إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية [فصل في غزواته صلى الله عليه وسلم]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه خمساً وعشرين غزوة، وأعظم غزوة بدر الكبرى، حيث فرق الله بها بين الحق والباطل، وقد انهزم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد، وذلك بسبب معصية بعضهم، وقد عفا الله عنهم، ومن الغزوات العظيمة غزوة خيبر والأحزاب وفتح مكة، وفي دراسة غزوات النبي دروس كثيرة وعبر عظيمة وفوائد جمَّة.

    1.   

    فوائد مختصرة

    الحمد لله خالق الكون بما فيه، وجامع الناس في يوم لا ريب فيه.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأولهم وأرفعهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا ثالث الدروس العلمية التي نتفيأ من خلالها السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم عبر متن علمي هو الدرة المضيئة للإمام المقدسي رحمه الله تعالى.

    وقد سبق أن تحدثنا عن وفاته وأولاده صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام توفي عن ثلاثة وستين عاماً، قضى منها بعد بعثته ثلاثة وعشرين عاماً، ثلاثة عشر منها في مكة وعشر سنين في مدينته صلوات الله وسلامه عليه.

    ومن المسائل التي طرحناها أنه نقل نقلاً صحيحاً أنه وضع تحت جسده في قبرة قطيفة حمراء، وضعها شقران واسمه صالح مولاه صلوات الله وسلامه عليه، وقلنا: إن من العلماء من قال بكراهة هذا الأمر، فإن قيل: إن هذا اختاره الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، والله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، فالجواب: أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه.

    كما ذكرنا من المسائل: أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليه صلوات الله وسلامه عليه صلاة الميت أفذاذاً بمعنى: أفراداً ولم يؤمهم أحد، وقلنا: إن لأهل العلم أجوبة عن سبب هذا من أظهرها: ما أجاب به الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمة الله عليه، وهو أنه لعظيم قدره صلى الله عليه وسلم وتنافسهم على الصلاة عليه.

    وقيل: إنه من باب التعبد الذي لا يعلل، وهذا أبعد الأجوبة.

    وقيل: لكثرة الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، حيث إنهم إذا لم يصلوا عليه مرة واحدة فإن هذا يكثر الصلاة عليه.

    وذكرنا أولاده من البنين والبنات، وذكرنا أن كلمة الولد تطلق في اللغة على الذكر والأنثى، كما في قوله جل وعلا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] فجمع الأولاد ثم فصل جل وعلا فأدخل الذكر والأنثى في مسمى الأولاد.

    وقد بينا أنه صلى الله عليه وسلم له من البنين ثلاثة، ومن البنات أربع، وأن جميع أولاده توفوا قبله إلا فاطمة توفيت بعده بستة أشهر رضي الله عنها وأرضاها، وقد كان أخبرها يوم وفاته أنها أول أهله لحوقاً به.

    وذكرنا أن دفنه صلى الله عليه وسلم في الموضع الذي مات فيه أحد خصائص الأنبياء، ومن باب الفوائد ذكرنا ستة أشياء من خصائص الأنبياء، منها أنهم يدفنون حيث يموتون، وتنزل الوحي عليهم وهو أعظم خصائصهم، وأنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، وأنهم يخيرون عند الموت، ورعي الغنم، وأن الأرض لا تأكل أجسادهم.

    1.   

    غزوات النبي عليه الصلاة والسلام

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في غزواته: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه خمساً وعشرين غزوة، هذا هو المشهور، قاله محمد بن إسحاق وأبو معشر وموسى بن عقبة وغيرهم، وقيل: غزا سبعاً وعشرين، والبعوث والسرايا خمسون أو نحوها، ولم يقاتل إلا في تسع: بدر وأحد والخندق وبني قريظة والمصطلق وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، وقد قيل: إنه قاتل بوادي القرى وفي الغابة وبنو النضير ].

    ذكر المصنف رحمه الله تعالى غزواته صلى الله عليه وسلم، والفرق بين الغزوة والسرية: أن الغزوة يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، أما السرية أو البعث فهو ما يبعثه النبي عليه الصلاة والسلام ويجعل عليه قائداً من الصحابة دون أن يكون معهم.

    فالمعركة التي يحضرها صلوات الله وسلامه عليه هذه غزوة، والتي لا يحضرها وإنما يبعث بعثاً تسمى سرية أو بعثاً وكلاهما بمعنى متقارب، ولا يكون صلى الله عليه وسلم مشاركاً فيها.

    ومعلوم أن المصنف يذكر هذه الأمور وهي واضحة، فلا ينبغي لمن يتولى الشرح أن يكرر ما يقوله صاحب المتن؛ لأن هذا لا يسمى شرحاً، وإنما نذكر ما وراء هذا المتن فنقول:

    هذه الغزوات من أعظم الدلائل على جهاده بالسنان كما جاهد باللسان صلوات الله وسلامه عليه، فقد قاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، والعدد الذي ذكره المصنف عدد تقريبي قد يزيد قليلاً وقد ينقص قليلاً، وهي في جملتها تدل على ما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه من جهاد في سبيل إعلاء دين ربه تبارك وتعالى.

    والنبيون الذين قبله عليه الصلاة والسلام لم يكن الجهاد مشروعاً لديهم، وإنما شرع الجهاد، من موسى فما بعد، أما قبل موسى فلم يكن الجهاد مشروعاً، وإنما كان النبي يدعو قومه فيختلفون فيه إلى فريقين، ويكون أكثرهم غير متبعين، وقليل منهم متبع للنبي، ثم إن الله يهلك من لم يتبع ذلك النبي فينتهون، كما أهلك الله ثمود، وأهلك الله عاداً، وأهلك الله قوم نوح، وأهلك كثيراً من الأمم دون أن يكون هناك جهاد بين النبي وأتباعه من المؤمنين مع أولئك الكفار، وإنما شرع الجهاد في شريعة موسى كما قال الله جل وعلا: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] .

    وشرع الجهاد في عهد الأنبياء من بني إسرائيل وعيسى بن مريم، ثم جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فشرع الجهاد بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.

    أعظم الغزوات

    رءوس الغزوات وأعظمهن وأصولهن سبع، وهن على الترتيب: بدر وأحد والأحزاب وتسمى بالخندق، وخيبر وفتح مكة وحنين وتبوك، وهذا على ترتيب وقوعها التاريخي.

    وهذه الغزوات ورد ذكرها في القرآن، ذكر الله بدراً في الأنفال، وذكر أحداً في آل عمران، وذكر حنيناً في التوبة، وذكر فتح خيبر في الحشر، فكل هذه السبع نص القرآن عليها أو أشار إليها.

    غزوة بدر الكبرى

    من الفوائد العلمية: أن غزوة بدر إذا أطلقت يراد بها: بدر الكبرى، وإلا فبدر على التحقيق ثلاث: بدر الصغرى وبدر الكبرى وبدر الموعد.

    فأما بدر الصغرى فقد كانت على رأس ثلاثة عشر شهراً من الهجرة، جاء رجل يقال له: كرز بن جابر الفهري فأغار على سرح المدينة فتبعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى واد يقال له: وادي سفوان، وهو قريب من بدر.

    فهذه عند بعض أهل السير تسمى بدر الصغرى.

    أما بدر الكبرى فغنية عن التعريف، وهي الموقعة المشهورة التي وقعت عند ماء بدر في شهر رمضان، والتي أسماها الله جل وعلا بيوم الفرقان.

    أما بدر الموعد وهي غير المشهورة، فهذه ذكرها ابن إسحاق فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم واعده أبو سفيان يوم أحد بحرب في العام القادم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر في العام القابل إتماماً للموعد، ولكن أبا سفيان خرج وفي بعض الطريق رجع محتجاً بأن ذلك العام عام جدب، فلم يقع فيها قتال، لكن نحن نذكرها من باب السرد التاريخي، فيتحرر من هذا: أن بدراً تطلق على ثلاث غزوات: بدر الصغرى وبدر الكبرى وبدر الموعد.

    هدي النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته

    هذه الغزوات كل منها كان يحمل حدثاً بعينه ينبئ عن عظيم قدره وعظيم جهاده وما الذي يقتدى به صلى الله عليه وسلم.

    فمثلاً: في يوم بدر قال عليه الصلاة والسلام: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين)، وكان يقصد بإحدى الطائفتين إما العير التي كانت مع أبي سفيان ، وإما النصر على قريش إذا حاربها، قال الله: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، فقد كان مطمع المسلمين في العير، ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قام ليلة بدر في العريش يدعو ويرفع يديه ويذكر الله ويثني عليه ويلح عليه في الدعاء حتى أشفق عليه أبو بكر مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه سينتصر، فإنه قال لأصحابه وهو الصادق المصدوق: (إن الله وعدني إحدى الطائفتين) وقلنا: إن إحدى الطائفتين إما العير وإما النصر، والعير فلتت ومضت، خرج بها أبو سفيان ونجت، فأصبح لا محالة أنه سينتصر، ومع أنه يعلم يقيناً أنه سينتصر إلا أنه وقف صلى الله عليه وسلم يدعو، فلماذا وقف يدعو؟! هذا أعظم ما دلت عليه غزوة بدر من فوائد، فقد وقف يدعو حتى يحقق كمال التوحيد لربه جل وعلا، ويظهر من نفسه كمال العبودية لربه جل وعلا، فأظهر صلى الله عليه وسلم في يوم بدر كمال العبودية لله والتضرع وسؤال الله، وهو يعلم عليه الصلاة والسلام يقيناً أنه منتصر؛ لأنه قال لأصحابه قبل أن يصل إلى العريش: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين).

    فهو متحقق من وعد الله له لكنه فعلها ليظهر عبوديته لربه جل وعلا، وهذا أحد أعظم أسباب علو شأنه على جميع الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

    وفي يوم أحد شج رأسه وكسرت رباعيته فقال: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!) فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، وكان الأمر كما أراد الله، فبعض من شهد أحداً مع أهل الإشراك أسلم بعد ذلك وكان مدافعاً عن الدين، فالقلوب بيد الله والإنسان لا ييأس من أحد وهو يدعوه، بل يدعو من حوله إلى دين الرب تبارك وتعالى.

    ومن الفوائد: تواضعه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة، فقد دخلها مطأطئاً رأسه وعلى رأسه المغفر تواضعاً لربه جل وعلا، والعظماء إذا سادوا وحققوا مرادهم يظهرون لله جل وعلا تواضعهم حتى يعلم من حولهم بلسان الحال فضلاً عن لسان المقال أنهم نالوا ما نالوا بما أعطاهم الله تبارك وتعالى إياه.

    غزوة وادي القرى والغابة وبني النضير

    ذكر المصنف في آخر هذا الفصل أنه قيل: إنه عليه الصلاة والسلام قاتل في غزوة وادي القرى والغابة وبني النضير.

    وادي القرى واد بين تيماء وخيبر، وخيبر أقرب إلى المدينة من تيماء، وهو ما بين خيبر وتيماء، وسمي بوادي القرى لكثرة القرى التي فيه، وهي معركة حصلت بعد غزوة خيبر، هذا ما يتعلق بوادي القرى.

    أما الغابة فهو مكان غير بعيد عن المدينة، جاء في سيرة ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إليها.

    أما بنو النضير فإنهم إحدى قبائل اليهود التي كانت تسكن المدينة، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة.

    1.   

    كتّابه ورسله عليه الصلاة والسلام

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في كتابه ورسله.

    كتب له صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعامر بن فهيرة ، وعبد الله بن الأرقم الزهري ، وأبي بن كعب ، وثابت بن قيس بن شماس ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وحنظلة بن الربيع الأسدي ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وكان معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك، وأخصهم به ].

    بعد أن ذكر المصنف رحمه الله بعضاً مما يشير إلى غزواته صلوات الله وسلامه عليه، أشار إلى من كان يكتب له عليه الصلاة والسلام، وهذا يسوقنا إلى مسألة مهمة وهي: أن الله جل وعلا بعث نبيه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب أربعين عاماً قبل النبوة، وهذا لحكمة أرادها الله حتى لا يأتي أحد ويقول: إن هذا النبي حصل على ما حصل عليه من قرآن لمعرفته بأخبار الأمم السابقة، وهذا أكد القرآن عليه كثيراً، قال الله جل وعلا: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] .

    وقال الله جل وعلا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] .

    وقال الله جل وعلا: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86] .

    فالنبي عليه الصلاة والسلام حفظه الله من أن يقرأ ويكتب قبل النبوة حتى لا يتسلط أحد عليه ويكون عذراً لأحد ممن يعترض على دينه بحجة أنه عليه الصلاة والسلام كان يجيد القراءة، قال الله عن أهل قريش في سورة الفرقان: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5] أي: طلب من غيره أن يكتبها له، اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5] أي: طلب من غيره أن يكتبها له، فرد الله جل وعلا عليهم ذلك كله كما هو ظاهر في القرآن.

    فلما كان الله قد حفظ نبيه من هذا جعل له كتبة، والشيء الذي لا يحسنه الإنسان يكله إلى غيره، وليس هذا بنقص فيه، بل هذا من مقومات كمال الأمر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو رأس الملة وإمام الأمة وهو يقود الناس، وقد شرع الله جل وعلا، واتخذ كتبة يعينونه على أمره عليه الصلاة والسلام فيكتبون الوحي الذي ينزل من السماء، ويكتبون كتبه التي يبعثها إلى غيرهم، ويكتبون بعض الأحكام كما في كتاب عمرو بن حزم.

    والكتابة قام بها ثلة من الصحابة؛ لأن العرب كانت في الغالب أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فالذين كانوا يكتبون من الصحابة قليلاً، منهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، كلهم كانوا كتبة، وكان هناك بعض الصحابة جمع المزيتين: كان خطيباً للنبي عليه الصلاة والسلام وكان كاتباً كما هو شأن ثابت بن قيس .

    وكان من هؤلاء الكتبة من هو متميز كما يوجد في الطلاب أو في الوزراء أو في المساندين لأي حاكم قوم مميزون، فكان زيد بن ثابت رضي الله عنه أميز الصحابة في الكتابة، وتعلم لغة اليهود، وهو الذي طلب منه الصديق رضي الله تعالى عنه والفاروق بعد ذلك أن يجمع القرآن.

    فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثلة من الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن العاقل يتخذ من أسباب العصر الذي يعيش فيه ما ينفعه في أموره، خاصة تلك التي تتعلق بشئون الدعوة.

    1.   

    مراسلة النجاشي ملك الحبشة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رسولًا إلى النجاشي واسمه أصحمة ، ومعناه عطية، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، وأسلم وحسن إسلامه، إلا أن إسلامه كان عند حضور جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه يوم مات، وروي: أنه كان لا يزال يرى النور على قبره ].

    هذه المرحلة تسمى طوراً جديداً في الدعوة إلى الله جل وعلا، وهذا الطور وقع بعد صلح الحديبية، كان القرشيون يمثلون الوثنية في جزيرة العرب، وكان اليهود يمثلون بطبيعة الحال اليهودية، وكانت القوى الثلاثة التي تحارب الإسلام ثلاثة: اليهود وقريش وغطفان.

    فلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في صلح الحديبية انكسرت شوكة الوثنيين فتفرغ صلى الله عليه وسلم للدعوة عموماً، والله يقول عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال: كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، يقول صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) فكان هذا كله يتطلب طوراً جديداً ومرحلة دعوية، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يبدأ بهذا الطور قديماً مع الحاجة إليه، لكن المسلم العاقل لا يقيم الإسلام في غيره حتى يقيمه في نفسه.

    فلما شكل صلى الله عليه وسلم وأقام دولة الإسلام وتخلص من خصومه القريبين تفرغ للدعوة إلى الله جل وعلا، والعاقل لا يستعدي الناس عليه في يوم واحد، ولا يكون جبهات متعددة تحاربه لأن هذا أدعى لأن يخسر ويفشل، لكن العاقل يؤمن بالمرحلية في حياته، ويؤمن بالواقع الذي يعيشه، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخاطب كسرى ولا قيصر ولا تبابعة اليمن ولا غيرهم حتى كسر شوكة قريش، كسر شوكتها بصلح الحديبية على أن يستمر الناس عشر سنين ليس بينهم حرب، فلما توقفت الحرب كان هذا هو الفتح العظيم الذي بشر الله به نبيه يوم انصرف من الحديبية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فكان ذلك سبباً في أن يتهيأ صلى الله عليه وسلم ليخاطب الآخرين غير جماعته وعشيرته الأقربين الذين أمر أن يبدأ بهم أولاً وهم قريش الذي هو منهم صلوات الله وسلامه عليه.

    وهو عليه الصلاة والسلام كما دعا إلى الله بالسنان كما مر معنا في غزواته دعا باللسان، واتخذ الأسباب المشروعة في الدعوة التي توافق عصره آنذاك، فلما أخبره الصحابة أن الملوك والسلاطين والأمراء لا يقبلون إلا كتاباً مختوماً لم يعاند وإنما اتخذ عليه الصلاة والسلام خاتماً من فضة، وجعل نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله كما في البخاري وغيره.

    1.   

    أدب الرسول مع ربه

    جعل النبي نقش خاتمه كلمة محمد أسفل وكلمة رسول في الوسط، وكلمة الله التي هي لفظ الجلالة في الأعلى، فأصبح يقرأ من الأدنى: محمد رسول الله، فحتى في نقش خاتمه تأدب عليه الصلاة والسلام مع ربه جل وعلا، ولا يوجد أحد تأدب مع ربه تبارك وتعالى كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام متأدباً مع ربه، وهذا من أسباب كثيرة أفاءها الله عليه جعلته أعظم النبيين وأكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

    ولما عرج به إلى سدرة المنتهى لم يلتفت يميناً ولا شمالاً ولم ينظر في أي شيء إلا وفق ما يريه الله، فما أراه الله رآه ولما لم يره الله لم تتحرك منه جارحة واحدة من غير أن يؤذن له، ولذلك زكى الله بصره في القرآن فقال الله في سورة النجم: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] أي: لم يتجاوز حدوده.

    وكان عليه الصلاة والسلام في كل حاله وآنه متأدباً مع ربه جل وعلا، وأنت إذا تريد الرفعة فالرفعة لها أسباب من أعظمها: الأدب مع الله جل وعلا، وما أورث أنبياء الله ورسله الناس شيئاً أعظم من أدبهم مع الله.

    قال الله عن خليله إبراهيم وهو يعرف ربه: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:75-80]، فلما ذكر المرض نسبه إلى نفسه قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]ولم يقل: وإذا أمرضني تأدباً مع ربه تبارك وتعالى، ثم قال: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:81] وكل ذلك من كمال أدبهم مع ربهم جل وعلا.

    ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يخطب في صلاة الجمعة فدخل رجل يشتكي جدب الديار وقلة الأمطار وقال: يا رسول الله! استسق الله لنا، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) فتكونت سحابة بأمر الله وأمطر الناس أسبوعاً، ثم في يوم الجمعة المقبلة دخل رجل هو أو غيره من نفس الباب فقال: يا رسول الله! وشكا كثرة السيول وأنها قطعت السبل، وفرقت الناس، وأضرت بالطرق، وقال: فادع الله أن يمسكها عنا، فلكمال أدبه قال في المرة الأولى: (اللهم أغثنا).

    وفي المرة الثانية لم يقل صلى الله عليه وسلم لربه: أمسك عنا رحمتك؛ لأنه يعلم أنها رحمة، بل قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر وجعل يشير بيديه، قال أنس : فو الله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها) صلوات الله وسلامه عليه.

    وهذا الأدب يغفل عنه كثير من الناس، وهو التأدب مع الله، وكما حظي به النبيون حظي به الأتقياء عبر التاريخ كله، قال الله عن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، ولما ذكروا الشر نسبوه إلى ما لم يسم فاعله كما يقول النحويون، قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] ولم ينسبوه إلى الله، مع أن الله خالق الخير وخالق الشر.

    وكذلك الخضر عليه السلام لما ذكر السفينة وعيبها قال كما أخبر الله عنه: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] أسند العيب إلى نفسه، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:79-81] .

    فلما ذكر الزكاة والرحمة نسبها إلى الرب، قال: فأراد ربك، ولم يقل: فأردت، ولما ذكر العيب نسبه إلى نفسه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وهذا كله مندرج ضمن أدب رسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه، وهو أعظم ما ينقل عنه ويتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.

    1.   

    هدي الرسول في اختيار الرسل

    نعود إلى فقه الواقع الذي كان عليه صلوات الله وسلامه عليه، كتب الكتب وبعث بها إلى الملوك والزعماء يدعوهم إلى الله ويبلغ رسالة ربه، وهو في كل رسالة يبعثها يختار من يحملها، والعاقل يدل على عقله ثلاثة أشياء: هديته وكتابه ورسوله، بمعنى: أنه لو أتاك خطاب من أحد أو مرسول من أحد أو هدية من أحد فإن الكتاب والهدية والمرسول تدلك على عقل من بعثها، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يختار قوماً معينين من أصحابه ليبعثهم إلى الملوك والرؤساء بما يوافق حال هؤلاء الملوك، لأنه ليس المقصود التجبر والتكبر وإنما المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

    وممن بعث إليه النجاشي ، والنجاشي لقب يطلق على من ملك الحبشة، واختلف في النجاشي الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه عمرو بن أمية إليه، هل هو النجاشي الذي هاجر إليه المهاجرون الأوائل، أم هو غيره؟ وقال بكل قوم من العلماء، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه غير النجاشي الأول كما يدل عليه حديث أنس ، والله تعالى أعلم.

    1.   

    أسماء رسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأمراء

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم واسمه هرقل ، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنده صحة نبوته فهم بالإسلام، فلم توافقه الروم، وخافهم على ملكه فأمسك.

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملك) فمزق الله ملكه وملك قومه.

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر، فقال خيرًا وقارب الأمر ولم يسلم، فأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية وأختها سيرين ، فوهبها لـحسان بن ثابت ، فولدت له عبد الرحمن بن حسان .

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملكي عمان جيفر وعبد ابني الجلندي ، وهما من الأزد، والملك جيفر فأسلما وصدقا، وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل عندهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري إلى اليمامة إلى هوذة بن علي الحنفي فأكرمه وأنزله، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم، ومات زمن الفتح.

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من أرض الشام، قال شجاع : فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق، فقرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم رمى به، وقال: إني سائر إليه وعزم على ذلك، فمنعه قيصر .

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث الحميري أحد مقاولة اليمن.

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وكتب إليه كتابًا يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وصدق.

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنهما إلى جملة اليمن داعيين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن وملوكهم طوعاً من غير قتال ].

    ذكر المصنف رحمه الله جملة ممن بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء ذلك العصر، وهذا فيه دلائل من أهمها ما قدمناه مما بذله صلى الله عليه وسلم لتبيين الدعوة إلى الله.

    وفيه فضيلة أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وأنهم حملوا تلك الكتب والرسائل وأوصلوها إلى أولئك الملوك غير مبالين من أن يقتلوا، قاطعين الفيافي والصحراء والجبال ليشاركوا في تبليغ دعوة الرب تبارك وتعالى.

    1.   

    أهمية الدعوة إلى الله بالحكمة

    الأمر المهم في القضية كلها: حاول أن تربط بين هذا الذي سمعته وبين واقع المسلمين اليوم، والأحداث هي الأحداث، وإنما يختلف الناس فقط.

    أولئك الزعماء تعاملوا مع الخطاب النبوي تعاملاً متبايناً متفاوتاً، فلم يتعاملوا جميعاً تعاملاً واحداً، منهم من قبله وجعله بين عينيه وأسلم، ومنهم من أسلم من غير تقبيل، ومنهم جبار عنيد مزقه، ومنهم من حاول أن يسوس الناس الذين عنده ليعلم هل يوافقونه أو لا يوافقونه، فلما غلب على ظنه أنهم لا يوافقونه خاف على ملكه، ومنهم من لم يقبل الإسلام لكنه تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعث له بهدية، ومنهم أقوام ليست لهم قوة آنذاك كجملة اليمن فبعث إليهم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل ، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ في اليمن، فـمعاذ لم يشهد وفاة النبي صلى لله عليه وسلم في المدينة.

    والآن العالم الإسلامي الذي نعيشه نظرة غير المسلمين من حكومات وشعوب إلى المسلمين هي نفسها تماماً نظرة الأوائل في ذلك الزمان، فلا يعقل أن يكون جميع زعماء العالم وشعوب العالم نظرتها إلى الإسلام اليوم نظرة واحدة، فهناك من يحارب، وهناك من يستحيي، وهناك من يود أن يدخل فيه لكنه غير قادر، وهناك من يدخل في الدين، فيتفاوت الناس.

    فالمسلم العاقل لا يستعدي عليه الناس، ويتعامل مع من حوله بذكاء حتى يحقق مصالحه، لا يهدم الأمر على قومه وعلى نفسه وعلى عشيرته فيضيع الأمر كله أو يتخبط الناس فيه.

    كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهز فرصة من حوله فيبعث ذلك الخطاب الذي يسترق به الناس، والله جل وعلا بعث موسى وهارون إلى أعظم الجبابرة في عصره وقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] .

    فالمسلمون أعظم ما يقتبسونه من السنة أن يعقلوا كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يدعو الناس.

    النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الأنبياء، ثم قال: (وإني لأرجو الله أن أكون أكثرهم تابعاً) فأعظم رغبة له عليه الصلاة والسلام أن يكون أكثر الأنبياء استجابة، يعني: أكثر الأنبياء استجابة. وهذا لا يتحقق إلا بالدعوة.

    فالعاقل الذي يريد أن يحقق الرغبة النبوية يسهم في الدعوة إلى الله بالحكمة لا بالتنفير من الدين، وقد قلنا: إن النبي أخر مسألة دعوة الملوك حتى يقيم الإسلام في المسلمين، وأنت لن تقيم الإسلام في غيرك حتى تقيمه في نفسك.

    أما قضية التعامل بالمثل فهذه قضية خاطئة، أنت قدم الإسلام كما هو الإسلام ولا تقدم الإسلام كما يريد الأعداء أن يروه، قدم الإسلام كما قدمه الله جل وعلا لنا، مثلاً: عندنا في المدينة للأسف تسكن طائفة معينة من غير أهل السنة، وكنت قديماً أعمل في الإشراف التربوي، مشرفاً على المدارس، فيأتيك معلم يسبهم ليل نهار ويفعل أموراً لا تليق، يقول: والله يا فلان -يخاطبني- ما استجابوا، ما آمنوا، ما تركوا البدعة. من الذي تقابله ويمد يده ليسلم عليك فتسحب يده وتبصق في وجهه وترميه، ولا تهنئه بشيء ولا تعزيه إذا مات أحد ثم تريده أن يدخل في هذا المبدأ الذي تدعو إليه؟! لا يوجد عاقل يتبعك وأنت على هذه الحال، لكن قدم الإسلام كما جاء به الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.

    أما أنا أمد يدي لأصافحك وأنت تسحبها، وتقابلني بالشتم، وأرزق المولود ولا تهنئني، ويموت لي ميت ولا تعزيني ثم تقول لي: ادخل في السنة التي أنا أتبعها، أنت لن تقدم السنة كما قدمها نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا مرض في القلب.

    النبي عليه الصلاة والسلام بعث علياً في حربه مع اليهود، واليهود في حصونهم يحاربونه وغدروا به وأعطوه شاة مسمومة، والله لعنهم في القرآن، ومع هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي : (فادعهم إلى لا إله إلا الله، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ولم يقل له: لو قتلت يهودياً تدخل الجنة، قال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

    فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى مقدمة على كل شيء، والإنسان الذي يتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم أول أمر ينزع الهوى الذي في قلبه والرغبات الشخصية ويرميها وراء ظهره، ثم يجعل نهج محمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، هذا هو المحك الحقيقي في اتباع السنة، أما أن تأتي الإنسان وتسأله: أنت مسلم أو كافر؟ فإن قال: أنا كافر، تقتله وتمضي! هذا لا يمكن أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، قال الله عنه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] .

    انصرف صلى الله عليه وسلم من بدر وهو منتصر فقال بعض الصحابة من الأنصار: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، يقصد كفار قريش. فقال صلى الله عليه وسلم: (على رسلك يا ابن أخي! أولئك الملأ لو أمروك لأجبتهم) أي: أنهم أشراف الناس، فلم ينقص قدرهم صلى الله عليه وسلم، فكان يدعو إلى دين الله جل وعلا.

    حارب النبي عليه الصلاة والسلام من حال بينه وبين أن يدعو إلى الله، وهذا هدي الأنبياء من قبل، موسى يقول: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان:21] أي: لا تمنعوني أن أدعو الله، فما أحوج المسلمين اليوم إلى من يفقه الدعوة النبوية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه.

    فهؤلاء الرسل يقطعون الفيافي يبلغون رسالات الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا لا يعني أن يترك الجهاد، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن كما قلت: حارب الرسول من وقف بينه وبين أن يدعو إلى الله جل وعلا، هؤلاء هم القوم الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان الصحابة كـأبي بكر وغيره يتركون الرهبان الذين في الكنائس وفي الدير، ويمنع الناس أن يتعرضوا لهم، يقول: لا تتعرض لهم؛ لأن هؤلاء مشغولون بما هم فيه، لا يمنعونك من أن تدعو، ادع إلى الله كما شئت فهم لا يمنعونك، يتركونك تدعو، فلم يتعرض لهم المسلمون.

    والمقصود من هذا كله: أن الوضع المعاصر يفرض على من يعقل من علماء المسلمين أن يقول الحق، ولا يلتمس في كلامه رغبة الناس، وهذا من أعظم أخطائنا في الصحوة، إذا جئت تتكلم لا ينبغي أن تقول ما يريده الناس، ينبغي أن تقول ما هو مراد الله؛ لأن العلماء هم الذين يقودون العامة، وليس العامة هم الذين يسيرون أقوال العلماء، هذه الكلمة يقولها النقاد السينمائيون: ما يريده الجمهور، هذا عند شباك السينما، أما هنا في شرع الله جل وعلا فليس الأمر متروكاً لي ولا لك، هذا نور أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه فنبلغه كما بلغه نبينا صلى الله عليه وسلم، بلغه بالسنان، بالقتل لمن حرمه أن يبلغ دين ربه، وبلغه باللسان والحكمة والموعظة الحسنة مع من لم يتعرض لدعوته لربه جل وعلا، حتى قال العلماء: إن النبي عليه الصلاة والسلام أقر من أسلم من الملوك على ملكهم، ولم يبعث الصحابة ليقولوا الملك حتى لا يفتنوا، ترك الملوك والرؤساء الذين أسلموا على ملكهم؛ لأن المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وليس المقصود أن يأتي أحد الصحابة فيرث تلك الأرض ويصبح زعيماً على تلك الطائفة، المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأنت ستكون عظيماً إذا كنت سبباً في دخول الناس إلى دين ربك جل وعلا.

    1.   

    موقف كسرى من كتاب النبي عليه الصلاة والسلام

    كسرى مزق الكتاب فقال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه).

    وقيصر ما قبل الإسلام لكن ما دعا صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، والآن انظر إلى الواقع، لا يوجد ملك كسروي كافر، ويوجد ملك للروم كافر، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه) فانتهى ملك الفرس، وبقي ملك الروم كما هو. ولماذا لم يدعو عليهم؟

    حتى يبقى قدر الله، فما أراده الله قدراً لا يجريه على لسان نبيه شرعاً، وهذا من دقائق العلم، فقد قال الله جل وعلا في سورة الأنعام: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام:65] فلما قرأ جبريل: عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] استجار النبي صلى الله عليه وسلم بربه، فهذه الأمة لا يمكن أن تعذب بالحجارة، لا يمكن أن تعذب عذاباً مهلكاً لها بحجارة السماء، ولما قرأ: (أو من تحتكم) استجار بربه، فلا يمكن أن هذه الأمة يخسف بها وتنتهي، ثم تلا جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] فما قال صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك كما قال في الأولين؛ لأن الله قد كتب في الأزل أنها ستقع، فلم يجرها على لسان نبيه شرعاً، بل قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون وأيسر) .

    وأنت ترى الأمة يذيق بعضها بأس بعض، منذ مقتل عثمان إلى اليوم.

    فما أراده الله أن يقع قدراً لا يجريه على لسان نبيه شرعاً، وما أراد الله منعه قدراً يجريه على لسان نبيه شرعاً، فقال في كسرى وهو كافر قال: (مزق الله ملكه) فانتهى ملك الأكاسرة، ولكنه لم يقل في هرقل : مزق الله ملكه، فإلى اليوم أوروبا -وهي الروم- ملكها باق إلى اليوم، ولن تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768272420