لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ].
لما ذكر حكم الماء الذي يتطهر به ذكر الآنية؛ لأن الماء في الغالب يكون في آنية، فعقد هذا الباب للآنية التي قد يتطهر بها، فقال رحمه الله: (لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة لا في طهارة ولا في غيرها)، فلا يجوز استعمالها للذكور ولا للإناث في أي نوع من أنواع الاستعمال كالكأس يشرب فيه الإنسان، أو إناء صغير يضعه في الماء يتوضأ به، أو طست يتوضأ به أو يغتسل به، أو ملعقة يأكل بها أو يشرب بها، أو مكحلة يكتحل بها الرجل أو المرأة، أو قلم يكتب به، فكل هذا حرام لا يجوز, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم -يعني: الكفرة- في الدنيا ولكم في الآخرة)، وفيه بيان العلة والحكمة أن أواني الذهب والفضة للمؤمنين في الجنة، وأما الكفرة فإنهم لا يرعون للإسلام حرمة ولا يبالون، فهم يستعملونها في الدنيا، فلا يجوز للمسلم أن يشابههم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشرب في كأس ولا في ملعقة ولا في غيرها، إلا حلي الذهب والفضة، فالمرأة تتحلى بما شاءت؛ لأنها محل الزينة والجمال، فتتجمل بها لزوجها، وتتحلى بالذهب والفضة في رقبتها أو في أذنها أو في ساعدها أو في أصابعها، أو في نحرها وصدرها، أو في رجليها كالخلخال سابقاً، فكانت النساء تلبس الخلخال من الذهب والفضة، فكل هذا لا بأس به للمرأة, فتلبس المرأة ساعة الذهب؛ لأنه من الجمال، وأما الرجل فلا يلبس ساعة الذهب ولا يموهها بالذهب، إلا خاتم الفضة، فإنه يتختم بالفضة كما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتم الفضة، وثبت أنهم كانوا في أول الإسلام يتختمون بالذهب، ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه فنزع الناس خواتيمهم, فقضت الشريعة على أنه لا يجوز للإنسان الذكر أن يلبس خاتم الذهب، ويجوز لبس خاتم الفضة كما ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً من فضة مكتوب فيه: محمد رسول الله).
وثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده خاتم من ذهب فقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده) فأخذها النبي وألقاها، فقيل للرجل بعدما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم: خذه تنتفع به، فقال: لا والله لا آخذه وقد رماه رسول صلى الله عليه وسلم.
الضبة: هي القطعة من الذهب أو الفضة تكون في مكان الكف في الإناء، فإذا كان الإناء مكسوراً وضع في الكف قطعة من الذهب أو الفضة، وهذه لا تجوز إلا إذا كانت الضبة يسيرة، وتكون من فضة؛ لأن الفضة يتسامح فيها ما لا يتسامح في الذهب، فإذا كان كسراً يسيراً فيجعل فيه ضبة من فضة، أما إذا كان الكسر كبيراً فلا يجوز ولو كان من فضة، أو وضع في الضبة شيء من ذهب ولو يسير فإنه لا يجوز مطلقاً، وأما الفضة فإنه يجوز إذا كانت الضبة يسيرة؛ لما ثبت: (أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة) فالفضة يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها، وأما المموه بالذهب أو الفضة فهذا لا يجوز، أو ساعة مموهة بالذهب للرجل فهذا ممنوع.
ويجوز استعمال سائر الأواني الطاهرة واتخاذها، سواء كانت هذه الأواني من نحاس أو من حديد أو من زجاج أو رصاص أو خشب أو حجر أو غيرها، إلا الذهب والفضة فإنه لا يجوز استعمالهما، وما عداه فإنه يجوز استعماله من أي نوع كان.
وأما إذا كانت من الماس أو من غيره من الجواهر فهذه لا ينبغي للإنسان أن يستعملها؛ لأن فيها نوعاً من الإسراف، وينبغي للإنسان أن يستفيد من الأموال الثمينة ولا تستعمل في الأواني اليسيرة.
والمقصود: أن الذهب والفضة هما اللذان يحرم استعمالهما في الأواني، وأما ما عداهما فإنه يجوز سواء كان آنية من رصاص أو نحاس أو حديد أو زجاج أو خشب أو حجر أو حصى أو طين، فكل هذا لا بأس به.
وأما حكمه حرمة استعمال الذهب والفضة فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) فهذه علة، ثم فيها كسر لقلوب الفقراء، وكونها من أثمان الناس، وكونها أيضاً خاصة بالمؤمنين في الجنة، قال: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
وظاهر الحديث أنه خاص بالذهب والفضة، وأما الماس وغيره فهذا يأتي من جهة الإسراف، وإذا كانت أغلى من الذهب والفضة فقد يقال: إنها أولى بالمنع، وإذا قيل: إن العلة الثمنية فتكون من باب الإسراف فلا ينبغي للإنسان أن يستعمل الشيء الغالي المرتفع الثمن في هذه الأمور، والله تعالى يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] فيعد إسرافاً, وفي الحديث: (كل واشرب والبس في غير سرف ولا مخيلة) وهذا داخل فيه لبس الساعة والخاتم كذلك فلا يكون فيه سرف ولا مخيلة.
وأما اتخاذ الكأس من الذهب أو الملعقة للزينة فقط فلا ينبغي؛ لأنها وسيلة للاستعمال، فينبغي أن يكسرها، وأما أن يبقيه عنده مثل كأس الذهب فيضعه في المجلس أمام الناس فهذا وسيلة لاستعماله، وقد ثبت: أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه طلب ماءً، فجاء له مجوسي بإناء من ذهب أو فضة، فرماه به فقال: لولا أنه فعله غير مرة لما فعلت ذلك. ويحتمل أنه أبقاه لأسباب، وهذا ثبت في صحيح البخاري، والمقصود أنه ينبغي أن يكسر ولا يبقى؛ لأن إبقاءه كإناء وسيلة للاستعمال، فإذا وجد عنده قلم من ذهب فهو وسيلة للاستعمال ولو لم يستعمله، والمكحلة من الذهب كذلك إبقاؤها وسيلة للاستعمال، حتى وإن كان للنساء؛ لأنها يمكنها أن تستعمل ذلك بغير الذهب والفضة، وليس هذا من التحلي.
يجوز استعمال أواني أهل الكتاب ما لم تعلم نجاستها؛ لأنه ثبت أن الصحابة كانوا يستعملونها، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أواني أهل الكتاب، فأمرهم باستعمالها إلا أن يروا فيها نجاسة، فإنها تغسل إذا علم أن فيها نجاسة، أما إذا لم يعلم فالأصل الطهارة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة شامية، والصحابة استعملوا أوانيهم وثيابهم ولم يغسلوها، فتستعمل إلا إذا علم أن فيها نجاسة، وغلب على ظنه أنهم يطبخون فيها الخنزير أو يشربون فيها الخمر فهذه تغسل، أما إذا لم يعلم أو غلب على ظنه أنه ليس فيه شيء فهي طاهرة ويجوز استعمالها.
فالأصل الطهارة، وإن غسلها من باب الاحتياط والنظافة فلا بأس، والعمل على هذا الآن، فجميع الذي يستورد من الكفرة الآن يستعمله المسلمون من الأواني والثياب وغيرها، فكل هذه ترد من الكفرة.
الصوف للغنم، والشعر للمعز وغيره، والوبر للإبل، والريش للطيور، فكل هذه طاهرة؛ لأنها لا تحلها الحياة، فإذا أخذت من الميتة فلا بأس.
وهذا القول ضعيف، والصواب أن جلد الميتة مأكولة اللحم إذا دبغ فقد طهر؛ لما ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، ولما ماتت شاة لـأم سلمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا أخذتم إهابها؟! قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: يطهرها الماء والقرظ)، وفي لفظ: (هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟!)، وجاء أيضاً ما يدل على أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم دبغوا جلد ميتة فاستعملوه حتى تخرق، والصواب: أن جلد الميتة مأكولة اللحم إذا دبغ فقد طهر، قال صلى الله عليه وسلم: (هلا أخذتموه فانتفعتم به؟ قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: يطهرها الدباغ والقرظ) لأن الدباغ بمثابة التذكية، ومأكول اللحم إذا ذكي فقد طهر، وإذا مات مأكول اللحم وأخذ الجلد ودبغ فالدباغ بمثابة التذكية، وفي اللفظ الآخر: (دباغها طهورها).
وأما غير مأكول اللحم كالسباع وجلد الذئب أو جلد النمر أو جلد الحية، فبعض الحيات يؤخذ جلدها ويدبغ ويجعل منه حذاء ونعال، وقد رأيت بعض الإخوان معه نعال لها نقوش، فسألته فقال: إنها من جلد الحية، فإذا دبغ هل يطهر أو لا يطهر؟ فيه خلاف بين أهل العلم, فمن العلماء من قال: إنه يطهر أيضاً حتى جلد غير مأكول اللحم، وهو قول قوي، وأظنه اختيار الإمام البخاري رحمه الله.
والقول الثاني: أن هذا خاص بمأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم والضبع، فمأكول للحم إذا مات وسلخ جلده ودبغ فإنه يطهره؛ لأن الدباغ بمثابة التذكية، فكما أن الذكاة تحله فكذلك الدباغ يطهر جلده، وأما غير مأكول اللحم فلا، كالأسد والنمر والذئب، فلو ذبحته ما تحله وكذلك جلده، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والقول بأنها تطهر قول قوي له وجاهته، لكن المشهور عند العلماء أن هذا خاص بمأكول اللحم.
والمذهب أن جلد الميتة إذا دبغ يستعمل في اليابسات دون المائعات، والصواب أنه يطهر، ويستعمل في اليابسات والمائعات، وهنا على هذه الرواية ذهب إلى أنه لا يطهر، وهو قول ضعيف.
وأما العظام ففيها خلاف أيضاً, فمن قال إنها تحلها الحياة قال بنجاسته، ومن قال: إنها لا تحلها الحياة قال بطهارته، والأقرب أنها لا تحلها الحياة، ومن ذلك ناب الفيل فإن له ثمناً مرتفعاً، فبعضهم استثنى ناب الفيل؛ لأن الفيل نجس، وأنيابه من العظام، والحكم واحد في كل ما هو غير مأكول اللحم.
كل ميتة إذا ماتت فهي نجسة: الإبل والبقر والغنم، إلا الآدمي فهو طاهر حياً وميتاً، وثبت: أن أبا هريرة لقي النبي صلى الله عليه وسلم فانخنس منه، فلما جاء سأله فقال: إني كنت أجنبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)، فالمؤمن طاهر حياً وميتاً، وأما الميتات الأخرى فإنها تنجس بالموت، وكل ما لا نفس له سائلة فهو طاهر.
وهنا مسألة: ما حكم تحنيط الميتة؟
تحنيط الميتة لا يحلها ولا يطهرها، ولا ينبغي إبقاؤها؛ لأنه وسيلة إلى التصوير؛ ولأن بعض الناس قد يظن أنها صورة.
وأما الكافر فهو طاهر، فلو مس يدك فلا تغسلها، ولعابه ليس بنجس، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] أي: نجاسة الشرك.
حيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه طاهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، ولحديث: (أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد) فكل ما يعيش في الماء فهو طاهر، قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96] فكل ما يعيش في البحر يكون طاهراً حياً وميتاً، وحلالاً، واستثنى بعض العلماء ما كان له مماثل في البر وهو يحرم كالحيات والعقارب، فحيات الماء وعقارب الماء وكلب الماء وخنزير الماء كلها نجسة، وقال آخرون: لا يستثنى شيء من ذلك حتى إنسان الماء؛ فكل ما كان في البحر فهو طاهر، وهذا قول قوي يدل عليه عموم الحديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، وعموم قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ، وأما الذي يعيش في البر وفي البحر -برمائي- كالضفدع وغيره فهذا يغلب عليه جانب البر.
وما لا نفس له سائلة فهو طاهر، إلا إذا كان متولداً من النجسات، والمراد بالنفس: الحشرة التي ليس لها دم مثل: الذباب والبراغيث والصراصير.. وغيرها، وكلها طاهرة إلا إذا كانت متولدة من النجاسات, كالصراصير فإنها تكون في الحمام، وهي متولدة من النجاسة، فهذه نجسة، وأما الصراصير التي ليست من الحمامات فإنها والحشرات الأخرى التي ليست من النجاسات طاهرة، كل شيء ما لا نفس له سائلة، كالبراغث والبعوض والذباب والصراصير.. وغيرها، كل هذه طاهرة.
يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث ].
يستحب عند دخول الخلاء أن يقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، والتسمية لم يدل على ثبوتها حديث، لكنها معروفة من الأدلة العامة التي فيها أن كل شيء يبدأ فيه بالتسمية، والبسملة وردت عند الدخول والخروج والأكل والشرب والوضوء، وقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث هذا ثابت في الصحيحين، والخبث: ذكران الشياطين، والخبائث: إناثهم، فيستحب هذا الدعاء عند الدخول, ويقدم رجله اليسرى، وأما المسجد فيقدم رجله اليمنى دخولاً، واليسرى خروجاً، فإذا دخل الخلاء فإنه يقدم رجله اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً، عكس دخول المسجد، فيقول عند الدخول: باسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، فيكون استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أن يقول: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم ].
وهذه الزيادة فيها ضعف، رواها ابن ماجة ، لكن الثابت الصحيح: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
يشرع للإنسان أن يقول: غفرانك، يعني: أسألك غفرانك، وقيل المعنى: إنه سأل الله المغفرة؛ لأنه في حال قضاء الحاجة لا يستطيع أن يذكر الله، فسأل الله الغفران من تقصيره في الثناء والدعاء في وقت الحاجة، وأما قوله: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، فرواه ابن ماجة بسند ضعيف. وإن قاله على أنه دعاء فلا بأس في ذلك.
هذه هي السنة، فإذا دخل بيت الخلاء فإنه يقدم الرجل اليسرى في الدخول، ويقدم الرجل اليمنى في الخروج عكس المسجد, وكذلك لبس النعل فإنه يقدم لبس اليمنى والخلع يقدم الرجل اليسرى، ولبس الثوب، ولبس السراويل يبدأ باليمنى ويخلع باليسرى.
وإذا أخطأ الإنسان عند دخوله الخلاء فقدم اليمنى فلا شيء عليه، قال تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، ثم أيضاً هذا مستحب وليس بواجب.
والدعاء إذا نسيه فخرج مرة أخرى وقاله فهو حسن، وإن ذكره بقلبه فلا بأس، وقد يقال: إنه تزول الكراهة مثل التسمية في الوضوء إذا نسيها فإنه يسمي ولو في الحمام؛ لأن ذكر الله مكروه في الحمام، وهذا الذكر واجب فتزول الكراهة في هذه الحالة.
وإذا خرج يقول عند خروجه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
وأما دعاء الانتهاء من قضاء الحاجة فإنه يقال بعد الخروج من الحمام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يدخله بشيء فيه ذكر الله تعالى إلا من حاجة ].
أي: عند الضرورة إذا كان الإنسان يخشى عليه من الضياع، فهذا لا بأس للضرورة، كأن يكون عنده أوراق فيها ذكر الله فإنه يخرجها؛ إلا إذا خشي أنها تضيع أو ينساها فإنها تزول الكراهة في هذه الحالة، أو تكون نقوداً فيها ذكر الله ويخشى أن تؤخذ فيدخل بها للضرورة، وكذلك المصحف إذا خشي ضياعه، وفي الغالب أنه ما يخشى لكن لو وجد ذلك فهذا للضرورة.
وهذا الاستحباب يحتاج إلى دليل، والاعتماد على الرجل اليسرى يقولون: إنه أعون على خروج الخارج، وهذا ليس بلازم, وإنما ينظر الإنسان ما يناسبه, فإذا كان المناسب الاعتماد على رجله اليسرى اعتمد، وإذا كان المناسب على اليمنى اعتمد، وهذا لا دليل عليه، وإنما هذا للتعليم، فقالوا: يستحب؛ لأنه أعون على خروج الخارج، وهذا يختلف حسب حال الشخص.
وقد قال صاحب العدة: وقال سراقة بن مالك: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى) رواه الطبراني في معجمه، لكن فيه رجل لم يسم، فهو مجهول وضعيف، وعلى هذا فالاعتماد على الرجل اليسرى لا يكون سنة، وإنما هو على حسب ما يناسب الإنسان، فإن كان يناسبه اليسرى اعتمد، وإن كان يناسبه اليمنى اعتمد.
هذه هي السنة إذا كان في الفضاء يبعد ويستتر عن أعين الناس ويكون بعيداً، والدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد قضاء حاجته استتر عن الأعين حتى لا ترى عورته ولا يسمع له صوت).
فإذا كانت الأرض صلبة فإنه يأتيه من رشاش البول، فيرتاد مكاناً رخواً؛ حتى لا يصيبه شيء من رشاش البول.
لا يبول في ثقب ولا شق؛ لأنه قد يخرج إليه شيء من الهوام والحشرات فتؤذيه، وقد يكون مسكناً للجن فلا ينبغي أن يبول في ثقب وشق, كذلك لا يبول في طريق؛ لأنه يؤذي الناس, وكذلك في موارد الماء, وكذلك في الظل الذي يستظل به الناس، والمشمس الذي يتشمس به الناس في الشتاء, وتحت شجرة مثمرة؛ لأنه يقذرها على الناس, وفي الحديث: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم)، والمعنى: أن من تخلى في طريق الناس وظلهم لعنوه، وليس هذا إذناً باللعن، بل المعنى: أن عادة الناس أن من قضى حاجته في طريقهم وظلهم لعنوه، يعني: اتقوا ما يسبب لكم اللعن, فلا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته في طريق الناس، أو في ظلهم، أو في موارد الماء، أو في المشمس الذي يتشمس فيه الناس في الشتاء, أو تحت شجرة مثمرة يقذرها على الناس، فكل هذا لا يجوز.
ومعنى الحديث: أن الناس عادة يلعنونه, وأما لعن المعين فلا ينبغي.
وهذا الفعل -أي: البول والبراز في طريق الناس أو ظلهم- قد يكون من الكبائر؛ لأن فيه أذية للناس، وهي محرمة, قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، ولا شك أن الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم أنه يؤذي الناس.
وهذا ضعيف ليس عليه دليل، واستقبال الشمس والقمر لا بأس به، وإنما الممنوع استقبال القبلة واستدبارها في غير البنيان, ويستدلون بحديث: (لا تستقبلوا النيرين) لكنه ضعيف لا يثبت، وقد أشار إليه في الشرح، وهذا التكريم لا دليل عليه، وهو مخالف للحديث: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا) وإذا شرق أو غرب فلا بد أن يستقبل الشمس أو القمر في الليل.
ثم أيضاً إذا كان الإنسان لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستقبل القمر ولا الشمس فماذا سيستقبل؟
فهذا ضعيف وليس عليه دليل، والتكريم هنا لا وجه له.
وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما، وفيه دليل على تحريم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة, وهذا في غير البنيان, وأما إذا كان في البنيان فلا بأس على الصحيح من أقوال أهل العلم, والمسألة فيها أقوال ثمانية لأهل العلم: فمنهم من أجازها مطلقاً، ومنهم من منعها مطلقاً، ومنهم منعها في الصحراء وأجازها في البنيان، ومنهم من منع الاستقبال وأجاز الاستدبار, ومنهم من عكس, فهي أقوال كثيرة أرجحها أن المنع إنما هو في الصحراء والجواز في البنيان، فلا يجوز استقبال القبلة في الصحراء، والدليل على هذا أن ابن عمر رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته في بيته مستقبلاً الشام مستدبراً الكعبة، فدل على الجواز في البنيان, والقاعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله دل ذلك على أن النهي ليس للتحريم، فهذا محمول على أنه إذا كان في البنيان فلا بأس به، وإذا كان في الصحراء فهو ممنوع، فخصص النهي في الصحراء والجواز في البنيان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويجوز ذلك في البنيان ].
لحديث ابن عمر : (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة).
وعن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس فبال إليه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: إنما نهي عنه في الفضاء، وإذا كان بينك وبين القبلة شيئاً يستره فلا بأس. رواه أبو داود .
فيجوز ذلك أخذاً بالحديث، وإذا كان بينه وبين القبلة جدار أو بنيان، والراحلة مثلها.
و أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه كان يرى المنع مطلقاً حتى في البناء قال: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل).
يعني: حتى يتقلص الخارج، فيأخذ بإبهامه من أصل ذكره إلى رأسه يمره وينتره، يعني: ينفضه، ويفعل هذا ثلاث مرات، حتى يتقلص الخارج، هذا ما ذهب إليه المصنف، والصواب أن هذا بدعة، وأنه يسبب السلس والوسواس فلا يفعل هذا، ولكن ينتظر قليلاً إذا كان بقي قطرات ولا يفعل هذا النتر فلا دليل عليه، وإنما هو من البدع، وهو يسبب سلساً ووساوساً.
فهذا محرم كما جاء في الصحيحين: (أن النبي نهى أن يمس الرجل ذكره وهو يبول).
فقيده هنا بمسه وهو يبول، وهذا هو المعروف في الحديث، وهو مقيد بحديث : (ولا يمس ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء)؛ لأنه قد يصيب اليد اليمنى شيء من البول وهي مكرمة, لكن في غير البول لو مسه فلا يصيب اليد شيء، لكن الأولى في مثل هذا ألا يمسها، وأما التحريم فقد جاء وهو يبول: (لا يمس ذكره بيمينه وهو يبول) هكذا قيد في الحديث، والمؤلف ما قيدها هنا، وجميع المنهيات السابقة للتحريم: البول في الطريق، وفي ظل الناس، فهذا محرم، وأما البول في شق فهذا لأنه قد يخرج إليه شيء من الحشرات فيؤذيه.
وهذا حديث متفق عليه، وهو قوله: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه)، لكنه مقيد بالحديث الآخر: (وهو يبول)، فالمطلق يحمل على المقيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يمس ذكره بيمينه، ولا يستجمر بها ].
ولا يستجمر بها، كما في الحديث: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه)، لا يستجمر ولا يتمسح المعنى واحد، يتمسح معناه: الاستجمار, فهو لا يجوز له أن يستجمر بيده اليمنى، ولكن تكون اليمنى معينة، فيأخذ مثلاً حجراً بيده اليمنى ثم يأخذه باليسرى فيستجمر بها, فلا يباشر الاستجمار باليمنى، ولا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح ولا يستجمر باليمنى فكل هذا محرم.
يستجمر وتراً هذا الأفضل، يعني: يقطع الاستجمار على وتر؛ لحديث: (من استجمر فليوتر) فإذا استجمر وأنقى بأربعة أحجار فإن الأفضل أن يزيد خامساً؛ حتى يقطع على وتر، وإن أنقى بستة أحجار فالأفضل أن يزيد سابعاً؛ حتى يقطع على وتر، ثم يستنجي بالماء، هذا هو الأكمل والأفضل، فيجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء, وإن اكتفى بالاستنجاء بالماء كفاه, أو اكتفى بالأحجار كفاه بشروط كما سيذكره المؤلف رحمه الله: أنه لا بد أن يكون ثلاثة أحجار فأكثر منقية، ولا بد أن لا يتجاوز الخارج موضع العادة.
يكفي الاستجمار بالأحجار فقط، وإن جمع بينها وبين الماء فهو أفضل، وأنكر بعض العلماء الاستنجاء بالماء وقال: إن هذا لا يعرف عند العرب؛ لأن العرب ما كانت تعرف إلا الاستجمار، وكان أحدهم يكره أن يمس دبره بيمينه، وروي عن بعض السلف إنكار الاستنجاء بالماء، لكن الصواب أن الاستنجاء بالماء أبلغ وأفضل، والأفضل أن يجمع بين الاستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء.
والاستجمار يكون بالأحجار أو بالشيء المتحجر أو بمناديل الورق بحيث تكون ثلاث مسحات منقية فأكثر، ويشترط في صحة الاستجمار بالأحجار ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، وذلك بألا ينتشر في الصفحة أو يجاوز الحشفة، فإن تجاوز الخارج موضع العادة فلا يجزيه إلا الماء.
يعني: في البول لا يتجاوز رأس الذكر، وفي الدبر لا ينتشر إلى الصفحتين، وأما إذا انتشر فلا يجزيه إلا الماء، ولابد أن تكون المسحات ثلاثاً فأكثر منقية، والأفضل الإنقاء على وتر.
هذا إذا أراد أن يقتصر على الأحجار فلا يجزئ أقل من ثلاث، فإن مسح بحجر أو حجرين فلا يكفي ولو أنقى، وأما إذا أراد أن يجمع بينهما واستجمر بحجر واحد أو بحجرين واستنجى بعده بالماء فلا بأس، وإذا استجمر بثلاثة أحجار ولم تنق زاد رابعة فإن أنقى بأربعة أحجار فالأفضل أن يزيد خامسة حتى يقطع على وتر؛ وذلك للحديث: (من استجمر فليوتر).
وأما إذا كان الاستجمار بحجر واحد له ثلاث جهات -أي: ثلاث شعب- فإنه يجزئ عند العلماء.
وكذلك يجزئ الاستجمار بالمناديل الخشنة والطين المتحجر، لكن الزجاج لا يجزئ؛ لأنه لزج، كذلك لا يجوز الاستجمار بالعظم والروث؛ وذلك لحديث أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يستجمر أتاه
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بثلاثة أحجار فأكثر، فلا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار إذا أراد أن يقتصر عليها، أما إذا أراد أن يستنجي بالماء فلا مانع، وإذا استجمر بثلاثة أحجار منقية فإنها تجزئ، ويتوضأ مبتدئاً بالمضمضة والاستنشاق ولو لم يغسل فرجيه بالماء، والأثر الباقي الذي لا يزيله إلا الماء هذا معفو عنه حتى ولو كان عنده ماء.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار). رواه مسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بثلاثة أحجار، وقال: (فإنها تجزئ عنه)، أخرجه أبو داود .
يعني: يجوز الاستجمار بكل طاهر منق من الأحجار، أو الطين المتحجر، أو الخشب، أو مناديل الورق، إلا الزجاج للزوجته، والعظام والروث للنهي عنهما، أما العظام فلأنه يفسدها على الجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستنجوا بالعظام والروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن)، وذكر: (إنه جاءه وفد نصيبين وأنهم سألوه الطعام، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما كان عليه لحماً، وكل بعرة فهي أكل دوابكم يعود إليه حبه الذي أكل).
وجاء في الحديث الآخر: (أنهما لا يطهران)، فيكون الاستنجاء بالعظم والروث ممنوع لأمرين:
الأمر الأول: أنه يفسدهما على إخواننا من الجن.
الأمر الثاني: أنهما لا يطهران.
وكذلك المحترم ككتب العلم والطعام يحرم أن يستجمر به، وما عداه فإنه يستجمر به.
ومن آداب قضاء الحاجة الاستتار عند قضاء الحاجة؛ للحديث: (إن الشياطين يتلاعبون بمقاعد بني آدم) لكن إذا قضى حاجته وليس عنده أحد فالأمر واسع، لكن إذا كان عنده أحد فلابد أن يستتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستتر بكثيب من الرمل أو بشجر.
كذلك ورد النهي عن قضاء الحاجة في الظل؛ لأنه قد يأتي أحد ويجلس في هذا المكان، وأما إذا كان في البرية وليس حوله أحد ولا يظن أن أحداً يأتي إلى هذا المكان، فالأمر في هذا واسع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر