إسلام ويب

العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اصطفى الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً على الأمة، واصطفى له أصحاباً نبلاء هم أكرم أهل الأرض بعد الأنبياء، وأعظم هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون الأربعة، وإن الإنسان عندما يستعرض المواقف المتعلقة بوفاتهم يجد فيها كثيراً من العبر والعظات

    1.   

    العبر المأخوذة من وفاة الصديق رضي الله عنه

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقاليد كل شيء بيديه، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل عبد إليه.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه ما تلاحمت الغيوم وما تلألأت النجوم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فالله أكبر ما أعظمهم من أربعه مهديين وخلفاء راشدين، جعلهم الله جل وعلا قدوة وأسوة يوم تأسوا واهتدوا بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، حبهم دين وملة، وموالاتهم ونصرتهم قربة وطاعة، والترضي عليهم من أعظم الدعاء، فاللهم ارضَ عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي .

    أيها المؤمنون! إن الحديث عن هؤلاء الراشدين أمر مشتهر معروف؛ لكن تكراره محبب إلى النفوس مألوف، وسيقتصر حديثنا عن أيامهم الأخيرة، وأخبار موتهم وما في ذلك من دلائل العظات وجلائل العبر، في قوم كانت حياتهم زاخرة بالمعاني العظيمة، فلا غرو ولا عجب أن يكون موتهم حافلاً بالأحداث الجليلة.

    أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلا خلاف بين المؤمنين أنه توفي رضي الله عنه في جمادي الآخرة، لكن اختلف في عله موته، والأظهر أنه اغتسل في يوم بارد فحَم فكان ذلك سبباً في وفاته، وقد جعل الله جل وعلا لموت كل أحد سبباً.

    مات الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد أن استشار الناس في أمر الخلافة من بعده، وأخذ يبذل جهده وسعيه في الولاية من بعده، فأجمع أمره رضي الله عنه وأرضاه على تولية عمر بعد أن شاور كبار الصحابة، وكتب كتاباً بعد ذلك يجمع الناس فيه على عمر خوفاً على الأمة أن تتفرق بعده، وأن يتشتت شملها.

    وفي ذلك دلائل جليلة، من أعظمها أن النصح للمسلمين وحب الخير لهم من أعظم دلالات سلامة القلوب، وأن المؤمن المتحلي بهذه الصفة قد وقر الإيمان في قلبه؛ لأن من كمال الإيمان كمال النصح لله ولرسوله لكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

    جعلها الصديق رضي الله عنه في الفاروق من بعده؛ لأنه أدرك مع استشارته لخير الأصحاب أن عمر أقدر على سياسة الأمة من بعده، ولم يجعلها في أحد من بنيه أو أحد من (بني تيم) تلك القبيلة التي ينتسب إليها، فرضي الله عنه وأرضاه، وما أطيبه حياً وميتاً رضي الله عنه وأرضاه.

    أيها المؤمنون! وقف الصديق يحتضر وعند رأسه ابنته عائشة ، فلما رأت ما أصاب أباها أخذت تتمثل ببيت حاتم :

    لعمرك ما يغنيى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

    فكشف الصديق وهو في سكرات الموت عن غطائه وأخذ يقول: يا بنيه! لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].

    إن رباطة الجأش في مثل هذا الموضع لمن أعظم الدلائل على معرفه الله تبارك وتعالى، ومثل هذا لا يكون إلا إذا كان من قبل إيمان ويقين راسخ وأعمال صالحة تعين على الثبات في تلك المواطن، وإلا فسكرة الموت حق لابد منه لكل أحد؛ لكن المراد والمقصود من الحديث: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه تمثل بالقرآن عند موته كما كان يعمل بالقرآن في أيام حياته، وما حياة الإنسان في آخرها إلا إجمال لما كان عليه قبل ذلك، فإذا منّ الله جل وعلا عليه بتوبة قبل الموت محت تلك التوبة برحمه الله ما كان من سالف الخطايا والعثرات.

    أيها المؤمنون! أوصى الصديق رضي الله عنه أن تتولى غسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، فغسلته وهي يومئذ صائمة في يوم شاتٍ بارد، فلما فرغت من غسله خرجت إلى فقهاء المهاجرين تسألهم: هل عليها من غسل لأنها لامست ميتاً، فأفتوها رضي الله عنهم وأرضاهم أن لا غسل عليها.

    فما أعظمها من زوجة وما أكرمها من مؤمنة! عرفت حق زوجها ولم تضيع وأبقت على حق ربها،

    وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)!

    فالزوجة المؤمنة التقية من أعظم ما يعين على طاعة الله، ومن أعظم ما يساعد على القرب منه، كما كانت أسماء رضي الله عنها عوناً للصديق في حياته، وتولت غسله بوصيته بعد مماته.

    دفن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حجرة عائشة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانا جارين في الغار وهما حيان، ثم أضحيا جارين في قبرهما وهما ميتان، فما أكرمهما عند الله جل وعلا من صاحبين وما أعظم منّة الله جل وعلا وفضله عليهما!

    تولى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الأمر بعده، وأخذ الأمناء الثقات من الصحابة وفتحوا بيت المال ليروا ما فيه، فلم يجدوا في بيت المال ديناراً ولا درهماً، كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقوم بالأمانة على وجهها، ويتقي الله جل وعلا في أموال المسلمين.

    والمال أيها المؤمنون فتنه، يدفع صاحبه إلى الغش لتروج بضاعته، ويدفع صاحبه لأن يقبل الرشوة ويضاعف من دخله، ويدفع إلى السرقة والخيانة، ويدفع أحياناً إلى الكذب والمماطلة في سداد الدين، لكن من عرف ذلة الوقوف بين يدي الله جل وعلا؛ تحرر من مظالم الناس وخشي على نفسه أن يلقى الله وللناس عليه مطالب، ويومئذ يقتص للمظالم بالحسنات والسيئات، لا بالدينار والدرهم، ألا ترى أن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36].

    إن المرء في يوم القيامة لا يفر عمن لا يعرفهم؛ لأن من لا يعرفهم في الغالب لا حقوق لهم عليه فلا يطالبونه بشيء، فلا يخشى في عرصات يوم القيامة أن يقابلهم.

    أما من كانوا حوله من إخوة وأم وأب وزوجة وأبناء وجيران وأصدقاء، فإنه يفر منهم خوفاً من أن يكون قد ظلمهم في الدنيا فيطالبونه بحقهم في الآخرة، ولا دينار ولا درهم يومئذٍ إنما هي الحسنات والسيئات، عافانا الله وإياكم من مظالم العباد كلها!

    عباد الله! هذا ما كان من شأن موت الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    العبر من وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

    أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقد مات مطعوناً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الفجر، قتله أبو لؤلؤه المجوسي الذي كان يعمل حداداً للمغيرة بن شعبه ولم يسجد لله جل وعلا قط!

    وأعظم العبر في موت الفاروق رضي الله عنه ما كان مستقراً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من عظيم قدر الصلاة، فإنه لما طعن قال له الناس: ألا نحملك إلى بيتك يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا، لاحظ في الإسلام لم ترك الصلاة.

    وقف رضي الله عنه وأرضاه في الصف وجرحه يثعب دماً، ومع ذلك بقي يصلي، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالمؤمنين ركعتين خفيفتين مراعاة للموقف!

    فما أعظم حسرة عبد عافاه الله في بدنه ثم ينام عمداً عن صلاه الفجر! يسمع المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويؤثر الفراش الوثير على دعوة ربه العلي الكبير، فلينظر وليتأسَ بما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الغدو والرواح إلى جماعة المسلمين، والمحافظة على الصلاة جماعة في مساجد الإسلام.

    طُعن عمر وحمل إلى بيته فوقف ابن عباس رضي الله عنهما يثني عليه، ويقول له: يا أمير المؤمنين أبشر؛ فلقد كان أسلامك فتحاً، وهجرتك نصراً.. وأخذ يعدد مناقبه، فقال له رضي الله عنه وأرضاه: والله لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع!

    فما أقض مضاجع الصالحين شيء أعظم من خوفهم من الوقوف بين يدي ربهم جل وعلا.

    ذكر الله الساعة واستعجال الكافرين لها، ثم قال جل جلاله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا [الشورى:18]، مع ما يرجونه من رحمة الله إلا أنهم يشفقون من الخوف، ويعلمون عظمة الوقوف بين يدي الله في يوم يعرض فيه الكتاب: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    بعث عمر رضي الله عنه في ساعة احتضاره وسأل الطبيب، فقال له الطبيب: استخلف يا أمير المؤمنين فإنك ميت، وكان الطبيب من بني معاوية من الأنصار فقال له عمر : صدقتني يا طبيب بني معاوية، ولو قلت لي غير ذلك لكذبتك!

    فبعث ابنه عبد الله بن عمر يستأذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذنها في أن يدفن مع صاحبيه، وقال له: قل لها إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل لها أمير المؤمنين فإنني لست اليوم للمؤمنين بأمير.

    فلما جاءه الخبر بموافقة عائشة فرح رضي الله عنه وأرضاه فرحاً عظيماً وقال: لقد زال عني همٌ عظيم كنت أحمله.

    ثم قال: إذا مت وأدرجتموني في كفني فاستأذن مرة أخرى، وقل: إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه.

    فدفن رضي الله عنه وأرضاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنهما في موضع واحد في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة كلهم الثلاثة قد ألحد لهم، فهذا القبر يضم أشرف الأجساد: جسد نبينا صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء، وجسد الصديق والفاروق خير أصحاب الأنبياء والمرسلين.

    أيها المؤمنون! صدق في موت عمر قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وكل ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم فهو حق.

    واستجاب الله جل وعلا دعوة عمر يوم قال: اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك! فجمع الله له مناه، فمات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذه البلدة المباركة يعظم حق الجوار فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن منّ الله عليه بسكناها أو جعل الله جل وعلا لأحد منكم رزقه فيها، سواء كان من أهلها أو من غير أهلها، فإن هذا من أعظم الفضل وأجزل العطاء، ويجب أن تقابل نعم الله بشكر، فلا يرينك الله تغش في طعام أو متاع أو تظلم أحداً منهم، أو يراك الله في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعرض لأعراض المؤمنين، تؤذي هذا، وتلمز هذا، وتؤذي أهل بيت هذا أو تغمز .. أو يكون منك من المعاصي غير ذلك.

    وأعظم الجرم أن يكون إحداث فيها بسفك دم أو قول أو فعل قال صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).

    وفقني الله تعالى وإياكم لهدي كتابه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    اتباع السنة هو عماد المجد والسؤدد

    الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه المصطفى.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    فالله الله أيها المؤمنون في تقوى ربكم سراً وإعلاناً، وخشيته تبارك وتعالى غيب وشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأقوم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم.

    عباد الله! إن أبقى الله في الأجل وأنسأ في العمر، سنأتي إن شاء الله إلى الحديث عن موت الشيخين الجليلين عثمان وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما.

    لكنه ينبغي أن يُعلم أن هؤلاء الأربعة الراشدين وغيرهم من أفذاذ الأمة ورجالها وساداتها عبر الدهور لم يسودوا إلا باتباعهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان للأمة شأن ولا ذكر لولا اتباعها لنبيها صلى الله عليه وسلم، فلقد بعث الله نبيه بالتوحيد وجعله رحمة للخلائق، وهداية للطرائق، وسؤدد الإنسان في أمر دنياه بحسب قربه أو بعده عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

    فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم

    من خالد من صلاح الدين قبلك من أنت الإمام لأهل الفضل كلهم

    لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم

    الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم

    يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم

    فصلوا وسلموا وباركوا عليه كما أمركم الله جل وعلا في كتابه:

    فاللهم صلّ على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلّ على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وارضَ اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار، اللهم وارحمنا معهم بمنك ورحمتك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين.

    اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، ومن أراد بها سوءاً فرد اللهم كيده في نحره يا قوي يا عزيز، اللهم واحفظ أهل الإسلام في كل مكان يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم آنس في تلك البقاع وحشتهم، وارحم اللهم تحت الثرى غربتهم، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون.

    فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768277653