الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الإمام الطحاوي رحمه الله افتتح رسالته بعلم أصول الدين بقوله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا إله غيره ].
وإن علم أصول الدين الحاجة إليه فوق كل حاجة، والضرورة إليه فوق كل ضرورة، وحاجة الإنسان إلى معرفة علم أصول الدين أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجته إلى الهواء وإلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب وفقد الهواء مات الجسم، والموت لا بد منه، ولا يضر الإنسان أن يموت إذا كان مستقيماً على دين الله، لكن إذا فقد علم أصول الدين مات قلبه، وماتت روحه، وصار إلى النار والعياذ بالله، فلذلك كانت الضرورة إلى معرفة علم أصول الدين، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته واستحقاقه للعبادة، فالله تعالى عرف العباد بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرفهم عظيم حقه سبحانه وتعالى.
فالحاجة ماسة إلى معرفة علم أصول الدين أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجتهم إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الواحد منهم؛ لأن من فقد علم أصول الدين ولم يعرف ربه، ولا أسماءه ولا صفاته، ولا أفعاله، ولا عظيم حقه؛ صار من الهالكين، وصار من أهل النار، وصار من الأموات وإن كان حياً يمشي بين الناس، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى ما أنزله على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام من الوحي روحاً؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نوراً لتوقف الاستنارة والاستضاءة عليه، قال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15]، وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52-53]، فسمى الله الوحي الذي أنزله على نبيه روحاً؛ لأن الحياة الحقيقية تتوقف على الوحي، وسماه نوراً؛ لأن الاستضاءة تتوقف عليه، فالكفرة الذين يمشون على الأرض -وإن كانوا أحياءً بأجسادهم- أموات في الحقيقة، وقلوبهم ميتة؛ لأنهم فقدوا الحياة الحقيقية، وسبب ذلك أنهم أعرضوا عن الوحي الذي هو كتاب الله وأعرضوا عن سنة رسول الله، وتركوا النظر والاستدلال الموصل إلى معرفة الله، فلما أعرضوا ضلوا، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
والكلام على التوحيد وأنواع التوحيد كله داخل في هذا الأمر العظيم، وهو علم أصول الدين؛ لأن الله تعالى يعرفنا بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وبعظيم حقه.
ثم عرفنا بالأمر الثاني: وهو الأوامر والنواهي وعلم الحلال والحرام وعلم الفروض الذي أتت به الشريعة، ثم بعد ذلك يعرفنا سبحانه وتعالى بما يكون لنا إذا أقبلنا عليه، وما يحصل للإنسان إذا وصل إلى الله في الدار الآخرة من شئون المعاد، من البعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وما أعد الله للمؤمنين من الكرامة والنعيم، وما أعد الله للكافرين من العذاب السرمدي المهين، وهذا هو الذي جاءت به الرسل، وهذه هي أقسام العلم النافع، فالكلام في توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات هو نفسه الكلام في علم الأصول، العلم الناتج عن معرفة هذه الأنواع الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع بعلم أصول الدين، وهو الأمر الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
الثاني: توحيد الله بأسمائه وصفاته، والمعنى: أنك تثبت أسماء الله وصفاته له، وتعتقد أن الله سمى نفسه بهذه الأسماء ووصف نفسه بهذه الصفات، وأنها حق وأن أسماءه حسنى وصفاته عليا.
والثالث: توحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله بأفعالك -أيها العبد- من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والدعاء، والذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والخوف والرجاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والإحسان إلى الناس، وكف الأذى، وترك المحرمات طاعة لله وخوفاً وخشية وتعظيماً له، وغير ذلك، فهذا هو توحيد العبادة، أن توحد الله فتفعل الأوامر، وتترك النواهي طاعة لله وخوفاً ورجاء وتعظيماً له عز وجل.
وهذه الأنواع الثلاثة -وهي أنواع التوحيد- متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالإيمان بهذه الأنواع الثلاثة كلها، وهي متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية.
ومعنى (يستلزم): يدل عليه ويوجبه ويقتضيه، فإذا وحد الإنسان ربه بأفعاله، واعتقد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وجب عليه أن يعبده، كأن تعتقد -مثلاً- أنه هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الذي خلقك وأوجدك من العدم، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فبذلك وجب عليك أن تعبده ولزمك أن تخصه بالعبادة، وأن تقدم محبته على محبة كل شيء، على محبة نفسك وأولادك وأهلك، ولكن ليس كل واحد يلتزم بما لزمه، فكل من أقر بتوحيد الربوبية واعترف بتوحيد الربوبية لزمه أن يوحد الله في عبادته وألوهيته.
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من وحد الله وعبد الله ففي ضمن ذلك اعترافه بأنه هو الرب الخالق الرازق المدبر، ولولا اعتقاد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت لما عبده وخصه بالعبادة، فلما عبده وخصه بالعبادة دل ذلك على أنه يعتقد أنه هو الرب الخالق الرازق المدبر الذي يملك النفع والضر.
وكذلك توحيد الأسماء والصفات مستلزم لتوحيد الألوهية، وهذه هي الدلالات الثلاث المعروفة عند أهل العلم بدلالة الالتزام، ودلالة التضمن، ودلالة المطابقة.
فدلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه، كدلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ودلالة الوالد على الولد، ودلالة التوبة على السعي.
أما دلالة التضمن فهي دلالة الشيء على جزء معناه، لا على جميع معناه، فتوحيد الربوبية جزء من توحيد الإلوهية. ودلالة توحيد الألوهية على الألوهية تسمى دلالة مطابقة؛ لأن دلالة المطابقة دلالة الشيء على جميع معناه، فتوحيد الألوهية يدل على الألوهية بالمطابقة؛ لأنه دل على جميع معناه، ويدل على الربوبية بالتضمن، وقد سبق ذكر الطوائف التي أنكرت الربوبية وأنكرت الرب العظيم وأخلت بهذا النوع العظيم من أنواع التوحيد مع أنه أمر فطري فطر الله عليه جميع الخلق.
والإبل إذا خلت عن راعيها يقال: عطلت الإبل عن راعيها، ويقال للمرأة: عطل: إذا لم يكن عليها حلي، فمادة العين والطاء واللام تدور على الخلو والفراغ، ويقال لمن عطل العالم عن صانع أوجده وأتقنه: معطل، وهؤلاء المعطلة عطلوا الرب من أسمائه وصفاته، وهم ثلاث فرق: فرقة الجهمية، وفرقة المعتزلة، وفرقة الأشاعرة.
وهم متفاوتون في التعطيل، والكلام طويل في هؤلاء المعطلة؛ لأن الناس ابتلوا بهم، وهؤلاء المعطلة موجودون الآن في هذا الزمن وفي أزمنة سابقة، وكتبهم موجودة، ومؤلفاتهم موجودة، وشبههم موجودة ومنتشرة، فلا بد لطالب العلم من أن يعرف هذه الفرق ويعرف شبههم، ويعرف ما هم عليه من الباطل؛ حتى يحذره ولا يقع فيه.
وكان السلف الصالح في عافية من هذه الشبه والكلام في شبه هؤلاء، فلم يكن بهم حاجة إلى أن يتكلموا في هذا البحث، ولكن لما وجد هؤلاء المعطلة وانتشروا بين الناس، وانتشرت مؤلفاتهم، وانتشرت شبههم، وانطلت شبههم على بعض أهل السنة وتأثر بها بعض الناس صار لزاماً على أهل الحق وأهل السنة أن يكشفوا الباطل، وأن يردوه؛ إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل.
وتعطيل الجعد بن درهم كان في كلمتين فقط: الكلمة الأولى: نفيه أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، والكلمة الثانية: نفيه أن يكون الله كلم موسى تكليماً، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، بفتوى من علماء زمانه وأكثرهم من التابعين رحمهم الله.
ولكن الجهم سبق له أن اتصل به وأخذ عنه، وكان الجهم قد حصل له مناظرة مع طائفة من أهل الهند في ذلك الزمان يقال لهم: السمنية، فناظروه وهم لا يؤمنون إلا بالحسيات، فقالوا: إلهك هذا الذي تعبد هل تراه؟! قال: لا، قالوا: هل سمعته؟! قال: لا، قالوا: هل شممته؟! قال: لا، قالوا: هل ذقته؟! قال: لا، قالوا: هل لمسته؟ قال: لا، قالوا: إذاً هو معدوم، فشك في ربه ومكث أربعين يوماً لا يصلي ولا يعرف أن له رباً، ثم وسوس الشيطان في ذهنه أن الله موجود وجوداً مطلقاً، فأثبت وجوداً لله مطلقاً، ونفى عنه جميع الأسماء والصفات، والوجود المطلق إذا قيل فمعناه أنه مطلق عن جميع الأسماء والصفات، وهذا معناه لا يكون إلا في الذهن فقط، فهو وجود يفرضه الذهن ويتخيله، ولا وجود له في الخارج، نسأل الله السلامة والعافية.
وكان هذا الرجل قد اتصل بـالجعد كما سبق، والجعد أخذ عن أبان بن سمعان ، وأبان بن سمعان أخذ عن طالوت ابن أخت لبيد ، وطالوت أخذ عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان -أيضاً- قد نشأ في أرض حران، وفي ذلك الوقت انتشر فيها الصابئة والمشركون والوثنيون، فصارت عقيدة نفي الصفات متصلة باليهود والمشركين وعباد الكواكب والنصارى والوثنيين.
و الجهم بن صفوان قتله سلم بن أحوز أمير خراسان في عهد آخر خلفاء بني أمية، لكن هذه العقيدة انتشرت فسميت بعقيدة الجهمية، نسبة إلى هذا الرجل؛ لأن هذا الرجل هو الذي ابتدع هذه العقيدة وهي عقيدة نفي الصفات، فإذا قيل: عقيدة الجهمية فالمراد بها: نفي الصفات والأسماء، والجهم هو الذي تمنى أن يحك من المصحف آية الاستواء: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وكان له زوجة معطلة مثله، يقال: إن زوجته دخلت إلى سوق الدباغين فسمعت قارئاً يقرأ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] فقالت: محدود على محدود، وقصدها من ذلك إنكار الاستواء، أي: أن الله لا يحده شيء، وهذا إنكار لكون الله فوق السموات وعلى العرش، فمذهب الجهمية هو تعطيل الله عن أسمائه وصفاته.
القسم الأول: قديم، وهو الله الواحد لا شريك له.
والقسم الثاني: المخلوقات، وهي حادثة.
يقول الجهمية: فإذا أثبتنا لله العلم، والسمع، والقدرة، والعزة، والعظمة، والكبرياء صارت هذه أموراً متعددة، وصار القدماء متعددين، والله قديم واحد لا يتعدد، فقالوا بنفي الأسماء والصفات؛ حتى لا يتعدد القديم بزعمهم.
وكذلك قالوا: لو قلنا: إن الله له أسماء وصفات لشابه المخلوق، ولكان جسماً، فالله ليس بجسم ولا يشابه المخلوق، فلأجل الفرار من ذلك نفوا جميع الأسماء والصفات.
والحق أن الشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له في الخارج، وإنما يكون وجوده في الذهن، والذهن يتخيل المحال ويفرضه، فهاتوا شيئاً موجوداً في الخارج ليس له اسم ولا صفة! وهذا معروف عند العقلاء جميعاً.
وبذلك يكون مذهب الجهمية القول بأن الله لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الذهن، ولهذا فإن مذهب الجهمية أفضى بقوم إلى القول بالحلول، وأفضى بقوم آخرين إلى القول بالاتحاد.
فأوصل قوماً إلى القول بأن الله حال في كل شيء، والذي فتح لهم باب هذا الشر هم الجهمية، ووجه ذلك أنهم لما نفوا الصفات والأسماء وبالغوا في نفيها تنزيهاً لله بزعمهم، وتعظيماً لمن أظهر الولاية لله، قالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح أو في الرجل الصالح، فقالوا بحلول الله في الصالحين فقط؛ لأن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح؛ لأنهم عظموا الله بزعمهم ونزهوه وعظموا من أظهر الولاية له، فقالوا: إن الله حل فيه، ثم تدرج بهم الحال فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في كل شيء وفي كل مكان حتى لا نجعله في شيء معين، فبذلك وصلوا إلى القول بأن الله حال في كل مكان، نسأل السلامة من الجهمية.
فليس هناك شيء إلا وهم يقولون: إن الله حل فيه، وهذا هو ربهم ومعبودهم الذي تخيلوه والعياذ بالله، وأما رب العالمين فهو -سبحانه وتعالى- فوق ما يظنون، وفوق ما يتصورون ويتوهمون، ومعبود الجهمية في كل مكان، والعياذ بالله، فهو في الحشوش والأبنية والأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
كما أن مذهب الجهمية -وهو القول بتعطيل الله من أسمائه وصفاته- أوصل قوماً آخرين إلى القول بالاتحاد، والقول بوحدة الوجود.
ووجه ذلك أن الذي حملهم على نفي الأسماء والصفات بزعمهم هو تنزيه الله حتى لا يشابه المخلوق، وحتى يكون هو الواحد فليس له شريك، فبالغوا في هذا التنزيه طلباً لمرضاة الله، فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن ننسى أنفسنا، فنسوا أنفسهم، وتناسوا كل شيء يرونه في هذا الوجود، فلما تناسوا ذلك صاروا يرون أنهم لا يرون في هذا الوجود شيئاً إلا الله، فقالوا: ننسى كل شيء، ومن تعظيم الله ومحبته أن ننظر إليه فقط، وأن نتناسى كل شيء، حتى لا تشوش علينا هذه الأشياء في سيرنا إلى الله وطريقنا إليه، فالسماوات والأرضون والشمس والقمر والآدميون يشوشون علينا، فنحن ننساها من الشهود لا من الوجود، وتناساها حتى لا تشوش علينا العبادة، فلا ننظر إلا إلى الله، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروا وجودها، فقالوا: لا يوجد في هذا الكون إلا الله، فاتحد وجود الموجودات عندهم، فقالوا: إن كل شيء تراه هو الله والعياذ بالله، وهكذا فعلت الصوفية، فغلاة الصوفية وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، وذلك أنهم قالوا: إن من تمام تعظيم الله وتنزيهه ألا نشاهد إلا الله، فالمغالي من الصوفية يقول: أنا أتناسى كل شيء، أتناسى السماوات والأرضين، ويقول: أنا لا أنكرها، لكن لا أشاهدها حتى لا تشوش علي، فلا أستطيع أن أنظر إلى هذه المخلوقات المتعددة فتشوش علي سيري إلى الله، فأنا ألغيها من الشهود وكأنها ليست موجودة، وألغي نفسي -أيضاً- حتى لا تشوش علي عبادتي مع الله، فأنكروها في الشهود، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروها في الوجود، وقالوا: ليست موجودة، بل كل شيء تراه هو الله، وكل شيء تراه هو مظهر لتجلي الله، فالسماوات والأرضون والآدميون هي الله، وهي أسماء وصفات لله، وهي مظاهر لتجلي الله، فأنت الرب وأنت العبد، فاتحد وجود الموجودات عند الاتحادية والعياذ بالله، والذي فتح لهم هذا الباب وهذا الشر هم الجهمية.
وأما الاتحادية فلا يقولون: إن هناك موجودين حل أحدهما في الآخر، بل يقولون: إن الموجودات كلها شيء واحد، فالرب عين العبد، والعبد عين الرب، فالحق المنزه هو عين الحق المشبه، فهو عين الآكل وعين المأكول، وعين الذابح وعين المذبوح، فليس هناك شيئان، فهو آية كل شيء وله في كل شيء آية، وهو نفس الدليل ونفس المستدل عليه، ونفس الآكل ونفس المأكول ونفس الذابح، ونفس المذبوح، فمن قال عنهم: إنهم حلولية يقولون له: أنت محجوب عن معرفة باطن المذهب وحقيقة المذهب، فالقول بالحلول تثنية ونحن لا نقول بالتثنية، وزعيم الاتحادية ورئيسهم هو ابن عربي الطائي رئيس وحدة الوجود، ومن أقواله:
الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف
فما دام أن الرب هو العبد والعبد هو الرب، فمن هو المكلف بالعبادة؟!
يقول:
إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف
وفي رواية: (إن قلت عبد فذاك نفي). أي: منفي لا وجود له، وإن قلت: رب أنى يكلف، إذاً: لا يوجد تكليف.
ويقول ابن عربي أيضاً: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يقول: علي على من وما ثم إلا هو؟! وعن ماذا وما هو إلا هو؟! ويقول:
سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فيه فالواسع الله.
يقول: (سر حيث شئت فالله ثم). أي: كل شيء تراه هو الله، و(ثم) أي: هناك، (وقل ما شئت فيه فالواسع الله). وبعض الناس قد يستغرب من مثل هذا الكلام، وهذا الكلام موجود الآن مؤلف ومدون، والاتحادية الآن يسمون العارفين بالله والمحققين، ويسمى ابن عربي أكبر العارفين، ومؤلفاته موجودة ومنتشرة في البلدان العربية وغيرها، وتطبع بطبعات واضحة، وأوراق فخمة، ويعتنى بها وتحقق، ويذكر عنهم أنهم بلغوا الغاية في المعرفة، فلا تظن أن هذا الكلام بعيد عنا، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على بصيرة، فقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. وهذا ثابت في صحيح البخاري ، فهذا شر بليت به الأمة، وهو أعظم أنواع الكفر.
و ابن عربي هذا يعارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتاً فأكمله وأحسنه إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون ويقولون: لولا تلك اللبنة! فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين).
يقول ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم) وكتاب (الفتوحات المكية)، وكتاب (الهو): إن خاتم الأنبياء رأى هذه الرؤيا، رأى هذا البيت ورأى موضع لبنة، ورأى نفسه تنطبع في هذه اللبنة التي يتم بها الحائط، ولا بد لخاتم الأولياء أن يرى مثل هذه الرؤيا. ويرى أن الحائط مكون من لبنتين: لبنة ذهب، ولبنة فضة، ويرى نفسه تنطبع مكان لبنة الذهب، وخاتم الأنبياء تنطبع نفسه مكان لبنة الفضة، فيجعل نفسه لبنة الذهب والرسول صلى الله عليه وسلم لبنة الفضة.
ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ عن الله في السر، وفي الظاهر تابع لخاتم الأنبياء. لأنهم منافقون زنادقة لا يظهرون الكفر كما سيأتي في حكمهم، فهم يتظاهرون بالإسلام حتى لا تقطع رقابهم، فيدعي أنه تابع في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد يصلي مع الناس، كما كان عبد الله بن أبي رئيس المنافقين يصلي، ويؤدي الشعائر الظاهرة، لكنه في الباطن يعتقد هذه العقيدة الخبيثة، ويقول ابن عربي : فإن فهمت ذلك فقد حصل لك العلم النافع. والعلم النافع الذي يريده هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود هو عين وجود لله، فليس هناك رب وعبد، بل الرب هو العبد والعبد هو الرب، لكن فرعون أعرف بالله في الباطن من أصحاب وحدة الوجود، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] فهو معترف بوجود الله، ولكنه أنكر وجود الله في الظاهر، وتجاهله هذا تجاهل العارف، وأما ابن عربي فإنه يقول: إن الوجود واحد.
وإذا كان الحلولي الذي يقول: إن معبوده حل في البطون وفي أجواف الطيور وفي بطون السباع وفي الأخلية والحشوش، فإن من هؤلاء من قال: إنه نفس البطون، ونفس الأجواف، ونفس الأخلية، تعالى الله عما يقولون.
وإذا كان المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه كفاراً؛ فالذي يقول: هو نفس المخلوق أعظم كفراً، ولهذا لما قيل لبعضهم: أين كفر المشبهة وكفر النصيرية وكفر الحلولية؟ قال كفر الاتحادية أعظم كفراً من هؤلاء، ولما قيل لبعضهم: أنت نصيري؟ قال: نصير جزء مني.
إذاً: الاتحادية والحلولية منافقون زنادقة، ومن أعظمهم كفراً من ضرب لنفسه المثل بلبنة الذهب وللرسول صلى الله عليه وسلم المثل بلبنة الفضة، وكفر هؤلاء فوق كفر الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] فهؤلاء الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] طلبوا أن يكونوا مثل الرسول فكفرهم الله، فكيف بمن قال: إنه أعلى من الرسل وأفضل؟! وبذلك يكون كفره أعظم، ويكفيك دليلاً على كفر الاتحادية أن من أقوالهم: إن فرعون مات مؤمناً بريئاً من الذنوب خلياً من الذنوب، ومات موحداً، وهو من أعظم العارفين، ويقولون: إنه مصيب حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويقولون: إنه على حق؛ لأن الوجود واحد، فهو صاحبهم وأخوهم، كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في القصيدة النونية أنهم يقولون: إن فرعون أغرقه الله تطهيراً له من الحسبان، أي: حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فهو مخطئ؛ لأنه يظن أنه هو الرب الأعلى، فأغرق تطهيراً له من هذا الحسبان ومن هذا الوهم، فلما أغرق تطهر، أي: صار بريئاً خلياً من الكفر.
فيقولون: هو مخطئ حينما قال: أنا ربكم الأعلى؛ لأن كل شيء تراه هو الرب، والكفر عند الاتحادية يكون بالتخصيص، فمن قال: لا تعبد إلا هذا الشيء فهذا كافر عند الاتحادية، بل كل شيء عند الاتحادية يعبد، فمن عبد الأصنام، ومن عبد الأوثان، ومن عبد النار، ومن عبد الصلبان، كلهم على حق، والكفر إنما هو بالتخصيص، فالذي يخصص هو الكافر، ولما خصص فرعون نفسه بالألوهية أغرق تطهيراً له من هذا الحسبان وهذا الوهم، فلما أغرق تطهر وصار بريئاً خلياً من الذنوب، هكذا يقول: ابن عربي والاتحادية، والعياذ بالله.
وعلى هذا فيكون مذهب الاتحادية أنه ليس هناك خالق ومخلوق، ولا رب ولا عبد، ولا شريعة، ولا حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، ولا كفر ولا إيمان، إلا الذي يخصص الشيء، فهو الكافر عندهم، والذي يترك الناس على حالهم، كل يعبد ما يشاء هو الموحد، فالذي يعبد الصنم على حق، والذي يعبد الله على حق، والذي يتدين باليهودية على حق، والذي يتدين بالنصرانية على حق، والذي يتدين بالوثنية على حق، لأن الوجود واحد، نسأل الله السلامة والعافية.
فهؤلاء كفار ملاحدة زنادقة، تجري عليهم أحكام المسلمين في الدنيا؛ لأنهم يخفون الكفر، وهو في مؤلفاتهم وفيما بينهم، وعلى مر العصور إذا وجدت الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود فإنهم يخفونه حتى لا تقطع رقابهم، فهؤلاء الاتحادية تعاملهم الدولة الإسلامية معاملة المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين، فيغسلون ويصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المسلمين ويورثون، إلا من أظهر كفراً أو أظهر شيئاً من كفره فإنه يعامل معاملة المرتد ويقتل، وعبد الله بن أبي هو رئيس المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما مات -كما ثبت في صحيح البخاري- ودلي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به فأخرج من حفرته ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه جذب عمر ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا
إذاً: الاتحادية زنادقة منافقون، والمنافقون تجري عليهم أحكام الإسلام في الدنيا إذا لم يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر منهم ما يدل على كفرهم فإنهم يعاملون معاملة المرتدين ويقتلون، ومن ذلك القصة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه (التوحيد)، وساقها ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60] وحاصلها أن رجلاً من اليهود ورجلاً من المنافقين اختصما في شيء، فقال: اليهودي نتحاكم إلى محمد. لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف. لعلمه أنه يأخذ الرشوة، ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى عمر، فتحاكما إليه وأخبراه بالخبر، فسأل عمر المنافق: أحق ما يقول صاحبك أنك لم ترض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم. فدخل عمر بيته واحتمل سيفه فضرب عنق المنافق؛ لأنه أظهر نفاقه، فإن صحت هذه القصة ففيها دليل على أن المنافق إذا أظهر نفاقه قتل، ولكن هذا يكون من قبل ولاة الأمور بعد أن يقام عليه الحكم الشرعي.
والمقصود أن الاتحادية والحلولية حكمهم في الدنيا حكم المنافقين الزنادقة؛ لأنهم يبطنون الكفر العظيم ويظهرون الإسلام، لكن من أظهر منهم نفاقه فإنه يقتل، أما في الآخرة فالاتحادي في الدرك الأسفل من النار إذا مات على ذلك، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وهل تقبل توبته أو لا تقبل؟
إذا أخذ قبل التوبة فإنه لا تقبل توبته، بل يقتل، وأما إذا أخذ بعدما أظهر التوبة، ففيه خلاف بين أهل العلم على قولين:
القول الأول: أنه لا تقبل توبته؛ لأن هذا كفر عظيم، بل لا بد من قتله ولو ادعى التوبة، فالمنافق ومن سب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه ورسله، وكذلك الساحر لا تقبل توبته، بمعنى أنه لا بد من أن ينفذ فيهم حكم القتل، قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الصارم المسلول على شاتم الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الصواب.
وأما في الآخرة فأمرهم إلى الله، فمن صدق في توبته فالله يقبل توبة الصادقين، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين، لكن في الدنيا يعاملون معاملة المرتدين ولا تقبل توبتهم، بل يقتلون حتى لا يتجرأ الناس على مثل هذا الكفر العظيم الوخيم.
فالاتحادية -والعياذ بالله- يقولون: إن الله هو الوجود المطلق، اكتسته الماهيات فهو عينها، والماهيات، هي الذوات، اكتسته فهو عينها، ولا تزال المحدثات تكتسيه وتلبسه وتخلعه، فالموجود المطلق معناه أنه موجود في كل شيء، تلبسه المحدثات، فالنبات يلبسه، والماء يلبسه، وهكذا، ويلبسه هذا ويخلعه، هذا هو الوجود المطلق، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا هو مذهب المعطلة والجهمية الغلاة، وهكذا وصل بهم الحال، وهذا سببه الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على العقول وزبالة الأذهان، وضعف الأفكار، والاعتماد على مناهج أهل الفلسفة وأدلة أهل المنطق، والعياذ بالله.
والنقيضان هما اللذان لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، مثل الوجود والعدم، فلا يمكن أن تقول: هناك شيء موجود لا موجود ولا معدوم، بل إما موجود وإما معدوم، فإذا ثبت الوجود انتفى العدم، وإذا ثبت العدم انتفى الوجود، فلا يجتمع النقيضان ولا يرتفعان، وهذا معروف عند جميع العقلاء. وأما الضدان فلا يجتمعان، وقد يرتفعان، فهناك فرق بين النقيضين وبين الضدين، فالضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان، مثل: السواد والبياض، فهما ضدان، لكن قد يرتفعان، فيكون الشيء لا أسود ولا أبيض، بل قد يكون أحمر أو أخضر أو أزرق، فهما يرتفعان، بخلاف النقيضين، فلا يجتمعان ولا يرتفعان.
والمثلان: الشيئان المتماثلان، والخلافان: المتخالفان، مثل: العلم والحركة، هذا خلاف هذا.
فقال غلاة الجهمية: لا يلزمنا التشبيه بما اجتمع في النقيضين من الممتنعات إلا إذا نفينا الصفات عن محل قابل لهما، وهذه الصفات، تتقابل تقابل العدم والملكة، ولا تقابل السلب والإيجاب، فيقولون: لا يلزمنا التشبيه بما اجتمع في النقيضين من الممتنعات إلا إذا نفيناه عن محل قابل لهما، والله ليس قابلاً للصفات، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت؛ لأنه ليس قابلاً لهما، فكما أن الجدار لا يوصف بالعمى والبصر والحياة والموت فكذلك الله لا يوصف بالصفات؛ لأن الله ليس قابلاً للصفات من الأساس، فلا يلزمنا التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات إلا إذا نفيناه عن محل قابل لهما، فهذه الصفات تتقابل تقابل العدم والملكة، وتقابل وجود الصفات ونفي الصفات، لا تقابل السلب والإيجاب، فنحن نقول: إن الرب ليس قابلاً للصفات حتى يلزمنا هذا، كما أن الجدار لا يوصف بالعمى والبصر والحياة والموت، فكذلك الله لا يوصف.
فقال أهل الحق نجيبكم عن هذه الشبه بأجوبة:
الجواب الأول: أننا لا نسلم بعدم المقابلة في الوجود والعدم، بل الوجود والعدم متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فلا يمكن أن ينفى الوجود والعدم عن شيء، فكل شيء لا ينفى عنه وجود، بل كل شيء موجود، ولا ينفى عنه وجود العدم، فإذا نفيت الوجود ثبت العدم، وإذا نفيت العدم ثبت الوجود، وإذا أثبت الوجود انتفى العدم، وإذا أثبت العدم انتفى الوجود، فهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء.
والجواب الثاني: أننا نقول: إن قولكم -أيها الجهمية الغلاة-: إن الله لا يوصف بالصفات، كما أن الجدار لا يوصف بالعلم والجهل والحياة والموت، هو اصطلاح اصطلحتم عليه، والاصطلاح لا يكون دليلاً على نفي الحقائق العلمية، فهو اصطلاح باطل وفاسد ينافي الحقائق العلمية، والاصطلاح لا يبطل الحقائق العلمية، فإن الله تعالى سمى الجماد ميتاً ونفى عنه الحياة وهو جماد، قال سبحانه: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20-21]، فالأصنام سماها أمواتاً ونفى عنها الحياة، فهي توصف بالحياة وتوصف بالموت وهي جماد، فقولكم: إن الجدار لا يقال له: حي ولا ميت باطل، وهذا اصطلاح تبطله الحقائق العلمية، والاصطلاح الفاسد لا يكون دليلاً على نفي الحقائق العلمية، فقولكم: إن الله ليس قابلاً للصفات كما أن الجدار ليس قابلاً للحياة والموت باطل، فنقول: إن الله ليس قابلاً للعلم والجهل حتى نقول: عالم وجاهل، وليس قابلاً للحياة والموت، فهذا اصطلاح فاسد تبطله الحقائق العلمية، والاصطلاح الفاسد لا يقضي على الحقائق العلمية، بل الحقائق العلمية هي التي تقضي على الاصطلاح الفاسد.
ويقال لكم أيضاً جواب ثالث، وهو أن الجمادات التي ينفى عنها العمى والبصر، وينفى عنها العلم والجهل أنقص من الحيوانات التي تقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بالعمى والبصر، والجاهل الذي يقبل الاتصاف بالعلم أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بالعلم والجهل، فأنتم فررتم من تشبيه الله بالحيوانات الناقصة التي تقبل صفات الكمال إلى تشبيهه بالجمادات التي لا تقبل واحدة منها، فالتشبيه بالحيوان الذي يقبل الصفة من صفات الكمال أكمل من التشبيه بالجماد الذي لا يقبل واحدة منها، ففررتم من تشبيهه بالحيوانات التي تقبل صفات الكمال إلى تشبيهه بالجمادات التي لا تقبل شيئاً من صفات الكمال.
وهناك جواب رابع يقال لكم: وهو أنكم نفيتم عن الله قبول الوجود والعدم، وهذا النفي أعظم امتناعاً من نفي الوجود والعدم، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم أعظم مما نفيت عنه الوجود والعدم، فهما ممتنعان مستحيلان أحدهما أشد استحالة من الآخر، فإذا قيل: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم كان هذا مستحيلاً، فيستحيل أن يكون الشيء موجوداً وتنفي عنه الوجود والعدم، فتقول: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم، ولكن هناك مستحيل أعظم منه، وهو الذي تنفي عنه قبول الوجود والعدم، فإذا قلت: هذا شيء لا موجود ولا معدوم فهذا مستحيل، وإذا قلت: هذا شيء لا يقبل الوجود والعدم فهذا أعلى درجات الاستحالة، وهم قالوا: إن الله لا يقبل الوجود والعدم، فشبهوه بالمستحيل الأعظم، فنفوا عن الله قبول الوجود والعدم الذي هو أعظم امتناعاً من نفي الوجود والعدم، فجعلوا وجود الله الواجب سبحانه وتعالى الذي وجوده أكمل من وجود كل موجود غاية الممتنعات وغاية المستحيلات، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والله سبحانه وتعالى وجوده أظهر من كل موجود، وكل موجود لا بد من أن يرى، وليس هناك موجود لا يرى، وكلما كمل وجود الشيء كان أحق بأن يرى من غيره، والله تعالى أكمل وجوداً، ووجوده أكمل من وجود كل موجود، فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم، قال سبحانه: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أي: القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، ولكن امتنعت وانتفت رؤيته في الدنيا؛ لأن البشر لا يتحملون رؤية الله عز وجل في الدنيا، ولا يثبتون لرؤية الله، ولهذا لما سأل موسى ربه أن يريه نفسه فقال:قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] قال الله له: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، وإذا كان الجبل لم يثبت أمام رؤية الله واندك، فكيف بالبشر الضعيف الناقص؟! فلا يمكن أن يتحمل إنسان رؤية الله ولن يثبت لها، وقد ثبت هذا في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الأول: رآه بعين رأسه.
القول الثاني: لم يره.
والقول الثالث: التوقف.
وجاء في رواية عن الإمام أحمد أن روي عن ابن عباس أنه قال: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] قال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وفي رواية: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينيه، وكذلك روي عن الإمام أحمد أنه رآه.
وذهب إلى هذا النووي في شرح مسلم، أي أن النبي رأى ربه بعيني رأسه، وذهب إلى هذا الهروي أيضاً، وجماعة أبي الحسن الأشعري قالوا: إن النبي رأى ربه في ليلة المعراج.
والصواب القول الثاني، وهو أن النبي لم ير ربه بعيني رأسه، وإنما رآه بعين قلبه، وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على مسروق لما قال لها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
فالصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعين رأسه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه (أنه سأل رسول صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي لفظ: (نور أنى أراه؟!).
ولما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا عام، وهو أن الله تعالى حجابه النور، فلو كشف النور لأحرقات سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ومحمد من خلقه عليه الصلاة والسلام، ولأن الرؤية نعيم ادخره الله لأهل الجنة.
فالله تعالى وجوده أكمل من وجود كل موجود، لكن تعذرت رؤيته في الدنيا بسبب ضعف البشر، وعدم تحمل البشر رؤية الله، ولكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين نشأة قوية يثبتون فيها لرؤية الله ويتحملون رؤيته، فهم يرون الله في الموقف في يوم القيامة، ويرونه سبحانه وتعالى في الجنة، بل إن رؤية المؤمنين لربهم في الجنة أكمل نعيم، وأعظم نعيم يلقاه أهل الجنة، حتى إنهم ينسون جميع ما هم فيه من النعيم، وهي الزيادة التي قال الله تعالى فيها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] نسأل الله الكريم من فضله، فأعظم نعيم يعطاه أهل الجنة هو رؤية الله في الآخرة، فادخرها الله سبحانه وتعالى لهم.
الجواب: الشيعة طبقات، وقد ذكر أصحاب المؤلفات الذين ألفوا في الفرق -كـالشهرستاني وغيره- أن الشيعة طبقات، وأنهم يبلغون اثنتين وعشرين طبقة وفرقة أو أكثر، وأن منهم الغلاة، ومنهم المتوسطين، فمنهم الغلاة الذين يزعمون أن الله حل في علي من نصيرية وغيرهم، هؤلاء ملاحدة كفار بإجماع المسلمين.
ومنهم المخطئة الذين يخطئون جبريل ويقولون: إنه أخطأ في الرسالة، فإن الله أرسله إلى علي فأخطأ فأوصلها إلى محمد، فخان الأمين وصده عن حيدرة الحق، ويقولون: إنهم الآن حينما يصلون يضربون أفخاذهم، وهذه إشارة إلى الخيانة، فهؤلاء كفار بلا إشكال.
,من الرافضة من يزعم أن القرآن طار ثلثاه، ولم يبق إلا الثلث، وأن هناك مصحف فاطمة ، وقد ذكر هذا في كتب الشيعة، مثل الكافي وغيره، فهذا كفر وردة بلا إشكال، فمن زعم أن القرآن طار ثلثاه ولم يبق إلا الثلث فقد كذب الله في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
وكذلك من كان منهم يتوسل بالأئمة الإثني عشرية، ومعروف أن الرافضة يتوسلون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، لكن نص على أئمة منصوصين معصومين، فنص على أن الخلفية بعده علي بن أبي طالب ثم بعده الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم على بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم الخلف الحجة المهدي المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامراء سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن، يقول شيخ الإسلام : مضى عليه في زمنه أربعمائة سنة، ونحن نقول: مضى عليه ألف ومائتا سنة ولم يخرج، ويزعمون أنه في سرداب سامراء، ويتوسلون بهم ويعبدونهم من دون الله، وقد سمع أن بعض الرافضة الخمينيين يتوسلون عند الكعبة بهؤلاء الأئمة، فيبدءون بـعلي فيقولون: يا علي! يا ولي الله! اشفع لنا. ثم ينتقلون إلى الحسن ثم الحسين حتى يصلوا إلى السرداب، فمن فعل ذلك فهو مشرك؛ لأنه عبد أهل البيت، وكذلك من كان يسب الصحابة كلهم ولا يستثني أحداً منهم، فهذا كفر وردة؛ لأنه سب للدين الذي حملوه، فهم يقولون: إن الصحابة كفروا وارتدوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخفوا النصوص التي تنص على أن الخليفة بعده علي ، فإذا كان الصحابة -كما يقوولون- كفاراً مرتدين فكيف نثق بهذا الدين الذي حملوه؟! إن الذين حملوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة، فإذا كانوا كفاراً وفساقاً فكيف نثق بهذا الدين؟! وقد استنبط الإمام مالك رحمه الله كفر من سب الصحابة جميعاً من قول الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح في وصف الصحابة: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] قال: من أغاظه الصحابة فهو كافر بنص القرآن، والصحابة يغيظون الرافضة.
فالمقصودأن الذي يسب الصحابة جميعاً أو يتوسل بهم أو يعبدهم من دون الله أو يدعي أن القرآن طار ثلثاه أو يخطئ جبريل في الرسالة -وأعظم منه أن يدعي أن الله حل في علي- كافر بلا إشكال بإجماع المسلمين، أما من سب الواحد أو الاثنين، كأن سب معاوية فقد لا يكون كافراً، وهم الزيدية، فهناك فرق من الزيدية ليسوا كفاراً، وإنما هم مبتدعة.
الجواب: يختلف الحكم باختلاف عقيدته، فإن كان يعتقد شيئاً يوصله إلى الكفر فليعد الصلاة، وإن كان يعتقد عقيدة توصله إلى البدعة لا إلى الكفر فلا يعيد الصلاة، والمعروف عند الجمهور أن الخوارج مبتدعة، والصواب أن الفاسق تصح الصلاة خلفه؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج ، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، أما الكافر، فلا تصح الصلاة خلفه، فإذا كان كافراً، أو إذا كانت بدعته توصله إلى الكفر فإنه يعيد الصلاة، وإذا كانت بدعته لا توصله إلى الكفر فلا يعيد الصلاة، ولا أدري عن حال هذا الرجل الذي صلي خلفه.
الجواب: نعم هذا من شبههم، كما ذكر الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والملاحدة، قال: إنهم وجدوا هذه الآيات: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3] لكن ضلوا، ومعنى الآية: وهو الله سبحانه يعلم، فقيدها بالعلم، فالله سبحانه وتعالى يعلم سركم وجهركم، وعلمه في السماء كما أن علمه في الأرض، فعلمه في السماء والأرض، وأما هو سبحانه فهو فوق العرش؛ لأن نصوص الاستواء والعلو محكمة، فلا يتعلق الإنسان بالمتشابه، قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وقال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] في سبعة مواضع من كتاب الله، وقال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية في صحيح مسلم : (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
فكيف تترك النصوص المحكمة وتذهب إلى التعلق بالمتشابه؟! فالواجب أن يضم المتشابه الذي فيه إشكال إلى النصوص المحكمة ويفسر بها ليزول الإشكال.
أما الذي يتعلق بالمتشابه ويترك النصوص المحكمة -كنصوص العلو والفوقية- فهو سالك طريقة أهل الزيغ، وقد ذكر العلماء أكثر من ثلاثة آلاف دليل كلها تدل على علو الله، وأنه فوق العرش، فكيف نترك هذه الأدلة ونتعلق ببعض النصوص التي فيها اشتباه وفيها احتمال وفيها إشكال؟! فهذه طريقة أهل الزيغ.
أما أهل الحق فإنهم يفسرون المتشابه بالمحكم فيتضح معناه، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] فأهل الزيغ يتبعون المتشابه ويتركون المحكم، قالت عائشة رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فهم الذين سمى الله فاحذروهم، أو كما قالت رضي الله عنها، وأظن أن هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: هذا كلام فاسد، وما دام أنه قول لبعض المبتدعة فلا نشتغل بتحليله، وهو قول باطل وفاسد المعنى، ولم يتضح لي معناه، ولا أدري ما المراد به.
الجواب: معروف أن الخوارج في الغالب سلكوا مسلك المعتزلة في نفي الصفات، والخوارج والإمامية قدماؤهم أحسن من المتأخرين، فالقدماء في الغالب يثبتون الصفات، والمتأخرون ينفون الصفات كالمعتزلة، فالغالب أنهم يسلكون مسلك المعتزلة في هذا.
الجواب: الصوفية طبقات، وهم يقسمون الناس إلى طبقات، والكلام فيهم نفس الكلام في الاتحادية، فهم يقولون: الناس طبقات: عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة، ومن العامة جميع الأنبياء والمرسلين، فالعامة هم الذين عليهم التكاليف، فيقرءون القرآن ويصلون ويصومون ويدعون ويخافون الله ويرجونه.
والخاصة: هم الذين ألغوا صفاتهم وأفعالهم فجعلوها صفات لله، وعلم الواحد منهم أن ما قدر سيكون، ووصل إلى هذه المرتبة من العلم، فتسقط عنه التكاليف، فلا يكون عنده طاعة ولا معصية، بل جميع ما يفعله طاعات، وأما الطاعات والمعاصي فعند العامة، أما هؤلاء فقد سقطت عنهم التكاليف؛ لأنهم وصلوا إلى درجة من العلم، وألغوا صفاتهم وجعلوها صفات لله، واعتمدوا على المشيئة الكونية، فعلم الواحد أنه ما قدر سيكون، ووصل إلى العلم فسقطت عنه التكاليف، ويتأولون قول الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فقالوا: أي: إذا وصلت إلى العلم فقد انتهت العبادة. أي: واعبد ربك حتى تصل إلى العلم. فعلم الصوفية يسقط العبادة، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، فمن قال: إن أحداً تسقط عنه التكاليف وهو مكلف بالغ عاقل -إلا الحائض تسقط عنها الصلاة- وعقله قائم فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه ليس هناك أحد تسقط عنه التكاليف أبداً إلا المجنون أو الصغير أو الشيخ المخرف أو الحائض والنفساء، ولا تسقط عنهما إلا الصلاة فقط، فهؤلاء يسقطون التكاليف والعياذ بالله، ويقولون: إن العامة هم أهل الشريعة، فعندهم طاعات ومعاص وتكاليف، أما الخاصة فهم أهل الحقيقة ليس عندهم طاعات ومعاصٍ، بل كل ما يصدر عنهم طاعات، وليس عليهم تكاليف، فالكافر لو صدر عنه الكفر فهو طاعة، والعاصي لو صدر عنه المعصية فهي طاعة.
والطبقة الثالثة خاصة الخاصة، ويسمون أهل التحقيق، وهم الذين يقولون: إن الوجود واحد، فليس عندهم طاعات ولا معاص، وهم الذين اتحد وجود الموجودات عندهم، وصار الوجود هو الرب وهو العبد، وهؤلاء يسمون أهل التحقيق عندهم، والأذكار مقسمة على حسب الطوائف الثلاث:
فذكر العامة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، أما الخاصة فلا يحتاج الواحد منهم إلى أن يقول: لا إله إلا الله، بل يأخذ لفظ الجلالة ويكرره: الله الله، الله الله، الله الله، وقد ذكر بعض الإخوان أنه سافر إلى إفريقيا ورأى أناساً من بعد العصر إلى المغرب يكرر أحدهم فيقول: الله الله، الله الله، الله الله، حتى يغشى عليه ويسقط.
والخاصة يستدلون على قولهم: (الله)، -كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله- بقول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ [الأنعام:91] فقوله تعالى: (قل الله) هو دليل الخاصة.
وأما خاصة الخاصة فذكرهم هو الهاء فقط، فلا يحتاجون إلى أن يقولوا: (الله)، بل تأخذ الهاء، فيقولون: هو، هو، وهي وهوهة كالكلاب، فهذا ذكرهم، ويقولون: عندنا دليل من القرآن على أن ذكر خاصة الخاصة: (هو هو)، وهو قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] والتقدير حسب زعمهم: (وما يعلم تأويل (هو) إلا الله)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقلت لهم: لو كانت كما تقولون لصارت أيضاً: وما يعلم تأويله هو إلا الله.
وأما الخاصة الذين يقولون: (الله الله)، فهم موجودون الآن في إفريقيا، وفي غير إفريقيا، والصوفية هؤلاء الذين يوهوهون بقولهم: (هو هو)، موجودون، والعياذ بالله.
وابن عربي رئيس وحدة الوجود ألف كتاباً سماه كتاب الـ(هو)، وحكي أن بعض الصوفية الآن من خاصة الخاصة إذا أذن المؤذن شتمه، وإذا نبح الكلب أو الحمار أثنى عليه، ويقولون: لأن الحمار والكلب ينسيك كل شيء، فليس في الوجود إلا الله، أما المؤذن حين يؤذن فقد أثبت وجودين، أثبت نفسه وأثبت ربه، فيقول: الله أكبر، فالمؤذن مشرك؛ لأنه أثبت وجودين، بخلاف الحمار والكلب، ولما قيل لبعضهم: إن القرآن يخالف ما أنتم تقولونه، قالوا: القرآن كله من أوله إلى آخره شرك، والحق ما نقوله، والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا تظن -أيها المسلم- أن هذه الأشياء غير موجودة، بل هي موجودة الآن في باكستان وفي أفريقيا، وتجد في البلد الواحد خمسين طريقة، ومائة طريقة، وكل طريقة لها شيخ، وكلها توصل إلى النار، كالقادرية، والنقشبندية، والشاذلية، إلى آخره، وكلها طرق توصل إلى النار، والعياذ بالله.
ومنها الطريقة المبتدعة، ومنها ما يُوصل إلى الكفر، ومنها ما دون ذلك، وبعضهم يذكرون ويذكرون ويدورون حتى يسقط أحدهم ويغمى عليه، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الثبات على دينه.
الجواب: ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة محرماً في حجة الوداع فوقصته ناقته فسقط، فاندقت عنقه فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفنوه في ثوبين وجنبوه الطيب، ولا تخمروا رأسه -وفي بعض الروايات: ولا وجهه- فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) وهذا وصف بأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ولكن لا ينافي هذا كونهم يبعثون حفاة عراة، فكونه يلبي وهو حاف عار ليس على رأسه شيء وليس عليه ثياب لا يمنع ذلك، والناس يبعثون حفاة، أي: لا نعال عليهم، عراة: لا ثياب عليهم، غرلاً: غير مختونين، وجاء في الأثر أن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأمر أشد من ذلك) وقد يحصل للإنسان أمر يذهله حتى لا يدري عن نفسه، وينسى كل شيء، وهذا معروف الآن، فإذا حصل للإنسان أمر يذهله فإنه ينسى الأكل والشرب، ولا يرى ما أمامه، فكيف بالأمر العظيم حينما يحصل، حين ينفخ في الصور ويخرج الناس من قبورهم؟! فهل يكوي أحد على أحد يوم القيامة كما كان يلوي عليه في الدنيا؟! أنه إذا دهش ينسى الأكل، وينسى الشرب، وينسى من أمامه، ولا يرى من حوله، وقد يحصره البول فيبول ولا يحس بشيء، فكيف بمثل هذا؟!
وثبت أن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهذه منقبة عظيمة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الجواب: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني: ما يصل إليه من خلقه يقيده، و(ما): موصولة بمعنى: الذي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر