إسلام ويب

كيف تكون جباناً؟للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشجاعة وسام لا يأخذه إلا من كانت روحه عنده رخيصة في سبيل غايته، ولايخاف الموت.

    أما الجبن فهو صفة ذم، والرجل الجبان يكون دائماً ذليلاً مهاناً، وقد ضرب لنا التاريخ صوراً رائعة لأناس قدموا أرواحهم ليقيموا مبادئهم.

    والشجاعة غالباً صفة في المؤمنين، وقد تجد في العصاة والكفرة شجعاناً.

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    وبعد:

    أصحاب الفضيلة، يا شباب الصحوة، أيها الأخيار الأبرار: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    اللقاء يتجدد، والحب يزيد، والصلة تنمو، والمقصد الله فهو يعلم ما نريد.

    عنوان هذا الدرس: كيف تكون جباناً؟ وما هي الطرق التي تساعدك على أن تكون جباناً مع التعلم والممارسة ومع التدرب هذا هو ملخص ما أريد أن أقوله.

    سأل الرسول عليه الصلاة والسلام ربه أنه يعيذه من الجبن، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) واستعاذ الصالحون من الجبن، وقد عدته العرب جريمة كبرى وسيئة في الرجل، ومن أعظم مميزاته وأعطياته صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة المحمدية أنه أخرجهم شجعاناً، يقول المتنبي في الشجاعة:

    أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر      وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر

    وأشجع مني كل يوم سـلامتي      وما ثبتت إلا وفي نفســها أمر

    تمرست بالآفات حتى تركتها      تقـول أمات الموت أم ذعر الذعر

    وأقدمت إقدام الأبي كأن لي      سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر

    إلى آخر ما قال.

    ولكن أقصد في هذه المحاضرة مقاصد تهم المسلم، وهي من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد الذي أتى به رسولنا عليه الصلاة والسلام عدو للجبن والخوف من غير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والجبناء يموتون في اليوم مرات والشجاع يموت في عمره مرة واحدة، والجبان يتوهم كل شيء ضده، والشجاع يتصور أنه ضد كل شيء إلا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما والاهما.

    ولقد سطر أبو بكر الصديق كلمة رائدة حفظها الناس وتكلم عنها المفكرون حتى الغربيون منهم، وهي قوله للصحابة: [[اطلبوا الموت توهب لكم الحياة]] فإن من طلب الموت وهب الله له حياة سعيدة هنية، فيعيش منشرح الصدر، وقال ابن القيم في أسباب انشراح الصدر في زاد المعاد: ومنها الشجاعة وسعة صدر الشجاع، فإن الله يشرح صدره بشجاعته وإقدامه.

    وهذا أمر معلوم، فإن الهم والذلة وحقارة الحال والهلع والجزع تأتي مع الجبن، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسمة تأتي مع الشجاعة والإقدام، وفرض الرأي، وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، قال عبادة في الصحيحين: (با يعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عصابة حوله أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومة لائم) وعند ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [[أخذ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول الحق ولو كان مراً]] والحق مرٌّ قد يذهب بالنفوس ويطير بالرءوس، لكن لأن الحق في الأرض لا يقوم إلا على قطع الرءوس وإذابة النفوس؛ وجب أن يكون هناك شجاعة إيمانية يحملها رواد محمد عليه الصلاة السلام.

    ولما قام مسيلمة الكذاب في اليمامة، وادعى النبوة؛ زج أبو بكر الصديق بشباب من شباب محمد عليه الصلاة والسلام في وجهه وقال: [[والذي نفسي بيده لأقاتلنه بقوم يحبون الموت كما يحب الحياة]] وقالها عمر لأهل فارس، وقالها كثير غيره فرضوان الله عليهم، وقال أبو بكر الصديق على المنبر: [[والذي نفسي بيده لأرسلن لهم خالداً يذهب وساوس الشياطين من رءوسهم]].

    الفرق بين الشجاع والجبان

    قال المتنبي:

    أرى كلنا يبغي الحياة بجهده      حريصاً عليها مستهاماً بها صبا

    فحب الجبان النفس أورده البقا     وحب الشجاع الحق أورده الحربا

    يقول: إن الجبان يحب الحياة وكذلك الشجاع، ولكن الفرق بينهما أن هذا يحيا سعيداً مكيناً مرفوع الرأس، وذاك يحيا خائفاً جباناً فاتراً متخلفاً، ويقول الله عز وجل عن شجاعة أهل الإيمان وإقدامهم، وعن فرضهم لرأيهم الحق، وعن كفاحهم ومدافعتهم عن آرائهم وأقوالهم ومبادئهم: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52] أي: قل يا محمد أنت وأصحابك وجيلك للكفرة والعملاء والزنادقة والمارقين والمرتدين: إنكم تتربصون بنا إحدى الحسنيين؛ إما أن نعيش أعزة نحمل المبادئ ونحن أقوياء، أو أن نموت في سبيل الله شهداء وهذا مكسب عظيم، ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    فبين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن الأجل بيده، وأنه لا يتدخل أحد في تقديم ساعة أو تأخيرها ساعة، ولا يملك النفوس إلا الله.

    وتهدد الله اليهود الجبناء بالموت فقال: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الجمعة:8] فأخبر أنهم جبناء يحبون الحياة، وقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] قال أهل العلم: إنما نكَّرها لِتعم فمعناها حياة، لكنها أي حياة، حياة البهائم، وحياة الوحوش والزواحف وحياة القردة والخنازير، أي حياة ولو كانت بلطم الوجوه، ولو كانت بكسف البال. قال الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للصحابة ولمن سار على منوالهم من أمثالكم ممن يتوضأ خمس مرات، ويحمل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] في قلبه: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] يقول: إن تعبتم أو أرهنتم أو خفتم؛ فإن العدو الكافر المنافق يناله مثلما ينالكم. وهذا صحيح، فإنكم تعلمون أن كثيراً من المخطئين الضالين، من البعثيين والماركسيين والعلمانيين والحداثيين، والدجالين الماكرين وشربة الخمور والزناة يحبسون ويجلدون ويقتلون، ومع ذلك تجد الواحد يصامد ويجالد من أجل فاحشته ومنكره ومبدئه الخاطئ.

    ولكن يقول الله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] يقول: اصبروا قليلاً كما صبروا، مع العلم أنه ينالهم الأذى والقرح، وأنتم كذلك ينالكم الأذى والقرح، ولكن النتيجة مختلفة. وهذا كما قال النابغة الجعدي لما وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام واستهل قصيدته يمدح قبيلته:

    تذكرت والذكرى تهيج على الفتى     ومن عادة المحزون أن يتذكرا

    فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن      على البعد في عيدانه أن تكسرا

    سقيناهم كأساً سقونا بمثلها     ولكننا كنا على الموت أصبرا

    يقول: ما أتوا إلينا وهم نساء، أتوا ومعهم سيوف تقطع الرءوس ومعنا سيوف، فسقيناهم الموت وسقونا الموت بها، وصبرنا قليلاً فانتصرنا.

    وننكر يوم الروع ألوان خيلنا      من الضرب حتى نحسب الجو أشقرا

    إلى أن يقول في نهاية قصيدته:

    بلغنا السما جوداً وجداً وسؤددا     وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

    قال عليه الصلاة والسلام وهو يهتز متبسماً: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة. قال: لا فض فوك، فعاش مائة سنة ما سقط له سن ولا ضرس والشاهد هنا أن المسلم يناله الضر لكن النتيجة مختلفة.

    المؤمن شجاع والكافر جبان

    قال عمر بن الخطاب: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد المنافق]] فكون الفاجر شجاعاً والمؤمن جباناً؛ هذه مصيبة وداهية لا تتصور، ولذلك انظر إلى أبناء البعث الآن الذين رباهم الخونة والعملاء مثل: ميشيل عفلق وأحمد حسن البكر وصدام حسين " تجد الواحد ينطلق ويتفجر تحت الدبابة، ويقف أمام المدفع، ويطلق العيارات النارية وكأنه يزغرد في أبهة العيد، وتجد الماركسيين يدخلون أفغانستان وتنفجر بهم الدبابات وتشدخ رءوسهم على الجبال، وكأنهم يغنون ويطبلون ويرقصون، وتجد بعض الناس من المؤمنين ممن يصلي الصلوات الخمس إذا هبت الريح من الباب أغمي عليه ورش بالماء، فيقول عمر: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة، وجلد المنافق]] وسوف تأتي أخبار لهؤلاء.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] فهل سمعتم أن أحداً مات بغير إذن الله؟ لا. لأن الله غالب على أمره، ولأن الأوامر من عنده؛ ولا يسبق أحد أجله، فإذا أذن الله فالموت، وإذا لم يأذن فلو اجتمع أهل الأرض على أن تموت فلن تموت أبداً. وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157] يقول: اتقوا الله واعملوا صالحاً، وقولوا الحق، وقدموا الرأي الصائب، فإن قتلتم فإلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإن عشتم فإلى خير، أما الجبان فإنه يموت حقيراً ويعيش حقيراً.

    وقال تعالى عن أوليائه: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] فهم يبلغون الرسالة ويظهرون مبدأهم ويقولون رأيهم، ويقولون لصاحب المنكر: خف الله واتق الله، ويمنعون المنكر في الأرض، ومع ذلك لا يخافون إلا من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم مدح الله أوليائه فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

    دخل طلحة وعليه ثياب خضر، وقد رد بيده عن المصطفى في أحد كل سيف ورمح وسهم، فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23] ونظر إلى طلحة فقال: {هذا ممن قضى نحبه} هذا من الجيل الصادق الذين قدموا رءوسهم في المعركة. ومنهم عمير بن الحمام يأكل التمر يوم بدر، قال عليه الصلاة والسلام: {يا أهل بدر إن الله اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، يا أهل بدر، والله ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة، فألقى عمير التمرات من يده وقال: بخ بخ، إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة} ثم أخذ غمد السيف وكسره على ركبتيه -وهذه ساعة الصفر عند العرب- ثم أخذ السيف وقاتل حتى قتل وهو ينشد:

    فليس على الأعقاب تدمى كلومنا      ولكن على أقدامنا تقطر الدما

    تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد      لنفسي حياة مثل أن أتقدما

    يقول: أحسن الحياة أن أتقدم قبل أن أقتل وأنا مهزوم، فهي خيبة في الدنيا وخيبة في الآخرة.

    يقول السموءل، وهو يهودي كان يسكن خيبر، وقد أقر له الناس بالشجاعة، وقد يوجد في اليهود شجعان، والجبن صفة عامة فيهم، لكن النادر لا حكم له، فقد يخرج منهم اليوم شجاع، وبالأمس شجاع مثل مرحب والسموءل، فهو يقول:

    يقرب حب الموت آجالنا لنا      وتكرهه آجالهم فتطول

    وإنا لقوم لا نرى القتل سبة      إذا ما رأته عامر وسلـول

    وعامر وسلول جارتاه من القبائل، ترى الموت سبة أما نحن فنراه مدحاً.

    مواجهة المؤمنين الموت لأجل مبادئهم

    قُتل مصعب بن الزبير في العراق، فقال أخوه عبد الله في مكة: [[والله الذي لا إله إلا هو لا نموت نحن آل الزبير حبطاً ولا حبجاً كما يموت بنو مروان، إنا نموت تحت ضرب السيوف وقصع الرماح]] وقد صدق؛ فقد قتل الزبير وأبناؤه وعائلته كلهم في سبيل الله، بل عبد الله بن الزبير تطيب وتحنط ولبس أكفانه وأتى إلى أمه أسماء ذات النطاقين الطاهرة الصادقة، فقال: يا أماه! الحجاج قد أغلق علي الحرم ومعه اثنا عشر ألفاً وما عندي إلا خمسمائة، فماذا أفعل هل أسلم نفسي؟

    قالت: لا. اتق الله لا تسلم نفسك، قاتل حتى تقتل. قال: والله ما أخاف القتل ولكن أخشى أن يمثل بي إذا قتلني -يعني يقطع أنفي ويبقر بطني - قالت: لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها - لله درها - فصمد وصمد حتى قتل، فصلبه الحجاج ومرت به وسلمت عليه وهو مصلوب، فقالت: السلام عليك أما آن لهذا المصلوب أن يترجل وللفارس أن ينزل. وفي مثله يقال:

    علو في الحياة وفي الممات      بحق أنت إحدى المعجزات

    لعظمك في النفوس تبيت ترعى      بحراس وحفاظ ثقات

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088463772

    عدد مرات الحفظ

    776879960