إسلام ويب

سلسلة لطائف المعارف [ويسألونك عن الجبال]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد خلق الله جل وعلا الجبال في غاية العظمة والدقة، وجعلها رواسي للأرض أن تميد ببني آدم. وقد ذكر المولى سبحانه في كتابه كيف ينهي هذه الجبال الرواسي بقدرته وقوته، فكيف الحال بالإنسان الضعيف، وفوق هذا يتكبر ويتعالى على أوامر ربه سبحانه، وهذه الجبال لو أنزل عليها شيء من آيات الكتاب لتصدعت فرقاً ووجلاً من مولاها، والإنسان قد وقع له ذلك وهو ساهٍ لاهٍ.

    1.   

    سبب ذكر الله للجبال في كتابه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا رب غيره ولا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فسنتكلم -بعون الله- هذا اليوم عن قول الله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ [طه:105].

    فبادئ ذي بدء نقول: استقر في أذهان العقلاء أن الجبال ترمز إلى الأشياء العظيمة الثابتة، التي يصعب تغييرها، فلهذا قلما أراد أحد أن يتحدث عن مجد أو أن يذكر أمراً سامقاً شامخاً يفخر به إلا وشبهه قريباً من الجبال، ومنه قول حسان رضي الله تعالى عنه وأرضاه -وهو في جاهليته، يتكلم عن مجد قومه الخزرج-:

    (شماريخ رضوى عزة وتكرماً)

    ورضوى: جبل يقع إلى الشمال الغربي من المدينة، فالجبال استقر في الأذهان -كما بينا- أنها رمز للأمر المصحوب بالأنفة، ومنه أيضاً قول الفرزدق يخاطب جريراً:

    فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل

    فثهلان جبل، وقصد الفرزدق بهذا أن يبين أن المجد الذي بناه قومه لا يمكن أن يزحزح فشبهه بذلك الجبل.

    يقول الله جل وعلا في هذه الآية المباركة من سورة طه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ [طه:105]، لما استقر في الأذهان -كما قلت- أن الجبال رمز عظيم، كان بدهياً أن أولئك المنكرين للبعث الناسين للنشور الذين يرتابون في قيام الساعة يتساءلون عن أمور كثيرة حولهم، فانصرفت أذهانهم وأبصارهم إلى هذه الجبال التي يشاهدونها قائمة، ففزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -من باب المكابرة- يسألونه عنها، فحكى الله جل وعلا ذلك السؤال بقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ [طه:105] فكان الجواب القرآني والرد الإلهي: فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105]، فما استقر في أذهانكم من ذلك العلو، فإنه سيصبح هباء منثوراً.

    لكن ذلك النسف إنما هو مرحلة، وإلا فذكر الله جل وعلا مراحل أخر تسبق نسف الجبال، فمنها: ما في قوله تبارك وتعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، وقوله جل وعلا: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج:8-9]، فهذه مرحلة أخرى حتى تصل إلى مرحلة الاندكاك الكلي.

    1.   

    ما صرح القرآن باسمه من الجبال

    وهذه الجبال جاء ذكر بعض منها في القرآن، أي: أن هناك جبالاً صرح الله باسمها في القرآن، ومن أشهرها جبلان:

    جبل الطور، وجبل الجودي.

    أما جبل الطور: فإنه يقع في أرض مباركة، هي شبه جزيرة سيناء، وفي شبه جزيرة سيناء واد يقال له: وادي طوى، نعته الله بأنه واد مقدس، وفي ذلك الوادي الذي هو قطعة من شبه جزيرة سيناء يقع جبل يقال له: الطور.

    والطور في اللغة: كل جبل نبت فيه الشجر، لكن الطور إذا أطلق ينصرف إلى ذلك الجبل المبارك، الذي كلم الله جل وعلا عنده نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن موسى أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وقد سمى الله جل وعلا سورة مكية في القرآن باسم ذلك الجبل، قال الله جل وعلا: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2]، وينصرف الألف واللام في قول الله جل وعلا: وَالطُّورِ [الطور:1] إلى المعهود الذهني، وهو ذلك الجبل الذي كلم الله جل وعلا عنده موسى عليه الصلاة والسلام.

    الجبل الآخر المذكور في القرآن: جبل الجودي، وهو قطعاً الذي رست عنده السفينة التي كانت تحمل نبي الله نوحاً عليه الصلاة والسلام.

    لكن الخلاف في تحديده، فقد قال الله جل وعلا: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]، فما الذي استوت على الجودي؟ السفينة، لكن أين الجودي؟ يقول بعض العلماء: إنه في تركيا، ويقول بعض العلماء: إنه في العراق، وأكثر أهل الصناعة التفسيرية يقولون: إنه في العراق.

    لكن أصحاب الصناعة التاريخية الذين في زماننا، لديهم بعض النظر الذي نجم عن المعرفة الجغرافية، فقد وقعت هناك آثار، وقع الناس عليها وهي آثار لتلك السفينة، ولذلك يذهبون إلى أن جبل الجودي في تركيا؛ لمكان المعرفة بهذه الآثار.

    بعض أهل الصناعة اللغوية تغيب عنهم أمور لا ينبغي أن تغيب على أمثالهم، لكن الله جل وعلا ينبئنا ضعفنا.

    الصهاينة مثلاً وكذا بعض أهل التفسير يقولون: إن الجودي كلمة عربية مأخوذة من الجود وهو العطاء وكثرة النوم؛ لأنه معلوم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يكن في زمنه أحد يتكلم العربية، والله جل وعلا يخبر عن أن السفينة استقرت ورست في زمن نوح، ولم يكن يعرب -الذي تكلم العربية والذي ينسب إليه العرب- قد ولد بعد، فإن الله جل وعلا قال في حق نوح: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]، فما يعرب إلا من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، أو فلنقل: من ذرية الناجين من قوم نوح، فعلى هذا لا سبيل إلى القول: إن الجودي سمي بالجودي نسبة عربية، وإنما هي كلمة أعجمية غير عربية، لكن كيف غاب هذا عن الأكابر؟ هذا لا يجعلنا نشتم من جهلوا هذا، فليس هذا صنيع أهل الفضل، وإنما نعرف من ذلك ضعف العقول البشرية، ونحن وإن كنا نستدرك اليوم على غيرنا، سيأتي بعدنا من يستدرك علينا، فنحن لم نوف النقص حتى نطالب بالكمال للآخرين.

    وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، أي: أن يعلم الإنسان ضعفه وعجزه، وكيف يغيب عنك ما يراه غيرك واضحاً جلياً؟

    فنقول: إن الطور والجودي جبلان ذكرهما الله جل وعلا نصاً في كتابه.

    1.   

    ما ذكر في السنة من الجبال

    ثم هناك جبال لم تذكر في القرآن وإنما ذكرت في السنة، ومنها جبل أحد، وهذا الجبل يقع في شمال المدينة، وقيل: إنه سمي أحد لتفرده عن الجبال، وقد ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجبل ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف الجبل فرحاً به، فقال صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وهذا من الغيب الذي أطلع الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم عليه، فقد مات عمر وعثمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم شهيدين.

    فأحد جبل ذكر في السنة ولم يذكر في القرآن.

    كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم من عير إلى ثور)، فحدد صلى الله عليه وسلم حرم المدينة شمالاً وجنوباً بجبلين، هما جبل عير وجبل ثور.

    أما جبل عير: فسمي بهذا الاسم؛ لاستواء قمته، فأشبه ظهر الحمار، وأما جبل ثور: فاختلف الناس فيه، وبعضهم بمجرد أنه لم يعلم به نفاه، وقال: إنه لا يعرف إلا في مكة، وهذا بعيد عن الصواب، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا لا يحدد مكة، وإنما يضع حدود ومعالم حرم المدينة، فحدودها الشرقية والغربية مقطوع بها؛ لوجود الحرتين، وقد ورد في الحديث: (ما بين لابتيها)، فبقي الشمال والجنوب، فحدده صلى الله عليه وسلم بعير وثور، فعير في الجنوب ولا خلاف في تحديده، لكن الخلاف في تحديد ثور إلى يومنا هذا، فبعض العلماء يرى أنه ما يسمى الآن في المدينة بجبل الخزان، وسمي بذلك لأنه قد بني عليه خزان، وآخرون يقولون: إنه من جهة أحد من الشمال، وآخرون يقولون: إنه في طريق ما يسمى بطريق الخليل اليوم، وهو على يمين الذاهب إلى سد الغابة، وأكثر من أدركت من المعاصرين -رحمهم الله- ممن لهم دربه وصناعة جغرافية أكثر من غيرهم -وقد أدركوا أقواماً يظن بهم معرفة هذا الجبل- يذهبون إلى أنه الجبل الواقع على يمين الذاهب اليوم إلى سد الغابة بطريق الخليل.

    الذي يعنينا: أن جبل أحد ورد ذكره في السنة، كذلك جبل ثور وجبل عير.

    وأما رضوى فهو جبل يقع في شمال غربي المدينة، وقد مر معنا أن حسان قال:

    (شماريخ رضوى عزة وتكرماً)

    وسيمر عليك في باب العقائد جبل رضوى، وذلك أن فرقة من الفرق الباطنية -يقال لهم: الكيسانية- يذهبون إلى أن المهدي المنتظر -عندهم- وهو محمد ابن الحنفية أي: ابن علي رضي الله تعالى عنه من زوجته، التي هي من بني حنيفة، أنه في ذلك الجبل.

    ويقول قائلهم وهو كثير :

    ألا إن الأئمة من قريش

    حماة الدين أربعة سواء

    علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء

    فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء

    ثم قال:

    وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء

    تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء

    موضع الشاهد من هذه الأبيات قوله: برضوى، أي: أنه يزعم أن هذا المهدي المنتظر موجود الآن في جبل رضوى، شمال غرب المدينة، وأنه لديه عسل وماء يقتات بهما، حتى يأذن الله جل وعلا بخروجه، وهذا ما تمجه عقول الصبيان فضلاً عن عقول أهل الفضل والحكمة والرأي والإنصاف.

    وهكذا أكثر من ينتمي إلى مذاهب الباطنية يحتاج -عياذاً بالله- إلى أن يتخلى عن عقله وإدراكه، حتى يؤمن بمثل هذه الأمور، التي لم يأت بها نقل ولا يقبلها عقل.

    كذلك هناك جبلا طيء، الوردان في السنة، وهما أجا وسلمى؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عروة بن مضرس -وهو من سكان حائل اليوم- ولم يكن قد سكن المدينة بعد، فكان يغيب عنه العلم؛ لأن السنة مهدها المدينة في الأصل، (فلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم في المزدلفة قال: يا نبي الله! إنني قد أتيتك من جبلي طيء -وهذا موضع شاهدنا- أكللت وأجهدت نفسي، وأكللت راحلتي، ولم أترك جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا صلاتنا هذه -يقصد صلاة الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه)، الذي يعنينا هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأ عروة بن مضرس بأهم أركان الحج وهو الوقوف بعرفة.

    أما هو فقد قال: أتيتك من جبلي طيء، ونحن نتكلم عن الجبال المذكورة في القرآن، والمذكورة في السنة، فجبلا طيء جاء ذكرهما عرضاً لا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء على لسان عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    هذه بعض الجبال الوارد ذكرها في الكتاب أو السنة، وقد قلت في أول اللقاء إن الجبال تلفت النظر إلى كل مبصر، ولهذا سأل القرشيون النبي صلى الله عليه وسلم عن حالها يوم القيامة.

    وبقي أن نقول أنه ورد في الحديث: أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد، فخلق جل وعلا فيها الجبال، فتعجبت الملائكة منها فقالت: أي رب! هل في خلقك خلق أعظم من الجبال؟ فقال الله جل وعلا: نعم، الحديد، فسألت الملائكة عن الحديد، فأجاب الرب: النار، ثم قال جل وعلا: الماء؛ لأنه يطفئ النار، ثم ذكر الله جل وعلا الريح؛ لأنها تحمل الماء وتحمل السحاب، ثم قال الله جل وعلا في جوابه لملائكته: ابن آدم، يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.

    وهذا يبين لك أن العمل الصالح إذا كان مصحوباً بالإخلاص لا يعدله شيء.

    وفقني الله وإياك للإيمان والعمل الصالح، وهذا ما تيسير إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768253391