إسلام ويب

شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [6]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للقبوريين شبهاً يحتجون بها، ويتشبثون بها للدلالة على صحة أفعالهم الشركية والبدعية، وهذه الشبه ليست بشيء إذا ما وضعناها في الميزان العلمي، وعرضناها على الكتاب والسنة، وقد قام العلماء بمناقشتها وبيان وهائها.

    1.   

    تفنيد شبهات القبوريين في الاستغاثة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن قلت: الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنه قد صح أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر.

    قلت: هذا تلبيس؛ فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكرها أحد، وقد قال الله تعالى في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15]، وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم؛ وطلبهم منهم أموراً لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية المريض غيرها.

    بل أعجب من هذا: أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباع من يعتقدون فيه قد يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون الأولون.

    ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه وقال: هذه لسيده فلان -يريد صاحب القبر- نصف مهر ابنتي؛ لأني زوجتها وكنت ملّكت نصفها فلاناً: يريد صاحب القبر.

    وهذه النذور بالأموال وجعل قسط للقبر، كما يجعلون شيئاً من الزرع يسمونه (تلماً) في بعض الجهات اليمنية. وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام! وهو داخل تحت قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ [النحل:56] بلا شك ولا ريب.

    نعم استغاثة العباد يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى ليفصل بين العباد بالحساب؛ حتى يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه، أعني طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لـعمر رضي الله عنه لما خرج معتمراً: (لا تنسنا يا أخي من دعائك)، وأمرنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين ونستغفر لهم، يعني: قوله تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، وقد قالت أم سليم رضي الله عنها: (يا رسول الله خادمك أنس ! ادع الله له)، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه.

    والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً أن يشفوا مرضاهم، ويردوا غائبهم، وينفسوا عن حبلاهم، وأن يسقوا زرعهم، ويدروا ضروع مواشيهم، ويحفظوها من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:197]، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [الأعراف:194]، فكيف يطلب الإنسان من الجماد، أو من حي الجماد خير منه؟! لأنه لا تكليف عليه ].

    هذه من سلسلة الشبهات والأسئلة التي يوردها المؤلف مما ترد على ألسنة القبوريين، فيقول رحمه الله: فإن قلت: إن الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنه قد صح أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر.

    هذه شبهة يوردها بعض القبوريين، فيقول قائلهم: أنت تقول: إن الاستغاثة شرك، وأنا عندي دليل على أن الاستغاثة ليست بشرك. فإن قلت له: وما دليلك؟ يقول لك: ثبت في الصحيحين وغيرهما: (أن الناس يوم القيامة إذا دنت الشمس من رءوسهم وزيد في حرارتها استغاثوا بالأنبياء، فيأتون أولاً آدم فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربك، فيعتذر قائلاً: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني أكلت من الشجرة التي نهاني الله عنها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا -في لفظ: إلى إبراهيم بعد آدم، وفي اللفظ الآخر أنهم يذهبون بعد آدم إلى نوح- إلى نوح، ويأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيعتذر ويقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم بسببها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيعتذر لهم إبراهيم بكذباته الثلاث، وهي في حقيقتها تورية، ثم يحيلهم إلى موسى، فيقول لهم: اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيعتذر لهم ويقول إنه قتل نفساً بغير حق، ثم يقول لهم: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيعتذر عيسى لهم ويقول: إنه اتخذ وأمه إلهين من دون الله، ويقول لهم: اذهبوا إلى محمد؛ فإنه خاتم النبيين، فيشفع نبينا عليه الصلاة والسلام فيهم، ويقول: أنا لها أنا لها).

    فهذا ا لحديث يستدل به القبوريون ويقولون: هذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست منكراً؛ لأن هؤلاء الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى، فليست الاستغاثة منكراً، والجواب: قال المؤلف: قلت هذا تلبيس؛ فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكرها أحد، أي: هذا تلبيس منكم أيها المشركون! لأن الناس حينما يستغيثون يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى هذا وهم أحياء، والاستغاثة بالحي لا شيء فيها إذا كان يقدر على التنفيذ، كإنسان غريق في البحر وعنده سباح فقال للسباح: أغثني، والسباح عنده قدرة على إنقاذه فأنقذه، فمثل هذا لا شيء فيه، وكذا لو أن إنساناً عليه ديون فاستغاث بمن يعينه على قضاء دينه فأغاثه، فلا بأس في ذلك، وعلى هذا فقس، وإنما الممنوع هو الاستغاثة بالميت؛ لانتهاء الأمل فيه، وكذا تمنع الاستغاثة بالغائب الذي لا يسمع، أو الاستغاثة بالحي في شيء لا يقدر عليه إلا الله، فهذا وأمثاله من الشرك.

    فالمؤلف يقول لهم: هذا تلبيس منكر؛ لأن هذا الدليل الذي ذكرتموه إنما هو دليل على أن الاستغاثة بالحي الحاضر جائزة، والذي ننكره عليكم هو الاستغاثة بالأموات، أو بالغائبين، أو بالأحياء الذين لا يقدرون.

    قال المؤلف: ومن الأدلة على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي.

    وذلك أن موسى خرج -قبل النبوة- في مصر فوجد رجلين يقتتلان كما قص الله علينا ذلك في سورة القصص، فقال سبحانه: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] أي: واحد من بني إسرائيل من جماعة موسى والآخر قبطي، فاستغاث الإسرائيلي بموسى؛ لأنه من جماعته، أي: من بني إسرائيل، ومعنى استغاث به، أنه قال له أغثني، فأغاثه موسى، فضرب خصمه ضربة فقضى عليه، أي: قتله، فلما علم فرعون وملؤه صاروا يطلبونه، وجاء رجل من أقصى المدينة ينصحه قائلاً: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] فخرج من مصر.

    الشاهد من هذا: أن موسى أغاث الإسرائيلي، لكن إنما استغاثه الإسرائيلي لأنه حي حاضر، فأغاثه موسى.

    وكان هذا قبل النبوة ثم تاب الله عليه، وبعد ذلك أرسله الله تعالى، فهذا من الأدلة على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، وقد قال الله في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15].

    يقول المؤلف: وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، فهذا هو الشرك، كأن يقول: يا فلان أغثني، أو يا فلان رد غائبي، والمستغاث به ميت، ويقول: أنا في حسبك وجوارك فلا تخيب رجائي، اشفع لي عند الله، أنقذني من النار! أدخلني الجنة! ارزقني! انصرني على عدوي! فهذا هو الشرك بعينه؛ لأنه -أي: المدعو ميت- ليست بيده أسباب الإجابة، وكذلك الغائب والحي الحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولهذا قال المؤلف: وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أموراً لا يقدر عليها إلا الله من عافية مريض ونحوه.

    بل الأعجب من هذا: أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباعهم ممن يعتقدون فيهم يجعلون لوليهم المزعوم حصة من الولد إن عاش! ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش! وهذا من شركهم.

    ومعنى: يجعل له حصة من الولد أن يقول مخاطباً صاحب القبر: إن عاش هذا الولد فلك نصفه، أي: نصف كسبه، أو يقول مثلاً في بنته: إن عاشت هذه البنت حتى تتزوج فلك نصف المهر، أي: لصاحب القبر، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، أو في بطن الدابة أو غيرها، ويشترون من صاحب القبر الحب بكذا ويعطونه منه؛ حتى لا تصيبه عاهة، فيقول المؤلف في هذا ومثله: إنه شرك ما بلغ إليه المشركون الأولون.

    قوله رحمه الله: ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور: أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه وقال: هذه للسيد فلان -يريد صاحب القبر- نصف مهر ابنتي، أي: لما زوج ابنته أخذ نصف المهر وأعطاه للسيد صاحب القبر، ونصف المهر جعله لها، وقال -أي: الناذر لصاحب القبر- إني زوجتها وكنت قد ملكت نصفها سيد فلان، أي: أنه ملك نصفها لصاحب القبر، فلما تزوجت أعطى نصف المهر لصاحب القبر.

    يقول المؤلف: وهذه النذور بالأموال، وجعل قسط للقبر كما يجعلون شيئاً من الزرع يسمونه تلماً في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام! وهو داخل تحت قول الله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ [النحل:56] بلا شك ولا ريب، فإن هذا جاء في القرآن، أي: جاء أن المشركين يجعلون نصيباً من الزرع والأنعام لشركائهم من الأصنام ونحوها ونصيباً آخر لله، فقال الله تعالى عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136].

    يقول المؤلف: هذا شيء ما وصل إليه عباد الأصنام، أي: أن عباد الأصنام فعلوا هذا كما بين الله في القرآن، فهم إذا أخذوا شيئاً من الزروع أو الثمار يجعلون قسطاً منها لله، وقسطاً آخر لصاحب القبر، فإذا زاد القسط الذي لله أخذوه وقالوا: الله غني عنه، وإذا زاد لصاحب القبر جعلوه له ولم يأخذوه منه، فيفضلونه على ربهم، وهذا معنى قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136] هذا من جهلهم وضلالهم ومبالغتهم في الشرك.

    1.   

    ما يجوز من الاستغاثة وما لا يجوز

    يقول المؤلف: مع أن استغاثة العباد يوم القيامة بالأنبياء إنما هي ليدعوا الله لهم ليفصل بينهم يوم القيامة بالحساب حتى يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه، أعني طلب دعاء الله تعالى من بعض عباده لبعض.

    ويعني رحمه الله: أن العباد حينما يستغيثون يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد، هذه استغاثة حي بحي، وهذا لا بأس به؛ لأن الناس أحياء والأنبياء أحياء، واستغاثة الحي بالحي القادر لا إشكال فيها، والممنوع هو: استغاثة الحي بالميت، أو بالغائب، أو بالحي غير القادر، ولهذا قال المؤلف: وهذا لا شك في جوازه، أعني: طلب دعاء الله تعالى من بعض عباده لبعض، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـعمر رضي الله عنه لما خرج معتمراً: (لا تنسنا يا أخي من دعائك)، وفي لفظ: (لا تنسني يا أخي من دعائك)، لكن هذا الحديث فيه ضعف؛ لأن في سنده عاصم بن عبيد الله العمري وهو ضعيف، ولكن المعنى صحيح، وقد دلت النصوص على أنه لا بأس بدعاء الحي للحي، ومن ذلك قول الله تعالى وقد أثنى على الأحياء لاستغفارهم لمن سبقهم بالإيمان: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، وقد قالت أم سليم رضي الله عنها: (يا رسول الله خادمك أنس ، ادع الله له)، وهذا في الصحيحين وغيرهما، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لـأنس ، وهذا دعاء حي حاضر لحي حاضر.

    يقول المؤلف: وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه، يعني دعاء الحي للحي، والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً أن يشفوا مرضاهم، هذا هو الشرك، وهو طلب بعض الأحياء من صاحب القبر أن يشفي مريضه، أو طلبهم من الحي غير القادر أن يشفي مرضاهم وليس من شاف إلا الله، أو أن يرد الغائب، أو ينفس عن الحبلى -أي: الحامل-، أو يسقي زرعهم، أو يدر ضروع مواشيهم، أو يحفظها من العين، فكل هذا شرك، سواء طلبه من الميت أو من الغائب أو من الحي الحاضر؛ لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله.

    يقول المؤلف: هؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:197] أي: هم لا ينصرون أنفسهم فكيف ينصرونكم؟ وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [الأعراف:194] فكيف يطلب الإنسان من الجماد، أو من حي الجماد خير منه!! لأنه لا تكليف عليه.

    1.   

    سلوك القبوريين مسلك المشركين الأوائل

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136]، وقال: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل:56].

    فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله تعالى، وجعلوا لهم جزءاً من المال، وقصدوا قبورهم، من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقرباً إليهم، وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك.

    ولا أدري هل فيهم من يسجد لهم؟ لا أستبعد أن فيهم من يفعل ذلك، بل أخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده تعظيماً له وعبادة.

    ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا كان عباد الأصنام وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، وفي الحديث الصحيح: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ].

    يقول المؤلف: وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم، أي: يبين أن ما فعله هؤلاء القبوريون مثل ما فعله المشركون الذين حكى الله عنهم في سورة الأنعام بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136] أي: يجعلون لشركائهم نصيباً من الأصنام، والقبوريون فعلوا مثل فعلهم، فجعلوا نصيباً لصاحب القبر ونصيباً لله، وقد قال الله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل:56].

    يقول المؤلف: فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة، والقذة هي: ريش السهم، والمعنى: أنهم نهجوا نهجهم دون انحراف أو تغيير، سواء بسواء، كما تشبه ريشة السهم الريشة الأخرى دون زيادة أو نقصان، فهؤلاء القبوريون الذين يعتقدون في أصحاب القبور النفع والضر سلكوا مسلك عباد الأصنام حذو القذة بالقذة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله، فاعتقدوا أنهم ينفعون ويضرون من دون الله، ويقربونهم إلى الله، ويشفعون لهم، ويجلبون لهم الرزق، ويردون الغائب، ويشفون المريض. وهذا لا يعتقد إلا في الله، ومع ذلك اعتقدوا فيهم هذا الاعتقاد، وجعلوا لهم جزءاً من المال، كما جعل عباد الأصنام لأصنامهم، وقصدوا قبورهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حولها، وقاموا خاضعين عندها، وهتفوا بأصحابها عند الشدائد، ونحروا لهم تقرباً إليهم.

    سجود عباد القبور لأوثانهم

    يقول المؤلف: ولا أدري هل فيهم من يسجد لهم؟ ولا أستبعد أن فيهم من يفعل ذلك، بل أخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده؛ تعظيماً له، وهذا واقع، فهم يسجدون ويركعون لهم من دون الله، ولذا ألف بعض عباد الرافضة والشيعة كتاباً سماه: حج المشاهد، وهي القبور، فجعل للقبر حجاً، وقال فيه: إن الإنسان إذا أتى صاحب القبر يحرم أولاً كما يحرم الحاج، فإذا وصل إلى القبر استلمه وطاف به كما يطوف الحاج أو المعتمر بالكعبة! فإذا طاف بهذا الوثن صلى بعد ذلك ركعتين، وسجد لصاحب القبر، فإذا انتهى ذبح لصاحب القبر، وحلق رأسه وهكذا. حج كحج بيت الله العتيق، ويفعل هذا الشرك ألوف من الناس، ثم يهنئ بعضهم بعضاً إذا انتهوا، ويقولون لبعضهم: أعظم الله أجرك وتقبل منك. فإذا قيل لأحدهم: هل تبيع هذه الحجة إلى القبر بحجة لبيت الله الحرام؟ قال: لا، ولا بألف حجة! نسأل الله السلامة والعافية.

    فهذا واقع كما قال المؤلف.. يسجدون لهم، ويذبحون، وينذرون، ويحجون، ويكشفون رءوسهم، ويحلقون ويفعلون جميع أنواع العبادة تقرباً لهذه الأوثان.

    تعظيم عباد القبور أوثانهم أكثر من الله

    يقول المؤلف رحمه الله: بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا كان عباد الأصنام إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى عنهم: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، وفي الحديث الصحيح: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه الشيخان وغيرهما.

    يعني: أن هؤلاء الوثنيين يقسم أحدهم باسم الولي، ولا يقسم باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته، فلا يقسم إلا باسم الولي، يقول أحدهم مثلاً: والبدوي ، وزينب ، وابن علوان أو بـعبد القادر الجيلاني ، فإذا حلف باسم الولي لا يمكن أن يحنث في حلفه، وأما إذا حلف باسم الله فلا يبالي؛ لأنه يعظم الصنم والوثن أكثر من تعظيمه لله، فإذا حلفت له بالله ما يصدق ولا يبالي، وإذا حلفت له باسم الولي فإنه يصدق، فهؤلاء عظموا أصنامهم وأوثانهم وقبورهم أشد من تعظيمهم لله.

    1.   

    كلمة التوحيد عاصمة لدم قائلها ما لم يأت بناقض

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف باللات، فأمره أن يقول: لا إله إلا الله.

    وهذا يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامه فإنه قد كفر بذلك، كما قررناه في (سبل السلام شرح بلوغ المرام) وفي (منحة الغفار)، فإن قلت: لا سواء؛ لأن هؤلاء قد قالوا لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).

    وقال لـأسامة بن زيد : (لم قتلته بعدما قال لا إله الله)؟ وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بخلاف المشركين.

    قلت: قد قال صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها) وحقها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة، فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها؛ لأنكارهم بعض الأنبياء.

    وكذلك من جعل غير من أرسله الله نبياً لم تنفعه كلمة الشهادة، ألا ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ولكنهم قالوا إن مسيلمة نبي؛ فقاتلهم الصحابة وسبوهم، فكيف بمن يجعل للولي خاصة الإلهية ويناديه للمهمات؟

    وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق أصحاب عبد الله بن سبأ ، وقد وكانوا يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم غلوا في علي رضي الله عنه، واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأشباههم، فعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحداً من العصاة، فحفر لهم الحفائر، وأجج لهم النيران، ألقاهم فيها ثم قال:

    لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا

    وقال الشاعر في عصره:

    لترم بي المنية حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين

    إذا ما أججوا فيهن ناراً رأيت الموت نقداً غير دين

    والقصة في (فتح الباري) وغيره من كتب الحديث والسير، وقد وقع إجماع الأمة على أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، فكيف بمن يجعل لله نداً؟ ].

    1.   

    الحلف بغير الله شرك

    يقول المؤلف رحمه الله: وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف باللات، فأمره أن يقول: لا إله إلا الله.

    جاء في الحديث: (من حلف فقال في حلفه: واللات، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال: تعال أقامرك، فليتصدق) فمن حلف وقال باللات، فليقل: لا إله إلا الله، فهذه الكلمة تكفر تلك، ومن قال: تعال أقامرك، فليتصدق؛ فالصدقة تكفر دعوته للقمار، يعني: أن قوله لآخر: تعال نفعل القمار -والقمار معصية- عليه أن يتوب منها وذلك بأن يتصدق، وتكون الصدقة مكفرة، وإذا حلف وقال: واللات، فعليه أن يقول: لا إله إلا الله؛ لأن من حلف باللات فقد أشرك، فلابد أن يأتي بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فهي تكفر عنه.

    حكم من حلف بغير الله

    أما قول المؤلف رحمه الله: وهذا يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامه، فإنه قد كفر بذلك، كما قررناه في سبل السلام.

    هذا الكلام فيه تفصيل: فإذا حلف وقال: واللات، معظماً لها معتقداً تعظيمها كتعظيم الله، أو أنها تستحق شيئاً من العبادة التي لا تصرف إلا لله، فهذا لا شك أنه كفر كفراً أكبر، وأما من حلف بها مجرد حلف فقط وهو لا يعتقد أنها تستحق العبادة، فهذا قد يكون كفره كفراً أصغر، فلا يخرجه من الملة، وهذا هو ظاهر الحديث، أي: يكفر كفراً أصغر، وأنه إذا قال: لا إله إلا الله، فهذه تكفر عنه.

    كذلك أيضاً من قال: تعال أقامرك، تكون كفارته أن يتصدق للحديث: (من حلف فقال: واللات، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال: تعال أقامرك، فليتصدق).

    شبهة إيمان من حلف بغير الله وردها

    يقول المؤلف: فإن قلت: لا سواء، -هذه شبهة- لأن هؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وقال لـأسامة بن زيد رضي الله عنه: (لم قتلته بعدما قال لا إله إلا الله) وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بخلاف المشركين.

    أورد المؤلف شبهة، وهي: إذا قلت: أيها القبوري! إن هؤلاء القبوريين يختلفون عن عباد الأصنام السابقون فليسوا سواء، فعباد الأصنام السابقين لا يقولون: لا إله إلا الله، ولا يصلون ولا يزكون ولا يحجون، وأما عباد القبور فهم يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويزكون ويحجون.

    وكذلك أيضاً من شبههم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).

    ومن الشبه التي يوردونها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأسامة بن زيد لما أراد قتل الكافر فقال الرجل: لا إله إلا الله ، فقتله أسامة ، ظناً منه أنه إنما قالها تعوذاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟).

    ومن الشبه التي يوردونها: أن هؤلاء يصلون ويزكون ويحجون بخلاف المشركين، وهذه رابع شبهاتهم التي أوردها المؤلف عنهم.

    والجواب عن هذه الشبه أن يقال: إن الذي يقول: لا إله إلا الله، إذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام فإنما تبطل هذه الكلمة لا إله إلا الله، فإذا كان الإنسان موحداً يصلي ويصوم ويزكي ويحج، لكن فعل الكفر، أو تكلم بكلمة الكفر، أو سب الله، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، كمن أحل الزنا، أو الخمر، أو أنكر وجوب الصلاة، أو الزكاة، أو الحج: كفر، ولو قال لا إله إلا الله، فلا تنفعه؛ لأنها انتقضت، مثل: أن يتوضأ الإنسان ويحسن الوضوء ثم يخرج منه حدث كالبول أو الغائط أو الريح، فهل تبقى الطهارة أو تزول؟ لا شك أنها تنتهي وتزول، وما الذي أزالها وقد توضأ؟ إنه الحدث، فكذلك إذا قال لا إله إلا الله، ثم سب الله بطلت لا إله إلا الله وانتقضت بالكفر والردة والعياذ بالله، هذا خلاصة الجواب، أي: إذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام لم تنفعه لا إله إلا الله، ولا صلاته ولا زكاته ولا صومه ولا حجه.

    وأما حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم) فمعنى حتى يقولوا: لا إله إلا الله، أي: معتقدين لمعناها، عاملين بمقتضاها مبتعدين عما يناقضها، ثم قال: (إلا بحقها)، ومن حقها أداء الواجبات، وترك المحرمات، ومن حقها أيضاً: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن قال: لا إله إلا الله، وامتنع عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الحج، فإنه يقاتل حتى يؤدي حقوق لا إله إلا الله.

    وأما قول النبي لـأسامة لما قتل رجلاً وقد قال: لا إله إلا الله، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟! فهذا لأن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ويجب الكف عنه، وحينئذ ننظر: إن التزم بالإسلام فالحمد لله، وإن لم يلتزم وفعل ما ينقض هذه الكلمة قتل بعد ذلك، ولهذا قال العلماء: لو أدى الفرائض، أو تشهد، أو صلى، حكم بإسلامه، ثم بعد ذلك ننظر: إن التزم بمقتضيات إسلامه وتوحيده فالحمد لله، وإن فعل ما ينقض الإسلام قتل بعد ذلك مرتداً، لكن حينما يقول: لا إله إلا الله يجب الكف عنه. هذا هو الجواب.

    1.   

    الرد على قولهم بأنهم يصلون ويصومون وإن فعلوا تلك الأفعال

    أما قولهم: إن هؤلاء يصلون ويزكون ويحجون، بخلاف المشركين، فنقول لهم: إذا كان هذا يصلي ويزكي ويحج ويقول: لا إله إلا الله، ثم فعل ناقضاً من نواقض الإسلام بطلت الصلاة والزكاة والصوم والحج، وبطل التوحيد؛ لفعله ناقضاً من نواقض الإسلام، فلو قال: لا إله إلا الله، وكان يصلي ويزكي ويحج، ثم سب الله، هل تنفعه الصلاة والزكاة والصوم والحج؟ لا تنفعه، وهل تنفعه إذا سب الرسول، أو سب دين الإسلام، أو قال: الصلاة ليست واجبة، أو هي مجرد رياضة فمن أحب أن يصلي فليصل، ومن لم يحب أن يصلي فلا؟ فهذا ولو لم يترك الصلاة فإنه يكفر، وكذا إن أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة كأن يقول: الربا، أو الزنا، أو الخمر، أو عقوق الوالدين حلال، فإنه يكفر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، بخلاف ما إذا أنكر شيئاً مختلفاً فيه فلا يكفر.

    قال المؤلف رحمه الله: قلت: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلا بحقها، وحقها: إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى.

    والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة.

    قوله عليه الصلاة والسلام: إلا بحقها، المراد: أداء الواجبات وترك المحرمات، والأقرب في الجواب أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) مراده: عارفين لمعناها، عاملين بمقتضاها، وهذا لابد منه، فليس مجرد قولها باللسان يكفي المسلم، فلابد من الالتزام بحقوقها، فالقبوريون لم يفردوا الإلهية، أي: لم يقوموا بحقها من أداء الواجبات وعلى رأسها التوحيد، واجتناب المحرمات وعلى رأسها الشرك، فهذه الكلمة لابد فيها من معرفة المعنى، والعمل بالمقتضى، والبعد عما يناقضها، وإذا عرف معناها يكون قائلهاً عاملاً بمقتضاها ولابد، وإلا لم تنفعه؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها؛ لإنكارهم بعض الأنبياء، أي: أن اليهود يقولون: لا إله إلا الله، لكن لا تنفعهم؛ لأنهم لم يقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ناقض من نواقض الإسلام.

    ولهذا نفى الله إيمان اليهود به، وأمر قتلهم في قوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

    فنفى الله الإيمان عنهم، وجعل إيمانهم إيماناً لاغياً لا قيمة له؛ لأنهم فعلوا ناقضاً من نواقضه، فلم يقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء، وكذلك من اتخذ غير من أرسله الله نبياً لم تنفعه كلمة الشهادة، كأن يقر بنبوة مسيلمة أو الأسود العنسي أو غيرهم ممن ادعى النبوة كفر، ولو كان يصلي، ويصوم، ويزكي، ويقول لا إله إلا الله فلا تنفعه، بل تبطل أعماله كلها، لماذا؟ لأنه فعل ناقضاً من نواقض الإسلام.

    ثم ذكر المؤلف أمثلة لهذا.

    1.   

    أمثلة لمن ارتد بفعل ناقض من نواقض الإسلام

    المثال الأول: بنو حنيفة، وكانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون، لكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، وكان لهم محلة يقال لها محلة بني حنيفة في الكوفة، فجاءوا للجهاد يقاتلون من ناوءهم، ثم مر بهم بعض الصحابة فسمعهم يقولون: مسيلمة نبي، فأجمع الصحابة على قتالهم وكفرهم بسبب هذه الكلمة؛ لأنها نقضت التوحيد، ألا ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ولكنهم قالوا إن مسيلمة نبي، فقاتلهم الصحابة وسبوهم، فكيف بمن يجعل للولي خاصة يدعوه من دون الله هذا لا شك في كفره؛ لأنه إذا كان الذي يجعل مسيلمة في رتبة النبي يكفر فالذي يجعل الولي في رتبة الله أشد كفراً.

    والمثال الثاني: إحراق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحاب عبد الله بن سبأ ، وكانوا يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن غلوا في علي رضي الله عنه، واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأشباههم، فعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحداً من العصاة، فإنه حفر لهم الحفائر، وأجج لهم ناراً وألقاهم فيها. هؤلاء هم السبئيون الذين تعلموا العلم من الصحابة، وكانوا يصلون ويصومون ويتعبدون، لكن غلوا في علي رضي الله عنه، وزعموا: أنه إله، فعند ذلك حفر لهم الحفائر في الأرض، وأجج فيها ناراً ثم ألقاهم فيها، وقال هذه الأبيات:

    لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا

    و قنبر هو مولى لـعلي رضي الله عنه، وقال الشاعر:

    لترم بي المنية حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين

    إذا ما أججوا فيهن ناراً رأيت الموت نقداً غير دين.

    أي: رأيت الموت شيئاً حاضراً، والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير.

    وقول المؤلف: وقد وقع إجماع الأئمة على أن من أنكر البعث كفر وقتل، ولو قال: لا إله إلا الله، فكيف بمن يجعل لله نداً؟

    أي: أجمع العلماء على أن من أنكر البعث يكفر، ولو كان يقول: لا إله إلا الله؛ لأنه فعل ناقضاً من نواقض الإسلام، وأنكر أصلاً من أصول الإيمان، فكيف بمن يجعل لله نداً؟ أي: إذا كان الذي ينكر البعث كافراً، فالذي يجعل لله نداً يدعوه من دون الله أشد كفراً.

    1.   

    حقن دم المسلم وماله حتى تتبين مخالفته لما التزمه من التوحيد

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن قلت: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال لا إله إلا الله كما هو معروف في كتب الحديث والسير.

    قلت: لاشك أن من قال: لا إله إلا الله من الكفار حقن دمه وماله، حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصة محلم بن جثامة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، فأمرهم الله تعالى بالتثبت في شأن من قال كلمة التوحيد، فإن التزم بمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وإن تبين خلافه لم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ ].

    وهذه من شبه القوم، يقول أحدهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على أسامة قتله لمن قال: لا إله إلا الله، فكيف ينكر عليه قتله لكافر قال: لا إله إلا الله؟

    فقال المؤلف: الجواب: إن من قال: لا إله إلا الله من الكفار حقن دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، يعني: إذا تكلم بكلمة التوحيد وكان لا يقولها في كفره حكم بإسلامه، ثم بعد ذلك ينظر: فإن التزم بالإسلام فالحمد لله، وإن فعل ما يخالف التوحيد قتل مرتداً، كما قال المؤلف: حتى يتبين له ما يخالف ما قاله من التوحيد، ولذلك أنزل الله في قصة محلم بن جثامة هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، وذلك أنه مر بالصحابة فسلم عليهم، أو قال: لا إله إلا الله فقتلوه، فأنكر الله عليهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94]، فأمرهم الله بالتثبت في شأن من قال كلمة التوحيد، فإن التزم بمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وإن تبين خلافه لم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ بها، وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية: أنه لحق المسلمون رجلاً في غنيمة له فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته؛ فنزلت هذه الآية: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94] وهي تلك الغنيمة، رواه البخاري ، ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن سفيان.

    ومعنى قوله تعالى: (ألقى إليكم السلام) أي: نطق بالشهادتين، أوحياكم بتحية الإسلام. ومعنى: (لست مؤمناً) أي تقولون: لم يؤمن حقيقة، وإنما نطق بالإسلام تقية.

    1.   

    قاعدة في التفريق بين المشرك والموحد

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبين لم تنفعه هذه الكلمة بمجردها، ولذلك لم تنفع اليهود، ولا نفعت الخوارج مع ما انضم إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وذلك لما خالفوا بعض الشريعة، وكانوا شر قتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث.

    فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك من قالها؛ لارتكابه ما يخالفها من عبادة غير الله تعالى ].

    قول المؤلف: [وهكذا] أي: هذه قاعدة: في كل من أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك، أي: كل من أظهر التوحيد والإسلام وقال: لا إله إلا الله، فإننا نقبل منه؛ لأن علينا الحكم بالظاهر، فيجب الكف عنه، ونعتبره مسلماً، ثم بعد ذلك ننظر إن التزم بأحكام الإسلام فهو أخونا، وإن فعل ما ينقض الإسلام بعد ذلك فإنه يقتل، ويكون مرتداً، ولذلك هذه الكلمة لم تنفع اليهود، فهم يقولون: لا إله إلا الله ولم تنفعهم؛ لأنهم نقضوها بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تنفع الخوارج مع ما انضم إليها عندهم من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، وذلك لما خالفوا بعض الشريعة مخالفة تدعو إلى قتلهم، وكانوا شر قتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث.

    فهذا يدل على أن المؤلف يرى أن الخوارج كفار، وهذا قول لبعض أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، فشبههم بعاد، وهم قوم كفار، واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وفي لفظ: (يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه) قالوا: فهذا دليل على كفرهم.

    والخوارج يكفرون الناس بالمعاصي، فالذي فعل الكبيرة يكفر عندهم، وكذا الزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه، فهؤلاء وأمثالهم كفار عندهم، فالمؤلف يرى أنهم كفار، لكن جمهور العلماء: على أنهم مبتدعة وليسوا كفاراً، والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة ولم يعاملوهم معاملة الكفار؛ لأنهم متأولون، ولما سئل علي رضي الله عنه: أهم كفار؟ قال: من الكفر فروا. فهم متأولون، حيث جعلوا النصوص التي في العصاة من المسلمين تدل على كفرهم، والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة. فالحاصل أن المؤلف مشى على القول بأنهم كفار، وهو قول لقلة من العلماء، وأكثر العلماء على أنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون.

    قال المؤلف: فثبت أن مجرد النطق بكلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك من قالها إن ارتكب ذلك، كعبادة غير الله. يعني: أن من تكلم بكلمة التوحيد ثم فعل الشرك أو ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فإن هذه الكلمة لا تعصم دمه، بل يكون كافراً بذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768238744