمهم.
وهناك صنف رابع وهم أهل النار المخلدون فيها.
والكفرة على طبقات: منهم الملحد، ومنهم الزنديق، ومنهم الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، ومنهم المجوسي، فهؤلاء كلهم من أهل النار مخلدون فيها، ولا يدخل أحد منهم الجنة أبدا، نسأل الله السلامة والعافية.
يقول الله تعالى في بيان السابقين: ( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]. يعني: المؤمنون الذين يدخلون الجنة.. المقتصدون والسابقون يسقون من رحيق مختوم، لكن فرق بين شراب المقتصدين وشراب المقربين، فالمقربون يشربون هذا الرحيق صِرفاً، وأما أصحاب اليمين فإنه يمزج لهم مزجاً على حسب الأعمال؛ لأن أصحاب اليمين لم يفعلوا النوافل والمستحبات؛ وفعلوا بعض المكروهات، فيمزج لهم على الماء على حسب أعمالهم؛ لأنهم مزجوا أعمالهم ببعض المكروهات، فمزج لهم الماء يوم القيامة في الجنة، وأما السابقون المقربون فإنهم يشربونه صِرفاً، فيكون ألذ، لأنهم لم يمزجوا أعمالهم بشيء من المكروهات وفضول المباحات.
فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ نِسْبَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] إلَى قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ [الأنفال:75] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10]. ]
في هذا البحث بين المؤلف رحمه الله أن الله تعالى أوجب على المؤمن أن يوالي أخاه المؤمن، وأن المؤمنين يجب أن يوالوا بعضهم بعضاً، وموالاة المؤمن: يعني نصره وحبه وتأييده والدفاع عنه، والوقوف معه في السراء والضراء، فكما أوجب الله على المؤمن موالاة المؤمنين كذلك أوجب معاداة الكفار، وبغضهم والبعد عنهم، وبغض دينهم، وعدم مصادقتهم ومخاللتهم، فلا يتخذ الكافر صديقاً، ولا يركن إليه، بل على المؤمن أن يبغضه ويبغض دينه.
إذاً واجب على المؤمن أن يوالي المؤمنين، أي: ينصرهم ويحبهم ويواليهم ويدافع عنهم، وواجب عليه أن يعادي الكفار ويبغضهم ولا يتولاهم ولا يحبهم ولا يوافقهم فيما هم عليه ولا يعاشرهم ولا يصادقهم، وإنما إذا عاملهم تكون معاملة دنيوية على حسب الحال.. من البيع والشراء معهم إذا احتاج، وهذا لا يلزم منه موالاة، فقد أوجب الله على المؤمنين موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار.
أوجب الله موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأوجب عليهم معاداة الكافرين، وقد سرد المؤلف رحمه الله الآيات التي في سورة المائدة والتي نهى الله فيها عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يعني أيها المسلمون! فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، فتولي الكفرة ردة وكفر، أما الموالاة فهي معصية وكبيرة، والموالاة هي: المعاشرة والمخالطة بدون حاجة.. لا لبيع ولا لشراء ولا للدعوة إلى الله، فيتخذ الكافر صديقاً، أما التولي فهو: محبتهم بالقلب، وينشأ عن ذلك نصرتهم وإعانتهم على المسلمين، فهذا ردة، فمن أحب الكافر بقلبه وأعانه على المسلمين بالسلاح أو بالرأي أو بالمال فهو كافر مثله؛ ولهذا قال الله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] فالتولي ردة والموالاة كبيرة.
ثم قال الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:51-52] الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:52] أي: يوالون اليهود والنصارى، ويقولون: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] وحجتهم هي: أن نتخذ يداً مع اليهود ونتخذ يداً مع المسلمين، فإن انتصر المسلمون قالوا لهم: نحن معكم فأعطونا من الغنائم، وإن انتصر اليهود صاروا معهم وقالوا: نحن معكم، وإنما أظهرنا لهم أننا منهم ونحن معكم، ولهذا كان عبد الله بن أبي يوالي بعض اليهود فإذا قيل له: لماذا؟ قال: أنا أخشى الدوائر. فإذا كانت الدائرة لليهود فيكون لي معهم يد.
قال الله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:52-54]، هذا هو وصف المؤمنين: يحبون الله ويحبهم الله.
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] أي أنهم يعطفون على إخوانهم، ويرقون لهم، ويخفضون الجناح لهم، لكنهم على الكفار أعزة وأقوياء.
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:54-55]، فهذا هو الإيمان، فولي المؤمن هو الله ورسوله والمؤمنون.
من هم المؤمنون؟ قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].
ثم علق المؤلف على الآية فقال: فقد أخبر سبحانه أن ولي المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنون، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة، وكل مؤمن فهو ولي للمؤمنين، وكل مؤمن وليه الله ورسوله والمؤمنون سواء كان منتسباً إلى حرفة، أو كان جزاراً، أو خياطاً، أو بناءً أو مزارعاً، أو تاجراً، أو موظفاً، أو عربياً، أو عجمياً، سواء كان منتسباً إلى نسبة معينة، أو بلدة من البلدان سواءً كانت في المشرق أو في المغرب، أو كان على مذهب الشافعي أو كان مالكياً أو حنفياً، فكل من اتصف بهذه الصفات فهو ولي المؤمن، لا تنظر إلى حرفته ولا إلى بلده ولا إلى نسبته، كل مؤمن تقي متصف بهذه الصفات نتولاه بقطع النظر عن الحرفة وعن النسبة والبلدة والمذهب والطريق.
قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71]، فالمؤمن ولي أخيه ينصره ويؤيده مهما كان.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، فهذه هي أوصافهم، فمن اتصف بهذه الصفات فهو ولي، فيجب على المؤمنين أن يوالي بعضهم بعضاً، فإذا كان مؤمناً مهاجراً مجاهداً آوى ونصر فهذا هو المؤمن الذي يتولى.
قال الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ [الأنفال:75].
وقال سبحانه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] لماذا نصلح بينهما؟ جاء الجواب في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] وهذا عام، فكل مؤمن هو أخو المؤمن ولو كان عربياً وهو أعجمي، ولو كان فراشاً أو كناساً وأنت حاصل على أعلى الشهادات، فهو وليك، فلا تتكبر عليه ولو كان عنده حرفة صغيرة وأنت عندك حرفة عالية أو تعطى مرتباً عالياً، فكل هذا لا ينظر إليه، فالمؤمن ولي أخيه المؤمن قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
وكذلك قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فيجب الإصلاح بينهم لقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، فلأنهم إخوة يجب الإصلاح بينهم.
وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) .
وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه) .
وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسنة كثيرة ].
سرد المؤلف رحمه الله الأدلة من الكتاب على أن المؤمن ولي أخيه المؤمن ينصره ويتولاه، ثم سرد الأدلة من السنة المطهرة، وقوله: في الصحاح، يعني: من الأحاديث الصحيحة التي وردت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فإذا آلمك عضوك تألم الجسم كله فينبغي كذلك أنه إذا تألم مؤمن يتألم المؤمنون كلهم؛ لأنهم كالجسد الواحد، والأمة الإسلامية جسد واحد، يعني: يشترك أفرادها في السراء والضراء، في الآلام والآمال، فما يحزن أخاك يجب أن يحزنك وما يؤلمه يؤلمك، وما يفرحه يفرحك، هكذا يكون الإيمان التام.
وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه) .
وفي الصحاح أيضاً أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهذا حديث عظيم، فلو تدبر وفكر الإنسان في هذا الحديث وطبقه على نفسه فلن يجد حسداً ولا عداوات ولا خصومات ولا نزاعاً بين الناس، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، في أمور الدين وفي أمور الدنيا، فأنت تحب لنفسك أن يوفقك الله للعلم النافع والعمل الصالح، وأن تكون من المحافظين على الصلوات الخمس، ومن المؤدين للواجبات، ومن المنتهين عن المحرمات، فأنت تحب هذا، فيجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فأنت تحب لنفسك من الدنيا أن يرزقك الله مالاً حلالاً فيجب أن تحب لأخيك هذا، وتحب أن يرزقك الله زوجة صالحة فتحب لأخيك مثله، فإذا كنت تحب لنفسك الخير ولا تحبه لأخيك فأنت لم تأتِ بالإيمان الكامل، بل إيمانك ناقص، فإذا كنت تحب لنفسك شيئاً ولا تحبه لأخيك في أمر الدين أو في أمر الدنيا فاعلم أن إيمانك ناقص ولم تؤدِ الإيمان الواجب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم)، وليس هذا من باب الاستحباب بل (لا يؤمن أحدكم) يعني الإيمان الكامل، وهذا واجب وليس مستحباً. فإذا كنت تحب لنفسك أن يوفقك الله للعلم فيجب أن تحبه لأخيك، فإن لم تحبه لأخيك فإنك لم تأت بالإيمان الواجب، وإيمانك ناقص وعليك أن تحاسب نفسك وتراجعها.
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يكذبه ولا يظلمه)، وفي لفظ له: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه). لا تظلمه لا في مال، ولا في أي أمر من أمور الدنيا، ولا تسلمه للعدو بل تدافع عنه، ولا تخذله.
وقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ [الأنعام:159] .
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة بالظن والهوى، وبلا برهان من الله تعالى؟! وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان هكذا، فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم.
وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه ].
وقد جعل الله في عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض. أي: جعل الله في هذه النصوص عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فالمؤمن ولي أخيه قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] .
وجعلهم إخوة متناصرين ينصر بعضهم بعضاً، متراحمين يرحم بعضهم بعضاً، متعاطفين يعطف بعضهم على بعض، وهكذا هو حال المؤمن.
وأمرهم سبحانه بالائتلاف، فيجب أن يأتلفوا ويتفقوا ويتحدوا وأن تكون كلمتهم واحدة وقلوبهم متفقة، ونهاهم عن الاختلاف، فقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران:103] وحبل الله هو: دينه وكتابه، وذم المتفرقين فقال عنهم: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، هذا تهديد لهم.
يقول المؤلف: فكيف يجوز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة، مثلما يفعل بعض الناس من الفرق الموجودة عند بعض المسلمين الشباب، فهذا الشاب يوالي طائفة الإخوان ويعادي الطائفة السلفية، أو هذا الشاب يوالي طائفة السلفيين ويعادي طائفة الإخوان.
إن الموالاة والمعادة لا تكون إلا في الله، وهذه الطائفة إذا كان عندها أخطاء تُبين أخطاؤها فإن رجعوا عن البدع وإلا يُهجروا، أما أن يوالي لأجل الطائفة فقط، فهذا لا يجوز، بل يجب عليك أن تنظر إلى الطائفة التي تريد أن تواليها، فإن كانت على الباطل، وإن كان فيها بدع فيجب ألا يواليها المسلم أما أن يوالي الطائفة فقط لأنهم من أهل بلده، أو لأن هواه يميل إليهم فهذا خطأ، ولهذا قال المؤلف: كيف يجوز مع هذا لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى؟ لكن إذا وجد برهان فلا بأس، وإذا كانت هذه الطائفة عندها بدع فيجب على المسلم أن يهجرها ويبتعد عنها ويتبرأ إلى الله منها فقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان على الاختلاف والتفرق.
فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم، لأن الخوارج يوالون ويعادون لأجل اعتقادهم الفاسد، ويكفرون الناس بالمعاصي، فمن عصى أو من فعل كبيرة كفروه، وإذا كفروه عادوه واستحلوا دمه وماله وخلدوه في النار، فهؤلاء يوالون ويعادون بالهوى.
وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله.
وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وهذا أقل ما يكون من الخلاف والفرقة، فإذا وجد أحداً يوافقه على هواه والاه وإن كان غيره أتقى منه، فالأتقى لله لا يواليه؛ لأنه خالف هواه، وهذا يواليه؛ لأنه وافق هواه، فهذا أقل ما في الخلاف، والواجب أن تكون الموالاة لله لا للهوى.
وثبت في الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) لا سيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسباً إلى الشيخ عدي ].
الآن وجه الخطاب إلى طائفة عدي بن مسافر الأول، فقوله: (أن يكون مثلكم). يعني: شافعي؛ لأنهم كانوا شافعية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه ودمه وماله مع ما قد ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن؟ ].
فالواجب على المسلم أن يقدم ما قدمه الله ورسوله، ويؤخر ما أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، ويرضى بما رضي الله به ورسوله، فهذا هو المؤمن، وهذه صفة المؤمن الولي، وهذا هو التقي وهو الذي يوافق ربه فيرضى لرضا الله ويغضب لغضب الله، ويوالي في الله ويعادي في الله، ويحب في الله ويبغض في الله، ويكون خوفه ورجاءه من الله، وعطاءه لله ومنعه لله.
والولي هو المؤمن التقي والولاية هي موافقة الولي الحبيب فهي محابه ومكارهه، والولي هو الذي يوافق الله ورسوله في محبوباته ومكروهاته، وعطائه ومنعه، وحبه وبغضه، فهذا هو الولي.
وأن يكون المسلمون يداً واحدة فبعض الناس يضلل من خالفه فيقول فيه: إنه ظالم أو كافر، وقد يكون الصواب معه ولكن لأنه خالفه قال فيه: ظالم، وكافر، وفاسق، لو حققت ودققت وجدت الصواب معه.
فيجب على الإنسان أن يتورع ويحبس لسانه عن صغير التكفير، ويتأمل ويتدبر الأمر، فقد يكون هو المخطئ، ولهذا قال المؤلف: وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافراً أو فاسقاً، فمن أخطأ فلا تضلله ولا تكفره، ومن حصل منه زلة فهذا لا يبيح لك تكفيره، ولهذا قال المؤلف: وقد عفا الله لهذه الأمة الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
وثبت في الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) وهذه رواية الإمام مسلم ، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، فخاف الصحابة، وشق عليهم هذا، وجثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! أُمرنا بالصلاة والصيام والحج وهذه نطيقها وقد نزلت عليك هذه الآية ونحن لا نطيقها، وهي: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] يعني: ما تبديه لنفسك أو تخفيه فالله يحاسبك به، فمن الذي يستطيع أن يمنع الوساوس في الصلاة مثلاً.
فجثوا على الركب وقالوا: (يا رسول الله! لا نطيق هذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فلما اقترأ القوم وذلت بها ألسنتهم نسخها الله وأنزل في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ولما قالوا: سمعنا، أنزل الله في إثرها آية تخفف عنهم وهي: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت. رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت. رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال الله: قد فعلت). وهذا رواه الإمام مسلم في صحيحه.
يقول المؤلف: لا سيما وقد يكون من يوافقكم في شيء أخص من الإسلام.
يخاطب عدي بن مسافر ، مثل أن يكون مثلكم على منهج الشافعي أو منتسب إلى الشيخ عدي ، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه. يعني يقول: إن بعض الناس يعادي الشخص الذي يخالفه حتى قد يكون موافقاً له في المذهب يكون شافعياً مثله أو منتسباً إلى الطائفة التي أنت منتسب إليها، لكنه يخالف في أمر من الأمور فيبدعه أو يكفره أو يفسقه وقد يكون الصواب معه، ثم تجد بعض الناس يستحل دمه وماله وعرضه، فيغتابه أو يأخذ ماله، أو يستحل دمه وجسده بالضرب، أو بالسجن، أو بالقتل -على سبيل المثال- من أجل أنه خالفه وقد يكون الصواب معه، فكيف يكون هذا الفعل من أفعال المسلم مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن على أخيه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر