ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها، فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها ].
قوله: (ثم يرجع بعد الحل إلى منى) يعني: إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، ثم ذبح هديه، ثم حلق رأسه، ثم طاف تحلل تحللين، التحلل الأول والتحلل الثاني، ثم يرجع إلى منى.
فهذه الوظائف الأربع أداها يوم العيد، فرمى أولاً جمرة العقبة، ثم ذبح هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، وإذا كان مفرداً ليس عليه ذبح، ثم حلق رأسه، ثم يفيض إلى مكة فيطوف ويسعى إن كان متمتعاً أو كان مفرداً ولم يكن سعى مع طواف القدوم، فيكون تحلل تحللين.
ثم يرجع بعد الحل إلى منى فيجلس بها ثلاث ليال إن تأخر، وليلتين إن تعجل في كل يوم من الأيام الثلاثة، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال، فيبدأ يرمي الجمرة الصغرى، ثم يرمي الجمرة الوسطى وهي التي بعدها، ثم يرمي جمرة العقبة وهذه ترمى يوم العيد وتكون هي الأخيرة، فهي آخر الجمرات من منى، وأقرب الجمرات إلى مكة، ولا بد من الترتيب، فإن رمى الجمرة الوسطى ثم الصغرى سقط رمي الجمرة الوسطى، فلابد من الترتيب، ولو نكس فرمى جمرة العقبة، ثم الوسطى، ثم الصغرى يحسب له الصغرى، وعليه أن يرمي الوسطى مرة ثانية بعد الصغرى، ثم العقبة الكبرى، والجاهل بالترتيب هنا لا يعذر، لابد أن يرتبها، فإن لم يرتبها وفاتت أيام التشريق عليه دم، والواجبات ليس فيها عذر، فالعذر في المحظورات مثل: حلق الرأس أو لبس الثوب، أما الواجبات فلابد منها، ومن لم يؤديها ولو جاهلاً أو ناسياً فعليه أن يؤديها في وقتها، فإن فات وقتها عليه دم عند أهل العلم.
قوله: (ولا يبيت لياليها إلا بها).
هذه هي السنة، يبيت الليالي في منى، والمراد بالبيتوتة أن يكون أكثر الليل موجوداً على أرض منى، سواء كان نائماً أو جالساً أو يصلي أو يأكل، فلا يلزمه النوم، فوجوده على أرض منى يكفي، لابد أن يبيت فيها، وهذا واجب على الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بعدم البيتوتة؛ لأجل سقاية الحاج، ورخص للسقاة والرعاة، والرخصة لا تكون إلا من شيء واجب، فدل على أنه واجب، وهذا هو المذهب.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أن المبيت بمنى سنة وليس بواجب، ولا شيء على من تركه، وهو قول لبعض العلماء.
والصواب: أنه واجب؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء واجب، ولولا أنه واجب لما احتاج العباس أن يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليرخص له، وكذلك السقاة والرعاة، فلما رخص لهم دل على أن غيرهم لا يرخص لهم لوجوبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يبيت لياليها إلا بها فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات يبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة، ثم يتقدم فيقف فيدعو الله، ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ].
هذه هي السنة، أن يكون الرمي بعد الزوال، فلا يجزئ قبل الزوال، والزوال عند أذان الظهر، فإذا زالت الشمس رمى مرتباً، يبدأ بالجمرة الصغرى، فيرميها مستقبلاً القبلة إن تيسر، وإن لم يتيسر يرميها من أي جهة، سواء كان مستقبل القبلة أو غير مستقبل القبلة، والأفضل الأيسر له، فكونك تؤدي العبادة براحة هذا هو الأفضل، فإذا كان الاستقبال فيه مشقة وزحام تذهب إلى الجهة الثانية، والاستقبال مستحب وليس بواجب، ولا بد أن تكون سبع حصيات، وتكون متعاقبة، ويكبر مع كل حصاة، ويرميها رمياً، ولا يضعها وضعاً، لا بد من رمي، فيرى بياض إبطه حين يرميها، لأن الوضع لا يسمى رمياً، وإن رماها كلها مرة واحدة فيعتبر حجراً واحداً، لا بد أن تكون سبع مرات.
ثم بعد ذلك يجعلها عن يمينه ويتقدم ويرفع يديه فيدعو، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، وهذا وقت يكون طويلاً، لكن نحن ضعفاء، فيدعو الإنسان ولو دعاء قصيراً، ولو لمدة دقيقتين أو ثلاث أو خمس دقائق أو أقل، والسنة التطويل، لكن لا نستطيع أن نجلس مثلما جلس النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قريباً منه عليه الصلاة والسلام، فهو دعا دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، يعني: وقت طويل، وهذا صبر عظيم!
ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك سبع حصيات متعاقبات، ويستقبل القبلة إن تيسر، وإلا ففي أي جهة، ثم يجعلها عن يساره ويتقدم فيستقبل القبلة، ويرفع يديه ويدعو دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا، لكن المسلم يفعل ما يستطيع.
ثم يرمي جمرة العقبة، وذكر المؤلف أنه يستقبل القبلة، والصواب: أنه لا يستقبل القبلة، وإنما يستقبل الوادي ويجعل العقبة أمامه، ولا يقف عندها ولا يدعو.
واختلف العلماء في الحكمة، فقال بعضهم: لأن المكان ضيق، فجمرة العقبة كانت متكئة على جبل، فأزيل هذا الجبل، ولما كان المكان ضيقاً ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدع عندها؛ لأنه قد انتهت العبادة، فالجمرة الصغرى والوسطى دعا فيها لأنه ما زال في صلب العبادة، كما لو كان في الصلاة، فلما رمى جمرة العقبة انتهت العبادة فانصرف، كما لو انصرف من الصلاة، وهذا هو الصواب، ولهذا الدعاء في صلب الصلاة أفضل من الدعاء بعد الصلاة.
ويفعل هذا الفعل في كل من الأيام الثلاثة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إن تأخر، وإن تعجل في اليوم الثاني عشر وخرج قبل غروب الشمس سقط رمي يوم الثالث عشر، ويستمر الرمي من زوال الشمس إلى الغروب، فهذا متفق عليه، وأما الرمي في الليل فالمذهب أنه ممنوع.
والقول الثاني: أنه لا بأس بالرمي بالليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد أول الرمي ولم يحدد آخره، وعلى هذا فيستمر الرمي من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وتكون الليلة تابعة لليوم الثاني، ليلة الحادي عشر تابعة لليوم العاشر يوم العيد، فيكون يوم العيد من طلوع الشمس إلى غروبها، ومن الغروب إلى الفجر تابع ليوم العيد، وليلة الثاني عشر تكون تابعة لليوم الحادي عشر، وليلة الثالث عشر تابعة لليوم الثاني عشر.
أما اليوم الثالث عشر فليس هناك رمي في الليل؛ لأن الرمي من زوال الشمس إلى الغروب في اليوم الأخير، لأنه بغروب الشمس تنتهي أيام الرمي والذبح وأيام الحج، وليس هناك رمي في الليل في اليوم الثالث عشر.
والذي عليه فتوى هيئة كبار العلماء بالأغلبية أن الرمي في الليل جائز، والمذهب منع الرمي في الليل، ولكن القول الثاني -وهو قول الأئمة الثلاثة- أنه لا بأس بالرمي في الليل، وهذا هو الذي يتفق مع سماحة الشريعة ويسرها، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، ولا يكفي الآن الوقت من زوال الشمس إلى غروبها بسبب العدد الكثير من الحجاج، فإذا كانوا مليوناً ونصف فلا يتمكنون من الرمي من زوال الشمس إلى غروبها.
وأما من وكل بالرمي للجمرات، فبعض العلماء -وهو المذهب- يرى أنه يرمي الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة عن نفسه، ثم يرجع فيرمي الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة عن موكله الأول، وإذا وكله آخر أيضاً يعود، وإذا وكله ثالث يرميها ثلاثاً ثم يرجع.
والقول الثاني: أنه يرمي الجمرة الصغرى عن نفسه، ثم يرميها عن موكله، ثم يرمى جمرة الوسطى عن نفسه، ثم يرميها عن موكله، ثم يرمي جمرة العقبة عن نفسه، ثم يرميها عن موكله، ولعل هذا لا بأس به لاسيما مع الزحام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ].
أما من طلوع الفجر إلى زوال الشمس فهذا ليس فيه رمي، وليس وقتاً للرمي بالاتفاق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب ].
خرج قبل غروب الشمس من منى، والمراد خروجه من منى إذا تجاوز جمرة العقبة، بل جمرة العقبة ليست من منى، وإنما هي في حد منى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غد ].
إذا غربت الشمس وهو لم يتعجل لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث عشر، وإن بات باختياره ورمى فهو أفضل، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن كان متمتعاً أو قارناً فقد انقضى حجه وعمرته ].
نعم، لأنه طاف وسعى ورمى وحلق، وانتهى من الرمي، ولم يبق إلا طواف الوداع.
[ وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه ].
هذا إذا كان مفرداً بأن أحرم بالحج، وبقي عليه العمرة، أما إذا كان قارناً ومتمتعاً فقد جمع الحج والعمرة، فالمتمتع له عمرة مستقلة قبل الحج، والقارن عمرته داخلة في الحج، وبقي المفرد وهو الذي أحرم بالحج فقط، بقي عليه العمرة فإنها تبقى في ذمته، وليس لها وقت فإذا أحب أن يخرج إلى التنعيم ويأتي بعمرة أداها، وإن أتى بعمرة في رمضان أو في أي وقت كفى، ولا تجب العمرة إلا مرة، وأما ما ذكره المؤلف من كونه يخرج إلى التنعيم ويأتي بالعمرة فهذا تركه أولى ولاسيما في وقت الحج؛ لأنه يكون هناك زحام كثير من الناس الذين يخرجون إلى التنعيم، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يشرع لمن كان بمكة أن يأتي بعمرة، والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما فعلوا هذا، وما فعل هذا إلا عائشة لما ألحت وطلبت وقالت: (يا رسول الله! يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج!)، فهي كانت قارنة، لكنها تريد عمرة مستقلة، فأعمرها النبي صلى الله عليه وسلم من التنعيم، فقال شيخ الإسلام : ليس بمشروع أن يخرج من مكة ويأتي بعمرة، وإنما المشروع لمن كان بمكة أن يتعبد بالطواف والقراءة، والعمرة إنما هي للدهر في وقت آخر، ولكن كثير من الفقهاء يرون أنه لا بأس أن يخرج الإنسان إلى التنعيم، ولو خرج إلى التنعيم أو إلى عرفة أو إلى الشميسي أو جدة وأحرم فلا بأس، كله من الحل لكن أقرب شيء هو التنعيم.
مسألة: إذا لم يتمكن من الرمي فإنه يرمي في الليل إلى طلوع الفجر ليلة الحج، فتكون تابعة ليوم العيد على فتوى بعض أهل العلم، وأما المذهب فإنه ليس هناك رمي في الليل، المذهب يقول: إذا غربت الشمس فإنه يؤجله إلى اليوم الثاني، وإذا زالت الشمس فإنه يبدأ برمي اليوم السابق، ثم يرمي لليوم الجديد، فيرمي الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة بالنية على اليوم الأول، ثم يرجع ويرمي الثلاث بالنية عن اليوم الجديد.
وأما مسألة التعجل من منى ففيه اختلاف والصواب أنه لا بأس به، لكن بعض العلماء كره هذا، وهي رواية عن الإمام أحمد أنه يكره له، ولكن العمل على هذا إذا تعجل فإنه يخرج من منى بعد رمي الجمرات، سواء بقي في مكة أو في غيرها، لكن الأفضل له إذا كان يجلس في مكة ألا يتعجل؛ لأن هذا فيه عبادة، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، البيتوتة عبادة، والرمي عبادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه، ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموس على رأسه، وقد تم حجه وعمرته ].
إذا كان ليس له شعر بأن كان أصلع أو كان حلق في الحج ولا نبت الشعر فإنه يمر الموس عليه؛ لأن هذا هو الذي يستطيع؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
القول الثاني: من لم يكن فيه شعر فلا حاجة إلى أن يمر الموس؛ لأن إمرار الموس لا يفيده شيئاً.
فتجوز العمرة لمن حج مفرداً، ولم يعتمر، أما المتمتع والقارن فليس لهما حاجة، والحجاج صاروا يشغلون الناس ويشكلون زحاماً، فيأتي كثير من الحجاج فيأخذ أربع عمر أو خمس عمر أو عشر عمر فيظل يتردد، فيؤدي في الصبح عمرة، وفي الظهر عمرة، وفي العصر عمرة ويقول: هذه عمرة لأبي، وهذه لأمي، وهذه لزوجتي، وهذه لأختي، وهذه لخالتي، وهذه.. وهكذا؛ ولذلك نفتيهم بأنهم لا يعملون هذا، والمشايخ يفتونهم هناك بأن ترك هذا أولى، فيعتمر في وقت آخر إذا خف الزحام، فيكفي بأن يدعو لهم، فادع لهم، وتصدق عنهم، وأد العمرة في وقت آخر بحيث لا تؤذي أحداً، ثم الإكثار هذا ليس بمشروع، أداء العمرة أكثر من مرة لم يكن من عمل السلف، فهذا ليس بمشروع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، لكن عليه وعلى المتمتع دم؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] ].
عمل المفرد وعمل القارن واحد، وليس هناك فرق بينهما، فكل واحد منهما عليه طواف واحد، وسعي واحد، طواف للحج والعمرة، وسعي للحج والعمرة، والطواف الأول للقدوم، وكل منهما يبقى على إحرامه حتى يتحلل يوم العيد، ولا فرق بين المفرد والقارن في العمل إلا بأمرين:
الأمر الأول: النية، فإن القارن ينوي حجاً وعمرة، والمفرد ينوي حجاً.
الأمر الثاني: الذبح والهدي، فالقارن يلزمه ذبح وهدي شكراً لله، حيث جمع بين نسكين في فترة واحدة، والمفرد ليس عليه هدي؛ لأنه ما أتى إلا بنسك واحد، وهذا هو الصواب، وقال بعض العلماء: إن القارن عليه سعيين وطوافين مثل المتمتع، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله: أن القارن عليه طوافان وسعيان، فيطوف ويسعى للعمرة، ويطوف ويسعى للحج، لكن هذا قول ضعيف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)، ولحديث عائشة : (وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فطافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) والمراد بالطواف الآخر: السعي، وإلا فطواف الإفاضة للجميع، يعني: طافوا بين الصفا والمروة، هذا هو الصواب.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أن المتمتع ما عليه إلا سعي واحد، قال: وليس على المفرد والقارن إلا سعي واحد باتفاقهم، وكذلك المتمتع في أصح الأقوال، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وشيخ الإسلام يرى أنه لا يكون إلا سعي واحد للمفرد والقارن والمتمتع، ويقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة كلهم ما سعوا إلا سعياً واحداً، وأما حديث عائشة فتكلم عليه وقال: إن هذا فيه كلام، وأنه من رواية الزهري ، لكن الصواب: أن المتمتع عليه سعيان وطوافان، وأما المفرد والقارن فما عليهما إلا طواف واحد، وسعي واحد؛ ولأن المتمتع عمرته مستقلة منفصلة عن الحج، وقد يأتي مكة في واحد شوال -يوم العيد- ويحرم بالعمرة، ولا يحرم بالحج إلا في اليوم الثامن، فتكون المدة شهرين، فكيف يقال: إن المتمتع ما عليه إلا سعي واحد؟!
يعني: لا يخرج أحد من مكة حتى يودع البيت فيطوف سبعة أشواط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس ينفرون من كل وجه: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبين)، وفي حديث ابن عباس : (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض) فهذا طواف الوداع الذي لابد منه، فهو واجب إلا على الحائض والنفساء فيسقط عنهما، ولكن هذا يكون عند إرادة السفر، وإن أقام بمكة فلا يطوف حتى يخرج، ولو أقام سنة أو سنتين ما عليه طواف وداع حتى يخرج من مكة، وإذا أراد الخروج طاف سواء كان متمتعاً أو قارناً أو مفرداً لابد من الطواف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حتى يكون آخر عهده بالبيت، فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده ].
إذا اتجر وصار يبيع ويشتري بالتجارة فيعيد طواف الوداع حتى يكون هو الآخر، أما إذا كان اشترى شيئاً وهو في طريق فلا يضر.
(فمن) من المنة يعني: ابتدأ من الآن فمن علي .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإلا فمنّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم أصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، ويدعو بما أحب، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ].
وهذا الدعاء مروي عن ابن عباس ، وأما كونه يقف بالملتزم ويلصق صدره وذراعيه ووجهه ويدعو فهذا جاء في حديث ابن عمرو ، وجاء في حديث آخر عن عبد الرحمن بن صفوان (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلصق صدره وذراعيه في الملتزم) وهذا يحتاج إلى بحث للتأكد من صحة الحديث، وأما هذا الدعاء فهو مروي عن ابن عباس ، وهذا من باب الاستحباب، ولو تركه فلا حرج، ليس من الواجبات.
وقد ذكر حديث عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن صفوان في التعليق فقال: أخرجه أبو داود في باب الملتزم وابن ماجة والبيهقي كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، قال: كنت مع عبد الله أي: ابن عمرو بن العاص ، ورواه الدارقطني باختصار، وقال المنذري في مختصره: في إسناده المثنى بن الصباح لا يحتج به، وقد سمع شعيب من جده على الصحيح، قال في التقريب: المثنى ضعيف اختلط في آخره.
وحديث عبد الرحمن بن صفوان قال: إنه ضعيف أخرجه أبو داود في باب الملتزم، والبيهقي وفي سنده يزيد بن أبي زياد .
فعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً فلا يشرع هذا الفعل، فكونه يلصق صدره وذراعيه ما ثبت، والدعاء كذلك هذا مروي عن ابن عباس ، والأمر في هذا واسع.
هذا الاستحباب يحتاج إلى دليل، فاستحباب الوقوف عند الباب يحتاج إلى دليل، والصواب أن طواف الوداع واجب، وأنه إذا تركه فعليه دم، يقول ابن عباس : (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض) والتخفيف إنما يكون على الشيء الواجب، فلو كان مستحباً فلا يحتاج إلى تخفيف، فلما قال: (إلا أنه خفف عن الحائض) دل على أنه واجب.
والقول الثاني لأهل العلم: أن طواف الوداع سنة ولا شيء في تركه، لكن هذا قول ضعيف، والصواب أنه واجب، وهو الذي عليه الفتوى الآن، فمن تركه عليه دم.
وأما وقوف الحائض في البيت ودعاؤها فيحتاج إلى دليل.
أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، وواجباته: الإحرام من الميقات ].
ذكر أن للحج ركنين: الوقوف بعرفة، وهذا هو الركن الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).
فمشى المؤلف على القول بأن الحج ليس له إلا ركنان، والمذهب: أنها أربعة أركان، وقد مشى عليه شارح الزاد في الروض المربع أنها أربعة: الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والإحرام الذي هو نية الحج، ونية الدخول في النسك، والسعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اسعوا إن الله كتب عليكم السعي).
والسعي مختلف فيه، فقيل: إنه ركن، وهو المذهب، وقيل: إنه واجب يجبر بدم، وقيل: إنه سنة، والقول بأنه واجب قول قوي، لكن المذهب على أن الأركان أربعة، وهنا المؤلف عده من الواجبات، وصاحب الزاد عده من الأركان، فتكون الأركان أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف بعرفة.
والمؤلف قد جعل السعي والإحرام من الواجبات، لكن الإحرام يعتبر ركناً وكونه من الميقات هذا واجب.
هذا الواجب الأول: الإحرام من الميقات، والواجبات سبعة، وهنا زاد واجباً ثامناً وهو السعي، وكذلك الإحرام جعله واجباً تاسعاً، فلو أحرم من بعد الميقات وجب عليه دم، لابد أن يكون الإحرام من الميقات، وهي المواقيت الخمسة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك الوقوف بعرفة ركن، لكن كونه يجلس إلى الليل فهذا واجب، فإن خرج قبل غروب الشمس ولم يرجع فعليه دم؛ لترك الواجب، لابد أن يجمع بين جزء من الليل وجزء من النهار.
القول الثاني: أنه يلزمه الدم ولو رجع.
كذلك المبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والأقرب إلى غيبوبة القمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفه حين غاب القمر، والقمر يغيب ليلة عشرة بعد مضي ثلثي الليل تقريباً في الساعة الثانية، لكن العلماء يقولون: بعد نصف الليل؛ لأنه يتحقق بدأ النصف الثاني، فالمبيت في مزدلفة واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس من أجل سقايته، والرخصة لا تكون إلا في الشيء الواجب، وقال بعض العلماء: إنه ركن، ذكر هذا ابن القيم رحمه الله عن اثنين من العلماء، والقول الثالث: أنه سنة لا شيء فيه، وأعدل الأقوال: أنه واجب، فهذا هو الصواب، إذا تركه من غير عذر فعليه دم، أما إذا كان مريضاً ونقل المستشفى فهو معذور، وكذلك من يرافقه يسقط عنه المبيت في مزدلفة والمبيت في منى.
وأما بالنسبة للوقوف بعرفة فمن جعل الوقوف ليلاً فلا يستطيع أن يجمع بين الليل والنهار، ومن وقف في النهار لابد أن يبقى إلى الغروب، ووقوف النهار يكفي في الركنية، لكن لا يكفي في الواجب.
كذلك سعي الحج جعله من الواجبات، وجعله صاحب متن الزاد من الأركان، والمذهب أنه من الأركان.
والسعي فيه ثلاثة أقوال كما سبق، قيل: إنه ركن، وقيل: إنه واجب، وقيل: إنه سنة، والمذهب أنه ركن، وهو المعتمد الآن، والقول بأنه واجب يجبر بالدم قول قوي.
إذا كان سيبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر إن تعجل، وثلاث ليال إن تأخر، فهذا المبيت واجب، وكذلك رمي الجمار واجب، والحلق والتقصير.
وطواف الوداع، فهذه ثمانية واجبات، والإحرام بالحج هذا ركن، وأما كونه من الميقات فهذا واجب، وهو جعله واحداً، والصواب أن الواجبات سبعة، والأركان أربعة كما سبق.
العمرة لها ركن واحد، وهو الطواف، وهذا ما مشى عليه المؤلف، والقول الثاني: أن أركانها ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي ، فالإحرام: نية الدخول في العمرة، هذا ركن، والثاني: طواف العمرة، والثالث: السعي.
وواجباتها ثلاثة: الإحرام من الميقات أو من الحل كالتنعيم، الثاني: الحلق، والمؤلف مشى على أن العمرة مالها إلا ركن واحد، وهو الطواف.
الثالث: الحلق أو التقصير.
والصواب: أن واجباتها اثنان: الإحرام من الميقات، والحلق، وأما الأركان فنية الإحرام وهو النية، والطواف، والسعي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فمن ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً جبره بدم، ومن ترك سنة فلا شيء عليه ].
هذا هو الفرق بينها: إذا ترك ركناً لابد أن يأتي به سواء تركه سهواً أو عمداً أو جهلاً، لابد من الإتيان به، لا يتم الحج إلا بالأركان، وكذلك العمرة، والواجب لا يجوز تركه عمداً، وإذا تركه سهواً أو ناسياً، أو جاهلاً ولا يمكن استدراكه جبره بدم، وإن تركه متعمداً ففيه تفصيل، وأما إذا ترك سنة فلا شيء عليه لا إثم ولا كفارة.
إذا فاته الحج فعليه أولاً أن يحوِّل إحرامه إلى عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، وعليه هدي يذبحه من أجل فوات الحج، وعليه قضاء هذا الحج من العام القادم ولو كان نفلاً؛ لأنه لما دخل فيه وجب عليه؛ لقول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] إذا كان الإنسان حج متنفلاً ثم فاته الحج، نقول: يجب عليك قضاء هذا الحج الذي فوته، ولو كان في الأصل نافلة، فهو صار الآن واجباً؛ لأن الحج والعمرة لهما مزية على غيرهما، وأما الصلاة والصوم فكون الإنسان يقطعهما لا يقضي، لكن في الحج لا بد من قضائه؛ لقول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وعليه مع ذلك الهدي، فيذبح.
القول الثاني: أنه ليس عليه هدي ولا قضاء إلا إذا كان الحج الذي فاته حج الإسلام، أو حج نذر، فيقضي، وأما إذا كان حجه مستحباً فليس عليه قضاء، ولعل هذا هو الأقرب، وكذلك الهدي إنما يتحلل بالعمرة، فيطوف ويسعى ويقصر في الحج والعمرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاته الحج فعليه دم، وليجعلها عمرة، وليحج من قابل).
لكن هذا منقطع، فهو ضعيف، ولو صح وكان متصلاً ومرفوعاً لانتهى النزاع.
إذا أخطأ الناس جميعاً في العدد والحساب، فوقفوا في عرفة اليوم الثامن، ونقصوا كلهم يوماً، أو وقفوا في اليوم العاشر، فجعلوا يوم عرفة اليوم العاشر صح حجهم، أما إذا أخطأ بعض الناس كأن وقف الحجاج يوم الخميس، وجاء بعض الناس ولم يأت إلا يوم الجمعة نقول: فاته الحج، لكن إذا أخطأ الناس كلهم فحجهم صحيح؛ لأنهم لم يعلموا هذا، وهذا هو الذي أدى إليه اجتهادهم، فهم معذورون، لكن لو أخطأ بعض الناس وخالف الناس فالذي أخطأ فاته الحج.
هذا الاستحباب ليس بوجيه؛ لأن القبر لا يشد إليه الرحل، فلو قال: ويستحب زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكان هو الأولى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
فإذا نوى الزيارة للمسجد النبوي، ثم بعد ذلك يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، أو ينوي الزيارة لهم جميعاً للمسجد وللقبر، فحسن، أما أن ينوي الزيارة للقبر فقط فهذا الصواب أنه بدعة، وأنه لا يجوز، وهذا الذي عليه المحققون، وقال بعض العلماء: لا بأس به، ومسألة شد الرحل من المسائل التي امتحن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والصواب الذي عليه المحققون: أنه لا يجوز شد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وهذا من وسائل الشرك، وبعض العلماء يرى الجواز، لكنه قول ضعيف، فلو قال المؤلف: وتستحب زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكان الأولى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر