أما بعد.
فإن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو توحيد العبادة والألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فكل ما أمر الله به وأمر به رسوله يفعله المؤمن إخلاصاً لله عز وجل وتعظيماً وخوفاً ورجاءً، وكل ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله يتركه المؤمن خشية لله وإجلالاً وتعظيماً ومحبة ورغبة ورهبة، وهذا التوحيد -أعني توحيد العبادة- هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وهو أول دعوة الرسل، وهو الذي وقعت بسببه الخصومة بين الأنبياء وأممهم في قديم الدهر وحديثه، وهو الذي من أجله خلق الله الجنة والنار، وافترق الناس إلى شقي وسعيد، ولأجله حقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، فجدير بالمؤمن أن يعتني بهذا التوحيد، وأن يهتم به، وأن يعرف حقيقته ومعناه حتى يعبد الله على بصيرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى عرف العباد بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله ليعرفوه سبحانه، وليعلموا عظيم حقه وليعبدوه؛ فإن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة لتوحيد العبادة، وتوحيد العبادة هو الغاية التي من أجلها خُلِق الخلق، وهو الغاية المحبوبة لله والمرضية.
وفي توحيد الربوبية اعتراف بأن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر، والاعتراف والإيمان بأسمائه وصفاته، فهو وسيلة إلى أن نعبده، فإذا عرفنا ربنا بصفاته وأفعاله وأسمائه وقضائه وقدره وحكمته خصصناه بالعبادة سبحانه، فتوحيد العبادة المطلوبة المرضية لله هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو الذي أنكره المشركون، وكذب فيه الكفار رسلهم حينما أتوا به ودعوهم إلى إخلاص العبادة لله، قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:105-107]، فكذبوه في أنه رسول الله، وأنه جاء بتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وقال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:123-125]، وقال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:141-143]، فكذبوه في دعوى الرسالة والنبوة، وأنه أتى من عند الله بالتوحيد وإخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك، وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:160-162]، وقال تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:176-178].
ومن كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين، لذا قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، مع أنهم لم يكذبوا إلا بنوح، لكن لما كان الرسل دعوتهم واحدة، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم؛ صار من كذب واحداً كمن كذب بالجميع.
وكذلك كفار قريش أنكروا توحيد الإلهية، وكذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله من إخلاص الدين لله، وإخلاص العبادة والتوحيد له عز وجل، قال الله تعالى عنهم: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:4-5]، فأنكروا أن تكون الآلهة إلهاً واحداً؛ لأن المشركين ابتلوا بوجود آلهة متعددة يعبدونها من دون الله، ونشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وتوارثوا هذا عن آبائهم وأجدادهم، وصاروا يتبعون آباءهم وأجدادهم على الباطل، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله. تفلحوا)، عجبوا! كما قال تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:4-7]، فهذه هي الحجة الملعونة الشيطانية، وهي اتباع الآباء والأجداد على الباطل، واتباع القرون السابقة على الضلال، وهي حجة فرعون حينما قال لموسى: َمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]، وهي حجة كفا قريش لما قالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7].
فلا بد من العناية بمعنى هذه الكلمة، ولا تتبين عظمة هذه الكلمة، بأنها تنفي الشرك عن الله، وأنها تنفي جميع أنواع العبودية عن غير الله وتثبتها لله إلا إذا فسر الإله بالمعبود، وقدر الخبر بـ(حق)، أي: لا إله حق إلا الله، فـ(لا) نافية للجنس تعمل عمل (إن)، فتنصب الاسم وترفع الخبر، واسمها: (إله)، والإله: هو المعبود المطاع المتبع، والخبر محذوف تقديره: حق، أي: لا معبود حق إلا الله.
أما المعبودات الموجودة فهي معبودة بالباطل، فالشمس والقمر والنجوم والأولياء والأنبياء والملائكة، كل هؤلاء عبدوا بالباطل، ولا يستحقون العبادة، وإنما المعبود بالحق هو الله وحده سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، أما من فسر الإله بأنه الخالق، فهذا قد وافق ما عليه المشركون، فإن المشركين يقولون: لا خالق إلا الله، وكذلك من قدر الخبر فقال: لا إله موجود إلا الله. فقوله ليس بصحيح، بل الآلهة متعددة وموجودة وكثيرة، وكلها معبودة بالباطل إلا الله، فهو المعبود بالحق سبحانه وتعالى.
والنوع الثاني: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الألوهية والعبادة، وهو التوحيد الإرادي الطلبي، ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وأما التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فنوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالنوع الأول هو توحيد المعرفة والإثبات، أي: إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره وعموم مشيئته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وأول سورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول (الم تنزيل) السجدة، كما دل عليه قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، وكما دلت على ذلك سورة الإخلاص بكمالها، وفي أول سورة الحديد بيان هذا التوحيد توحيد المعرفة والإثبات، قال تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد:1-2]، وفي آخر الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22] إلى آخرها، وفي أول سورة ( ألم تنزيل) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4]، وسورة (قل هو الله أحد) بكمالها.
النوع الثاني: التوحيد الطلبي الإرادي، وقد تضمنته ودلت عليه سورة: (قل يا أيها الكافرون) بكمالها، وقول الله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وكما في أول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وجملة سورة الأنعام.
ثم يقول العلامة ابن القيم : وكل سورة في القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا هو التوحيد العملي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بحقوقه، فذلك من مكملات التوحيد وحقوقه، وإما خبر عن إكرامه لأوليائه وما حصل لهم في الدنيا من الكرامة والنصر والتأييد، وما يحصل لهم في الآخرة من العاقبة الحميدة والكرامة، فهذا جزاء أهل التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك، وما يحصل لهم في الدنيا من الهزيمة والخذلان، وما يحصل لهم في الآخرة من العذاب السرمدي، فهذا جزاء من خرج عن التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وفي الشرك وأهله وبيان الشرك والنهي عنه وجزاء أهله.
فتوحيد العبادة هو التوحيد المطلوب، والغاية المرضية لله عز وجل، والذي من أجله خلق الخلق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وخلق من أجله الجنة والنار، وافترق الناس إلى شقي وسعيد، فجدير بالعاقل اللبيب أن يعتني بهذا الأمر، وأن يهتم به، وأن يعرف معناه وحقيقته، وأن يعرف ما يضاده وينافيه أو ينافي كماله الواجب حتى يعبد الله على بصيرة، وحتى يكون مؤمناً حقاً.
جدير بك -أيها المسلم ويا طالب العلم- أن تعتني بهذا التوحيد، وأن تعرف حقيقته، فهو توحيد خلقك الله من أجله، وأرسل من أجله الرسل، وأنزل من أجل الكتب، وهو سبب السعادة، وتركه الشقاوة، جدير بك أن تعتني به، وأن تتعرف على معناه وحقيقته، وأن تعرف ما يضاده وينافيه، أو ينافي كماله الواجب.
فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، وإخلاص التعلق لله، وأن تفرد الله بجميع أنواع العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج، وبر للوالدين، وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله، ودعاء وخوف ورجاء ونذر وتوكل واستعانة واستغاثة وطواف، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، واحذر أن يكون في عملك شرك، حتى لا ينتقض عليك هذا التوحيد الذي من أجله خلقك الله، فهذا هو التوحيد وضده الشرك والكفر والنفاق، فالذين انحرفوا عن هذا التوحيد هم المشركون والكفار والمنافقون بجميع أصنافهم وطبقاتهم، انحرفوا عن هذا الترتيب.
فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، وإخلاص التعلق لله، كما قال الله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14]، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وهذا هو الأمر الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب، وضده -وينافيه- الشرك، والكفر، والنفاق، وإذا كان الشرك لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر فإنه ينافي كماله، وكذلك الكفر إذا كان أصغر فإنه ينافي كماله، وكذلك النفاق إذا كان أصغر فإنه ينافي كماله الواجب.
أما الشرك الأصغر فهو كل ما ورد تسميته من الذنوب شركاً ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر.
ومن الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر ما يأتي:
أولاً: الشرك الأكبر لا يغفره الله يوم القيامة، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، ويخرج فاعله من ملة الإسلام، قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، ويحبط جميع الأعمال؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217] ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فمن مات عليه فهو غير مغفور له بنص القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
ويخلد صاحبه في النار إذا مات عليه، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
أما الشرك الأصغر فإنه لا يغفر في أصح قولي العلماء؛ لدخوله في عموم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وقال بعض العلماء: يكون فاعله تحت المشيئة، كالكبيرة.
ثانياً: يحبط العمل الذي فارنه فقط ولا يحبط جميع الأعمال.
ثالثاً: لا يخرج من ملة الإسلام.
رابعاً: لا يخلد صاحبه في النار، بل يدخل تحت الموازنة بين الحسنات والسيئات، فإن رجحت الحسنات فإنه لا يعذب به، وإن رجحت السيئات عذب به.
ثانياً: الشرك بالله أظلم الظلم، وأقبح القبيح؛ لأن فيه تنقصاً لله، وصرفاً بخالص حقه لغيره، وعدلاً غيره به، كما قال الله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، فالمشرك عدل غير الله بالله، فهو أظلم الظلم، وأقبح القبيح، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وأي ظلم أعظم من أن يضع الإنسان العبادة في غير موضعها؟! والمشرك وضع العبادة في غير موضعها، فعبد غير الله، فوقع في أظلم الظلم وأقبح القبيح، حيث عدل غير الله بالله، وتنقص رب العالمين.
ثالثاً: الشرك بالله مناقض للمقصود بالخلق والأمر، إذ المقصود بخلق الخلق أن يعبدوا الله، والله تعالى أمرهم أن يفردوه بالعبادة، فالشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وهذا غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له والخضوع والانقياد لأوامره التي لا صلاح للعالم إلا بها، فلا صلاح للعالم إلا بالتوحيد والإيمان، فمتى خلا العالم من الإيمان والتوحيد خرب وقامت القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله).
إذاً: صلاح هذا العالم وبقاؤه بالتوحيد والإيمان، فإذا خلا من التوحيد والإيمان خرب، ولهذا فإنه في آخر الزمان تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات بريح طيبة تأتي من جهة الشام، وفي بعض الروايات: من جهة اليمن، حتى لو كان الواحد من المؤمنين في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه، فلا يبقى إلا الكفرة يتهارجون ويتناكحون في الأسواق تهارج الحمر والعياذ بالله، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ويتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادته، فعليهم تقوم الساعة، فتنفطر السماء وتنشق، وتنكدر النجوم، ويخرب هذا العالم بسبب خلوه من الإيمان والتوحيد، ومتى كان الإيمان والتوحيد موجودين فإن صلاح هذا العالم يبقى.
رابعاً: الشرك بالله تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الربوبية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعليق الخوف والرجاء والدعاء والتوكل وسائر أنواع العبادة بالله عز وجل.
خامساً: الشرك بالله هضم لجناب الربوبية، وسوء ظن برب العالمين، فإن من خصائص الألوهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون الخشية والتعظيم والدعاء وسائر أنوع العبادة لله عز وجل، وهذا واجب شرعاً وعقلاً وفطرة.
وهذه الأمور التي يتبين بها خطر الشرك توجب للعبد شدة الخوف من الشرك، والحذر على نفسه من أن يقع في شيء من الشرك هذا الذنب العظيم والحوب الكبير.
فإذا كان إبراهيم الخليل يخاف هذا الأمر، وهو الذي قال الله عنه لنبيه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فكيف بالواحد منا لا يخاف؟! ولهذا قال إبراهيم التيمي تعليقاً على هذه الآية: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟! إذا كان إبراهيم الخليل يخاف من عبادة الأصنام ويقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36]، فمن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟!
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية )؛ لأن الصحابة الذين عرفوا الشرك وخبروه، وذاقوا مرارته لا يقعون فيه، بخلاف من نشأ في الإسلام ولم يعرف الشرك، فقد يقع فيه ويظن أنه توحيد، مثل ما حصل لعباد القبور، فتجد أحدهم يطوف بالقبر، ويدعوه من غير الله، وينذر له، فإذا قلت له: إن هذا شرك، قال: ليس هذا شركاً، بل هذه محبة للصالحين، وتوسل بهم.
بخلاف الصحابة الذين كانوا على الشرك قبل الإسلام ثم هداهم الله إلى الإسلام، فقد عرفوا الشرك وخبروه وذاقوا مرارته، فلا يقعون فيه، لكن من نشأ في الإسلام وهو لا يعرف الجاهلية ولا الشرك قد يقع فيه وهو لا يشعر.
ومن هنا يتبين فضل الصحابة على أبنائهم فمن بعدهم، فهم عرفوا الشر ثم عرفوا الخير، فذاقوا مرارة الشرك وخبروه وعرفوه، فلا يقعون فيه، بخلاف من بعدهم؛ فإن من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية ولا الشرك وأنواعه قد يقع فيه ويظن أنه توحيد.
فجدير بالإنسان أن يخاف الشرك على نفسه، وحقيقة الخوف من الشرك توجب للعبد الابتهال إلى الله، والتضرع إليه، وصدق الالتجاء إليه، وسؤاله أن يجنبه الشرك، والبحث عن الشرك ووسائله وذرائعه المفضية إليه حتى يحذرها ولا يقع فيها، هذه حقيقة الخوف من الشرك.
فالشرك يؤاخذ به الإنسان إذا كان أكبر أو كان كثيراً أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
النوع الأول: شرك التعطيل، والنوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماء الرب وصفاته وربوبيته.
و
من أمثلة شرك التعطيل: شرك فرعون، فإن فرعون أنكر الرب العظيم، قال الله سبحانه عنه: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، وقد أخبر الله أن فرعون قال لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وأخبر الله عنه في آية أخرى أنه قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ففرعون عطل الرب، وأنكر الرب سبحانه وتعالى.
ومن أمثلة شرك التعطيل شرك الفلاسفة المتأخرين كـأرسطو والفارابي وابن سينا، إذا قيل: الفلاسفة فالمراد بهم المتأخرون الذين يتزعمهم أرسطو ويسمون الفلاسفة المشائين، بخلاف الفلاسفة الذين سبقوا أرسطو، فإنهم يعظمون الشرائع والإلهيات في الجملة، أما المتأخرون فيستثنون وجود الله والشرائع والإلهيات.
وكان يتزعم أرسطو الفلاسفة المشائين، ويسمون بالمشائين لأنهم كانوا يدرسون نظرياتهم وهم يمشون، وهو الذي ابتدع القول بقدم العالم، وكان مشركاً يعبد الأصنام، فالفلاسفة شركهم من أمثلة شرك التعطيل، فهم يقولون بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يزل ولا يزال، والحوادث عندهم بأسرها مستندة إلى أسباب ووثائق اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس.
إذاً: الفلاسفة يقولون بقدم العالم، ولا يقولون: إن الله هو الذي خلقه بقدرته ومشيئته، وإذا كان قديماً فلا خالق له، أي: ليس له أول وقدمه أبدي، فهم ينكرون وجود الله، فمذهبهم إثبات وجود الله مجرداً عن الماهية والصفة، بل هو الوجود المطلق لا يعرض لشيء من الماهيات، ولا يقوم به وصف، وهذا هو التوحيد عندهم.
ومن فروع هذا التوحيد -الذي هو من أعظم الكفر- إنكار ذات الله سبحانه وتعالى، والقول بقدم الأفلاك، وإنكار أسماء الله وصفاته، والقول بأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب، ولا يعلم شيئاً من المعينات الموجودة البتة، ولا يوصف بالقدرة، فلا يقدر على شق الأفلاك ولا حرقها، ولا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم.
ومن فروع هذا التوحيد: إنكار الملائكة، واعتبار أن الملائكة عبارة عن أشكال نورانية، أي: خيالية.
ومن فروع هذا التوحيد: إنكار الكتب المنزلة، والقول بأنها عبارة عن فيض فاض من العقل الفعال، فهي أمور معنوية تفيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية فيحصل لها تصورات بحسب ما قبلته منه.
ومن فروع هذا التوحيد: إنكار النبوة والرسالة، والقول بأن النبوة مكتسبة، وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة، وليست هبة من الله، وأن النبي رجل عبقري له صفات يحصل عليها بالمران والخبرة.
ومن فروع هذا التوحيد: إنكار الشرائع، وأنه ليس هناك حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي.
ومن فروع هذا التوحيد: إنكار البعث والجزاء والمعاد والجنة والنار، ويقولون: هذه أمثال مضروبة لتسليم العوام فقط.
ومن أمثلة شرك التعطيل شرك أهل وحدة الوجود، ورئيسهم ابن عربي ، حيث يقولون: الوجود واحد، والرب هو العبد والعبد هو الرب، والخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق، هذا شرك تعطيل في الربوبية، ورؤساؤهم هم ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والقونوي وغيرهم من الذين تستروا باسم الإسلام وكسوا إلحادهم حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق حتى راج على ضعفاء الأبصار؛ لأنهم منافقون زنادقة، يتسترون باسم الإسلام، ومزجوا باطلهم بشيء من الحق حتى يخفى أمرهم على ضعفاء الأبصار.
ومن أمثلة شرك التعطيل: شرك غلاة الجهمية والقرامطة الذين أنكروا أسماء الرب وصفاته.
فهذه كلها أمثلة للنوع الأول من شرك الربوبية، وهو شرك التعطيل، ومنه شرك فرعون، وشرك الفلاسفة، وشرك طائفة أهل وحدة الوجود، وشرك غلاة الجهمية والقرامطة الذين أنكروا أسماء الرب وصفاته.
النوع الثاني من الشرك في الربوبية: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماء الرب وصفاته وربوبيته، ومن أمثلته: شرك المجوس القائلين بخالقين وإلهين: النور والظلمة، وإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن أمثلته أيضاً: الشرك المثلث من النصارى القائلين: الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس.
ومن أمثلة هذا النوع أيضاً: شرك الصابئة الذين يقولون: إن الكواكب العلويات مدبرة لأمر هذا العالم.
ومن أمثلة هذا النوع من الشرك: شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف في هذا الكون، وأن روح الميت تخرج وتتصرف في هذا الكون فتجلب نفعاً، وتدفع ضراً، وتجيب من دعاها، وتحمي من لاذ بحماها واستجار بها، فهذا شرك في الربوبية.
ومن أمثلة أيضاً: شرك من قال: مطرنا بنجم كذا أو نوء كذا، معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، وقد يقال: إن هذا داخل في شرك الصابئة.
النوع الأول: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الله عز وجل الإله الحق، كاشتقاقهم اسم اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
النوع الثاني: شرك المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه، فيقول أحدهم: لله يد كيدي، واستواء كاستوائي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، وهؤلاء المشبهة غالبهم من غلاة الشيعة، كالبيانية الذين ينسبون إلى بيان بن سمعان ، والسالمية الذين ينسبون إلى سالم الجواليقي .
قال بعضهم: إن الله على صورة الإنسان، وقال بعضهم: إن الله ينزل عشية عرفة على جمل، ويصافح ويحاضر ويسامر ويعانق. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهؤلاء المشبهة كفرة؛ حيث شبهوا الله بخلقه، فهم أشركوا بأسمائه وصفاته، ومن شبه الله بخلقه فلا يعبد الله على الحقيقة، وإنما يعبد وثناً صوره له خياله ونحته له فكره، وهو -أيضاً- مشابه للنصارى الذين عبدوا غير الله وقالوا بالتثليث، فلهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:
من شبه الله العظيم بخلقه فهو النسيب لمشرك نصراني
وكذلك أيضاً بين أن المشبه إنما يعبد وثناً، فقال:
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان
فالمشبه لا يعبد الله حقيقة، وإنما يعبد وثناً خيله وصوره ونحته له فكره.
أما الشرك الأصغر في العبادة فإنه الشرك الذي لم يصل إلى حد الأكبر، وكل ما ورد تسميته شركاً لكنه لم يصل إلى حد الشرك، فلا يكون شركاً في العبادة ولا يكون ناقضاً من نواقض الإسلام.
أما الشرك الأكبر فهو اعتقاد شريك لله في الألوهية والعبادة، أو صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، وهذا هو الشرك الأعظم، وهو شرك أهل الجاهلية، وهذا له أمثلة وأنواع كثيرة لابد من أن يكون المؤمن منها على بصيرة، ومن هذه الأنواع:
الشرك في المحبة.
وهو أن يتخذ نداً من دون الله يحبه كما يحب الله، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، فالذين آمنوا أشد حباً لله من محبة المشركين لله؛ لأن محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة، أو المعنى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] من محبة المشركين لآلهتهم، والشرك في المحبة هو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما أخبر الله تعالى عن المشركين في النار أنهم قالوا: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98]، فسووا آلهتهم برب العالمين في المحبة والتعظيم لا في الخلق والرزق، فهم لا يقولون: إنها تخلق وترزق. بل سووهم بها في المحبة، ودليل هذا الشرك قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، والمراد بالمحبة محبة العبادة التي يصاحبها خضوع وذل ورجاء وتعظيم وإجلال للمحبوب، وكل محبة مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، فالعبادة تتضمن غاية الحب لله وغاية الذل لله، فهذان الأمران يدور عليهما فلك العبادة، والذي يديره هو أمر الله ورسوله بالفعل وبالكف، ولا يقوم دين الله إلا بإخلاص العمل لله، وإحسان العمل وإتقانه بأن يكون موافقاً لشرع الله، والله تعالى إنما يرضى منا الإخلاص والإحسان، والعارف هو الذي يعتني بالإحسان والجاهل لا يبالي به، ولهذا يقول العلامة ابن القيم في أبيات عظيمة هي من أحسن ما قيل في بيان محبة العبادة، وأن عبادة الله إنما تكون على غاية الحب وغاية الذل، يقول رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
فقيام دين الله بالإخلاص والإحسان إنهما له أصلان
لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت به الأصلان
والناس بعدك مشرك بإلهه أو بابتداع أو له الوصفان
والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسنه مع الإيمان
فالعارفون مرادهم إحسانه والجاهلون عموا عن الإحسان
يقول رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
فقطبا العبادة غاية الحب لله مع غاية الذل والخضوع لله، وعليهما فلك العبادة دائر، ولذا قال:
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
وما الذي يدير هذا الفلك؟ قال:
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
فالذي يدير فلك العبادة أمر الله ورسوله، افعل، ولا تفعل، افعل الأوامر، ولا تفعل المنهيات، فغاية الحب لله تستلزم فعل الأوامر، وغاية الذل لله تستلزم ترك النواهي، قال:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
فغاية الحب تقتضي فعل الأوامر، وغاية الذل تقتضي ترك المنهيات، وأيضاً لابد من الإخلاص لإحسان العمل، لابد لعملك من إخلاص لله، فهذا أصل من الأصول، فإن كان لغير الله لم يقبل، فلا بد من أن يكون العمل موافقاً لشرع الله، ولهذا قال: فقيام دين الله بالإخلاص والإحسان إنهما أصلان، فإذا وجد هذان الأصلان نجا العبد من غضب الله، وإلا فهو في غضب الله، ولذا قال:
لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت به الأصلان
فلا ينجو من غضب الله ولا ناره إلا من أخلص العمل لله، وكان عمله موافقاً لشرع الله ولهذا يقول الله تعالى في بيان هذين الأصلين: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فقوله تعالى: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110]، هذا هو الإحسان وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ [الكهف:110]، هذا هو الإخلاص، وقال سبحانه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22] أي: من يسلم وجهه لله ويخلص، وهو محسن هذا الإحسان، قال سبحانه: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البقرة:112]، فقوله تعالى: (أَسْلَمَ) أي: أخلص العمل لله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) المراد به إحسان العمل وإتمامه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
فقيام دين الله بالإخلاص والإحسان إنهما له أصلان
لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت به الأصلان
والناس بعدك فمشرك بإلهه أو بابتداع أو له الوصفان
فمن فقد الإخلاص فهو مشرك، وإذا فقد موافقة الشرع فهو مبتدع، فإما هذا وإما هذا، وإما له الأمران، قال:
والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسنه مع الإيمان
فليس المراد كثرة العمل، فقد يعمل الإنسان عملاً مبتدعاً لا يرضاه الله، لكن الله تعالى يرضى بأحسنه مع الإيمان، إيمان وإخلاص مع عمل حسن موافق للشرع.
قال: فالعارفون مرادهم إحسانه.
أي: العارفون مرادهم إحسان العمل وإتقانه، وموافقته للشرع، مع كونه خالصاً لله، والجاهلون عموا عن الإحسان.
فالمراد بالمحبة محبة العبادة التي تقتضي كمال الذل وكمال المحبة.
والرجاء كذلك لا بد منه؛ لأنه مستوجب للعبادة؛ لأن محبة العبادة مصحوبة بالخوف والرجاء، أما المحبة المنفردة عن الذل والخضوع فلا تكون عبادة، بل تكون محبة طبيعية، كمحبة المال والولد والزوجة؛ هذه تسمى محبة طبيعية ليست محبة عبادة، فمحبة العبادة هي التي تقتضي كمال المحبة وكمال الذل، أما إذا خرجت عن ذلك فلا تكون محبة عبادة، بل تكون محبة طبيعية، والمحبة الطبيعية يقسمها بعض العلماء إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء.
النوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده.
النوع الثالث: محبة تقدير واحترام وإجلال، كمحبة الولد لوالده.
النوع الرابع: محبة أنس وألف، كمحبة المشتركين في صناعة أو تجارة، والطلبة بعضهم لبعض.
أما إذا خاف من شيء أسبابه ظاهرة فهذا لا يكون خوف عبادة، كأن يخاف من السباع فيبتعد عنها، أو من الحيات والعقارب، أو من عدو كسلطان ظالم، فهذا أسبابه ظاهرة، وهذا لا يكون شركاً، بل هو خوف طبيعي، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:18] أي: خائفاً من فرعون، وهذا سببه ظاهر، فهو ملك ظالم كافر جبار، فيخشى أن يبطش به، ولهذا قال تعالى: َجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:20-21]، فهل هذا شرك؟! لا، بل هذا خوف طبيعي؛ لأن أسبابه ظاهرة أمامه، لكن الشرك أن تخاف من ميت، أو تعتقد أن الولي يمكن أن يقطع رزقك، أو يحرمك من دخول الجنة، أو لا يغفر ذنبك، أو يسلط عليك عدوك. ولهذا كان لابد من الخوف في عبادة الله مع المحبة والإجلال والتعظيم، فمن أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، ومن خضع لشيء ولم يحبه لم يكن عابداً له، فلهذا لا يكون المرء عبداً لله حتى يكون الله أحب إليه من كل شيء، وأعظم عنده من كل شيء، فمن أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، ومن خضع لشيء ولم يحبه لم يكن عابداً له، كالعدو تخضع له لكن لا تحبه.
أما من رجا حياً حاضراً فيما يقدر عليه فهذا ليس بشيء؛ لأنه رجاء عادي، كأن ترجو أخاك أن يصلح سيارتك، أو يبني بيتك، أو يقرضك مالاً، فهذا ليس شركاً؛ لأنه رجاء عادي أسبابه ظاهرة، لكن رجاء العبادة هو رجاء السر الذي يكون فيما وراء الأسباب، ولهذا فإن العبادة التي أمر الله بها هي التي تتضمن معنى الحب والخوف والرجاء، ولها ثلاثة أركان: المحبة والخوف والرجاء، ولابد من اجتماعها في العبادة، وهذه الأركان الثلاثة موجودة في فاتحة الكتاب في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فهذه هي المحبة، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] هذا هو الرجاء، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] هذا هو الخوف، فمن عبد الله بالمحبة والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد، ومن عبد الله بواحد منها وتعلق بواحد منها فليس بعابد لله على الحقيقة، فمن عبد الله بالحب وحده فهو صوفي زنديق، يقول أحدهم: ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن عبدته حباً لذاته وشوقاً إليه، فهذه طريقة الزنادقة، لا يعبدون الله بالخوف والرجاء، والله تعالى قال عن أنبيائه ورسله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، وقال عن أوليائه: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، وإذا عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، وإذا عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، وإذا عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.
وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
الجواب: ينبغي للمؤمن أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر على قدر الاستطاعة، ومن إنكار المنكر على الصوفي ألا تشتري منه، إلا إذا استطعت أن تنصحه، وأن يقبل نصيحتك، ثم تشتري منه تشجيعاً له، فلا بأس بذلك، وينبغي هجره، ومن هجره ألا تشتري منه، وإذا هجر أهل الخير والتوحيد والإيمان الصوفية سيؤثر ذلك عليهم، فالمقصود أنه ينبغي هجره، وكما أنك لا تجيب دعوته فكذلك لا تشتري منه، إلا إذا كان في شرائك منه فائدة، بأن تنصحه وتذكره بالله وهو يقبل منك ويستفيد، فهذا طيب.
الجواب: لا أعرف هذا، لكن من شروط كلمة التوحيد اليقين المنافي للشك والريب، وأن تتيقن بمعنى هذه الكلمة، وأن معناها نفي العبادة عن غير الله، ولا شك في أن عبادة غير الله فاسدة، فلابد من أن تنفيها وتنكرها.
واليقين الفاسد لا يسمى يقيناً، فالمؤمن ليس عنده يقين فاسد، بل المؤمن عنده يقين صحيح، وهو توحيد الله والإيمان به، فيكيف يقال: يخرج اليقين الفاسد؟! فالمراد أن ينفي العبودية عن غير الله بأنواعها، فيقول: (لا إله إلا الله) عن يقين لا شك فيه، فإن هذا من شروط كلمة التوحيد، أعني اليقين المنافي للشك والريب، فلا يكون عندك شك في استحقاق الله العبادة، وأن عبادة غيره باطلة.
الجواب: إذا كان الهجر من باب إنكار المنكر ويستفاد منه فاهجره، وكذلك غيره من أصحاب المعاصي، فالعاصي إذا كان في هجره فائدة فاهجره حتى في الكلام، وإن كان ترك الكلام أو الهجر يسبب مفسدة فلا تهجره، بل داوم على نصيحته.
الجواب: لا شك في أن هذا خوف من المخلوق، وقد يقال: إن هذا أسبابه ظاهرة، وهي الخوف من حي حاضر، لكن لا ينبغي لك أن تخاف منه، بل عليك أن تقوي رجاءك بالله، وأن تثق بالله، وأن تعتمد عليه وتتوكل عليه، ولن يضرك، ولتتحصن بالآيات القرآنية والأدعية الشرعية، ولن يضرك، وهو لا يعلم الغيب، فإذا كان المرء يعتقد أنه يضره، أو أنه يعلم الغيب فهذا شرك وكفر أكبر والعياذ بالله، فالواجب عليك أن تبلغ به، وأن ترفعه إلى ولاة الأمر، فحد الساحر ضربة بالسيف.
فلا شك في أن هذا جبن وخور وضعف، وإذا كان يعتقد أن الساحر يعلم خبره، وأنه يضره بسحره أو بمشيئته وقدرته فهذا شرك أكبر، قال الله تعالى عن السحرة: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فلا يصيبك إلا ما قدر الله لك، فعليك أن تثق بالله وأن تلجأ إلى الله، وأن تعتمد على الله وتتوكل عليه، وأن تعلم أن هذه الساحر لا قدرة له، ولا يستطيع أن ينفعك ولا يضرك، وعليك أن تبلغ وأن ترفع به إلى ولاة الأمر حتى يحال إلى المحكمة الشرعية.
الجواب: يعذب به إذا رجحت السيئات، فإن رجحت الحسنات لا يعذب، فالحسنات الكثيرة فيها توحيد كثير بجانب شرك قليل، فهو لا يغفر، فإما أن يعذب به، وإما أن يسقط بما يقابله من حسنات، فإذا كانت الحسنات كثيرة سقط ما يقابلها، وإذا كانت السيئات راجحة عذب به، وقال بعض أهل العلم: إنه كالكبائر تحت مشيئة الله، لكن ظاهر النصوص أنه داخل في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
الجواب: إثبات الجسم ونفي الجسم لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولهذا سكت عنه السلف، فمن قال: إن الله جسم أو ليس بجسم فهو مبتدع عند أهل السنة، والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق، وهو متصف بالصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ومن قال: إن الله جسم عند أهل الحق يسأل، فإن كان مراده الحق فإنه قبل المعنى ورد اللفظ، وإن كان مراده باطلاً رد اللفظ والمعنى جميعاً.
الجواب: هو سبحانه الإله، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ [الزخرف:84]، فظاهر الأدلة أنه من أسماء الله تعالى.
الجواب: هذا من البدع عند أهل العلم، فمن قال: أسألك بجاه فلان، أو: بحق فلان، أو: بحرمة فلان، فقوله من البدع، وهو توسل بوسيلة غير شرعية، والذي ينبغي هو التوسل بأسماء الله وصفاته، وبالعمل الصالح، بالفقر والحاجة إلى الله تعالى، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فلا تتوسل بحق فلان ولا بجاه فلان، ولكن توسل بأسماء الله وصفاته، وبالإيمان بالله وبالتوحيد، وبالعمل الصالح.
الجواب: إذا ثبت أنه مشرك، وأنه يدعو غير الله، أو يذبح ولم يتب فلا تصح ذبيحته، ومن عرف شيئاً من ذلك فعليه أن يبلغ المسئولين حتى يُبعد عن المسالخ، فإذا كان يطوف بالقبور تقرباً إليها أو يذبح لغير الله أو ينذر أو يدعو غير الله، أو كان لا يصلي -على أحد قولي أهل العلم- فلا تجوز ذبيحته، وعلى من عرف ذلك أن يبلغ المسئولين حتى يبعد هذا المشرك عن الذبح.
الجواب: لعل مقصوده: البقاء لله، وأن الله هو الباقي، وهذا حق، فهو الأول والآخر، لكن العبارة ليست بسليمة؛ لأن العمر محدد، فالله تعالى هو الأول وهو الآخر سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث الصحيح في دعاء الاستفتاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، فهذه الكلمة ليست سليمة؛ لأنها تشعر بالتحديد، إلا إذا كان مقصوده أن العمر من الله يعطيه المخلوق، فهذا شيء آخر على حسب مقصده، وبكل حال فالأولى تركه.
الجواب: لا أعلم معنى هذه الكلمة، والذي ينبغي أن يرد عليه تحيته، ويقول: حياك الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام ميت، كما قال الله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فكيف يقال: حياك النبي وهو ميت بالقبر لا يعلم؟!
وقد يقال: إن هذه الكلمة تشعر بأنه يعتقد أن الرسول يعلم وأنه حي، وهذا غلط، والذي ينبغي أن يقول: حياك الله، ويرد عليه تحيته، ولا يقول: حياك النبي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر