الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الطحاوي رحمه الله افتتح رسالته في العقيدة بقوله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره ].
ويدخل في هذه الجملة أنواع التوحيد الثلاثة التي هي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
والتوحيد ضده الشرك والكفر والنفاق، نسأل الله السلامة والعافية، ولا يكون الإنسان موحداً لله حتى يحذر الشرك بأنواعه، ويحذر الكفر بأنواعه، ويحذر النفاق بأنواعه، وحتى يكون موحداً كامل التوحيد والإيمان، أما إذا فعل شيئاً من أنواع الشرك الأصغر، أو من أنواع الكفر الأصغر؛ فإن توحيده يكون ناقصاً، وإيمانه يكون ناقصاً، أما إذا فعل الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر أو الكفر الأكبر؛ فإنه ينتقض منه الإيمان وينتقض التوحيد بالكلية، فلا يمكن أن يجتمع توحيد وإيمان مع شرك أكبر، ولا يجتمع توحيد وإيمان مع كفر أكبر، ولا يجتمع توحيد وإيمان مع نفاق أكبر، فإذا وجد أحدهما زال الآخر، إذا وجد الكفر الأكبر زال التوحيد والإيمان، وإذا وجد التوحيد والإيمان زال الكفر الأكبر، وإذا وجد التوحيد والإيمان زال الشرك الأكبر، وإذا وجد الشرك الأكبر والنفاق الأكبر زال التوحيد والإيمان.
لكنه قد يجتمع مع التوحيد والإيمان نفاق أصغر أو كفر أصغر أو شرك أصغر؛ لأن النفاق الأصغر والكفر الأصغر والشرك الأصغر لا يخرج من الملة، لكنه ينقص التوحيد والإيمان ويضعفه، والنفاق الأصغر والشرك الأصغر والكفر الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر.
وقد استعرضنا بعض أنواع الشرك الأكبر وأمثلته التي تنافي التوحيد والإيمان، ثم استعرضنا بعض أنواع الشرك الأصغر التي تنافي كمال الإيمان الواجب، ومن ذلك الحلف، فالحلف بغير الله من الشرك الأصغر، كأن يحلف بالكعبة أو بالنبي أو بالأمانة أو بغير ذلك، فهذا شرك أصغر.
وقد يكون أكبراً إذا اعتقد أن المخلوق يستحق شيئاً من التعظيم والعبادة التي لا يستحقها إلا الله سبحانه وتعالى، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر؛ لأنه يتعلق بالقلوب وصرفها عن الله، بخلاف الكبائر فإنها طاعة للهوى والشيطان؛ ولأن الشرك الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر.
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً)، وهذا من فقهه رضي الله عنه وتقواه؛ لأن الحلف بالله -وإن كان الشخص كاذباً- يعتبر توحيداً، بخلاف الحلف بغير الله وإن صدق، فهو شرك، فحلفه بالله كاذباً معه حسنة ومعه سيئة، معه حسنة التوحيد ومعه سيئة الكذب، والحالف بغير الله صادقاً معه حسنة ومعه سيئة، فمعه حسنة الصدق وسيئة الشرك، وإذا قارنت بين حسنة التوحيد وحسنة الصدق تجد أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وإذا قارنت بين سيئة الشرك وسيئة الكذب وجدت أن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه هذه المقالة: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً).
فهذه أحكام الكفر الأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويُخرج من الملة، ويحبط جميع الأعمال، ويخلد صاحبه في النار إذا مات عليه من غير توبة.
أما الكفر الأصغر فهو ما ورد تسميته من الذنوب كفراً ولم يصل إلى حد الأكبر، فهو تحت مشيئة الله، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار.
فالكفر بالنسبة للحكم ينقسم إلى قسمين: كفر أصغر وكفر أكبر, ولكل منهما أحكام، فمن أحكام الكفر الأكبر أن الله لا يغفره إلا بالتوبة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة مفتوحة للعبد، لكن بشرط أن تكون مستكملة ومستجمعة لشروطها، وشروطها: الإقلاع عن الذنب وعن الكفر العظيم، والندم على ما مضى، والعزم الجازم الصادق على ألا يعود إلى هذا الذنب، ولا بد من أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، أي: قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، فإن وصلت الروح إلى الحلقوم فلا توبة.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:17-18].
ولا بد من أن تكون التوبة قبل معاينة العذاب وقبل نزول العذاب، فإذا عاين العذاب ونزل العذاب فلا ينفع الإيمان ولا تنفع التوبة، ولهذا يعد فرعون من أكفر خلق الله، فقد ادعى الربوبية والألوهية وقال للناس: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، ثم تاب لما رأى العذاب، لكن توبته وقعت في وقت لا تصح فيه ولا تقبل، وهو عند نزول العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، قال الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91].
فأخبر الله أنه عند رؤية العذاب لا تنفع التوبة، ولم يستثن الله إلا أمة واحدة هي قوم يونس، فهؤلاء نفعهم أيمانهم عند رؤية العذاب، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98].
ومن شروط صحة التوبة: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فإذا طلعت الشمس من مغربها فلا توبة، ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث، فهذه الشروط لا بد منها في صحة التوبة وقبولها.
ويزاد شرط آخر، وهو أنه إذا كانت المعصية والمظلمة بينك وبين الناس فلا بد من رد المظلمة إلى أهلها إن كانت تتعلق بالبدن، فيسلم نفسه إن قتل لأولياء القتيل للقصاص، أو يسلم نفسه لقطع طرف، أو لضرب حتى يقتص منه أو يعفى عنه بالدية أو يعفى عنه بغير ذلك، وإن كانت المظلمة مالاً -كالسرقة أو الغصب أو الخيانة أو الغش أو الخداع- فلا بد من رد المال إلى صاحبه بأن يرسله إليه بنفسه أو بوكيله، ولا يشترط أن يقول: هذا مال سرقته أو غصبته، بل يقول: هذا حق لك، أو يرسله عن طريق وكيل، وإن كانت المظلمة في عرض فإنه يتحلله ويستسمح منه، فإن كان يترتب على ذلك شر فإنه يدعو لهم بظهر الغيب، ويدعو لمن اغتابه بظهر الغيب ويستغفر له، ويذكر محاسنه وصفاته في الأماكن التي اغتابه فيها ولا يكذب، بل يخبر بالواقع، فهذه الشروط لا بد منها لقبول التوبة، ومن تاب تاب الله عليه، سواء أكان هذا الذنب كفراً، أم كان دون الكفر، أم دون الشرك، قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
قال العلماء: هذه الآية في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، بخلاف الآية الأخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ففي هذه الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه غير مغفور، وعلق ما دونه بالمشيئة، وهذه في غير التائبين، وأما آية الزمر فهي في التائبين.
فالمقصود أن الكفر الأكبر لا يغفر إلا بالتوبة بهذه الشروط، فإن مات صاحبه من غير توبة فإنه لا يغفر، ويحبط عمله، قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، ويُخرج من ملة الإسلام، ويوجب الخلود في النار.
أما الكفر الأصغر فليس له هذه الأحكام، بل صاحبه تحت المشيئة، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار.
والكفر الاعتقادي خمسة أنواع:
النوع الأول: كفر تكذيب وجحود.
النوع الثاني: كفر إباء واستكبار مع التصديق.
النوع الثالث: كفر الإعراض.
النوع الرابع: كفر الشك والظن.
النوع الخامس: كفر النفاق.
فهذه الأنواع الخمسة أنواع للكفر الاعتقادي، والكفر الاعتقادي بأنواعه الخمسة من أقسام الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، نسأل الله العافية، ويوجب الخلود في النار إذا مات صاحبه عليه من غير توبة، ويحبط جميع الأعمال، وإذا فعل المرء واحدة من هذه الأنواع الخمسة فإنه يحبط عمله ويخرج من ملة الإسلام وإذا مات على ذلك صار من أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الأول: تكذيب بالقلب واللسان، وهو اعتقاد كذب الرسل وجحد ما جاءوا به، فيكذب ويجحد ما جاءت به الرسل بقلبه ولسانه، وهذا القسم قليل في الكفار، ونادر جداً، وقد لا يوجد، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أعطى الرسل من الآيات والبراهين والحجج والأدلة الواضحة على صدقهم وصدق ما جاءوا به ما يتبين به صدقهم لكل أحد، حتى قامت الحجة وانجلت المعذرة، قال الله سبحانه وتعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فهذا الكفر قليل؛ لأن حجج الرسل وأدلتهم تدل على صدقهم، وهي واضحة نيرة لكل أحد، وأوضح من الشمس في رابعة النهار.
القسم الثاني: تكذيب باللسان مع اعتراف القلب وتصديقه، وهذا القسم كثير في الكفار، وهو الغالب على أعداء الرسل، ومن أمثلة هذا النوع كفر فرعون وقومه، فإن فرعون وقومه معترفون بصدق موسى عليه الصلاة والسلام وأنه رسول من عند الله، لكنهم كذبوا بألسنتهم فصاروا مكذبين وجاحدين، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]، فقوله: وَجَحَدُوا بِهَا [النمل:14] يعني: بألسنتهم، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]، فنفوسهم مستيقنة مصدقة، أخبر سبحانه وتعالى عن موسى أنه قال لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] فقال له: عَلِمْتَ [الإسراء:102]، والعلم هو اليقين، ففرعون متيقن، لكنه كذب وجحد بلسانه عناداً للحق وتكذيباً للحق الواضح البين.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: كفر ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحاً، قال الله سبحانه وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [الشمس:11]، أي: بسبب طغيانها، فالطغيان هو الذي حملهم على التكذيب بألسنتهم وإن كانوا مصدقين ومعترفين ببواطنهم وقلوبهم.
وكذلك كفار مكة ومشركو قريش كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وهم متيقنون في الباطن معترفون بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك.. [الأنعام:33] يعني كفار قريش، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلمن يعني: لا يكذبونك بقلوبهم، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] يعني: يجحدون بألسنتهم، فنفى عنهم التكذيب وأثبت لهم الجحود؛ لأن الجهة منفكة، فجهة الجحود غير جهة الاعتراف والتصديق، فهم لا يجحدون بقلوبهم ولكن يجحدون بألسنتهم، ولهذا قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33] يعني: بقلوبهم، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وهذا القسم كثير في الكفار.
وينقسم كفر التكذيب والجحود انقساماً آخر أيضاً، فينقسم بالنسبة إلى المكذب به إلى قسمين:
تكذيب مطلق عام، وتكذيب مقيد خاص، فالأول كأن يكذب بجميع ما أنزل الله به من الكتب وبجميع ما أرسل الله به الرسل، وهذا تكذيب مطلق عام، ومن ذلك قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91] أي: اليهود، فقد أنكروا الرسالات كلها وقالوا: مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، قال الله تعالى رداً عليهم: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]، فمن عتوهم وعنادهم أنهم قالوا: مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91].
القسم الثاني: كفر مقيد خاص، كأن يجحد أو ينكر فريضة من فرائض الإسلام، كأن ينكر وجوب الصلاة، أو ينكر وجوب الزكاة، أو ينكر وجوب الحج، أو ينكر البعث بعد الموت، فهذا لم ينكر كل شيء ولم يجحد كل شيء، وإنما أنكر شيئاً خاصاً، فيكون كافراً خارجاً من الملة؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فإنه لا خلاف في وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، فإذا أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه كَفَر، وإذا قال: الصلاة غير واجبة كفر ولو صلى، أو قال: الزكاة غير واجبة كفر ولو زكى، أو قال: الصوم غير واجب كفر، أو قال الحج غير واجب كفر؛ لأن هذه فرائض وواجبات معلومة من الدين بالضرورة وليس فيها خلاف.
ومثال ذلك أيضاً: أن ينكر تحريم محرم من محرمات الإسلام، كأن ينكر تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم شرب الخمر، أو تحريم عقوق الوالدين، أو تحريم قطيعة الرحم؛ لأن هذه محرمات معلوم من الدين بالضرورة تحريمها، ولم ينازع فيها أحد من العلماء، فيكون كافراً، بخلاف ما إذا أنكر شيئاً فيه خلاف بين أهل العلم، فهذا لا يكفر، كما لو أنكر الوضوء من لحم الإبل، فهذا لا يكفر؛ لأن المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يرى الوضوء من لحم الإبل وبعضهم لا يرى ذلك، أو أنكر تحريم الدخان؛ لأن الدخان قيل فيه: إنه ليس بحرام، والصواب أنه حرام، لكن بعض الناس قال: إنه ليس بحرام، فمن أجل الشبهة لا يكفر، بخلاف الخمر فإنه مجمع على تحريمه، ولم يقل أحد: إن الخمر حلال بخلاف الدخان، وإن كان الصواب أنه محرم، وقد اتفق العلماء في المملكة على تحريم الدخان، لكن بعض العلماء في خارج المملكة أفتوا بعدم تحريمه، فمن أجل ذلك لا يكفر من أنكر تحريم الدخان لأجل الشبهة.
ومثال ذلك أيضاً: أن ينكر صفة وصف الله بها نفسه أو يجحدها، كأن يجحد قدرة الله، أو علم الله، أو سمع الله أو بصره، أو ينكر خبراً أخبر الله به، كالجنة والنار، فينكر الجنة أو ينكر النار أو ينكر البعث أو غير ذلك مما أخبر الله به.
ومن ذلك: أن يقدم قول أحد من الناس على قول الله أو قول رسوله لغرض من الأغراض، ويكون في ذلك كله عالماً متعمداً لا جاهلاً ولا متأولاً تأويلاً يعذر فيه.
فالذي جحد فريضة من فرائض الإسلام، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام، أو جحد صفة وصف الله بها نفسه، أو جحد خبراً أخبر الله به، وأنكر ذلك متعمداً لا عن جهل ولا عن تأويل يعذر فيه، بل عن عناد وعن علم وعن مكابرة كافر فيه أما إذا جحد شيئاً من ذلك جاهلاً فهذا معذور حتى يعلم وتقوم عليه الحجة، أو أنكره متأولاً تأويلاً يعذر فيه، مثل بعض الأشاعرة حين تأولوا بعض الصفات فتأولوا الرضا بالثواب، وهناك فرق بين الجاحد وبين المتأول، فالجاحد المنكر يكفر، فالذي يجحد قدرة الله، أو علم الله، مكذب لله في إثباته العلم لنفسه وقدرته، وهذا بخلاف المتأول، فالمتأول يقول: أنا أثبت الاستواء لكن معناه الاستيلاء, وأثبت الرضا لكن معناه الثواب. فهذا متأول، وفرق بين المتأول وبين الجاحد، فالجاحد يكفر والمتأول يعذر بتأويله ولا يكفر.
ومثال ذلك: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة الرجل الذي قال لبنيه: إنه لم يبتئر خيراً، يعني: لم يعمل خيراً، وأوصى بنيه أنه إن مات فعليهم أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروه في الريح، وفي بعض الألفاظ: ثم يذروا بعضه في البر وبعضه في البحر وقال: (فوالله لئن قدر الله علي وبعثني ليعذبني عذاباً عظيماً) والحديث له طرق وله روايات.
وجاء في الحديث: (أن الله تعالى يأمر البر فيجمع ما فيه والبحر فيجمع ما فيه، ثم يقول له: كن، فإذا هو قائم بين يدي الله، فيقول الله تعالى: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رب! خوفك، قال: فغفر الله له ورحمه)، فهذا الرجل أنكر قدرة الله على بعثه، لكن ليس عن عناد ولا عن تكذيب، وإنما عن جهل بسبب الخوف العظيم من الله، فغفر الله له ورحمه، والحديث -أيضاً- فيه كلام لأهل العلم، فبعض أهل العلم يقول: إن هذا فيمن كان قبلنا، وإنه خاص بهم، والصواب ما ذهب إليه المحققون -مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- أن هذا الرجل إنما أنكر ذلك عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، وليس عن عناد ولا تكذيب، فلو أنكر مكذباً جاحداً لكفر، ونلحظ في هذه القصة أموراً:
الأمر الأول: أن هذا الرجل ما أنكر قدرة الله، ولا أنكر البعث، فهو يرى أن الله قادر على بعثه، ويؤمن بالبعث، إلا أنه ظن أنه إذا أحرق وسحق وذري في البر والبحر فإنه الله لا يقدر عليه، لكن لو لم يحرق ولم يذر فإن الله سيبعثه ويقدر عليه، فهذا الرجل ما أنكر البعث ولا أنكر قدرة الله، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، حيث ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة من الحرق والسحق فإن الله لن يقدر على بعثه.
ثانياً: أن هذا من الأمور الدقيقة الخفية وليس من الأمور الجلية الواضحة، وفرق بين من ينكر أمراً واضحاً جلياً وبين من ينكر أمراً دقيقاً خفياً، وهذا أمر دقيق خفي بالنسبة له.
ثالثاً: أنه لم يجحد ما جحده عن عناد ولا عن تكذيب، بل هذا الذي قاله مبلغ علمه، فهو عن جهل.
رابعاً: أن الحامل له على ذلك هو الخوف العظيم من الله، فاجتمع الأمران: الجهل مع الخوف العظيم من الله، فغفر الله له.
خامساً: أن هذا فيمن كان قبلنا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ساقه مساق التقرير، وبهذا يكون الشخص الذي يجحد شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه أو تحريمه لا بد في تكفيره من أن يكون هذا الجحود عن عناد وتعمد وتكذيب، لا عن جهل ولا عن تأويل يعذر فيه صاحبه.
فإبليس عنده نص، وهو أمر الله اسْجُدُوا لِآدَمَ [الإسراء:61]، لكنه قال: كيف أسجد لآدم وعنصري أحسن من عنصر آدم؟! فآدم عنصره الطين وعنصري النار، والنار أحسن من الطين، ولهذا قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، فأنا أفضل منه ولا يمكن أن يسجد الفاضل للمفضول، وهذا اعتراض على الله ورد لأمر الله، وقياس فاسد في مقابل النص، وما علم الأبله أن عنصر آدم خير من عنصره، فإن عنصر آدم الطين والتراب، والطين والتراب فيه الدعة والسكون والثبات والاستقرار، وما حوله ينبت ويزهو، وأما عنصر إبليس فهو النار، والنار من طبيعتها الخفة والطيش والعلو وأكل ما حولها، كما قال تعالى: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:28]، فمن قال لك -أيها الأبله-: إن عنصرك أحسن من عنصر آدم؟!
فإبليس قابل أمر الله بالإباء والاستكبار والاعتراض لا بالإنكار والتكذيب.
ومن أمثلة ذلك: فرعون وقومه، فكفرهم -أيضاً- كان بالإباء والاستكبار، قال الله: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:45-47]، فهذا إباء واستكبار، فقولهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون:47] يعني موسى وهارون وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وسبق أن فرعون كفر بالتكذيب والجحود، كما كفر بالإباء والاستكبار، فاجتمع في فرعون الأمران، فهو مكذب جاحد بلسانه أحياناً، وهو -أيضاً- مستكبر، فاجتمع فيه النوعان: كفر الإباء والاستكبار، وكفر التكذيب والجحود، وهذا هو الغالب على أعداء الرسل من الأمم الذين أبوا واستكبروا عن اتباع الرسل، كما حكى الله عنهم بقوله: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم:10]، فهذا إباء واستكبار، حيث قالوا: كيف نؤمن لكم وأنتم بشر مثلنا؟ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم:11].
وأخبر سبحانه وتعالى عن عاد قوم هود بأن كفرهم كان إباءً واستكباراً فقال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:13-15].
وكذلك ثمود استكبروا وكفروا، وأبوا، قال الله تعالى في بيان دعوة صالح عليه السلام: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:74-76].
فكفروا بالاستكبار، كما قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:76].
وكذلك اليهود كفرهم كان بالإباء والاستكبار؛ لأنهم كفروا عن علم ومعرفة لا عن جهل بالحق، قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم لا يشكون في صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، بل يعترفون بأنه نبي الله وأنه رسول الله حقاً، ويعرفونه من كتبهم كما يعرفون أولادهم، ولهذا قال سبحانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146] يعني محمداً عليه الصلاة والسلام كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، بل قد اعترف بعض اليهود وقال: نعرف محمداً أكثر من معرفة أبنائنا؛ لأن ابناءنا قد يتطرق الشك إلى الواحد منا هل هو ابن له أو ليس بابن له، بخلاف محمد، فلا يتطرق إلى شخص شك في أنه نبي الله وأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، واليهود قوم بهت، ومعروف عنهم العتو والعناد والاستكبار، ولم يسلم منهم إلا القليل، ولهذا جاء في بعض الآثار في عتو اليهود أنه: (أنه لو أسلم عشرة من اليهود لتبعهم بقيتهم) أو كما جاء، بخلاف النصارى؛ فإنه يسلم منهم ألوف، ونحن نسمع عن الذين يعلنون إسلامهم من النصارى في مكاتب الدعوة وفي المحاكم في المملكة وفي غيرها، فهم ألوف مؤلفة، أما اليهود فما سمعنا أن أحداً أسلم منهم إلا قلة، ومن هذه القلة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فإنه صحابي جليل وبادر بالإسلام، وكان سيداً مطاعاً في اليهود، فأسلم ولم يعلم اليهود بإسلامه في أول الأمر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت فإن يعلموا بإسلامي يبهتوني، لكن اسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي. فدخل عبد الله بن سلام واختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء اليهود ودخلوا عليه وهم لا يعلمون بإسلام عبد الله ولا يعلمون أن عبد الله عند النبي صلى الله عليه وسلم قد اختفى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: (ما تقولون في
ومن أمثلة كفر الإباء والاستكبار كفر أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن أبا طالب معترف بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حق، ومعترف بأن دينه خير الأديان، وقد قال في قصيدته المعروفة:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فقد بين المانع له من الدخول في الإسلام، وهو أن يلومه الناس، والحذر من أن يسب دين آبائه وأجداده، ولهذا لما حضرته الوفاة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام، فذكراه الحجة الملعونة، وقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا عليه، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات على الشرك، فهو مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه وأجداده وأسلافه، فكان مستكبراً عن عبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات على الكفر، وكفره بالإباء والاستكبار، لكن خف كفره بسبب حمايته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يذود عنه، فشفع له النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة خاصة، لكنها شفاعة تخفيف، وهي شفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بـأبي طالب ، فلا يشفع في أحد من الكفار إلا في أبي طالب ، ثم هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشفع أحد غيره في كافر، وهي -أيضاً- شفاعة تخفيف لا إخراج، ولهذا جاء في الأحاديث -كما في الصحيحين وغيرهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله! إن أبا طالب يحميك ويذود عنك فهل نفعته؟! قال: (نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح منها يغلي دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخف الناس عذاباً
فما دام أنه مات على الكفر فلا حيلة فيه ، بل هو من أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا كما يقول بعض الناس فلان لاديني. أي: معرض فلا يتدين بدين، ومثال ذلك قصة ابني عبد ياليل، فإن أحدهما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إلى الإسلام فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لا أقول لك كلمة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك، ثم مضى وتركه، فليس عنده استعداد لأن ينظر فيما جاء به الرسول، فهو يقول له: يحتمل أن تكون صادقاً وأن تكون كاذباً، فإن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك. ثم مضى وتركه، فهذا معرض.
وإعراض المرء عن دين الله بحيث لا يتعلم دين الله، ولا يعبد الله كفر وردة، كمن يقول بعض الناس عنه: إنه لاديني، أي: لا يتدين بدين، فهو معرض.
فالشك يكون في أول الأمر ولا يكتمل؛ لأنه حينما يشك إما أن ينظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته وإما ألا ينظر، فإن لم ينظر صار معرضاً والتحق بالقسم السابق، وهو قسم الإعراض، وإن نظر فلا بد من أن يتبين له الحق، وحينئذ يكون له أحوال:
فإما أن يؤمن ويصدق فيكون مؤمناً بالله ورسوله، وإما أن يعترف ويصدق بقلبه ويجحد بلسانه، فيكون مكذباً جاحداً، وإما أن يصدق بقلبه ولسانه لكن يستكبر ولا يقبل، فيكون كفره بالإباء والاستكبار.
فالشك يكون في أول الأمر، وبعد ذلك لا بد من أن يكون له موقف آخر، والدليل على هذا النوع من الكفر -وهو كفر الشك والظن- كفر صاحب الجنتين الذي قص الله علينا قصته مع صاحبه في سورة الكهف فقال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:32-36]، فهذا الشك شك في الساعة وقيامها، قال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ [الكهف:35-37]، فأخبر أنه كفر بهذا الشك، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ [الكهف:37-39]، ثم أرشده إلى الإيمان فقال: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ َتَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:39-43].
ومثال ذلك أيضاً قول الله تعالى: لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [فصلت:49-50] فهذا شك وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت:50].
والمقصود بالإنسان في قوله تعالى: يَسْأَمُ الإِنْسَانُ [فصلت:49] أي: الكافر، بدليل أنه شك في الساعة.
إذاً: لا يكون هناك إيمان مع الشك، بل لابد من الجزم واليقين، فإذا شك الإنسان أو تردد فليس بمؤمن.
والكفر الاعتقادي بجميع أنواعه من قسم الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، وهو يوجب الخلود في النار.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعافينا وأن يعصمنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن يجنبنا الكفر بأنواعه والشرك بأنواعه والنفاق بأنواعه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العصمة، والثبات على دينه، والاستقامة عليه، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: لا بد من العمل وانقياد الجوارح في الإيمان، فمن زعم أنه مؤمن مصدق ولم يعمل فليس بمؤمن؛ لأنه إذا لم يعمل ولم ينقد بجوارحه صار إيمانه كإيمان فرعون، ففرعون كان مصدقاً، ولهذا أخبر الله تعالى عن موسى أنه قال له: لَقَدْ عَلِمْتَ [الإسراء:102] أي: بأن دينه حق، فلا بد للإيمان من انقياد الجوارح ومن عمل يتحقق به هذا الإيمان، وإلا كان كإيمان فرعون، كما أن الإسلام لا بد له من إيمان يصح به وإلا كان كإسلام المنافقين، فالمنافقون يعملون بجوارحهم وعندهم عمل، لكن ليس عندهم إيمان باطن يصح به هذا الإسلام، فعندهم إسلام في الظاهر لكن ليس عندهم إيمان يصححون به إسلامهم.
فلا بد للإيمان من عمل يتحقق به، ولا بد للإسلام والعمل من إيمان يصح به، فمن صدق ولم يعمل فليس بمؤمن؛ لأن إيمانه كإيمان فرعون، ومن عمل بجوارحه ولكنه لم يصدق في الباطن فليس بمؤمن؛ لأن إسلامه ليس معه إيمان يصححه.
الجواب: ضابطه كاسمه، فهو معلوم من الدين بالضرورة يعرفه الخاص والعام، فكلهم علموا وجوب هذا الشيء أو تحريم هذا الشيء، ولم ينازع في هذا أحد من المسلمين ولم يخالف في هذا أحد من أهل العلم، كوجوب الصلاة، فلم يقل أحد من الناس: إن الصلاة غير واجبة، لا من العلماء ولا من غيرهم، بل أجمع المسلمون على أن الصلاة واجبة، فمن أنكر وجوبها كفر، وكذلك الزكاة، فلم يقل أحد: إن الزكاة غير واجبة، وكذلك الصوم والحج، فهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة إيجابه، فإذا أنكره شخص كفر، ولو فرضنا أن هناك شخصاً نشأ في بلاد بعيدة ولا يدري ففي هذه الحالة لا بد من أن يعلم، وكذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، مثل تحريم الزنا، فلم يقل أحد من الناس: إن الزنا حلال فالزنا حرام بإجماع الأمة كلها، فمن استحل الزنا كفر، وكذلك الربا، فلم يقل أحد: إن الربا حلال، لكن الخلاف في التفاصيل، ولو فرضنا أن أحداً أسلم في بلاد بعيدة أو في مجتمع ربوي يتعامل بالربا وهو لا يدري وقال: هو حلال، فهذا لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة وتبين له النصوص، فإن أصر كفر، وكذلك الخمر، فلم يقل أحد من الناس: إن الخمر حلال، بل الخمر مجمع على تحريمه، وكل أمر معلوم من الدين بالضرورة تحريمه أو إيجابه من أنكر تحريمه أو أنكر إيجابه كفر.
الجواب: إذا اتبع هواه فعمل الكفر فقد كفر، وإذا اتبع هواه فعمل معصية فإنه يكون عاصياً، فاتباع الهوى قد يصل به إلى الكفر، فيكذب الله أو يكذب رسوله أو يعبد غير الله، فيفعل ناقضاً من نواقض الإسلام فيكون كافراً، وقد يتبع الهوى فيعصي، كأن يزني أو يشرب الخمر ولا يستحله، فيكون عاصياً ومرتكباً لكبيرة.
الجواب: إذا كان الإنسان مؤمناً ثم ارتد -والعياذ بالله- ثم من الله عليه بالإسلام فإنه يحرز حسناته وأعماله السابقة بإيمانه وإسلامه، ولا تحبط أعماله السابقة، إلا إذا مات على الردة، قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، فاشترط الله سبحانه وتعالى لحبوط العمل الموت على الكفر، فإذا مات على الكفر حبطت الأعمال، أما إذا من الله عليه بالإسلام ورجع فإنه يحرز أعماله السابقة، بل حتى إذا أسلم وكان له أعمال صالحة كان يعملها قبل إسلامه فإنه يحرزها.
وقد ثبت أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعتق في الجاهلية مائة من العبيد، فهل ينفعه ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير).
فـحكيم بن حزام رضي الله عنه أعتق مائة في الجاهلية وأعتق مائة في الإسلام رضي الله عنه وأرضاه.
الجواب: على الإنسان أن يستعيذ بالله من الشيطان ومن وساوسه، وأن يدافعها ولا تضره إذا دافعها واستعظمها، ولهذا استعظم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الشيء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه شيئاً لا يستطيع أن يتكلم به -يعني: من عظمه- لأن يخر من السماء خير له من أن يتكلم به -وفي بعض الروايات: لأن يكون حممة- أي: فحمة -تحترق ولا يتكلم به- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد وجدتموه؟! ذاك صريح الإيمان) يعني: أن كتم الوسوسة ودفعها واستعظام التكلم بها هو طريق الإيمان، فهذا عدو الله يريد أن يتعب الإنسان، فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وجاء في الحديث الآخر: (أن الشيطان لا يزال بالإنسان يوسوس له، ثم يقول: هذا خلقه الله وهذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته) يعني: ليقطع الشك فيه، ولينظر في عمله، فإذا وجد شيئاً من ذلك قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقطع الشك فيه، وجاء في بعضها (ويقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]).
وفي بعضها (يقرأ: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]).
والمقصود أن الإنسان إذا وجد شيئاً من ذلك فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وينتهي، ولا يسترسل في التفكير، ولينظر في عمله، ويقرأ سورة (قل هو الله أحد)، وقوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ [الحديد:3] ولا يضره ذلك إن شاء الله.
الجواب: لا يجوز ذلك؛ لأن هذا فعله عن جهل، ولا يقول بهذا أحد، فالإنسان المسلم يغسل ويصلى عليه ويقبر مع المسلمين في مقابرهم كما شرع الله، لكن هذا كان فيمن قبلنا، وهذا فعله عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم.
فمن اعتقد أن الله لا يبعثه، وأمر بأن يحرق حتى لا يبعثه الله عناداً وتكذيباً كافر مرتد بإجماع المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر