الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا: أن يعظم قدر نبيه صلى الله عليه وسلم، على أنه ينبغي أن يعلم أن قدره صلى الله عليه وسلم عظيم قدراً وشرعاً، وأما من لم يعرف لنبي الله صلوات الله وسلامه عليه قدراً فهو في حقيقة الأمر لم يعرف قدر نفسه؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم كتب الله له أرفع المقامات، وأجل العطايا، وأسنى المطالب قدراً وشرعاً كما بينا آنفاً، فهو عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته).
وقال ربنا وهو أصدق القائلين: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
الوقفة الأولى: مع رضاعته عليه الصلاة والسلام، فالأم في القرآن يطلق على معان عدة، فيطلق على الأم نسباً وتسمى والدة، ويطلق على الأم إذا أرضعت، ولا تسمى والدة؛ لأنها ليست أماً نسباً، قال الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23].
وقال في صدر الآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] أي: نسباً، ونبينا صلى الله عليه وسلم زهري أماً، هاشمي أباً، فأبوه من بني هاشم، وأمه من بني زهرة، ولما ولدته أمه هي التي أرضعته، فأول ثدي التقمه عليه الصلاة والسلام كان ثدي أمه، ثم ثدي ثويبة مولاة أبي لهب ، واختلف في إسلامها هل أسلمت أو لا؟ والعلم عند الله، وليس بين يدينا نص صريح صحيح إثباتاً أو نفياً.
و ثويبة كانت جارية لـأبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها أبو لهب لما بشرته بمولد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم كان ما كان بعد ذلك من كفر أبي لهب بعد البعثة.
فـثويبة ثاني المرضعات، وثالث المرضعات: حليمة السعدية في بادية بني سعد على عادة العرب آنذاك، وشرف بأن رضع معه صلى الله عليه وسلم رجال ونساء، فلم يرضع معه من أمه أحد، لكن رضع معه من ثويبة أبو سلمة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهو أخوه من الرضاعة، ثم مات أبو سلمة عن زوجته فتزوجها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن هذا إرهاصاً لما سيكون بعد، ثم أرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها وأرضاها.
وكذلك أرضعت معه ثويبة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فـحمزة عمه نسباً، وأخوه رضاعة، ويقدر الله لوشائج القربى أن تعظم ما بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فـحمزة كما أنه رضع معه من ثويبة فقد رضع معه من حليمة ، فـحمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، ورضع مع النبي عليه الصلاة والسلام من ثويبة ورضع معه من حليمة ، فهو أخوه من الرضاعة من جهتين: من جهة ثويبة ، ومن جهة حليمة السعدية .
وأرضعت معه حليمة أبا سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الخمسة الذين يشبهونه عليه الصلاة والسلام، وقد مر معنا في دروس مضت أن هناك خمسة شديدي الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن ، والفضل ، وقثم بن العباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وجعفر بن أبي طالب ، فهؤلاء الخمسة أشد الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئته الخَلْقية، ويتفاوتون في شبههم بهيئته الخلقية بعضهم عن بعض تفاوتاً بيناً كما هو معلوم.
فهؤلاء هم إخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهذه الرضاعة عموماً تنوعها يري كل من يفقه عناية الله جل وعلا برسوله صلى الله عليه وسلم، ولابد لمن يدرس السيرة أن يربط جزماً ما بين القرآن والسنة، فالله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين في نبيه موسى : وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، فإذا كان قيل في كليم الله موسى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فما عسى أن يقال في سيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، فأنبياء الله جل وعلا أعدهم الله جل وعلا لأمر عظيم، وشأن جليل، وفي مقدمتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام في عناية ربه منذ أن حملت به أمه، وإلى أن أودع القبر عليه الصلاة والسلام، بل إن الله بعد ذلك: (حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وهو عليه الصلاة والسلام خيرة الأنبياء من الخلق، وهو عليه الصلاة والسلام محل احتفاء ربه جل وعلا، فحتى عائشة يراها في رؤيا في كفه قبل أن يتزوجها، والمدينة هذه المباركة التي هاجر إليها يرى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل، ثم يهاجر بعد ذلك بقدر الله وشرعه إلى هذه المدينة المباركة، فهو لم يختر الأرض التي يهاجر إليها، ولم يختر التربة التي مات فيها، ولم يختر البقعة التي دفن فيها، ولم يختر أزواجه، كان صلى الله عليه وسلم في كل قول يقوله، أو فعل يفعله، أو خطوة يخطوها، يكون ذلك بخيرة من الله وقدره، وهذا هو المعنى الحرفي في قول شوقي :
الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسمِ
إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعمِ
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
صلوات الله وسلامه عليه.
فيبين هذا منزلته عند ربه، فبالله ما سينال أعداؤه منه إلا الوبال والخسران، وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31].
فهو عليه الصلاة والسلام كفاه الله جل وعلا شر كل أحد: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:95-96]، فإذا كان القرشيون القريبون منه جسداً وداراً ومقاماً وموطناً عجزوا عن أن يصل أذاهم إليه، فكيف بمن يريد أن يؤذيه اليوم وقد وسد الترب صلوات الله وسلامه عليه:
والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاكا
هم كالخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا
صلوات الله وسلامه عليه.
فقال أهل الإيمان من الصحابة الأخيار: سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا، فزكاهم الله بقوله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143].
وقال اليهود: لقد ترك قبلة الأنبياء، ولو كان نبياً لما ترك قبلتهم.
وقال القرشيون في مكة: يوشك محمد أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وإن هذا من أمارات أننا على الحق.
وقال أهل النفاق وهم يومئذ قليل؛ لأن شوكة المنافقين لم تظهر إلا بعد بدر، وأما قبل بدر فكان النفاق في المدينة قليلاً، فقال بعض ضعفاء الإيمان والمنافقون آنذاك: إن محمداً لا يدري أين يتوجه، فإن كان أولاً على الحق فقد ترك الحق، وإن كان في توجهه إلى مكة اليوم على الحق فقد كان محمد على الباطل، فتركوا الدين، فهذه أربع طوائف.
أولها: أن المؤمن عبد مأمور يستسلم لأمر ربه وإن رأى أنه مخالف لهواه، لكنه يطوع هواه لأن يكون تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، فالدين في مجمله: استسلام وانقياد لأوامر الله، وفق شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديانِ
هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان
هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران
وبه فدى الله الذبيح من البلا لما فداه بأعظم القربان
هو دين يحيى مع أبيه وأمه نعم الصبي وحبذا الشيخان
هذا هو التوحيد، ثم جاء بعدها:
وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن
فالإنسان يأخذ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، ويأتمر به، وينقاد إليه، وأما أن يأتي الإنسان لمصالحه ورغباته وأهوائه، فيريد أن يطوعها كما يشاء، فهذا لا ننفي عنه الإيمان بالكلية، لكن لا يمكن أن يرقى إلى أهل الإيمان المؤتمنين على دين الله جل وعلا في نشره، ولن يستطيع أحد أن يحمل الدين ويقوم به على الوجه الأكمل، والنحو الأتم، ويبلغه الناس؛ حتى يؤمن به أولاً، وحتى يكون روحاً وجسداً طوعاً لأوامر الله، فإذا كان هوى النفس ورغباتها تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه أصبح هذا الرجل حقاً صادق الإيمان، وهذا هو الذي يستطيع أن يحمل الراية، لكن الإنسان قد يأتي آخر الناس في المسجد، ويريد أن يكون أول الصفوف في القتال، أو يعكس الوضع، يكون أول الناس في المسجد، ويريد أن يكون آخر الصفوف في ساحات القتال الشرعي، أو غير ذلك، لكن المرء يكون هواه حقاً تبعاً لما جاء به محمد صلى الله وعليه وسلم عن ربه جل وعلا.
ومن هذه القضية يؤخذ: أنه يسهل على النفس أن تجد أعذاراً فيما لا تريد، كما فعل المنافقون والقرشيون واليهود، فقد وجدوا أعذاراً في تحويل القبلة، والأمة تبتلى وتختبر على مر الدهور وكر العصور، في كل آن وحين كما قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143].
والله يقول: يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:126].
فابتلاء الناس واختبارهم بالأحداث العظام يتكرر في التاريخ كله، فإذا أقبلت الفتنة عميت على الناس، ولا يعرفها إلا من رزقه الله جل وعلا رسوخاً في العلم، فإذا أدبرت وانتهت أضحت بجلاء لكثير من الناس، وأما أن يبقى فئام في إقبال الفتنة أو في إدبارها وهم سواء، فلا يريدون أن يروا إلا ما يريدون أن يروه، وإذا كان الإنسان لا يحب أن يسمع إلا كلاماً يحبه، ولا يحب أن يرى إلا واقعاً يريده، فهذا لن يبصر ولن يسمع، لكن العاقل يرى الأشياء على ما هي عليه، ثم ينظر كيف يتعامل معها وفق شرع الرب تبارك وتعالى.
ويسهل على الشاب الذي تتثاقل قدمه عن الصلاة أن يقول: إن الإمام حيناً يتأخر في الإقامة ويطيل في الصلاة، أو يقول العكس فيظهر أنه رجل تقي بار فيقول: هذا الإمام لا يطيل الصلاة ولا أجد نفسي أخشع وراءه، فلو ذهب إلى المسجد النبوي أو غيره لقلنا: إنه صادق، لكن يبقى في البيت، ويتخذ من خطأ الإمام عذراً، فهذا حاله ليس مثل الأولين الذين ذكرناهم في مثال القبلة تماماً، بل هناك وجه شبه لا انفكاك منه عن حالة المنافقين، فالمنافقون قالوا: إما أن يكون محمد على الحق فترك الحق، وإما أن يكون محمد يزعم أن الحال الثاني على الحق فقد كان محمد على الباطل.
والمقصود: أن طرائق التأويل سهلة جداً لمن يريد أن يتبع الغواية ويخرج عن منهاج هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في أرفع المقامات، لكنه مع ذلك هو بشر، وتبقى تلك البيوت التي كانت في جوار المسجد في شرقيه على الأكثر لو رفعت يدك للمست سقفها، ولو مددت قدمك وأنت نائم للمست حائطها، وكانت تأوي أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن وبينهن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، تبقى بيوتاً بشرية؛ لأنها بيوت هدى، فلو لم تكن بيوتاً بشرياً لانتفت القدوة والأسوة؛ لأننا أصبحنا مطالبين بأقوام أو بعوالم ليست مثلنا، فلنا العذر ألا نقتدي، لكنها كانت بيوتاً كبيوتنا، يعمرها أقوام مثلنا في خلقهم، إلا أن الله اختصهم وأعطاهم ما لم يعط غيرهم.
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصاب جارية من جواريه وهي مارية القبطية على فراش إحدى زوجاته، ويقال: إنها حفصة ، فعظم هذا عليها، فأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم جاريته على نفسه.
وقول آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث عند إحدى أمهات المؤمنين طويلاً بعد العصر، وأطعمته عسلاً، وكان يحب الحلوى، فغارت بعض أمهات المؤمنين، فتظاهرن عليه أن يقلن: إننا وجدنا منك ريحة كذا وكذا، وقد سأل ابن عباس حبر هذه الأمة سأل عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعمر كان ذا هيبة، وابن عباس كان طالب علم، ولا يجتمع طلب علم مع الحياء من السؤال، فلابد أن يكون في طالب العلم نوع من الإقدام عندما يسأل، لكن يسأل بأدب، فكان ابن عباس يريد أن يعرف من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمنعه هيبة عمر من أن يسأله، فلما حج يوماً مع عمر وأراد عمر أن يتوضأ وأبعد، وقضى حاجته، فلما عاد قدم إليه ابن عباس بإداوة وسكب عليه الماء، وعمر يغسل يديه فقال له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان ظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: واعجباً لك يا ابن عباس ! أي: تعجباً من جرأته على طلب العلم، قال العلماء: كره أن يجيبه، ولم يستطع أن يكتم العلم، ثم قال: هما حفصة وعائشة رضوان الله تعالى عليهما، حفصة ابنته وعائشة بنت أبي بكر رضوان الله تعالى على الجميع، ففهمنا من هذا الحديث أن اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما حفصة وعائشة .
والمقصود: أن هذا حصل في بيوت النبوة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل النزاع ويقضي على الأمر، فحرم على نفسه ذلك الطيب الحلال المباح سواءً كان وطئ الجارية، أو أكل الحلوى؛ حتى يرضي زوجته وينهي المسألة، ولا يشغب على نفسه أكثر من ذلك، فعاتبه ربه عتاباً رقيقاً: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم:1] وهو خطاب إجلال لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي [التحريم:1] بتحريمك، مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1].
وتذييل الآية بقول الله جل وعلا: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1] تطييب له صلوات الله وسلامه عليه، ثم بين الله منهاجاً شرعياً عظيماً: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2].
ثم أخبر الله جل وعلا عن شيء يقع في كل بيت، قال الله جل وعلا: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [التحريم:3]؛ فهو صلى الله عليه وسلم يدني زوجته يعطيها بعض الخبر، لكنه يعرف أنها امرأة لا يلبث عندها شيء، فأعرض عن بعض الأخبار ولم يعطها إياها، وقد قلت مراراً: من يريد أن يسوس الناس لابد أن يبقي على مسألة الطمع والخوف منه، فالناس إذا طعموا فيك بالكلية لم يعملوا، وإذا خافوا منك بالكلية يئسوا من عطائك فلم يعملوا، والعرب تقول:
ولن ترى طارداً للحر كاليأس
لكن اجعل من تحت يدك زوجة كانت أو طالباً، أو عاملاً، أو أجيراً أو موظفاً يرجوك ويخافك في آن واحد، فإن كان من تحت يدك لا يرجوك، بل يخافك بالكلية، أو يخافك بالكلية ولا يرجوك، فاعلم أنك غير موفق في سياسة الناس، قال الله جل وعلا: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [التحريم:3].
وأمهات المؤمنين حق لهن أن يتنافسن؛ لأن الزوج الذي يتنافسن عليه هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت جحش وعائشة كن أكثر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ملابسة عليه، فأما عائشة فتدلي بأنها بكر، وأما زينب فتدلي بشيئين: أنها قرشية وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنها زوجها الله جل وعلا من فوق سبع سموات، فهذا الذي جعل المنافسة غالبها ما بين زينب وبين عائشة .
والمنافسة محمودة بين الناس؛ لأنها تدفع إلى الإقدام، لكن ينبغي أن تكون محكومة بضوابط الشرع، ويمكن أن يقبل منك كلمة خرجت من غير أن تضبطها في خصم أو منافس لك، لكن لا يقبل منك أن تتعمد هذا المرة بعد المرة، فـزينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها كانت تسامي عائشة جداً، فلما وقعت حادثة الإفك وخاض من خاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت حمنة بنت جحش أخت زينب تريد أن تذكي المسألة؛ نصرة لأختها على عائشة ، وأما زينب نفسها رضي الله عنها وأرضاها فقالت: أحفظ سمعي وبصري، وأملك علي لساني، ولا أقول إلا خيراً، وعصمها الله من أن تقول أي قالة سوء في عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهكذا العاقل، فنقبل منك أن تنازع إماماً مجاوراً لمسجد لك يقع منك أنك لا تحب الصلاة وراءه، وتتثاقل ويقع في نفسك شيء إذا سمعت الناس يمدحونه فلا بأس في ذلك، فالله يقول: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].
فالمهم ألا ينقلب هذا الأمر إلى شيء من قول أو فعل تضر به أخاك، فهنا يخرج الأمر عن إطاره الشرعي، ولا ينبغي لعاقل أن يصنعه.
نعود إلى بيوت أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن، فبينهن كان صلى الله عليه وسلم، وهذه الحجرات شهدت أموراً عظاماً، وأعظم ما شهدت هو تنزل الوحي، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، فهو صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل فيقول: (سبحان الله ماذا فتح الليلة من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)، فيقوم يصلي ويأمر أمهات المؤمنين أن يصلين,
وشهدت تلك الحجرات تنقل السبطين: الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا.
وشهدت تلك الحجرات قدوم الوفود، وقول بعض العرب: يا محمد اخرج إلينا فإن مدحنا زين، وذمنا شين، فأنزل الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4].
وشهدت تلك الحجرات قيام الليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفقده أم المؤمنين فتجده قد انتصبت قدماه يقول في سجوده أو ركوعه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك من لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
ولغوياً كلمة هيه: اسم فعل عند النحاة، فإذا بقي على البناء على الكسر ولم تنونه فأنت تطلب الاستزادة من نفس الحديث، وإن نونته قلت: هيهٍ فأنت تطلب الزيادة من أي حديث؛ لأن التنوين قرين التنكير، فأنت تطلب الزيادة من أي حديث، لكن إن قلت هيه من غير تنوين فإنك تطلب الزيادة من نفس الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها من غير تنوين ويريد الزيادة من نفس شعر أمية بن أبي الصلت .
يقول الشريد رضي الله عنه : فأسمعته مائة بيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: (أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، وقال: (وكاد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل، أي: مضمحل، فالعرب تطلق على الشيء المضمحل بأنه باطل.
قال شراح الحديث: وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال على كلمة لبيد بأنها أصدق كلمة؛ لأنها وافقت أصدق كلام، وأصدق الكلام هو كلام الله، والله يقول في القرآن: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26].
فهذه المقولة الشعرية للبيد قبل الإسلام وافقت قولاً قرآنياً وهو قول ربنا جل ذكره: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كل ما خلا الله باطل) هي أصدق كلمة قالها شاعر.
و لبيد : هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلقات، ومطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
وقد أدرك الإسلام وأسلم، وهو الوحيد من شعراء المعلقات الذين أدركوا الإسلام، فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وقد عمر طويلاً، وكان يقول:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وهنا مسألة وهي: أن الإنسان يحاول قدر الإمكان إذا مرت عليه أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بها، وأن يصنع ما استطاع أن يصنعه من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قدر لي عام 1409 أن كنت مع الشيخ محمد المختار الشنقيطي الفقيه الواعظ المدرس في الحرم النبوي الشيخ الجليل المعروف.
وفي تلك الفترة كنت طالباً في التعليم، وكنت في الدرس فمات أحد الطلاب فرثيته بأبيات، فلما كنت مع الشيخ وفقه الله ذكرت له الأبيات، وموضع الشاهد من القضية كلها: أنه كان كلما قلت له بيتاً كان الشيخ حفظه الله ووفقه يقول: هيه؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد والله إجلالي ومحبتي وإقبالي للشيخ وإن كنا نحبه من قبل، فوقتها منّ الله عليه بالتوفيق أن تذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشد شعراً قال هذه الكلمة.
والمقصود أيها المبارك: أن من أعظم ما تتقرب به إلى ربك: أن تحاول أن تتأسى بسيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، ولن تصل إلى مرادك من الله بطريق ولا بسبيل أقوم ولا أكمل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول وقوله الحق: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
وكان حسان رضي الله عنه وأرضاه من أعظم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
هذه هي من همزيته المشهورة رضي الله عنه وأرضاه.
ويقولون: إن أعظم ما قيل في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قول حسان :
وأجمل منك لم تر قط عين وأسمح منك لم تلد النساء
خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
كما مدحه عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير ، ثم تسابق الناس من شعراء المسلمين عبر التاريخ الإسلام في مدح رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقال شوقي رحمة الله تعالى عليه في همزيته الشهيرة:
خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء
فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء
وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء
فلو أن إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء
يا أيها المسرى بها شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء
تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدت سماء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء
واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء
وقال في البائية غفر الله له ورحمه:
سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا
أخا الدنيا ترى دنياك أفعى تبدل كل آونة إهاباً
فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا
فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر مثل باب الله بابا
أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا
وأحسن من هذا كله قول الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، سائلين الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر