إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. صالح بن عواد المغامسي
  5. سلسلة أعلام القرآن
  6. سلسلة أعلام القرآن [فرعون، هامان، قارون، عرفات، المشعر الحرام]

سلسلة أعلام القرآن [فرعون، هامان، قارون، عرفات، المشعر الحرام]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل أعلاماً في القرآن الكريم، منها ما يكون لأشخاص ومنها ما يكون لأماكن ومنها ما يكون لأزمان. وفي ترجمة فرعون وهامان وقارون عبرة للمعتبرين وموعظة للذاكرين. وفي ترجمة عرفات والمشعر الحرام تشويقاً لأولي الألباب من المؤمنين إلى زيارة تلك الأماكن المباركة والتقرب إلى الله فيها.

    1.   

    ذكر فرعون وهامان وقارون في القرآن الكريم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد تحدثنا فيما سبق عن أربعة من أعلام القرآن الذين ذكرهم الله جل وعلا في كتابه العزيز، وسوف نتحدث إن شاء الله تعالى عن تراجم لخمسة أعلام ذكرهم الله تبارك وتعالى في كتابه، وهم ثلاثة في عصر واحد لأشخاص: فرعون وهامان وقارون ، وعلمين ندرسهما لمكانين مباركين هما: عرفات والمشعر الحرام، وهذه الخمس كلها وردت في القرآن، وقد سبق أن الأعلام تكون مكانية، وتكون زمانية، وتكون لأشخاص، وتكون لغير ذلك.

    قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:23-24].

    وقال جل ذكره: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [العنكبوت:39]، وقال في القصص: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص:76]، وقال تبارك وتعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8].

    التفصيل كالتالي:

    هؤلاء الثلاثة كلهم كذابون: فرعون وهامان وقارون ، لكن ينبغي أن تعلم أن فرعون وهامان من أهل مصر الأصليين، أما قارون فمن قوم موسى من بني إسرائيل، وهؤلاء الثلاثة أحداثهم لم تكن في مكان واحد؛ فرعون وهامان كانا في مصر، أما قضية قارون لم تكن في أرض مصر، كانت بعد خروج موسى من أرض مصر في أرض التيه، فقصة البقرة، وقصة الخضر، وقصة قارون ، كلها تمت بعد خروج موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مصر، أما فرعون وهامان فكانا زعيمين لأرض مصر، يجمعهما التكذيب بموسى، لكنهم يختلفون في النسب، ويختلفون في قرابتهم من موسى، ويختلفون في الحقبة الزمانية المخصصة التي وقعت فيها الأحداث.

    وقد مرت معنا كثيراً قضية موسى وهارون وهامان ، ونفصل فيها هنا كما فصلنا فيها سابقاً بالتأملات، ولكن نتكلم هنا من باب الترجمة فقط، ولنبدأ بما بدأ الله به.

    1.   

    فرعون

    فرعون: لقب على الأظهر لمن يحكم مصر في فترة من الفترات آنذاك، وهل اسمه فرعون الحقيقي أو هو لقب له؟ اختلف أهل العلم في ذلك، والمشهور أنه لقب، لكن هذا اللقب لم يرد له اسم يبينه في القرآن، ففي كل المواضع التي ذكر الله جل وعلا فيها خبر موسى مع فرعون سماه فرعون، ولهذا قال البعض: إن اسمه فرعون، قلنا: كلمة اللقب أقوى لكن لا يعرف له اسم. قال بعض العلماء: إنه اسمه أبو الوليد، أو مصعب بن الوليد، أو الوليد بن مصعب، لكن هذا بعيد جداً؛ لأن هذه أسماء عربية لا يمكن أن تطلق على فرعون وفرعون كلمة لا وزن لها في العربية بخلاف غيره كـهامان مثلاً.

    لماذا ندرس سيرة هذا الرجل؟ لأن الله أخبر أنه أشد أهل النار عذاباً، قال الله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فإذا كان هذا مآل أهله فكيف بمآله هو؟

    فرعون وصفة الكبر

    لنقف على أعظم الصفات التي تحلى بها فرعون حتى نبتعد عنها؛ لأن المؤمن يتحلى بطرائق الأخيار، ويأنف وينأى بنفسه عن طرائق الأشرار، والكبر من أعظم المهلكات، وهو نبتة في الصدر، وقد مر معنا أنه يقسم إلى ثلاثة أقسام:

    كبر على الله، وهذا الصانعون له قليل.

    وكبر على الرسل، وهذا الصانعون له أكثر من الأول.

    وكبر على الناس، وهذا قليل من يسلم منه.

    أما الكبر على الله: فهو عين الكفر، وهذا لم يوجد على مر الدهور إلا في قليل من الأفراد منهم النمرود صاحب إبراهيم: قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، ومنهم فرعون؛ لأن فرعون تاريخياً بعد النمرود ، ففرعون قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال لأهل مصر: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهو قمة الكبر على الله تبارك وتعالى، ولهذا كان جبريل -كما مر معنا في درس التأملات- حانق عليه؛ لأن فرعون نازع الله في كبريائه فلما أدركه الغرق، وأخذ يرى الموت عياناً في البحر -كما جاء في الحديث الصحيح- كان جبريل يأخذ الطين ويضعه في فم فرعون حتى لا يتلفظ بكلمة يستدر بها رحمة الله جل وعلا فيرحمه الله، فكان من حنق جبريل عليه أنه لا يريد أن يرحمه الله لما سلف من أفعاله وأقواله والتي منها: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، ومنها قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ومنها قوله: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ [غافر:36] إلى غير ذلك مما تجرأ به على ذات الله جل وعلا.

    إذاً: أعظم ما يفهم من الدرس: أن هذه النبتة التي في القلب يحاول المسلم قدر الإمكان أن يجعلها مجرد نزعة في النفس لا يكون منها أي صنيع، وكونها موجودة في الإنسان هذا يعني أنها شيء مجبول عليه الناس لكن لا يكون لها أي أثر.

    الحالة الثانية: الكبر على الرسل، وقلنا هذا كثير في الأمم.

    ثم الكبر على الناس، فقد يوجد في الناس من يتكبر بعضهم على بعض، إما لمال أو لجاه أو لنسب أو لسلطان أو ما إلى ذلك، ولهذا أمر الله جل وعلا نبيه بأن يخفض جناحه للمؤمنين عموماً، وأن يكون أنموذجاً في تواضعه فقال سبحانه: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37]، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، هذه أعظم ما اتصف به فرعون.

    الأمر الثاني: تكذيبه لما يعلم أنه حق، وهذا ناشئ عن كبره، ولهذا قال الله جل وعلا عنه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، فقد كان يعلم أن موسى على الحق بالآيات البينات البالغات التي أظهرها موسى له لكنه جحدها.

    فمن أعظم ما يظلم به المرء نفسه أن يرد الحق وهو يعلم أنه حق، فيرده كبراً.. يرده أنفة.. يرده استكباراً، لا يريد أن يخضع لأحد، ولا يريد أن يشعر أن زيداً أو عمراً من الناس أفضل منه فيلحق بركب فرعون، وإن كان لا يصل إلى درجة فرعون ولا يخرجه هذا من الملة، لكن يحرمه من خير كثير ويكون وباله بحسب ذلك الشيء الذي رده.

    لقد عامل الله فرعون بجنس المعصية التي تعالى بها، وذلك أنه قال لأهل مصر: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فنسب أنهار مصر إليه، وأنها في قبضته يصرفها كيف يشاء، فأغرقه الله في البحر الذي كان يدعي أنه ملك له.

    كان من سياسته التفريق بين الناس، قال الله جلا وعلا: وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص:4]، أي: فرقاً، يستضعف طائفة منهم ويستحي النساء، ويجعل مجموعة للخدمة، ومجموعه للرفعة، ومجموعه مقربة له. ففرق بين الناس على تمييز عنصري كان يتخذه، وجعل بني إسرائيل في أدنى المنازل، وسامهم سوء العذاب، فمنَّ الله على بني إسرائيل ببعثة موسى، ثم أهلك فرعون وآله ونجى موسى عليه السلام.

    هذا فرعون على وجه العموم.. اتخذ له وزيراً، والوزير آنذاك ليس كالوزير في هذا العصر، فالوزراء في هذا العصر يعطى كل ذي وجهة وزارة، وسابقاً كان الوزير هو المعاون أو المساعد للرئيس أو للملك أو للسلطان، فكان هامان يؤدي هذا الدور مع فرعون، ولهذا قال الله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا [القصص:8] فأضاف الجنود إلى فرعون وهامان ؛ لأنهما كانا يملكان القيادة، والإنسان سواء كان ذا سلطان أو غير ذي سلطان لابد له من أشخاص حوله يستشيرهم ويعينونه في الأمر، وهذه سنة لله، وقلما يوجد أحد لا يتخذ رأياً إلا لوحده، وليس معه أحد، خاصة ذوي المناصب والجاه، وذوي المشاغل الكبرى، وكلما كان وزير الإنسان ومن يرافقه ذا عقل وحلم ومحبة لله كانت قراراته أقرب إلى الهدى، والعكس بالعكس، فـهامان هذا كان وزيراً لفرعون يعينه على طغيانه وعلى جبروته، ولهذا قدح الله فيهما ونكل بهما سوياً.

    الوزير الصالح رجاء بن حيوة

    من الوزراء في التاريخ الإسلامي الذين عرفوا بالفضيلة رجاء بن حيوة ، ورجاء هذا كان وزيراً لـعبد الملك بن مروان ، ثم للوليد ، فكان مقرباً من عبد الملك ثم من الوليد ، ثم جاءت خلافة سليمان بن عبد الملك ، وسليمان لم يكتب له أن يعمر، فقد توفي بعد الأربعين بقليل.. جاء مكة، ثم ذهب إلى الطائف، ثم دخل يغتسل فلبس ثياباً حسنة فأعجبته نفسه وهو ينظر للمرآة فقال: كان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، ولم يقل في علي شيء لما بين بني أمية وبين علي ، وكان معاوية حليماً وكان عبد الملك سائساً وكان الوليد جباراً وأنا الملك الشاب، وبقدر الله التفت إلى جارية من جواريه وقال: ما ترين في؟ -فقد أعجبته نفسه لأنه أمير المؤمنين وهو في الأربعين- فقالت له قدراً: أنت نعم المتاع لولا أنك فانٍ -يعني: تموت- فاستشاط غضباً من كلامها، ومكث بعدها ثلاثة أو أربعة أيام ومات.

    الذي يعنينا أن وزيره كان رجاء بن حيوة ، وكان سليمان له أخوان: يزيد وهشام بالترتيب، وله ابن عم اسمه عمر بن عبد العزيز ، فكان رجاء يتمنى أن يلي الخلافة عمر لما يعرف فيه من فضل، ولا يريدها في يزيد ولا في هشام ولا يريدها من باب أولى في أبناء سليمان ، فلما شعر سليمان بدنو أجله قال لـرجاء : أكتب من بعدي كتاباً لابني فلان، قال: يا أمير المؤمنين ابنك هذا في الجهاد ولا ندري يعود أو لا يعود، وأخذ يلاطفه، قال: إذاً أكتب لابني أيوب ، قال: هذا صغير لا يتولى الملك، قال: إذاً لمن يا رجاء ؟ قال: اكتب لـعمر بن عبد العزيز ، قال: لن يرضى أبناء عبد الملك يعني: يزيد وهشام ، قال: يا أمير المؤمنين اجعلهما بعده، يعني: اكتب في الكتاب أن الخلافة لـعمر بن عبد العزيز ومن بعده لـيزيد وهشام فسيرضيان، فوافق سليمان بقدر الله وكتب الكتاب، وآلت الخلافة لـعمر بن عبد العزيز ، فكل ما صنعه عمر بن عبد العزيز سيجعل في ميزان رجاء بن حيوة الذي أشار على سليمان أن يوليه الخلافة.

    هذا استطراد يبين أهمية أن يكون مستشار الإنسان عاقلاً، لكن المستشار لا يشير على من يستشيره بأمور لا يمكن أن تتحقق، فالإنسان إذا أراد لقوله أن ينفذ ولمشورته أن تقع لابد أن تكون واقعية، فهذا رجاء ما قال لـسليمان : اجعلها في فلان من الصالحين، كخطيب جمعة أو إمام أو عالم؛ لأن الأمويين لن يرضوا بهذا، لكن جعلها فيهم من أبناء عمهم.

    هامان وزير السوء

    المقصود مما سبق أن هامان كان وزير سوء لفرعون فأهلكهما الله جل وعلا سوياً، وقد ناداه فرعون متهكماً يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا [غافر:36] أي: بناء عالياً، لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37] قال الله: وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:37]، وكم من طاغية جبار أو جاهل ضال يمشي في طريق يحسب أنه على هدى والله جل وعلا يزين له سوء عمله وهو من الضلالة بمكان بعيد، كصنيع أكثر الفجرة والكفرة في الشرق والغرب اليوم.

    أئمة يدعون إلى النار

    فرعون جعله الله جل وعلا هو وهامان أئمة في الشر، قال الله وعياذاً بالله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41]، وقال: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:42]، وفي هذا دليل على أن كلمة إمام لوحدها ليست مدحاً وليست ذماً، إنما تكون بحسب القرائن؛ لأن الله قال عن فرعون وآله: إنهم أئمة يدعون إلى النار، وهناك أئمة يدعون إلى الخير، ومنه قول الله جل وعلا: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فقرينة المتقين تدل على أنهم أئمة في الخير.

    موضع الشاهد: أنه كما يوجد أئمة يدعون عياذاً بالله إلى الفجور كما هو في عصرنا يوجد أئمة يدعون إلى الخير، وكما جعل الله بعض الناس مفاتيح لكل خير جعل الله جل وعلا بعض الناس مفاتيح لكل شر أعاذنا الله وإياكم من ذلك، هذا الذي يعنينا في قضية فرعون وهامان على وجه الإجمال.

    1.   

    ترجمة قارون

    قارون اسم بالعبرانية محول للعربية واسمه قورح ، قال الله: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص:76] أي: من بني إسرائيل، وأكثر المفسرين على أنه ابن عم لموسى.

    وقد يقال: لماذا ساق الله خبر قارون في كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم؟

    والجواب: هو أن الأحداث هي الأحداث ولكن الأزمنة تختلف، فالنبي عليه الصلاة والسلام واجهه أعمامه وبعض قرابته من قريش، وكانوا يعاندونه في الدعوة، مثل أبي لهب وأبي سفيان بن الحارث وغيرهم من صناديد قريش من ذوي الأموال والجاه، فالله جل وعلا يعزي نبيه ويقول له: كما ووجهت أنت بـأبي لهب وغيره فإن أخاك موسى ووجه بـقارون فصبر، وهذا فيه تعزية له.

    سبب بغي قارون

    قال الله تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، والعصبة: الفئام من الرجال من العشرة إلى الخمسة عشر، ولم يكن آنذاك أوراق مالية ورقية، وإنما كانت تحمل بدرات من الذهب والفضة، فكان له كنوز يحملها عشرون أو ثلاثون بغلاً، وينوء بحمل مفاتيحها العصبة من الرجال، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:76-77].

    والمعنى: ما رزقك الله إياه من فضل اجعله سبباً لأن تنال به رضوان الله، فكل شيء أعطاك الله إياه من فضل فسخره في مرضات الله، ألا ترى الفتى أحياناً يرزق حسن صوت فهذا يسخره في المحاريب ويصلي بالناس إماماً ويؤثر في خلق الله، وهذا يسخره في الغناء والمجون فيضل الله جل وعلا به أقواماً، والاثنان قد اجتمعا في فضل واحد أعطاهما الله إياه وهو حسن الصوت، إلا أن الأول ابتغى به الله والدار الآخرة، والثاني لم يراع في الله جل وعلا حقاً في تلك النعمة، فقال الله جل وعلا هنا: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].

    بعض العلماء يقول وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّّّّّّّّّّّّنْيَا أي: لا تنس قيمة الكفن وهو الذي يستحق أن تبقيه، أما غير ذلك لا يهم، وفي هذا القول بعض المبالغة، لكنه يقال للعظة والذكرى، لكن لا تنس نصيبك من الدنيا: أي: لا تصل إلى مرحلة تحتاج فيها الناس.

    جواب قارون على من نصحه من قومه

    قال تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77]، الذي قال هذا الكلام علماء ووعاظ من بني إسرائيل يعظون قارون وهو مع موسى في أرض التيه، فاستكبر ورد كل المواعظ، قال الله جل وعلا أنه أجابهم بقوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، وقد قالوا إنه كان عليماً بالتوراة.

    فكلمة: على علم تحتمل معنيين:

    إما على علم بالطرائق التي تكتسب بها الأموال، وهذا قوي.

    والقول الآخر: أي على علم بالشرع، أي: أنا أفهم منكم فيما تنصحوني به.

    كمن تأتيه لتنصحه لشيء حرام ارتكبه فيقول: أعرف أنه حرام، فهذا الجواب هو جواب قارون من قبل حيث قال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] والمسألة تحتمل جوابين.

    قال الله جل وعلا: أَوَلَمْ يَعْلَمْ [القصص:78]، وهذا يؤيد القول الثاني: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78]، قال الله بعدها: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78] وقد جاء في آيات أخر أنهم يسألون.

    وقلنا إن الجمع بينهما أن يقال: إنهم يسألون سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام واستخبار؛ لأن الله جل وعلا مطلع عالم بما صنعوا لا تخفى عليه من عباده خافيه.

    بعد ذلك أعجبته نفسه لما رأى أنه قد انتصر على هؤلاء الذين وعظوه، والإنسان أحياناً إذا تخلص ممن يعظه يزداد رتبة في الشر فيجنح إلى عمل أعظم، فلما رأى أنه أقنع الذين وعظوه أراد أن يقنع نفسه أنه على الحق فأمر خدمه وحشمه أن يخرجوا معه، قال الله: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ [القصص:79].

    أقسام الناس تجاه زينة قارون

    كان ذلك وهم، هم في أرض التيه ضائعين، لكنه أراد أن يبين قدرته، قال الله عنه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79] يعني: في أبهته وكمال ما آتاه الله، فرآه الناس فانقسم الناس فيه إلى فريقين:

    أهل علم يعرفون الله والدار الآخرة.

    والفريق الثاني -وهو شأن أكثر الناس-: تعلقوا بالدنيا لما رأوا نموذجاً لها، قال الله جل وعلا: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] أي: إنه محظوظ وذو نصيب عظيم ناله بما رأوا فيه، وهذا يحدث لنا جميعاً، فعندما يرى الإنسان من هو أكثر منه مالاً أو ولداً أو جاهاً أو منصباً أو يركب سيارة أفضل من سيارته أو غير ذلك فيقع في نفسه أن يكون مثل ذلك.

    والذي يردع هذه النفس أن تتذكر أن النعم والفضل بيد الله، وأن الله لم يجعل الدنيا نعيماً لأحد، ولا يعني أن من لم ينعم الله عليه أن الله غاضب عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب).

    قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [القصص:80]، كلمة: العلم نور قد تكون كلمة مبتذله وكل الناس تقولها، لكن لا يمكن الزيادة عليها، فهؤلاء القوم العلم الذي في صدورهم جعل عليهم نوراً فقالوا كما قال الله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80] أي: هذا الذي تبتغونه خير منه ثواب الله، وثواب الله لا يدرك إلا بالإيمان والعمل الصالح، وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80] أي: هذه المراتب العالية والمنازل الرفيعة والدرجات التي أعدها الله لخيار عباده من أعظم الطرق للوصول إليها: الصبر.

    والصبر ينقسم إلى قسمين: صبر لله وصبر لغير الله.

    أما الثاني: فإن الإنسان إذا صبر لغير الله لابد أن ييئس؛ لأنه لا يوجد أحد قادر على أن يعطيك حتى يرضيك، ولذلك يدب إليك اليأس، فإذا دب إليك اليأس فررت من الشيء الذي أنت صابر من أجله.

    الحطيئة شاعر جاور أقواماً يريد نوالهم وعطاءهم، فلما تأخروا عليه جاءه أبناء عمومة للأولين وطلبوه أن يرتحل إليهم؛ لأنه شاعر يريدون أن يشتروا لسانه، وكان كل مرة يتريث ويقول: لما بعد، فلما لم يجد خيراً عند هؤلاء ارتحل، وعندما ارتحل أصبح الأولون يلومون الآخرين على أنهم أخذوه، وصار بينهم شجار فقال الحطيئة قصيدة طويلة منها:

    لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ولم أر لجراحي منكم آسي

    آسي يعني: طبيب.

    أزمعت يأسا مبيناً من نوالكم ولن ترى طارداً للحر كاليأس

    الحر لا يطرده شيء مثل اليأس، فاليأس يجعلك ترتحل من أي أحد تقف بين يديه طلب علم أو طلب مال أو طلب أي شيء، فمن صبر لغير الله لابد أن يدب إليه اليأس؛ لأنهم مخلوقون لابد أن يظهر عليهم الضعف.

    الصبر الثاني: صبر لله، فمن صبر لله فلن يدب إليه يأس؛ لأن الذي عند الله أمر مضمون، وأعظم مما في أيدي الخلق، بل لا مقارنه بينهما أصلاً، ولهذا قال الله لنبيه في أول الدعوة وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7]، فإن صبرت من أجلنا ستعان على الدعوة وإذا أعنت عليها لن يدب إليك اليأس، ولهذا قال المكلوم يعقوب عليه السلام: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].

    من ازداد علماً بالله لا يمكن أن يدب إليه اليأس مثقال ذرة، فإذا ضعف العلم بالله تبارك وتعالى يمكن أن يصل بعض اليأس إلى القلوب، جعلنا الله وإياكم ممن لا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه.

    عاقبة قارون وأثرها على قوم موسى

    قال الملأ من أهل العلم: وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، الآن كلا الفرقين قال قولته فبقي الفريقان ينتظران حكم أحكم الحاكمين، قال الله جل وعلا: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص:81] أي: خسفنا به، واليوم لا يوجد زلزال أمتار مربعه، وإنما تعم المدن والقرى والهجر والمحافظات، لكن هذه معجزة لموسى وتكرمة لأهل العلم ونكالاً بـقارون ، فجعل الله الزلزال على قدر بيت قارون قال الله: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]، أما الدور المجاورة فلم يصلها شيء، وهذا لا يقدر عليه إلا الله.

    قال الله: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81]، فإن لم ينصره الله لن ينصره أحد ولو حاول أحد نصرته لباء بالفشل.

    الآن كشف الغطاء وظهر الجواب الإلهي والفصل الرباني فتغيرت الخطاب صار أهل الدنيا كأهل العلم.

    إن أهل العلم عرفوا القضية من بدايتها، أما أهل الدنيا فاحتاجوا إلى قرينة حتى يعرفوا فتأخر علمهم قال الله جل وعلا: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:81-82]، ليس أمس المباشر وإنما قبل بزمن، فقد كانت هناك فتره زمنيه حتى خسف به، فلهذا قال الله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:81-82].

    فوائد حول قول الله (ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء...)

    قوله تعالى: وَيْكَأَنَّ [القصص:82] الأظهر أنها معنى للتعجب.

    وقد اختلف النحويون في أصلها، فقال بعضهم: إن أصلها مكون من ثلاثة من: وي، وكاف الخطاب، و(أن) المصدرية أخت (إن).

    وقال بعضهم: إنها مكونه من أربع من: وي، وكاف الخطاب، والفعل أعلم، وأن المصدرية أخت إن المكسورة الهمزة، ممن قال بالثاني ثعلب والكسائي وأضرابهما من أئمة أهل الكوفة، وممن قال بالأول: الأخفش وقطرب .

    ثمر على طالب العلم ثلاثة: الأخفش الكبير والأخفش الأوسط والأخفش الصغير . الأخفش الكبير أستاذ سيبويه ، وإذا أطلق الأخفش يراد به تلميذ سيبويه . وقد مر معنا أن سيبويه تناظر مع الكسائي وخرج مغضباً من بغداد إلى الأهواز في إيران الآن ومر على تلميذه الأخفش واسمه سعيد بن مسعده وأخبره بالقصة، والذي يظهر أن الأخفش تلميذ بار بـسيبويه فغضب وحنق على أن شيخه غلب، فخرج إلى بغداد يريد أن ينتقم من الكسائي لكن:

    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان

    صلى الفجر في المسجد الذي يصلي فيه الكسائي ، والكسائي إمام في اللغة وفي القرآن وفي القراءات فلما فرغت الصلاة أتى وهو مشحون، وكان الكسائي معظّم أمام طلابه مثل الفراء وغيره، فأخذ الأخفش يغلظ له في الأسئلة ويرد عليه ويجادله حتى هم طلاب الكسائي أن يضربوه، لكن الكسائي كان عاقلاً، ففهم من هذا وقال: إن لم يخب ظني فأنت الأخفش : سعيد بن مسعده قال: نعم، فقام الكسائي من محرابه وأقبل عليه وعانقه وضمه وأخذ يرحب به: أهلاً بطالب العلم أهلاً بالشيخ.. أهلاً بأهل الفضل، وأخذ يلاطفه ويكرمه، وكان الكسائي ذا جاه، وهكذا حتى استحالت الوحشة إلى محبة وجعله معلماً لأولاده.

    وعند الخلاف بين البصريين والكوفيون يكون الأخفش في بعض المسائل مع الكوفيين؛ لأن الكسائي إمام أهل الكوفة فيميل معه من باب ما وجده من ملاطفة، فأكثر أهل البصرة -في آرائه- موافقاً لأهل الكوفة هو الأخفش للصنيع الذي صنعه معه الكسائي .

    وفي هذا تعليم لنا جميعاً كيف أن الإنسان يحول خصومه إلى أهل محبة.

    الثاني: قطرب ، وقطرب أصلاً: دويبه تكد في النهار كثيراً، وتعرفها العرب.

    كان سيبويه رحمه الله يخرج في السحر قبل الأذان لصلاة الفجر، وكلما خرج يجد محمد بن المستنير عند الباب، وكان سيبويه في الثلاثين من عمره ومع هذا يطلب على يديه النحو، فكان محمد بن المستنير يخرج يسهر الليل كله ينتظر متى يخرج سيبويه يستفيد منه، ويسأله من البيت إلى المسجد، يفعل ذلك كل يوم، فقال سيبويه له: إنما أنت قطرب ليل يعني: القطرب في النهار، لكن أنت قطرب ليل، فلزق به الاسم، فأضاع الناس اسمه ولا يعرف بأنه أبو الحسن محمد بن المستنير ، وسمي قطرب .

    المهم أنه أخذ علمه عن سيبويه ، وقطرب والأخفش هما اللذان قالا: إن (وَيْكَأَنَّ) مركبة من ثلاثة، هذه فوائد حول قول الله جل وعلا: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82].

    يَبْسُطُ يعني: يعطي، وَيَقْدِرُ يعني: يضيق، قال الله تبارك وتعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:15-16] يعني: ضيق، فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16] لكن هذا جنس الإنسان أما المؤمن فإنه يرضى.

    فائدة: إذا ضيق عليك في الرزق فقل: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون.

    والدليل على ذلك أن الله قال في حق المنافقين: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة:59]، والرسول الآن قد مات فنقول: حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59].

    وهذا تعليم من الله لعباده وأوليائه، جعلنا الله منهم.

    قال الله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وهذه مرت معنا وفصلنا فيها كثيراً.

    هذا ما يتعلق بالأعلام الثلاثة فرعون وهامان وقارون .

    1.   

    عرفات

    عرفات والمشعر الحرام ذكرهما الله جل وعلا في آية واحدة قال ربنا: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

    وعلى وجه التفصيل:

    هما مكانان مباركان متجاوران لا يفصل بينهما شيء إلا أن الفرق بينهما: أن عرفات من الحل والمشعر الحرام من الحرم، ولهذا قال الله: الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ولم يقل عرفات الحرام، ويترتب على هذا أن أهل مكة أو من كان في مكة ويريد العمرة يحرم من الحل من خارج مكة، فلو أحرم من عرفات صح، ولو أحرم من مزدلفة لم يصح، ولو أحرم من أي مكان في عرفات أو غيرها من الحل جاز، لكن إن أحرم من مزدلفة لا يصح؛ لأن مزدلفة من الحرم هذا الفرق الأول.

    الفرق الثاني: الوقوف بعرفة ركن بإجماع العلماء، أما المبيت في مزدلفة فمختلف فيه، والأشهر أنه واجب عند جماهير العلماء.

    عرفة كل ليلة تنسب لصبيحتها إلا عشية عرفة تنسب ليومها فليلة العيد لا تسمى ليلة عيد، بل تسمى عشية عرفة؛ لأن الوقوف بعرفة يبدأ من زوال الشمس إلى طلوع فجر يوم العيد، فلو أن فجر يوم العيد الأضحى في عامنا هذا مثلاً يؤذن الساعة الخامسة وثلاثين دقيقة فمر إنسان على عرفة محرماً يريد الحج الساعة الخامسة وتسع وعشرين دقيقة فقد أدرك الحج؛ (لأن عروة بن مضرس من حائل قدم على بغلته وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة قال: يا نبي الله أتيتك من جبلي طي -وجبلي طي هما أجا وسلمى في حائل- أجهدت نفسي وأكللت راحلتي، ما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى معنا صلاتنا هذه -يعني: صلاة الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى نسكه) فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بصحة الحج لكل من مر على عرفة ولو ساعة من نهار، وهذا لا خلاف فيه.

    قال مالك رحمه الله: إن الإنسان إذا نفر من عرفة قبل الغروب -بمعنى أنه وقف بعد الزوال لكنه ذهب إلى مزدلفة قبل الغروب- فلا حج له، لكن قال ابن عبد البر رحمه الله -وهو مالكي مشهور-: لم يوافق أحد من العلماء مالكاً في هذا فلا يعتد بهذا القول وإن قاله مالك والجمهور: على أن حجه صحيح لكن اختلفوا هل عليه دم أم لا؟ هذا ما سيأتي إن شاء الله في شرحنا لحديث جابر .

    هذا ما يتعلق بأحكام يوم عرفة.

    عرفات جاءت في القرآن بصيغة الجمع قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]، والتنوين في عرفات يسميه النحويون تنوين المقابلة، أي: مقابلة النون في جمع المذكر السالم، وجاءت في الحديث مفردة قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف).

    سبب تسمية عرفة بهذا الاسم

    بعض العلماء يقولون: من العرف، وهو الطيب، قال الله جل وعلا عن أهل جنته: عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6] ففي أحد أوجه التفسير يعني: طيبها لهم، وقالوا: سميت بعرفة؛ لأن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء أمنا عليه السلام أهبطت في جده فالتقيا في عرفات فتعارفا فسميت عرفة.

    وقلنا: الرأي الأول، وبعض العلماء يقول: لا يوجد دليل صريح صحيح على سبب تسميتها بعرفة.

    قال بعض العلماء كـابن الجوزي في تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، قال: إن القبضة التي قبضها الله جل وعلا من الأرض؛ ليخلق منها أبانا آدم كانت مخلوطة من عرفات، فقال: لهذا كل إنسان على الفطرة يجد في قلبه حنيناً إلى عرفات؛ لأن النفس تنزع إلى ما خلقت منه، والجسد يحن إلى الشيء الذي خلق منه، وهذا لا يوجد عليه دليل، لكن نقول: العقل يقبله ولا يوجد في الشرع ما يمنعه، لكن لا نستطيع أن نجزم به.

    أسماء مزدلفة

    مزدلفة لها ثلاثة أسماء: مزدلفة وهو الأشهر.

    وجمع لقوله صلى الله عليه وسلم: (ووقفت ههنا وجمع كلها موقف).

    وتسمى المشعر الحرام وهو تسمية القرآن، قال الله جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

    والمشعر الحرام على وجه الخصوص جبل كان يسمى قزح، وهو الذي بني عليه المسجد الموجود الآن في مزدلفة والمكتوب عليه المشعر الحرام، وهذا هو عين المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى صلاة الفجر في مزدلفة في أول وقتها حتى يتفرغ للقيام، ثم وقف مستقبلاً القبلة يدعو تحقيقاً للآية: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وهي سنة عظيمة تركها الكثير من الناس اليوم مع الازدحام، ومن كان معه نساء وذوات مرض وأشباه ذلك فلا بأس، لكن من حج مع شباب أو مع غير ذلك، فالأفضل بل يحسن أن يفرغ نفسه للوقوف في أي مكان من مزدلفة يستقبل القبلة ويذكر قول الله جل وعلا: فَاذْكُرُوا اللهَ عِند َالمْشْعَرِ الْحَرَامِ ويحرص على ذكر الله حتى يسفر الصبح جداً أي: قبل طلوع الشمس، ثم ينفر إلى منى.

    هذان كما بينا عرفات والمشعر الحرام.

    عرفات في الشعر العربي

    وردت عرفات في الشعر العربي، وممن وردت في شعره عرفات قصيده لـدعبل الخزاعي ، ودعبل هذا كان شيعياً يتشيع لآل البيت، وله تائية مشهورة جداً قالها في مدح آل البيت، وهي التي بدأها:

    ذكرت محل الربع من عرفات

    والتي فيها:

    ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات

    بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات

    أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات

    قصيدة طويلة أعطاه أحد آل البيت حلة لباس -يعني عباءة يلبسها- فلما دخل بغداد اقتتل الناس على الحلة التي يلبسها ثم مزقت ولم يبق له منها أي شيء افتتاناً بتلك العباءة؛ فالقوم منذ قديم الزمان العقل فيهم خفيف، والتقرب إلى الله يكون بما شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم. وآل البيت ظلموا وهذا لا ينكره عاقل.

    وقد كنت يوماً في الرياض وجلست مع الشيخ: محمد بن حسن آل الشيخ -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء وجده الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقال الشيخ في المجلس مقالة لطيفة في قضية علي ومعاوية : الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه الذي يقول بأنه وهابي كان له بنت اسمها فاطمة وله أبناء أسماؤهم علي والحسن والحسين يرد على من يتهموه؛ لأن الرجل غفر الله له ورحمه إنما كان إماماً مجدداً على هدي قويم وعلى سنة مستقيمة، ابنته فاطمة هذه كانت طالبة علم مثل أبيها فجلست تحدث النساء وسألوها عن علي ومعاوية فأجابت جواباً علمياً، والحضور من بادية عاميات حيث لا يوجد في تلك الأيام مدارس، إحدى النساء ذهبت إلى بيتها وسألها أبوها: ماذا قالت بنت الشيخ عن علي ومعاوية ؟ قالت: والله إن الحق مع علي ويشرهون على معاوية .

    وكلمة: يشرهون على معاوية معناها: يعاتبون، والمعاتبة تكون للحبيب، والشخص الذي تحبه تشره عليه أي: تعاتبه، أما الذي لا تتوقع منه خيراً ولا تحبه فلا تشره عليه ولا تعاتبه، فـفاطمة رحمة الله عليها شرحتها شرحاً علمياً، وفهم الناس أن معاوية وعلي كلاهما حبيب، وأن علياً الحق معه، وأن معاوية ارتكب بعض الأخطاء، لكنه صحابي جليل. هذا الذي قالته الابنة الفاضلة، وهذه المرأة العامية فهمتها فهماً صحيحاً، لكن لما ترجمتها ترجمتها بلغتها هي، ففهموا منها الناس أنه ليس هناك بغضاً لـمعاوية رضي الله عنه وأرضاه، وإنما بياناً للحق بطريقة معينة.

    المقصود أن عرفات ذكرها الشعراء في شعرهم وذكرها شوقي في قصيدة طويلة قال:

    إلى عرفات الله يا خير زائر

    المهم أنها مكان عظيم، ومجمع عرفات من أعظم مجامع الدنيا، وهو مظنة الإجابة، فمن قدر له أن يحج إلى البيت فلا يتردد.

    المقصود أن الحج عبادة عظيمة وعرفات ركن الحج الأعظم، والموقف فيها من أعظم مواقف الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على كثرة الدعاء فيها، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم غير صائم في يوم عرفة حتى يتمكن من عبادة الله، ووقف صلى الله عليه وسلم يدعو ويرفع يديه حتى غاب قرص الشمس تماماً، ثم أردف أسامه بن زيد وتوجه إلى مزدلفة وفي كل من عرفات ومزدلفة تجمع الصلاة، إلا أن الصلاة في عرفات تجمع جمع تقديم؛ ليتفرغ الناس للدعاء وتجمع في مزدلفة جمع تأخير؛ ليتفرغ الناس في النفرة، يعني: في الطريق، ثم بعد ذلك يستريح الناس وينامون حتى يستعدوا ليوم النحر، والذي سماه الله جل وعلا يوم الحج الأكبر.

    1.   

    الصفا والمروة

    منى لم يذكرها الله جل وعلا باسمها الصريح في القرآن، وإنما ذكر الصفا والمروة، وهما جبلان يبعد بينهما مسافة معروفة، وقفت عليهما من قبل أمنا هاجر قال الله جل وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، وسيأتي الحديث عنهما تفصيلاً في لقاء آخر.

    هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.

    سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768277357