إسلام ويب

كلام جميل وفعل قبيحللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مناقضة الفعل للقول من خصائص النفسية اليهودية، وقد حذرنا الله من سلوك طريقهم جملة وتفصيلاً، وخاطب المؤمنين بقوله: (لم تقولون ما لا تفعلون) وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجعله من علامات النفاق.
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    عنوان هذا الدرس: (كلام جميل وفعل قبيح) وهو تذييل وتعليق لبعض أهل العلم على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] وهذه الآية هي أول آية معنا في هذا الدرس.

    أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] لا زال الحديث مع بني إسرائيل وكان الدرس السابق بعنوان (أول لقاء مع بني إسرائيل) وهو تجريد لأعمالهم وكشف لمخططاتهم وما فعلوه؛ لعلنا أن نجتنب ما وقعوا فيه.

    وكما قيل:

    إياك أعني واسمعي يا جاره

    مصائب قوم عند قوم فوائد

    قال أهل العلم كـالرازي وغيره: الخطاب في هذه الآيات لبني إسرائيل ولنا؛ لأنهم انقرضوا أو بقي منهم أناس كفرة فبقي الخطاب لنا نحن الأمة الإسلامية، وهذا الخطاب بالخصوص للدعاة ولطلبة العلم وللعلماء وللآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، يقول الله لنا ولهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

    هنا مسائل أولها:

    الترهيب من أمر الناس بالبر ونسيان النفس

    يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44] البر: كل شيء جميل، والبر تزكية النفس، وطهارة الروح، وقد شمله القرآن في معان متعددة على هذه المعاني والمقاصد التي ذكرت، يقول الله لهم: ما لكم يا بني إسرائيل لا تستحون من الله، تأمرون الناس بالبر وأنتم لا تأتمرون، تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم.

    يقول أبو الأسود الدؤلي في مقطوعة له:

    يا أيها الرجل المعلم غيره     هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم

    تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا     كيما يصح به وأنت سقيم

    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

    يقول عليه الصلاة والسلام والحديث عند أحمد والطبراني ويقبل التحسين، وربما أصله في الصحيح لكن هذه هي الرواية التي اطلعت عليها: {مررت ليلة أسري بي بأناس تقرض شفاههم بالنار، قلت:من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم} تقرض شفاههم بالمقاريض وهم في النار والعياذ بالله؛ وخصت الشفاة؛ لأنهم طالما تكلموا ووعظوا ووجهوا الناس بها.

    ذكروا عن أحد الصالحين من الدعاة أن عبداً رقيقاً أتى إليه فقال: أريد أن تخطب الناس في العتق لعل سيدي أن يعتقني من الرق، فخطب الناس ودعاهم، وهكذا في كل جمعة فجاء العبد وقال: في كل جمعة الحث على العتق ولكن سيدي ما أعتقني، قال: انتظرني إذاً وقتاً من الزمن، قال: فأتى هذا الرجل الداعية فجمع أموالاً واشترى عبيداً وأعتقهم لوجه الله، ثم قام فوعظ الناس بالعتق، فلما خرج الناس أتى السيد إلى عبده فأعتقه، فسئل هذا السيد كيف أعتقته والعالم هذا يتكلم من زمن؟ قال: ما وقع كلامه في قلبي إلا هذه الجمعة، وهذا يدل على أن العمل إذا وافق القول، وقع موقعه.

    كان بنو إسرائيل -نعوذ بالله من الخذلان- في المجالس والدعوة كلامهم جميل، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وربما وصل ببعضهم ألا يصلي ويشرب المسكر ويزني ويقتل، ولكن إذا وقف أمام الناس وقف داعية، وقد شهد التاريخ نماذج من هذا، لكن بالخصوص بنو إسرائيل امتازوا بذلك حتى قال الله في عالمهم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].

    وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يلقى برجل في النار فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف؟ قال: بلى، قالوا: أما كنت تنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، قالوا: فما لك؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر فآتيه} وهذا هو معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

    ولذلك كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؛ لصدقه مع الله، ولإخلاصه، ولقربه من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    ولا يزال الداعية محاسباً نفسه حتى ينطبق قوله مع فعله، ونعوذ بالله من الخذلان، والحرمان، أن نأمر الناس بشيء ثم لا نأتيه.

    جاء رجل إلى ابن عباس -وهذه القصة عند ابن كثير - وقال له: أريد أن أعظ الناس، قال: [[ماذا فعلت بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أأحكمتها؟ قال: لا، قال فهل أحكمت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] أأحكمتها؟ قال: لا، قال: فهل أحكمت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن شعيب: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] أأحكمتها؟ قال: لا، قال: فاذهب، فأمر نفسك ثم أمر الناس]] ولكن عند أهل العلم أنه من قام بالفرائض واجتنب الكبائر فلا بأس أن يدعو الناس ولو إلى نوافل لا يقوم بها.

    قال الإمام أحمد: لو مكث الإنسان حتى لا يكون فيه عيب ولا نقص ولا ذنب، ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، لكن من وقع في بعض الصغائر وفوت بعض النوافل، فأما الكبائر فلابد للواعظ أن يمتنع عنها، والفرائض حتى يأتي بها ثم ينصح الناس.

    إنسان لا يصلي ثم يقوم يدعو الناس إلى الصلاة أليس بأكبر الفجار؟ بلى. إنسان ينادي بنزع الخمر والربا وهو خمار مرابٍ، كيف يقبل منه؟

    وقد وقع للعلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان مثل هذا الموقف وكان يعيش في المدينة المنورة وكان هناك رجل أحمق معتوه، مرفوع عنه القلم، كان يأتي عند المسجد النبوي ويقول: صلوا صلوا، فإذا مر الشيخ، والشيخ عليه جلالة وعليه ديانة وزهد وعبادة، يقول للشيخ: صلِّ صلِّ، وهو إذا دخل المسجد لا يصلي؛ لأنه معتوه مرفوع عنه القلم فلا يدخل، فكان كلما رأى الشيخ يقول قال له: يا شيخ صلِّ، قال: وأنت محتاج إلى قليل صلاة، وأنت لماذا لا تصلي؟ أنت تحتاج إلى قليل من الصلاة، قال: إن شاء الله آتيكم، وهذا كأن القلم رفع عنه.

    أما النوافل فإنه أحياناً لا يستطيع الإنسان أن يأتيها، إنسان لا يستطيع قيام الليل فقد يكون مشغولاً بالجهاد أو أنه عالم وعنده تدريس ومراجعة وتخريج، وقد يأخذ عليه وقتاً طويلاً فلا يستطيع أن يوتر إلا قبل أن ينام، فلا نقول له: لا تأمر الناس بقيام الليل.

    بل يأمرهم لأنهم سوف يكونون في ميزان حسناته إذا قاموا الليل، وقد يوجد إنسان داعية لكنه فقير، فله أن يأمر الناس بالصدقة، وإن كان لا يجد ما يتصدق به، لعله أن يجد من الأثرياء من يتصدق، وقس على هذه الأمور.

    إذاً: فلا بأس على الداعي أن يتحدث عن أمور من النوافل ولو لم يستطع لها،كصيام النافلة، وقيام الليل، والصدقة، عل الله أن يهدي: أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

    يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح إنما دخل النقص على بني إسرائيل، أنهم كان الرجل إذا لقي أخاه ينهاه ثم لا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه في آخر النهار، حتى قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

    أثر التطبيق في وقع كلام الواعظ على سامعيه

    وقف الحجاج بن يوسف الثقفي يوم الجمعة يقول: لا إله إلا الله كم من مستقيم يدعو الناس للتقوى ولا يتقي، ماذا أعددتم للقبر! لا إله إلا الله ما أضيقه!

    ولا إله إلا الله ما أظلمه!

    ولا إله إلا الله ما أوحشه!

    فالناس ما بكوا لأن الحجاج هو المتكلم، فهو الذي قتل مائة ألف وقتل العلماء، وأخاف الناس، فأخبر الحسن بهذه الموعظة فقال: سبحان الله! يلبس لباس الفساق، ويعظ وعظ الأخيار، ويضرب رقاب الناس ويقرأ القرآن على لخم وجذام، هذا ما كان له قبول.

    لكن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الزاهد.

    عليك سلام الله وقفاً فإنني      رأيت الكريم الحر ليس له عمر

    إذا شجرات العرف جذت أصولها      ففي أي غصن يوجد الشجر النضر

    عمر بن عبد العزيز يقف في الثامنة والثلاثين من عمره على المنبر في أول جمعة قامها بعد الخلافة، فيأتي وينظر إلى الأمة فيبكي ويجلس ثم يقوم يتكلم فلا يستطيع أن يتكلم، قال: يا أيها الناس بيعتكم في أعناقكم، الله حملني الشيخ الكبير والعجوز والأرملة والمسكين، ماذا أقول لربي يوم القيامة؟ ثم بكى.

    قال رجاء بن حيوة أحد الوزراء عنده، والله لقد نظرت إلى الجدران هل تبكي معنا أم لا، قال: ما بقي أحد، بكى الناس كلهم، فيرى هل تبكي الجدران؟ لأنه صادق وعلم الله صدقه، ولا بأس أن نقف معه قليلاً.

    لما تولى الخلافة أتى إلى عبده، وكلنا عبيد الله لكنه مولى أسمر دائماً يرابط الخلفاء، ومعه سيف طويل للطوارئ، وأي إنسان يعترض في الطريق، يضرب رأسه فإذا هو قسمين رأسه في جهة وجثته في جهة.

    كان مزاحم دائماً مع الخلفاء، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أخذه عمر بينه وبينه، قال: أحببتك لاثنتين، قال: ما هي؟ قال: رأيتك وقت الضحى ونحن في سفر لا يراك إلا الله خلوت بنفسك وراء الجبل فركعت ركعتين.

    انظروا إلى المواصفات عند الخليفة عمر بن عبد العزيز لم يقل: أنت من أسرة فلان وأنت تحمل مؤهلاً، قال له: خلوت وراء جبل وصليت ركعتين في مكان لا يراك فيه إلا الله.

    المسألة الثانية: رأيت مصحفك معك دائماً. من علامة الخير أن يكون الرجل مصحفه في جيبه يجلس خمس دقائق في مكتبه يفتح المصحف يتصل بالواحد الأحد، أتظن المنافق يحب القرآن؟! أتظن أن المنافق دائماً مصحفه معه؟! لا.

    بل والله إنه يوجد من يقرأ عشرات الجرائد من الصحف والإعلانات، وإعلانات شركات الإسمنت، ودرجة الحرارة، والصيدليات المناوبة، والضائعين والضائعات، ولكن لا يقرأ ولو صفحة في اليوم من القرآن، كيف ترجو له النجاة! كيف تريد له نوراً!

    ولذلك يقول: لأجل هاتين الاثنتين اخترتك وزيراً معي.

    يا مزاحم: إذا رأيتني عدلت عن الصراط المستقيم؛ فخذني بتلابيب ثوبي وقل لي: اتق الله يا عمر!

    ولما تولى الخلافة في أول يوم، بعد سليمان، قال للحاشية الأولى: أنتم معفيون لا أريدكم أبداً إلى يوم القيامة، سبحان الله يا عمر كنا مقربين من عبد الملك والوليد وسليمان! قال: هذا هو الأمر، قالوا: من يجلس معك؟ قال: يجلس معي فلان وفلان وفلان وعد سبعة واختار مطرف بن عبد الله بن الشخير، ورجاء بن حيوة المحدث الكبير، واشترط على هؤلاء السبعة العلماء ثلاثة شروط هي:

    الشرط الأول: ألا يُغْتَاب أحد من المسلمين أبداً.

    الشرط الثاني: ألا يمدح في المجلس.

    الشرط الثالث: ألا تذكر الدنيا في المجلس.

    ويبدأ المجلس بعد صلاة العشاء كأن بين أيديهم جنازة.

    عمر نوعٌ آخر من الناس، ولذلك هدى الله به الأمة ووجهها إلى المسار الصحيح، فكان إذا تكلم؛ كان لكلامه وقع في القلوب حتى يكاد يرجف بالقلوب.

    ضرورة مطابقة الفعل للقول

    أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] هنا مسائل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد أن لامهم.

    أولاً: أنتم تأمرون ولو لم تأمروا لكانت المسألة سهلة، تجد إنساناً فاسقاً يستحي على نفسه.

    قيل لأحد السلاطين وهو نور الدين محمود زنكي بطل من الأبطال كردي ليس عربي بعض الناس الآن يقول: ما يصلح إلا العربي! لكنه ولي من أولياء الله عز وجل، ترجم له ابن كثير يقول: سقى الله عظامه شآبيب الرضوان، كان مخلصاً لله، ذكروا عنه أنه سجد ذات مرة -من ضمن تضرعه وذلته لله وخشيته من عذاب الله ومقته لنفسه- يقول: اللهم اغفر لعبدك الكلب محمود -وهو يقصد نفسه-.

    قيل له: لماذا لا تعظ الناس؟ قال: أنا مثلي يعظ الناس! كم تساوي هذه الكلمة؟! ولذلك قد يأتي من الحمقى رجل إذا وعظته يقول: أتقول هذا الكلام لمثلي أما تستحي أن تعظني، أنا أحتاج إلى دعوة.

    حتى ذكروا أن الإمام أحمد قام أمام الناس فوصف الجنة والنار، فقال: يا أيها الناس! والله لا يضمن أحد لنفسه الجنة حتى أنا لا أضمن لي الجنة، أنت أنت يا إمام ماذا فعلت؟ هذه الكلمة كانت إداً.

    ذكر أهل السير في ترجمة عيسى عليه السلام وذكرها ابن كثير في مواطن: أن رجلاً من بني إسرائيل كان عابداً، فأخذ فاسقاً بيده فذهب به إلى بيت المقدس، فلما اقتربوا من بيت المقدس دخل العابد ووقف هذا الفاسق، قال: ادخل، قال: أنا مثلي يدخل بيت المقدس أألطخه بسيئاتي وبمعاصيّ! فأوحى الله إلى عيسى قل لذاك الفاسق: كلمته هذه عادلت سبعين سنة من عبادة هذا العابد.

    لكن لا يعني ذلك أن الإنسان يقول: ما سمعنا بمثل هذا الشيء السهل، إذاً: نسمع الغناء، ونفعل الزنا والربا والفواحش -نعوذ بالله- ونقول: نحن نلطخ المجتمع بمعاصينا وذنوبنا! لا والله إن هذا هو الفحش والبعد عن الله، لكن وصل هذا العبد إلى تلك المكانة بما وقر في قلبه من الذل لله تعالى.

    وفي الحديث الصحيح: {أن عابداً أتاه رجل مسرف كان يقترف المعاصي، فقال له العابد: اتق الله واستح منه، فقال: دعني أنا وربي لعل الله أن يرحمني، فلقيه فقال له: اتق الله، عد إليه ولا تعصيه، قال: دعني وربي لعل الله أن يرحمني، قال: والله لا يغفر الله لك! فقال الله عز وجل: من الذي يتألى عليَّ؟ من الذي حلف على الله؟ أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهذا المجرم -أو هذا الفاسق- وأحبطت عمل هذا العابد} فليستأنف العمل من الآن، أي: سجلاته شطب عليه في لحظة وذاك غفر له، ويبدأ ذاك من الصفر وهذا من الصفر، ذاك مقبول، وهذا مطرود بكلمة زهو وعجب على الله بها، ولذلك قالوا: أنين المذنبين خير من تسبيح المقربين، فهو مذنب ولكنه يئن إلى الله ويرجع إليه، أما مذنب يذنب ولا يزال في الفحش، ويقول: نحن مذنبون مقصرون فهذا من المخادعة أما إنسان كان له تاريخ أسود وعاد إلى الله فهذا من الأقربين إلى الله، ولذلك تجد ذلة المعصية معه دائماً تستصحبه، حتى يلقى الله وهو من أحسن الناس.

    قال سعيد بن جبير كما ذكر عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد: رب حسنة أدخلت صاحبها النار، ورب سيئة أدخلت صاحبها الجنة، قالوا: بماذا؟

    قال: عاص عمل سيئة فلا يزال يبكي منها ويندم عليها حتى دخل الجنة، ورجل عمل طاعة فلا يزال يدل بها ويتكبر ويفتخر حتى دخل النار.

    ولذلك عند الطبراني والبزار بسند فيه كلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن العالم الذي ينفع الناس ولا ينفع نفسه كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها} ولذلك ما هي الفائدة أن ينجو الناس وتهلك أنت؟

    وما الفائدة أن يستفيد الناس ولا تستفيد أنت؟

    قال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] قالوا: هذا ينطبق على طلبة العلم الذين يدرسون إلا أن يبلغوا هذا العلم الذي بين أيديهم.

    وطلبة العلم يؤتون من ثلاثة مداخل:

    المدخل الأول: الكتمان نعوذ بالله من الكتمان، فإنك قد تجد طالب علم يكتم ما عنده: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159] قد تجد عالماً يحفظ عشرين متناً، وقد تسمع من طلبة علم، قالوا: فلان يحفظ المتون كلها لكن في بيته، وحفظ القرآن والصحيحين والسنن والمعاجم والمسانيد، فإذا أتاه طلبة العلم يريدون معلومة منه، تشفعوا وتوسلوا، ودخلوا وخرجوا، وطرقوا الأبواب، وحاولوا أن يخرج فلا يخرج، فإذا أعطاهم وجهه مرة؛ أعطاهم الكلام كأنه يزنه في ميزان الذهب، وقته ضيق لا يستطيع أن يبذله، يقول: ليس عندي وقت، لماذا؟ قال: الوقت حرج، ولذلك ما فائدة العلم:

    يزيد بكثرة الإنفاق منه     وينقص إن به كف شددتا

    ولذلك أكثر ما منيت به الأمة الإسلامية اليوم يوم جلس بعض العلماء في الصوامع العادية، فتجد العالم يجلس في الصومعة ولا ينزل للناس، فيترك الشباب وحالهم إما يستقيمون أو يضلون أو يهتدون أو يمرقون وينظِّرون لأنفسهم، وأصبح الشباب هم المفتون والقادة والمنظرون، فلذلك أتى في المسيرة اعوجاج لأن العلماء ما قادوا هذه المسيرة، وهم الذين ينبغي أن يقودوها.

    المدخل الثاني: العجب والكبر على الناس؛ وقد يصاب بها بعض أهل العلم، نعوذ بالله من ذلك.

    المدخل الثالث: الحسد وهو لا يقع كثيراً نسأل الله العافية والسلامة.

    معنى (الكتاب) في قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ)

    أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أي كتاب: إنما لم يقل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى التوراة أو الإنجيل أو القرآن ليبقى الكلام عاماً لكل من يقرأ الكتاب، فما أحسن وما أعجب أسلوب القرآن!

    فقال: (الكتاب) ولم يقل (التوراة) لأنه لو قال (التوراة) لسكت أهل القرآن، ولو قال (القرآن) لسكت أهل التوراة، وهكذا أهل الإنجيل، لكن قال (الكتاب).

    كل من يقرأ القرآن، ومن يقرأ كتب السنة وغيرها من كتب العلم، فعليه أن يبلغ وأن يستحي على نفسه من ذلك الأمر، أن يقرأ الإنسان ثم لا يبلغه إلى الناس نعوذ بالله من الخذلان.

    سبب محاجة الله لليهود إلى عقولهم

    أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] لماذا لم يقل (أفلا تعلمون)؟! قالوا: إنما قال: (أفلا تعقلون) لأنهم انتهوا من مسألة العلم، فهم عندهم كتاب لكن ما استفادوا وما أفادوا بالعلم فردهم إلى العقل، قال: إذا ذهب علمكم فأين عقولكم؟!

    ومما يحكى في هذا أن أحد طلاب الصوفية مر به ابن تيمية وهو يقرأ -وهو لا يعرف يقرأ- يقول: فخر عليهم السقف من تحتهم، في سورة النحل، والسقف دائماً يكون فوق، والقرآن يقول: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِم ْ [النحل:26] قال ابن تيمية: سبحان الله لا عقل ولا علم، إذا لم يكن عندك علم تعرف أن السقف دائماً يكون من فوق، فيقولون في المثل: أعمى ويناقر، لا عقل ولا علم، فإن بعض الناس إذا ما كان عنده خشية في الدين، لكن تجد عنده حمية وغيرة، فمثلاً تجد بعض الفسقة يأنس لبعض الأمور، أي: لا يريد الفاحشة أن تنتشر، فمجتمعه فاسق بنفسه، لكن تجد فيه غيرة على المحارم، لا يقبل الدياثة في بيته فهو حازم، يغضب إن قيل له: يا فاسق! يغضب إذا جلس مع شلل السوء، يغضب إذا وجد أحد أولاده في المقاهي وأماكن الخسارة والدمار، ففطرته عريقة وعنده مروءة ونخوة.

    وبعضهم يجتمع له تركيب لا دين ولا مروءة ولا نخوة ولذلك يتردى ويصبح كالبهيمة والعياذ بالله، فهذا أمر لا بد أن يلاحظ في هذه الآية ولا بد أن تكون نصب العين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088464783

    عدد مرات الحفظ

    776886543