وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن أعلام القرآن لقمان عليه السلام.
ذهب عكرمة من السلف فيما يروى عنه إلى أن لقمان كان نبياً.
والذي عليه أكثر العلماء أنه عبد صالح أحب الله فأحبه الله، وأعطاه الله جل وعلا الحكمة، والمشهور أنه عاش في زمن داود عليه السلام.
قال الله جل وعلا : وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12] وهذا قسم من الرب تبارك وتعالى أنه أعطى هذا العبد الصالح الحكمة، وهي الصواب في الأقوال والأعمال، ومعرفة حقائق الأمور.. هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن الحكمة.
والحكمة لها تعريفات عدة، وإنما تعرف بحسب قرائنها، فقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] تفسّر الحكمة هنا بأنها السنة والوحي الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا التفسير غير مطرد في كل معنى للحكمة، وإنما بحسب القرائن..
فـلقمان أعطاه الله جل وعلا الحكمة بنص القرآن، وجاء القرآن العظيم بسورة مكية كريمة سميت باسم هذا العبد الصالح؛ لأن الله جل وعلا ذكر قصته فيها، وقلنا إن أكثر العلماء على أنه غير نبي، وقال عكرمة والشعبي من السلف فيما ينقل عنهما: إنه نبي.
والتحرير العلمي للمسألة أن يقال: إن لقمان إحدى الشخصيات التي ذكرها القرآن واختلف الناس في نبوتها؛ وهذه الشخصيات هي: ذو القرنين، ولقمان، وحواء، ومريم، وتبع . فهذه أعلام ذكرها الله جل وعلا في كتابه بالخير؛ إلا أن العلماء اختلفوا في نبوتهم، وأكثر أهل العلم على التوقف، وقيل إن الراجح أنهم غير أنبياء.
قال السيوطي رحمه الله في منظومة له:
واختلفت في خضرٍ أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول
لقمان ذي القرنين حوى مريم والوقف في الجميع رأي المُعظم
معنى الكلام أن هذه الشخصيات اختلف الناس فيها هل هي أنبياء أو رسل أو أولياء؟ ثم قال السيوطي رحمه الله في عجز البيت الثاني: والوقف في الجميع رأي المُعظمِ.
أي الوقف والتوقف في الحكم هو رأي معظم العلماء، لكن هذا القول لا يسلّم للسيوطي؛ لأن التوقف حاصل في ذي القرنين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أدري أكان
الاعتقادات، وهذا في قوله: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13].
والأعمال في قوله: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [لقمان:17].
وأدب المعاملة في قوله: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان:18].
لقمان:19
والأدب مع النفس في قوله: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19] وقوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان:19] ، وقوله:إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] .
وحُفِظ عن لقمان أقوال في غير القرآن، فـلقمان شخصية حكيمة شهيرة؛ ولهذا خاطب الله القرشيين به لأنهم يعلمون به ويسمعون عنه، فهو شخصية حكيمة شهيرة معروفة لدى الأمم؛ ولهذا نزل القرآن بخبره وقصته، ومما حُفِظ عنه أنه قال:
ثمان حفظتها عن الأنبياء:
إذا كنت في الصلاة فاحفظ قلبك، وإن كنت في الطعام فاحفظ بطنك، وإذا كنت في بيت غيرك فاحفظ عينيك، وإذا كنت في الناس فاحفظ لسانك، واذكر اثنتين وانس اثنتين: اذكر الله، واذكر الموت -أي: لا تغفل عن ذكر الله ولا عن ذكر الموت- وانس إحسانك إلى الغير، وإساءة الغير إليك.
ونسيان الإساءة من الغير ونسيان الإحسان إليهم يندرج في باب المروءة.. والمروءة باب طويل جداً، وقل ما يؤلف أحد فيه، وقديماً ذكرت المروءة في بعض الكتب كعيون الأخبار لـابن قتيبة، وأشار إليها ابن عبد ربه في العقد الفريد، وقل ما أفردها أحد بكتاب، لكن أفردها في هذا العصر الشيخ مشهور بن حسن سلمان أحد تلامذة العلامة الألباني ، وهو من كبار المؤلفين في العصر الحاضر، وهو رجل ذو علم كثير، له كتاب اسمه المروءة مطبوع مشهور فاقتناؤه لطلبة العلم ينفع كثيراً، وللشيخ كذلك مؤلفات أخر، لكن هذا الذي يعنينا في مقامنا هذا.
هذا ما أوصى به لقمان في وصاياه التي نقلت في غير القرآن، كما أن من وصاياه التي نقلت في غير القرآن أنه أوصى ابنه فقال:
أي بني! إياك والتقنع -وهو ما يسميه العامة اليوم التلثم- فإنه مخوفة بالليل مذلة بالنهار، وفي بعض الروايات: ريبة في النهار.
وقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه رأى رجلاً متلثماً مقنعاً فقال له: أما علمت أن لقمان يقول: إن التقنع ريبة بالنهار مخوفة بالليل، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين، وذلك أن ما جعله يتقنع ويتلثم خوفه من مطالبة الدائنين له، وهذا أمر ظاهر في الحياة الاجتماعية بين الناس.
ومخافة الله مبناها على شكره تبارك وتعالى، وشكر الله جل وعلا قائم على قواعد منها: الخضوع له، والاعتراف له بالنعمة، ومحبته جل وعلا، والثناء عليه بها، وعدم استعمالها فيما يكره ويبغض تبارك وتعالى.
والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وعبادة غير الله من أعظم الظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه، وهذه الآية يدخلها العلماء فيما يسمى بتفسير القرآن بالقرآن؛ لأن الله قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
والصحابة لما نزلت الآية فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: وأينا لم يخلط إيمانه بظلم؟ قال: (ليس الذي إليه تذهبون -أي: ظلم الناس- أما سمعتم قول العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]).
فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم الذي في سورة الأنعام بالظلم الذي في سورة لقمان ، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، وهو أرقى درجات التفسير؛ والشيخ الشنقيطي رحمه الله سمى كتابه (أضاء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، ولهذا لم يفسِّر القرآن كاملاً؛ لأنه ليس كل آيات القرآن مفسرة بالقرآن، وهو قد التزم أن يفسر الآيات بالآيات من القرآن نفسه.
ولا حاجة هنا للحديث عن بر الوالدين فهذا معروف، لكن قول لقمان : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] هو موضع الشاهد.
فهناك أربعة أمور: بِر ومودة في آن واحد، وهناك مصاحبة، وهناك مداهنة.
المودة لا تجوز إلا مع المؤمن، وأرقى منها البر لمن له حق، لكن المودة مخلوطة بمحبة، ولا تجوز إلا مع مؤمن أو مؤمنة؛ فإذا كان الطرف الثاني كافراً لكن له حق كالأب أو الأم أو الأخت أو الخالة أو الجار فهذا التعامل معه يسمى مصاحبة؛ لأن الله قال: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15].
وقوله: عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان:15] هذا قيد أغلبي لا مفهوم له؛ لأنه لا يوجد شرك فيه علم، ومثله في القرآن قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117] فلا يوجد إله غير الله معه برهان، وإنما هذا قيد أغلبي لا مفهوم له.
المقصود من الآية أنه إذا كان الكافر له حق كالجار أو كالوالد أو كالوالدة، كمن أمه نصرانية أو يهودية، فهو يصاحبها في الدنيا بالمعروف، كحديث العهد بالإسلام أو من أسلم من عائلة كافرة فتعامله مع أبويه يسمى مصاحبة، ويتأكد هذا في حق الوالدين، ثم يقل تدريجياً فيمن له حق بعدهما، ولا يسمى بِرًّا ولا مودة؛ لأن البر والمودة يشترط فيهما المحبة، وإن كان البر جاء في تعبير القرآن فيما لا يشترط فيه المحبة، لكن إذا أطلق يراد به ما يشترط فيه المحبة.
أما المداهنة: فهي التنازل عن أصل شرعي كالتنازل عن أمر عقدي، وهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال، وهو الذي قال الله فيه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] وهو الممنوع شرعاً.
قال الله جل وعلا في هذه الآيات: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] هذا للرضيع، لما ذكر الله جل وعلا قضية الولادة ذكر أن فصال المولود في عامين، وقد فهم العلماء منها أن مدة الرضاعة أربعة وعشرون شهراً، وقد قال الله في آية أخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] فجمعوا بين الآيتين فاتضح أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأن أعلى الرضاعة سنتان: أربعة وعشرون شهراً.
ثم بين الأشياء التي تتعلق بأدب المعاملة، فقال: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18].
ثم ذكر أموراً تخصه فقال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19].
وهذه نقف عندها، وذلك أنه ينتشر في المجلات الإسلامية سؤال يُسأل به الطلاب في المراكز الصيفية وفي غيرها: ما الشيء الذي خلقه الله ثم أنكره؟ ثم يجعلون الجواب: صوت الحمار، وهذا غير صحيح؛ لأن معنى أن الله خلقه ثم أنكره أن الله يقول إنه لم يخلقه، وهذا محال لأن كل شيء مخلوق، والصواب أن يقال: ما الشيء الذي خلقه الله ووصفه بأنه منكر؟
وكلمة (إن أنكر الأصوات) ليست من المنكر الذي هو ضد المعروف، وإنما هو ضد الشيء المألوف، يعني: أنه مستوحش، مثال ذلك أن موسى عليه السلام قال للخضر: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74] أي غير مقبول، وقال الله جل وعلا على لسان ذي القرنين : فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا [الكهف:87] أي: تستوحش منه النفوس، لا أنه ضد المعروف، فالذي ضد المعروف هو الأمر الحرام غير الجائز، أما النكر فهو غير المألوف الذي تستوحشه النفوس ولا تألفه الطباع، هذا هو المراد من هذه الآية الكريمة.
هذا ما يتعلق بهذا العبد الصالح، ومن هنا تفهم أن أفضال الله جل وعلا ليست مقصورة على أحد، فليست وقفاً على أنبيائه ورسله، إنما هي فضل عام يعطيه الله جل وعلا من شاء متى شاء في كل عصر أو مصر.
أما النبوة فقد انتهت، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] وتبقى أفضال الله جل وعلا على العباد بعطاياه تبارك وتعالى العلمية والمالية وغير ذلك، وأفضال الله لا تعد ولا تحصى؛ لكن لا يوجد وحي يخبرنا ببعض من تفضل الله جل وعلا عليهم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه وادياً مباركاً، فوادي العقيق واد مبارك بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه، والمعنى أن الله جل وعلا يقدِّم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
فالمساجد التي من الله على الناس باصطفائها ثلاثة.
والمساجد تنسب لله جل وعلا تشريفاً، وتنسب لغير الله تعريفاً. فقد يسمى المسجد بمسجد السلام ليُعرَّف، ويفرَّق بالاسم يبنه وبين غيره من المساجد.
لكن كل المساجد يقال لها: بيوت الله، فتضاف إلى الله جل وعلا تشريفاً، وتضاف إلى غيره تعريفاً، فقول الله في كتابه (المسجد الأقصى) هذا تعريف بالوصف؛ لأن كلمة (الأقصى) وصف لكلمة المسجد، وكلاهما معرف بأل.
فالمسجد الأقصى أحد مساجد ثلاثة تشد إليها الرحال، بل بتعبير أوضح لا تشد الرحال إلا إليها: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي.
قال الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] رغم أنه عندما نزلت هذه الآيات وهي مكية لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، فهذا يشعر أن ثمة مسجداً سيكون بين مكة وبين المسجد الأقصى في بيت المقدس، وهو المسجد النبوي.
وبالإسراء به إلى المسجد الأقصى أخذ المجد من أطرافه الثلاثة: فولد في مكة وبعث في مكة ليرث إبراهيم، وصلى بالمسجد الأقصى إماماً ليرث جميع الأنبياء، وقد صلوا خلفه، وجاء في بعض الروايات أنه لما سلَّم رأى إخوانه من النبيين فقال لهم: (إن الله أمرني أن أسألكم: هل أرسلكم الله لتدعوا إلى أحد غيره؟ قالوا: إنما أرسلنا الله لندعو إليه)، قال الله: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45] وفي قراءة و يَعْبُدُون والمعنى واحد.
والمقصود: أنه صلى بهم إماماً ليرثهم في الأرض المقدسة، ثم خصه الله جل وعلا بهذه البلدة الطاهرة (المدينة النبوية)، فورث المجد من أطرافه الثلاثة صلوات الله وسلامه عليه.
إن بيت المقدس أرض تختصم فيها الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام.
وأريحا: هي البلدة التي أمر الله جل وعلا بني إسرائيل أن يدخلوها كقرية ويقولوا حطة، فحرفوا الكلم، وهي عند كثير من المؤرخين أقدم مدينة سكنت في العالم.
موسى عليه السلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر إلى بيت المقدس، لكنهم امتنعوا من محاربة الجبّارين ودخول أريحا فحكم الله عليهم بأن يبقوا في التيه أربعين عاماً، فمات هارون ومات موسى بعده وبنو إسرائيل في أرض التيه.
بعد ذلك دخلت في ولاية المسلمين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تكن أرض المقدس عندما دخلها عمر بيد اليهود إنما كانت بيد النصارى، وكانوا هم المسيطرين عليها والحاكمين لها.
دخلها عمر بعد أن اشترط البطريق الذي كان يفاوض أبا عبيدة ألا يدخلها أحد قبل عمر ، فخرج عمر على بعير له ومعه غلام له يتناوبان الطريق، كان عمر يركب حيناً ويركب غلامه حينا آخر حتى وصلوا إلى بيت المقدس، ووافقت النوبة بينهما أن يركب الغلام ولا يركب أمير المؤمنين، وكانا على أرض مخاضة -يعني: فيها طين- فنزل عمر وركب الغلام، وعمر يقود البعير وهو حامل نعليه حتى لا تتسخان بالطين، والنصارى على الشرفات والدور يرون أمير المؤمنين الذي تأتمر الجيوش -التي كانت تحاصر البلدة- بأمره وهو في المدينة، فلما قدم إليهم ظنوه سيأتي في موكب مهيب، فأتاهم ببعير له عليها غلامه، وهو يقود البعير ويرفع نعليه حتى لا تتسخان في الطين؛ فكانت هيبة عمر عند النصارى أعظم من هيبته لو جاءهم على آرائك أو جاءهم على مراكب غير ذلك.
هذا يفهم منه أن قول الله جل وعلا: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء:5] لا ينطبق على عمر ؛ لأن عمر دخلها سلماً، وفي بعض القصائد التي يقولها الإخوة الفلسطينيون يقولون:
في القدس قد نطق الحجر أنا لا أريد سوى عمر
رداً على الصلح، وهذا لا يرد على الصلح، بل يجعل المسألة أعظم تعقيداً؛ لأن عمر لم يدخلها حرباً.
وفهم التاريخ يعينك على التصرف في الأحداث، فقد احتلها الصليبيون في الحملة الصليبية الأولى عام (492) هجرية، ومكثوا فيها إلى عام (583هـ)، ودخلها صلاح الدين ليلة 27 رجب، وقد كان مشهوراً عند العلماء قديماً أن ليلة 27 رجب هي ليلة الإسراء والمعراج عند العلماء، فتأكد عند الناس بهذا الحدث أن ليلة 27 من شهر رجب هي ليلة الإسراء والمعراج، رغم أن هذا لم يثبت بسند صحيح فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن أحياناً تأتي أحداث تاريخية تؤكد أشياء موجودة في أذهان الناس.
دخلها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى فاتحاً محرراً لها من أيدي الصليبين، فالصليبيون الذين دخلوا بيت المقدس أذلوا المسلمين وأذلوا اليهود؛ لأن الصراع ما بين اليهودية والنصرانية صراع قديم، قال الله جل وعلا: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] ولئن توافقت مصالحهم في بعض العصور إلا أنها تبقى العداوة أزلية لا يمكن جمعها.
بعد ذلك حدثت أحداث تاريخية شهيرة ليس هذا موطنها.
الساسة الصهاينة قرءوا التاريخ جيداً -كسياسة ليس كدين- والله قال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران:112] ثم قيد فقال: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] فالحبل الذي مع الله أضاعوه بقتلهم الأنبياء وكفرهم، وبقي الحبل الذي مع الناس.
فالساسة اليهود قرءوا أن قوة بريطانيا إلى أفول رغم أنها كانت بلداً لا تغرب عن محمياته الشمس، فاتصلوا بالولايات المتحدة الأمريكية وأقاموا هناك أموالهم وسلطانهم حتى استطاعوا أن يصلوا إلى القدرة على التغيير في القرار الأمريكي، وجعلوا بريطانيا وراء ظهرهم رغم أن بريطانيا هي التي مكنت لهم؛ لكنهم نقلوا رحالهم إلى أمريكا -رغم أنهم كانوا منبوذين- حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه حالياً.
إن يوشع بن نون دخل القدس في 6 أيام، وفي عام 1948م دخلت القدس في حكم اليهود، وحرب (1967م) كان مدتها 6 أيام، وقد تعمد اليهود أن تكون الحرب 6 أيام، وهي في الإذاعات العربية يقال لها: نكسة الخامس من يونيو حزيران، لكن في الإعلام الإسرائيلي يقولون: حرب الأيام الستة ليذكروا الشعوب اليهودية في إسرائيل وفي غيرها أن دولة إسرائيل قائمة على إرث عقدي يهودي تذكيراً بما صنعه يوشع بن نون من قبل بأنه دخل الأرض المقدسة في ستة أيام.
وقد أغلقوا باب الحرب بعد أن دخلوا سيناء والجولان، واحتلوا الضفة الغربية وما يسمى الآن بقطاع غزة، ودخلت القدس ضمن الحظيرة اليهودية. هذا إحدى المصطلحات التي ينبغي التنبه لها عند سماع الأحداث.
وقعت حرب (1973م) وهي حرب العاشر من رمضان، وحصل فيها نوع من التقدم، لكن لم يظفر المسلمون فيها بدخول المسجد الأقصى.
إن الاحتلال اليهودي للمسجد الأقصى أمر غير محمود لكنه الخيط الذي يجمع المسلمين اليوم عرباً وعجماً، وكل من ينتسب للملة لا يمكن أن يختلف معك في أن أمنيته أن يصلي في المسجد الأقصى وقد حرر، وهذه نعمة من وجه آخر وإن كان احتلالهم له نقمة.
على هذا يفهم أن من يحتج بقضية المهدي المنتظر لا يقبل احتجاجه؛ لأنه لو قلنا للناس: إن المسجد الأقصى لن يحرر إلا على يد المهدي المنتظر لثبطنا عزائم الناس ولمات الجهاد في الأمة، ولما بقي هناك أحد يعمل لإصلاح المجتمع، ولكان الناس كلهم ينتظرون المهدي المنتظر.
فالذي أضر بالأمة هو أنهم ينتظرون الغيب المنشود وينسون الواقع المشهود، والغيب لا يعني أننا نترك ما نحن فيه، فالله جل وعلا أخبر الناس كلهم أنهم ميتون، وقال لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وهذا غيب، ولكن لا يعني أن تذهب إلى الموت، بل عش حياة طبيعيه كما أمر الله حتى يأتيك الموت.
فالمسجد الأقصى يفتح على يد المهدي أو على يد عيسى، أو على يد غيرهما، فهذا لا يخصنا فنحن مسئولون شرعاً عن هذا المسجد بأن نسلك الطرائق الشرعية، ونجمع ما بين الأسباب الكونية والأسباب الشرعية في الوصول إلى غاياتنا التي ننشدها، وإن قدر هذا على أيدي المسلمين المعاصرين اليوم كان خيراً كثيراً، وإن لم يقدر برئت الذمة ووقعت المعاذير، والأمر غيب ولا يقع إلا ما أراد الله وكتبه جل وعلا في الأزل.
وسوف نتحدث عن ذي القرنين من جانب القرآن لا من جانب الفرضيات المعاصرة، فنقول: ذو القرنين عبد صالح، وهو أحد من اختلف فيهم كما ذكر السيوطي وغيره.
قال الله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83] والسائل قريش بناء على إيعاز من اليهود.
قال الله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83] ومِن هذه تبعيضية، أي لن أقول لكم كل شيء عن ذي القرنين؛ لأن القرآن ما أنزل بهذا.
واسمه ذو القرنين ، وذو بمعنى صاحب، قال الله جل وعلا: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87] أي وصاحب الحوت، وهذا الاسم جعل بعض المؤرخين يقول: إنه من اليمن؛ لأنه اشتهر في ملوكهم التسمية بكلمة ذو كذا..، وقيل غير ذلك.
واختلف في السبب الذي سمي من أجله ذا القرنين .
فقيل: لأنه حكم المشرق والمغرب.
وقيل: لأنه حكم فارس والروم.
وقيل: كانت له ظفيرتان..
والقرآن سكت عن هذا، والبحث عنه نوع من التكلف، لكنه مضمار تجري فيه أقدام العلماء، والذي يعنينا في قضية ذي القرنين كمال عقليته.
وكمال عقلية هذا الإنسان تظهر في أمور عدة: من أهمها أنه يختلف تصرفه باختلاف من أمامه، فـذو القرنين مر في حربه وغزواته على أمم، هذه الأمم تتفاوت في عقلها وقدرتها وعلمها، فكان تعامله معها يختلف من أمة إلى أمة كل بحسب عقله، قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:86] فبعض المؤلفين نظر من هذا الباب إلى أن ذا القرنين وصل إلى مغرب الشمس.
وهذا غير لازم؛ لأن الله قال: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:86] فأسند الوجد إلى ذي القرنين ولم يسنده إلى الشمس، والمعنى أن كل إنسان يرى مغرب الشمس بحسب الحال التي هو فيها، فمن مكث في شاطئ البحر يرى الشمس تغيب في البحر، ومن مكث في صحراء نجد مثلاً يرى الشمس تغيب في الصحراء، ومن مكث في جبال الحجاز أو جبال تهامة يراها تغيب في الجبال.. فكل إنسان بحسب مكانه يرى مغيب الشمس، فقول الله جل وعلا: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:86] معناه أنه وصل إلى منطقه فيها عين حمئة يجد الشمس تغرب بعدها.
ويحتمل أنه وصل إلى مغرب الشمس لكن لا يلزم ذلك من الآية.
قال تعالى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86] وهناك مثل عند العامة يقولون: لا يجوع الذئب ولا تفنى الغنم، فإذا كان الطلاب كلهم يطمعون أن ينجحهم المعلم فهو غير ناجح، وإن كان الطلاب كلهم يائسون من أن ينجحهم فهو معلم غير ناجح، لكن المعلم الموفق يكون الطلاب منه على خوف ورجاء.
والرجل في بيته إذا كانت الزوجة لا تخاف منه على كل حال أو ترجوه على كل حال لم يصب في قضية سياسته لبيته، فهنا قال الله جل وعلا عن هذا الملك الموفق: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:86-88] فيظهر أن هذه الأمة التي وصل إليها ذو القرنين تحتاج إلى هذا النوع من السياسة في الحكم.
ثم قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [الكهف:90] ولم يذكر الله خبره معهم، قال: وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91].
ثم ذكر الله أقواماً فقال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً [الكهف:93] يعني ليس لهم عقول.. فلما كانوا كذلك لهم عقول لم يعذب ولم يكافئ؛ ودلالة أنهم لا يفهمون أنهم قالوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] وذلك أنهم يرون ملكاً عظيماً قد ساد الدنيا وتنقل في الأمصار وحوله جيوش ومعه أموال ووزراء، والله يقول: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84] ثم يأتي هؤلاء الضعفاء ويقولون له: إذا فصلت بيننا وبين يأجوج ومأجوج فسوف نعطيك أجراً، ولا يعقل أن يقبل ملك كهذا من هؤلاء الضعفاء أجراً، ولهذا قال الله: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93].
فأجابهم ذو القرنين : قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95] يعني ما أنا فيه خير، ولا أريد منكم أموالاً.
ولما كانوا ليس لهم عقول وظفهم في الخدمة؛ لأن القوة البدنية لا تحتاج إلى عقل، قال: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف:95] ولذلك فإن بعض القطاعات في بعض الدول يختارون نوعية من الحرس الذي يضرب فقط ولا يفهم ولا يستطيع الناس أن يفهموه، بل يكون مسيراً ينفذ الأوامر بلا تعقل.
وفي عهد بني أمية في أيام الصراع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: جاء عبد الملك لرجل فأعطاه أموالاً وقال له: اقتل ابن الزبير ، قال: إذا قتلنا ابن الزبير سوف تنفرد في الملك، وابن الزبير يموت شهيداً، وأنا لم أحصل على شيء.. لا ملك في الدنيا ولا شهادة للآخرة، بل ألقى الله وأنا قاتل نفس.
ولست بقاتل رجلاً يُصلي على سُلطان آخر من قريشِ
له سُلطانه وعليَّ إثمي معاذ الله من جهل وطيشِ
فـذو القرنين قال الله جل وعلا عنه: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، وهذا التمكين شيء من الله يعطيه من يشاء، وإذا أراد الله بعبد خيراً سخّر له خلقه، قال الله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] وإذا أراد الله بعبد سوءاً قتله بأقرب أنصاره إليه.
هذا الذي يمكن أن يستفاد من حديث ذي القرنين عموماً.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر