الحديث عن موت النبي عليه الصلاة والسلام ذو شجون، فهو أعظم وأفضل خلق الله أجمعين، وبه أخرج الله الناس من الظلمات إلى النور، وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
وقد رزقه الله بأربع من البنات وثلاثة من البنين، وقد ذكر العلماء أخبار أولاده، كما ذكروا حجه وعمراته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
بالأمس قد ذكرنا شيئاً من نسبه عليه الصلاة والسلام ومولده وهجرته، ثم انتهينا إلى وفاته صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا جملة من الفوائد لعله قد يكون من المناسب استحضار بعضها.
فإننا ذكرنا زواجه عليه الصلاة والسلام من خديجة بنت خويلد ، وقلنا: إن هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين خصها الله جل وعلا ببعض من الخصائص، منها: ما انفردت به عن أمهات المؤمنين ومنها ما انفردت به عن نساء العالمين أجمعين، فالذي انفردت به عن أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها أحداً في حياتها، وأن الله جل وعلا رزقه منها الولد، هذا ما انفردت به عن أمهات المؤمنين.
وذكرنا أن لها خصيصة ليست لأحد من نساء العالمين، وهي أن الله أمر جبريل أن يبلغها السلام، وهذه الخصيصة لأحد من نساء العالمين فيما نعلم.
ثم ذكرنا أن الهجرة حدث يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم كقدوة، وذكرنا أن ما لا يتعلق به كقدوة فهذا يعلم، لمعرفة شرفه وفضله عليه الصلاة والسلام لكن الأمة غير ملزمة بالاقتداء به فيه، وذلك مثل حادثة الإسراء والمعراج.
وتكلمنا عن أبي طالب ، وقلنا: إنه ناصر النبي عليه الصلاة والسلام وعضده وكان معه في شعب بني هاشم عندما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكرنا أنه يتعلق بنصرة أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام فوائد، ذكرنا منها فائدتين:
الأولى: أن الإنسان يستخدم الوسائل التاريخية المتاحة إذا كان في ذلك نصرة للإسلام.
الثانية: الهداية، وقلنا: إن كون أبي طالب رغم نصرته للنبي عليه الصلاة والسلام لم يرزق الهداية يدل على أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، ونسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم على هدايته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها ].
الأصل أن الميت لا يطرح له شيء في قبره، فقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من أصحابه ماتوا في حياته ولم ينقل أنه أدخل معهم في قبورهم أي شيء، ولكن هذه القطيفة كان عليه الصلاة والسلام يفرشها ويجلس عليها ويلبسها أحياناً، فأنزلها مولاه شقران الذي هو صالح في القبر، ثم فرشها وجعل النبي عليه الصلاة والسلام عليها، وهذا في صحيح مسلم من حديث ابن عباس .
مسألة: هل يجوز أن يفرش تحت الميت قطيفة أو لا؟
حكى النووي عن الجمهور أنه يكره فعله، وأن شقران فعلها دون علم الصحابة؛ لأنه كره أن يلبس القطيفة أحد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا التعليل الذي ذكره النووي رحمه الله ضعيف؛ لأننا نقول: إن الله جل وعلا لا يختار لنبيه إلا الأفضل، فما كان الله ليسمح قدراً لـشقران أن يضع هذه القطيفة تحت النبي صلى الله عليه وسلم والله يكره ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يكفله ربه ويرعاه ويحفظه ويحيطه بعنايته حياً وميتاً، فينجم عن هذا تخريج المسألة فنقول:
إنه يكره أن يوضع تحت أي ميت قطيفة من أي نوع، وما فعله شقران خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: ما وجه الخصوصية هنا؟
قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأرض حرم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، فلأن الأرض لا تأكل جسده أذن الله قدراً لـشقران أن يضع هذه القطيفة تحت نبينا صلى الله عليه وسلم، وبهذا يمكن تخريج المسألة بأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وأن هذا من خصائصه.
وممن نص من العلماء على أن هذه خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم وكيع بن الجراح رحمه الله المحدث المشهور شيخ كثير من السلف وشيخ الإمام أحمد وغيره، فقد نص وكيع على أنها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا ينجلي الإشكال في المسألة، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران ، وأطبق عليه تسع لبنات، ودفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة ، ثم دفن معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ].
ذكر المصنف رحمه الله أنه نزل القبر خمسة: العباس وقثم والفضل وعلي وصالح مولاه الذي هو شقران .
وهذه رواية ضعيفة، والصحيح أن الذين نزلوا القبر أربعة فقط ليس منهم العباس ، وقد ذكر المقدسي رحمه الله العباس كما ذكره النووي ، لكن الصحيح أن الذي نزل القبر أربعة هم: قثم والفضل بن العباس بن عبد المطلب وعلي ومولاه شقران ، هؤلاء الأربعة هم الذين أنزلوه صلى الله عليه وسلم إلى قبره.
ثم وضعت عليه تسع لبنات، وكانوا قد اختلفوا هل يلحدون له لحداً كما هو صنيع أهل المدينة أو يجعلون القبر شقاً كما هو صنيع أهل مكة، فبعثوا إلى اثنين ممن يحضرون القبور وقالوا: اللهم خر لنبيك، أي: اختر لنبيك.
فالذي كان يشق لم يأت، والآخر جاء وهو أبو طلحة ، وكان يلحد لأهل المدينة، فحفر القبر للنبي عليه الصلاة والسلام.
وقبل أن يحفروا القبر اختلفوا أين يدفن؟ وهذا أحد أسباب تأخير دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أقول: أحد الأسباب يدل على أن هناك أسباباً أخر، هذا أحد الأسباب التي دعت الصحابة إلى أن يتأخروا في دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض).
الله جل وعلا جعل للأنبياء خصائص أذكر منها إجمالاً:
الأول: الوحي، وهو أعظم خصائص الأنبياء.
الثاني: أنهم يخيرون عند الموت.
الثالث: أنهم يدفنون حيث يموتون.
الرابع: أن الأرض لا تأكل أجسادهم.
الخامس: أنهم جميعاً رعوا الغنم.
السادس: أنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
هذه ستة من خصائص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، ومنها أنهم جميعاً رعوا الغنم، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر : عندما جنى النبي عليه الصلاة والسلام معهم ثمر الأراك فقال: (عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه، قالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى الغنم؟ قال: وما من نبي إلا رعاها، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
فهذه بعض خصائص الأنبياء ذكرناها استطراداً، وذكرنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في الموقع الذي مات فيه، أي: في حجرة عائشة ، وهذا مما تواتر بين المسلمين وتقرر لديهم أنه في المكان المقبور فيه.
ذكر المصنف أنه دفن معه
أبو بكر و
عمر رضي الله تعالى عنهما، فـ
أبو بكر و
عمر دفنا في نفس حجرة
عائشة ، وكانت
عائشة رضي الله تعالى عنها رأت قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرها، فذهبت إلى أبيها
أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقصت عليه الرؤيا، وكان
أبو بكر ممن يعبرون، فسكت عنها ولم يجبها أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما مات عليه الصلاة والسلام ودفن في حجرة عائشة جاء أبو بكر إلى عائشة وقال لها: هذا أول أقماركِ يا عائشة . ثم دفن أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت عائشة تريد أن تدخر ما بقي من الحجرة لها، فلما طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل ابنه عبد الله يستأذن عائشة في أن يدفن مع صاحبيه، وقال: قل لها: عمر بن الخطاب ولا تقل: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فدخل عليها عبد الله وقال لها: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لأوثرنه اليوم على نفسي، ولقد كنت أدخره - أي الموضع - لنفسي، فوافقت، فلما رجع عبد الله إلى أبيه كان عمر ما زال حياً طريح الفراش من طعنة أبي لؤلؤة المجوسي ، فلما دخل قال: ما وراءك؟ فقال ابنه عبد الله : أبشر بالذي يسرك يا أمير المؤمنين، فإنها قد وافقت، فقال عمر رضي الله عنه: والله ما من شيء كان أهم علي من هذا الأمر أن أدفن مع صاحباي.
ثم ظهرت عدالة عمر فقال: إذا أنا مت فغسلوني وكفنوني ثم استأذنوا لي من عائشة مرة أخرى، فإنني أخاف أنها وافقت استحياءً مني وأنا حي! فلما مات عمر وغسل وكفن وصلي عليه، حمل وقيل لها وهو محمول على أعناق الرجال: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه مرة أخرى، فوافقت رضي الله عنها فدفن عمر مع النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه.
وقال بعض المؤرخين: بقي موضع للدفن، فقد جاءت جملة من الروايات تدل على أنه سيدفن معهم عيسى بن مريم، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في أولاده.
وله صلى الله عليه وسلم من البنين ثلاثة:
القاسم : وبه كان يكنى، ولد بمكة قبل النبوة، ومات بها وهو ابن سنتين، وقال قتادة : عاش حتى مشى.
و عبد الله: ويسمى الطيب والطاهر، لأنه ولد في الإسلام. وقيل: إن الطاهر والطيب غيره، والصحيح الأول.
و إبراهيم: ولد بالمدينة، ومات بها سنة عشر، وهو ابن سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر. وقيل: كان له ابن يقال له: عبد العزى، وقد طهره الله عز وجل من ذلك وأعاذه منه ].
بعد أن ذكر المصنف رحمه الله مولد النبي صلى الله عليه وسلم وحياته ووفاته ذكر جملة مما يتعلق بأولاده عليه الصلاة والسلام.
والولد في اللغة إذا أطلق يراد به الذكر والأنثى سوياً، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
[النساء:11]، فتعبير العامة أن فلاناً رزق ولد على أنه ابن غير صحيح من حيث اللغة، وعلى العموم فإنه عليه الصلاة والسلام رزق من الأولاد ذكوراً وإناثاً.
بدأ المصنف رحمه الله بذكر الذكور الذين رزقهم عليه الصلاة والسلام وهم: القاسم ، وهذا أكبر أبنائه، وأول من رزق على الأظهر، لكنه رزقه قبل أن يبعث، ومات وهو صغير، قيل: كان ابن سنتين. وقيل غير ذلك. وأياً كان؛ فإنه لم يدرك النبي عليه الصلاة والسلام وقد نبئ، وكان يكنى عليه الصلاة والسلام - كما مر معنا - بأبي القاسم.
ورزق عبد الله بعد النبوة، ولذلك لقب عبد الله بالطيب والطاهر، لكن عبد الله هذا مات كذلك وهو صغير.
ثم رزق إبراهيم من سريته مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس حاكم مصر، فتسراها عليه الصلاة والسلام فأنجب منها إبراهيم ، وإبراهيم هذا عاش ثمانية عشر شهراً، ومات في شوال في السنة العاشرة قبل حجة الوداع، وهو الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون).
وكانت له مرضعة اسمها فاطمة ترضعه في عوال المدينة، قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى عوال المدينة فيحمل ابنه إبراهيم ويشمه ويضمه ويقبله، ثم فجع عليه الصلاة والسلام بوفاة ابنه إبراهيم فحزن قلبه ودمعت عيناه وقال: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون).
وهذا من الدلائل على أن الإنسان مهما عظم شرفه وعظم قدره فإنه عرضة للبلاء، والصالحون أعظم عرضة، ونبينا عليه الصلاة والسلام إمام الصالحين وإمام الخلق أجمعين، فلم يكتب له أن يعيش له ولد كبير يعضده، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى.
و إبراهيم عليه السلام مات وعمره ثمانية عشر شهراً، والله يقول في كتابه:
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
[البلد:4] وكذلك الناس يعطون ويمنعون ويحرمون ويأخذون، والداعية وطالب العلم والموفق المسدد لسبيل الله يعلم أن الدنيا أخذ وعطاء، وصبر وابتلاء، وقد جعل الله جل وعلا الدنيا سجناً للمؤمن وجنة للكافر.
والمؤمن يأخذ من هذه العبر في وفاته عليه الصلاة والسلام ووفاة ابنه، وأنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، ولو لم يظفر طالب العلم بكلمة أعظم من هذه لكفى، لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، فأي عناء وأي مشقة تعتريك في طريقك إلى الله فتذكر جيداً أنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، لن ترتاح حتى تلقى الله تبارك وتعالى على الإيمان، أما دون ذلك فلا يمكن أن يصفو لك أمر لا القبر ولا القيام بين يدي رب العالمين، النبي عليه الصلاة والسلام دفن سعد بن معاذ ، وذكر أنه شيعه سبعون ألف ملك من السماء ثم قال: (لقد ضم عليه القبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، فالمؤمن لا راحة له حتى يلقى الرب تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في حجه وعمره.
روى همام بن يحيى عن قتادة قال: قلت لـأنس : كم حج النبي صلى الله عليه وسلم من حجة؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: عمرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته. صحيح متفق عليه.
هذا بعد قدومه المدينة، وأما ما حج بمكة واعتمر فلم يحفظ، والذي حج حجة الوداع ودع الناس فيها، وقال: (عسى ألا تروني بعد عامي هذا) ].
بعد أن ذكر المصنف أولاده عليه الصلاة والسلام ذكر حجه وعمرته. ذكر الحج والعمرة لأنها لا تفعل -عادة- بكثرة، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم ويصلي بين الناس بشكل يرونه يومياً، ثم بين ماذا كان من حجه وعمرته عليه الصلاة والسلام كما سمعتم.
والنبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، العمرة التي كانت في عام الحديبية سنة ست، أحرم من ذي الحليفة من المدينة، وانطلق إلى مكة، فلما وصل إلى الحديبية بركت الناقة، فقال الصحابة: خلأت القصواء! فقال: (والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، والذي نفسي بيده! لا يسألونني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها).
فبين عليه الصلاة والسلام عظمة حرمة البيت، وكانت إشارة من الله أنه لم يدخل البيت، وقول الصحابة: خلأت القصواء بمعنى: بركت من غير علة ظاهرة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (حبسها حابس الفيل) أي: أن بيت الله عظيم. فطلبت منه قريش ألا يدخل مكة في صلح الحديبية المشهور، فقبل عليه الصلاة والسلام ورضي، وهذا يجب أن يفقهه كل من يدعو إلى الله، فلا ينتصر لنفسه، فليس شيئاً تلذذت به لا بد أن تمضيه، بل انظر أين مصلحة الإسلام، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يحرم من ذي الحليفة ويقطع كل هذه المسافات حتى يصل إلى مكة، ثم يقبل أن يحل إحرامه ويرجع كما جاء من غير أن يدخل مكة؛ لأنه رأى أن الصلح فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، وكأن صلح الحديبية فتحاً عظيماً، فقد دخل كثير من الناس في دين الله أفواجاً، فأنزل الله عليه وهو راجع إلى المدينة:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
[الفتح:1].
ولما أمر الصحابة أن يحلوا إحرامهم لم يستجيبوا، ولا يعني هذا أنهم كانوا يعاندون النبي عليه الصلاة والسلام، حاشاهم، وإنما قد لا يطيعك من يحبك ويتغلب عليه حال السفيه، فلما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلوا إحرامهم لم يفعل أحد، فدخل على أم سلمة فأخبرها بما لقي من الناس، فـأم سلمة تعلم محبة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام فأشارت عليه أن يحلق رأسه وينحر الهدي، فحلق رأسه ونحر الهدي، فاستجاب الصحابة؛ لأنهم رأوا أنه أمر واقع، فحلقوا رءوسهم ونحروا هديهم حتى أصابهم الغم وكاد يقتل بعضهم بعضاً.
وهذه العمرة لم تتم، لكن المصنف ذكرها كما ذكرها أهل السير من قبل؛ لأنه أحرم بها صلى الله عليه وسلم.
وكان من شروط صلح الحديبية أن يعود صلى الله عليه وسلم ثم يعتمر من العام القابل، فلذلك دخل مكة في العام التالي في السنة السابعة، أحرم من ذي الحليفة ودخل مكة وأقام فيها ثلاثة أيام، فهذه أول عمرة أداها النبي صلى الله عليه وسلم كاملة في الإسلام.
والعمرة الثالثة كانت بعد غزوة حنين، حيث نزل عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة وهي حل خارج مكة ودخل مكة ليلاً، ثم اعتمر ورجع في نفس الليلة أو في صباحها إلى الجعرانة وأكمل مسيره بعد ذلك إلى المدينة، وإحرامه من الجعرانة دليل على أن الجعرانة حل؛ لأنها لو كانت حرماً لما جاز أن يحرم منها.
و ابن القيم رحمه الله تعالى أغلظ كثيراً في زاد المعاد على ما كان يصنعه أهل مكة في أيامه من أنهم كانوا يحرمون من الجعرانة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها لأنها وافقت محله.
وبعض المالكية يقول: إن الجعرانة هي أفضل حل على وجه الأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يحرم عليه الصلاة والسلام من حل إلا الجعرانة، ولما أحرم من المدينة فالمدينة حرم، وأحرم بالحج من مكة ومكة حرم، ولم يحرم من حل إلا من الجعرانة، هذه الفضائل قد يصيب أصحابها وقد لا يصيبون.
العمرة الرابعة كانت مع حجته؛ لأنه حج قارناً عليه الصلاة والسلام.
من هذا يتحرر أن العمر الثلاث كلهن كن في شهر ذي القعدة، حتى عمرة الحج أحرم بها في شهر ذي القعدة لكنه لم يؤديها إلا في شهر ذي الحجة، لأنه ما وصل مكة إلا قد ودخل هلال شهر ذي الحجة.
هذه الأربع العمر التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، أما الحج فلم يحج في الإسلام إلا حجة واحدة سميت بحجة الوداع؛ لأنه ودع الناس فيها، وهي حجة عظيمة علم عليه الصلاة والسلام أنه لن يحج غيرها فأعلن للناس أنه سيحج، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم بحجته عليه الصلاة والسلام، وفيها كثير من الفوائد، فقد ذكر في خطبته فيها كثيراً من قواعد الدين، وأوصى بالنساء خيراً، وجعل ربا الجاهلية تحت قدميه، وأقام كثير من قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأعراض والأموال، وهي حجته صلوات الله وسلامه عليه، والله أعلم إن كان قد حج عليه الصلاة والسلام أو اعتمر قبل الإسلام وهو في مكة، وما ينقل من ذلك هو بطرائق غير صحيحة أو غير مكتملة السند فلا نستطيع أن نحكم عليه بالصحة.