هذا الباب معقود للأشياء التي يفسد بها الصوم، وذكر أشياء منها: الأكل والشرب، فمن أكل أو شرب بهذين الشرطين: ذاكراً عامداً -ذاكراً: ضد الناسي، وعامداً: ضد المكره- فسد صومه، أما من أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح، ولا قضاء ولا كفارة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (من نسي فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) وكذلك إذا لم يكن مختاراً -يعني: كان مكرهاً- كأن صب في فمه الماء، وألجئ أو هدد بالسلاح أمامه فأكل أو شرب، فلا يفسد صومه في هذه الحالة؛ لأنه ليس له قصد ولا اختيار، ولهذا قيده المصنف فقال: ذاكراً عامداً، ذاكراً: ضد الناسي، وعامداً: ضد المكره، يعني: قاصداً لهذا الشيء، فله قصد في هذا وله اختيار من أكل أو شرب.
وكذلك لو استعط بدهن أو غيره، يعني: جعل سعوطاً في أنفه؛ لأن الأنف منفذ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة : (.. وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فدل على أن الأنف منفذ، فإذا استعط بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه ذاكراً عامداً أفطر.
وكذا من قبل زوجته أو لمس أو باشر فأنزل فسد صومه، وكذا لو استمنى بيده أو بيد زوجته أو بغير ذلك فأمنى فسد الصوم.
أما إذا أمذى ففيه خلاف، والمذهب أنه يفسد صومه، القول الثاني: وهو رواية عند الإمام أحمد : أنه لا يفسد وهو الصواب، لكن يأثم إذا تسبب في إفساد صومه وهو يعلم بذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى.. ].
إذا أوصل إلى جوفه من أي شيء من أي موضع، وعلى هذا فالإبرة التي تصل إلى الجوف تفطر الصائم كإبرة العضل أو إبرة الوريد أو غيرها.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الإيصال إلى الجوف لا يفطر، ومن ذلك القطرة في العين أو القطرة في الأذن؛ لأنهما ليسا منفذاً.
ويقول: لم يجعل الله ولا رسوله وصول شيء إلى الجوف من المفطرات، ولأنه ليس أكلاً ولا شرباً، وليس في معنى الأكل والشرب، فلا تفطر الإبرة إذا كانت مكافحة للمرض سواء كانت في الوريد أو في العضل، بخلاف القطرة في العين أو في الأذن، فإن الأنف منفذ إذا وصلت إلى الحلق، ولكن الأحوط للمسلم أن يبتعد عن الإبر لاسيما في النهار، احتياطاً لهذه العبادة العظيمة، وأكثر الفقهاء على أنها تفطر، وإن كان ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله وجيه؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على أن الإيصال إلى الجوف مفطر، ولا يسمى أكلاً أو شرباً، أما الإبر المغذية فهذه تفطر بالاتفاق، وبعض المعاصرين فرق بين الإبرة في العضد وفي العضل، فقال: الإبرة في العضد تفطر، والإبرة في العضل لا تفطر، لكن التفريق ليس بظاهر.
أما المغذية فهذه ما في إشكال أنها تغني عن الأكل والشرب، ومثل حقن الدم أيضاً في المريض؛ لأنه خلاصة الطعام والشراب.
استقاء الهمز والسين والتاء للطلب، يعني: استدعى القيء، بأن عصر بطنه مثلاً أو شم شيئاً يتقيأ به، أو أدخل أصابعه في حلقه فقاء فيكون مفطراً؛ لحديث: (من استقاء عمداً فليقض) أما إذا غلبه القيء وذرعه بدون اختياره فلا يفطر، يقول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
وإذا استمنى أي: استدعى خروج المني، فأمنى، فسد صومه، أو قبل زوجته فأنزل وأمنى يكون مفطراً.
وهنا في عبارة ثانية: [ أو قبل زوجته فأمنى أو أمذى ]، يعني: نتيجة القبلة واللمس خروج المني، فهذا يفسد صومه وإذا أمذى فإنه يفسد على المذهب، والرواية الثانية عن الإمام أحمد أنه لا يفسد الصوم الإمذاء؛ لأن المذي: هو الماء الذي يخرج عند الملاعبة وانتشار الشهوة.
أما المني: فهو ماء أبيض رقيق يخرج بقوة، وهو أصل الولد، فإذا أمذى فالصواب أنه لا يفطر، لكنه يأثم إذا تسبب ويعلم أنه يؤدي إلى الإمذاء، والمذهب على أنه يفسد سواء أمذى أو أمنى.
إذا حجم أو احتجم عامداً ذاكراً فسد صومه، كما في حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم).
وذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر، وقالوا: إن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ، وكان هذا أولاً، وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجم وهو صائم)، وفي بعضها : (احتجم وهو محرم).
قال ابن القيم رحمه الله: لا يتم دعوى النسخ إلا إذا كان ما حدث أمور أربعة:
لابد أن تثبتوا أولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مقيم غير مسافر.
ولابد أن تثبتوا أنه احتجم في فرض دون نفل.
ولابد أن تثبتوا أنه احتجم وهو صحيح غير مريض.
ولابد أن تثبتوا أن قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان أولاً حتى يتم النسخ، فإن تمت هذه الأمور الأربعة قلنا بالنسخ، وإلا فلا يقال بأنه نسخ: (أفطر الحاجم والمحجوم).
ولهذا ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وجماعة من المحققين إلى أن الحجامة تفطر، وهذا هو الأحوط، والجمهور على أن الحديث منسوخ، وأن الحجامة لا تفطر، ومن باب أولى سحب الدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد ].
لابد من التقييد عامداً ذاكراً، فإن كان مكرهاً أو ناسياً فلا؛ لقول الله تعالى:رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت.
لأنه في هذه الأمور لا اختيار له، فإذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار لا يفسد صومه، وكذا لو تمضمض أو استنشق فخر شيء من الماء إلى بطنه لا يفسد صومه، وكذلك لو فكر فأنزل لا يفسد صومه؛ لأنه ليس له اختيار في دفع التفكير، وكذا لو احتلم وهو صائم، فيغتسل وصومه صحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو قطر في إحليله ].
يعني: قطر في الذكر فلا يفطر؛ لأنه يصل إلى المثانة ولا يصل إلى الجوف، فلا يفسد الصوم إذا قطر في الذكر، ومثله تحليله في الدبر على الصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو احتلم أو ذرعه القيء ].
قوله: (احتلم) لأنه غير متخير وكذا إذا ذرعه القيء وغلبه فلا يفسد؛ لأنه لا اختيار له.
مسألة: البخور لا ينبغي أن يشمه، وإذا شمه متعمداً أفطر عند كثير من الفقهاء؛ لأن له أجزاء لطيفة تصل إلى الدماغ، ولا ينبغي أن يشمه فيحتاط فيه، والقول بتفطيره فيه نظر، لكن ينبغي للإنسان أن يحتاط إذا شم البخور، فإذا شمه واستنشق -يعني: ذاكراً متعمداً ففي المذهب أنه يفطر، وعند الفقهاء يفطر.
يعني: إذا أكل في آخر الليل يظن أن الليل ما زال باقياً، فتبين أن أكله كان بعد طلوع الفجر، فعليه القضاء على المذهب، وهو قول جمهور العلماء.
القول الثاني لأهل العلم: أنه ليس عليه قضاء، وصومه صحيح، كمن أكل يغلب على ظنه أن الشمس غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، فلا يقضي في الصورتين.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة إلى القول الثاني لأهل العلم- واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية : وهو أنه لا يقضي في الصورتين؛ لأنه معذور بجهله في الحال، فإذا أكل في آخر الليل يظن أن الليل باقياً، ثم تبين أن الفجر قد طلع فلا يفطر؛ لأنه معذور بجهله بالحال، وكذلك لو أكل يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب فإنه لا يقضي؛ لأنه معذور بجهله في الحال.
والجمهور على أنه يقضي في الصورتين وهو الأحوط، وكونه معذوراً في أنه لا يلحقه إثم، أما القضاء فإنه يقضي، ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر ولم يتبين أنه طلع فصومه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل، ومن أكل شاكاً في غروب الشمس ولم يتبين أنها غربت فعليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، فالعبرة بالأصل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً فعليه القضاء، ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر لم يفسد صومه ].
لأن الأصل بقاء الليل، إذا كان شاكاً ولم يتبين له فصومه صحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء ].
لأن الأصل بقاء النهار، إلا إذا تبين له أنها غربت.
والظن هو شك غالب، أي: هو تردد بين الشيئين أحدهما غالب.
والشك: أن يستوي الطرفان، فإذا شك في شيء، يعني: تردد فيهما على حد سواء، فهو شك وإذا غلب أحد الأمرين فيسمى ظناً، والثاني المرجوح يسمى وهماً.
وكأن مراده بالظن هنا الشك، فيطلق الظن على الشك، فمن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً، إذا بان ولو كان عنده غلبه الظن، حتى ولو كان عنده يقين أن الليل باقٍ ثم تبين أنه نهار فيقضي، والسبب أنه قال: ثم بان، أما إذا لم يتبين فليس عليه شيء، فهو أكل وعنده ظن غالب بل عنده يقين أن الليل باقٍ، ثم تبين له أن الناس صلوا وهو يأكل، فهذا يقضي؛ لأنه صار يقينه لا عبرة به.
أما شيخ الإسلام فلا يرى عليه القضاء في هذه الحالة؛ لأنه جاهل بالحال.
وإذا أذن المؤذن قبل الوقت فأفطر، ثم تبين أن الشمس ما غربت، فإنه يقضي عند الجمهور، كما في قصة أسماء : (أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس) قال: وسئل هشام عن القضاء؟ قال: لابد من قضاء.
و شيخ الإسلام يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمرهم بالقضاء، ولو أمرهم لبقي، وأما قول هشام : لابد من قضاء، فهذا باجتهاد منه، والجمهور أخذوا بقول هشام : لابد من القضاء.
وإذا أكل ظاناً أن الشمس غربت ثم أخبر بعد أنها لم تغرب فكما سبق، يقضي على المذهب وهو قول الجمهور.
أفضل الصيام صيام داود؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو لما كان شاباً يصوم، قال: (صم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يومين، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً، قال له: يا رسول الله! إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، أفضل الصيام صيام داود عليه الصلاة والسلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، هذا أفضل الصيام إذا كان الإنسان عنده نشاط وفراغ.
أما إذا كان صيامه يخل بالواجبات الأخرى، ويضعفه عن القيام بالعمل والكسب لأولاده فلا، لا يصم يوماً ويفطر يوماً ويهمل الواجبات الأخرى، فيكفي صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وكل اثنين وخميس على حسب استطاعته، إذا كان أفضل الصيام لمن عنده نشاط وفراغ، ولا يضعفه الصوم عن القيام بالواجبات الأخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم ].
لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم) وأفضل المحرم: العاشر ثم التاسع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة) ].
هذا أيضاً حديث فيه فضل عشر ذي الحجة، فيسن صيامها؛ لأن الصيام من العمل الصالح، والعمل الصالح مرغب في أيام العشر من ذي الحجة، واليوم العاشر هو يوم العيد فلا يصام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله ].
وهذا فيه أيضاً الترغيب بصيام ست من شوال؛ لحديث أبي أيوب عند مسلم في صحيح مسلم : (من صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصيام رمضان بعشرة أشهر، والست تعادل شهرين، وسواء صامها متفرقة أو مجتمعة بعد العيد أو بعده بفترة، المهم أنه يصومها في شهر شوال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ].
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وصيام يوم عرفة كفارة سنتين ].
جاء بهذا الحديث: (إني أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة المستقبلة).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يستحب لمن بعرفة أن يصومه ].
لا يستحب للحاج أن يصومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفطراً في يوم عرفة، ولما شكوا في صيامه أرسلت أم الفضل له بقدح من لبن، فشربه والناس ينظرون؛ فعلموا أنه مفطر، ولأن صوم يوم عرفة يضعف العبد عن الدعاء في آخر يوم عرفة وهو أفضل الوقت، فالصيام يضعفه عن الدعاء وعن الذكر، فشرع له له الفطر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويستحب صيام أيام البيض والإثنين والخميس].
يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أبا هريرة وأبا الدرداء أوصاهما بسنة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يوترا قبل أن يناما.
وفي حديث أبي ذر قال: (إذا صمت فصم الثالث عشرة، والرابع عشرة، والخامس عشرة) فإن تيسر له أن يصوم أيام البيض فهو أفضل، وإن لم يتيسر صامها من أول الشهر أو وسطه أو آخره، والترغيب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر ليس مقيداً بأيام محددة، لكن الأفضل أن تكون أيام البيض إن تيسر، وإن لم يتيسر صامها في أي وقت من الشهر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والإثنين والخميس ].
وكذلك صيام يوم الإثنين والخميس، جاء الترغيب فيهما، وأنهما يومان تعرض فيها الأعمال على الله عز وجل، لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام الإثنين والخميس؟ فقال: (هما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)، (ولما سئل عن صوم الإثنين؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعث إلي فيه..) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الصائم صوم التطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وإذا أفطر فلا يضره، وينظر ما هو الأصلح له، إذا كان الأصلح له أن يفطر أفطر، كأن إذا جاءه ضيف مثلاً فالأفضل أن يفطر، وكذلك أيضاً إذا دعي إلى وليمة ويشق عليهم صومه، يفطر، وإن رأى أن يستمر في صومه فهو أمير نفسه، وإذا أفطر فلا يقضي، إلا إذا كان هذا الصوم صوم نذر أو كفارة من رمضان، فهذا لا يجوز له أن يفطر؛ لأنه لا يفطر إلا بعذر إذا كان الصوم واجباً كأن يكون مريضاً أو مسافراً، وإذا أفطر قضاه وليس عليه كفارة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك سائر التطوع إلا الحج والعمرة، فإنه يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما ].
كذلك سائر التطوع مثل صلاة النفل لو قطعها فلا بأس، لكن الأولى ألا يقطعها إلا بعذر؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] لكن لو قطع صلاة النفل فليس عليه قضاؤها إلا الحج والعمرة، فإنه إذا أحرم بالحج أو أفرد عمرة وجب عليه إتمامهما، وليس له أن يتحلل حتى يتم، أو يكون محصوراً فيذبح الهدي، أو يكون اشترط فيكون له عذر ويتحلل؛ لقول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك سائر التطوع إلا الحج والعمرة إذا أفسد شيئاً فإنه يقضيه، وإذا فعل محظوراً وجبت عليه الكفارة، ولو كان الحج نفلاً أو العمرة نفلاً فهذا حق في الحج والعمرة.
يحرم صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامهما؛ لأنهما يوما عيد، المسلم في ضيافة الله عز وجل، فيوم الفطر بعد شهر رمضان، ويوم الأضحى يأكل الناس من نسك ضحاياهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ونهى عن صوم أيام التشريق إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي ].
أيام التشريق هي: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، فيحرم صومها إلا للمتمتمع أو القارن إذا لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام قبل العيد، فإنه يصوم يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، لما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة وغيرها قالت: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي)، فهذا خاص به، وما عدا من لم يجد الهدي يحرم عليه، وعلى هذا تكون خمسة أيام يحرم صومها في السنة، يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق الثلاثة، أما يوم الفطر والأضحى فهذه لا تصام على أي حال، فلا يجوز لأحد أن يصومها مطلقاً.
وصيام يوم السبت سيأتي الكلام عليه، والصواب أنه يصح صومه، وقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم السبت، وقال: لو لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب فليمضغه) لكن هنا حديث ضعيف عند أهل العلم، فالصواب: أنه شاذ، أو منسوخ.
وبعض أهل العلم قال: إن النهي إنما هو خاص بمن أفرده، فإذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا بأس بصيامه، والصواب أنه يجوز صومه مفرداً وغير مفرد، والدليل على هذا حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءها وقد صامت يوم الجمعة فقال لها: (أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) فدل على أنه يجوز أن يصام يوم السبت، وهذا في الصحيح، وهو مقدم على هذا الحديث الضعيف.
لكن إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة فهذا محل نظر، قد يقال: لا يصومه، وينبغي أن يصوم يوماً قبله، وقد يقال: يجوز صومه؛ لأنه إنما صامه لا من أجل كونه يوم الجمعة وإنما لأنه يوم عرفة، وإلا فقد ثبت النهي عن إفراد يوم الجمعة بصوم أما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فقد زال المحظور.
فيوم السبت لا إشكال في صيامه، وإنما الخلاف في يوم الجمعة، والأقرب أنه يجوز في هذه الحالة؛ لأنه ما صامه من أجل يوم الجمعة، وإنما صامه من أجل أنه وافق اليوم الذي يصومه.
هذا الأرجح أنها في الوتر، وجزم المصنف بأنها في الوتر ليس بجيد، والصواب: أنها في العشر أشفاعه وأوتاره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) لكنها في ليالي الوتر أرجى، في ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان)، وفي الحديث الآخر: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، والسبع الأواخر أرجى من غيرها)، وفي الحديث أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرياً فليتحراها في السبع الأواخر) وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى من غيرها، وهي مختصة في العشر الأواخر، وقد تكون في الأشفاع، وقد تكون في الأوتار، وقد تكون في سبع وعشرين وقد تكون في غيرها، فليس هناك جزم، وليس هناك دليل ينص على أنها حادثة في ليلة معينة، والصواب أنها متنقلة فتكون في بعض السنين في ليلة إحدى وعشرين، وفي بعض السنين في ليلة اثنين وعشرين، وفي بعض السنين في ثلاث وعشرين، وهي مختصة في العشر الأواخر، خلافاً لمن قال من العلماء أنها في السنة، أو في الشهر كله، أو أنها رفعت، وكل هذه أقوال ضعيفة.
والصواب أنها باقية لم ترفع، وليست عامة في السنة ولا في الشهر، وإنما هي مختصة بالعشر الأواخر من رمضان ليستعينوا الله فيها، إلا أن الأوتار أرجى، والسبع الأواخر أرجى من غيرها، وسبع وعشرين أرجى من غيرها، وقد تكون في الأشفاع فلا يجزم بأنها في ليلة معينة.
الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً كان أو غيره، ومنه قوله تعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] فهو لزوم الشيء وحبس النفس عليه، سواء كان حقاً أو باطلاً.
وأما شرعاً: فهو لزوم المسجد بنية لطاعة الله عز وجل، وهو مستحب إلا إذا نذره فوجب عليه الوفاء بالنذر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويصح للمرأة ].
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، واعتكف أزواجه من بعده) فهو سنة في حق الرجال والنساء، فالمرأة لها أن تعتكف في أي مسجد غير مسجد بيتها إذا أمنت الفتنة.
والرجل يعتكف في مسجد تؤدى فيه صلاة الجماعة، الاعتكاف ليس خاصاً عند العلماء بوقت معين فالرسول اعتكف في رمضان حتى توفي صلى الله عليه وسلم، ولكن هل قال: لا تعتكفوا إلا في رمضان؟! فهذا فعل منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فضيلة، والفعل لا يؤخذ منه الخصوصية.
والنبي صلى الله عليه وسلم اعتكف واعتكف أزواجه من بعده ولما رأى الأخبية قد ضربت خشي عليهن من التباهي فقال: (آلبر يردن؟). ثم أمر بخيمته فرفعت ولم يعتكف تلك السنة، ثم قضاه في شوال، وكونه اعتكف في شوال دل على أنه ليس خاصاً برمضان، ولو كان لا يجوز الاعتكاف إلا في رمضان لما اعتكف في شوال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ].
ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ].
هذا هو الأفضل، أن تكون في مسجد تقام فيه الجمعة، وقال بعض العلماء: لابد أن يكون الاعتكاف في مسجد جامع، ولابد أن يكون صائماً، ولهذا يقال: ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع والصواب: أنه لا يشترط الصوم؛ لأنه ثبت أن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) والليل ليس فيه صوم، وهذا ثابت في الصحيح، فدل على أنه لا يشترط الصوم، وكذلك لا يشترط أن يكون في مسجد جامع، لكن بعض العلماء يرى : أنه لابد أن يكون الاعتكاف في مسجد تقام فيه الجمعة حتى لا يحتاج إلى الخروج، ولابد أن يكون صائماً، وعلى هذا يكون أقله يوم.
إذا نذر شخص بالصلاة والاعتكاف في مسجد فإنه يجوز له أن يعتكف ويصلي في أي مسجد من مساجد الدنيا إلا إذا نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو المسجد الأقصى، فليس له أن يقضي نذره في مسجد آخر؛ لأنه لا تساويها المساجد الأخرى في الفضل، ولكن هذا فيه نظر، وكونه نذر أن يعتكف في هذا المسجد، فيقال له: له أن يعتكف في أي مسجد، هذا يحتاج إلى تأمل، والأقرب أنه يلزمه، كونه نذر أنه يعتكف في هذا المسجد يلزمه ولا يعتكف في مسجد غيره، إلا إذا اختار الأفضل، نذر أن يعتكف في هذا المسجد فاعتكف في المسجد الحرام، أو في المسجد النبوي، أو في المسجد الأقصى، فلا بأس، أما أن ينتقل من هذا المسجد إلى مسجد آخر مضاهٍ له، إما أن يعتكف في هذا المسجد أو يعتكف في مسجد أفضل، وهو أحد المساجد الثلاثة؟
وهنا يوجد تعليق على قول المؤلف ونصه: قال المؤلف: (ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره)، لأن المساجد كلها في الفضيلة سواء، قال عليه الصلاة والسلام: (وجعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهور).
لكن لا يكفي هذا التعليق ويحتاج إلى تأمل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة، فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام لزمه، وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام، وإن نذر أن يعتكف بالمسجد الأقصى فله فعله في أيهما أحب ].
نعم، لأنه إذا انتقل إلى الأفضل فإنه زاد خيراً، وقد جاء أن رجلاً نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ههنا حيث المسجد النبوي).
يستحب للمعتكف أن يشتغل بالقرب، فيتقرب إلى الله بالطاعات، من تلاوة للقرآن، والذكر والتسبيح والتحميد، والتدريس، والتعلم والتعليم، وينبغي له أن يبتعد عن الكلام في أمور الدنيا، وفي فضول الكلام، هذا هو الذي يهتم به الإنسان، لكن الشيء القليل يعفى عنه، وقد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه بعض أزواجه يتحدثن معه، فإذا أرادها أن تذهب ذهب معها يقلبها إلى بيتها، لكن كون الإنسان يجعل مكان معتكفه مكاناً للحديث في الدنيا والكلام الطويل، والأخذ والرد فهذا لا ينبغي، فينبغي للإنسان أن يستغل هذا الوقت، وهذا المكان فيما يقربه إلى الله عز وجل، وأن يقلل من الكلام في أمور الدنيا؛ لأنه انقطع وتفرغ للعبادة.
لا يبطل الاعتكاف إلا بما هو ممنوع مثل الجماع، فإذا جامع بطل الاعتكاف، وكذلك إذا خرج لغير حاجة ولغير ما اشترطه، وله أن يخرج فيما لابد له منه، بل يجب أن يخرج لقضاء الحاجة كالبول والغائط، ويخرج الإنسان لطعامه إذا لم يكن هناك أحد يأتي له بالطعام فيأكل ويشرب، ويخرج للوضوء والاغتسال.
وكذلك إذا اشترط أن يزور المريض أو يتبع الجنازة فله شرطه، بل قال: فالسنة للمعتكف: ألا يزور مريضاً، ولا يشهد الجنازة إلا أن يشترط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يسأل عن المريض وهو في طريقه، ولا يعرج عليه، فلا بأس إذا كان يسأل عنه وهو ماشٍ، وإذا أراد عيادة المريض فلابد من الاشتراط، وإلا فلا يخرج، والفقهاء ذكروا: أنه إذا اشترط فلا بأس سواء نوى بقلبه أو تلفظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يباشر امرأة، وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز ].
فلا يباشر المرأة فإنه إذا ما باشرها بطل الاعتكاف؛ لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].
وإذا سأل عن المريض في طريقه فلا بأس، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان لا يزور مريضاً، ولكنه كان يسأل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج ويسأل عنه)، رواه أبو داود وحديث عائشة فيه نص أنه إذا اعتكف لا يزور مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه.
وإذا اعتكف الشخص في غرفة داخل المسجد فلا بأس، وحكمه حكم المسجد.
وإذا كان نذر أن يعتكف فيجب عليه الوفاء، أما إذا كان مستحباً فلا يجب قضاؤه؛ لأنه مستحب.
وبالنسبة لوقت الاعتكاف فعلى حسب الأيام التي نذرها وأرادها، فاليوم يبدأ من قبل صلاة الفجر، والليلة تبدأ من قبل غروب الشمس، هذا هو الأصل، قبل الغروب يعني: ليلة الحادي والعشرين قد تكون ليلة القدر، فلا يدخل بعد الفجر هكذا؛ لأن الليلة تابعة لليوم، فتبدأ الليلة من قبل غروب الشمس.
الجواب: أنه يبدأ بالقضاء فإذا بقي شيء من شوال صامه وإلا فإن الله تعالى يأجره على نيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) وكيف يصوم شوالاً وهو لم يصم رمضان؟!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر