الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
مشاهدي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة من برنامجكم الشهري القطوف الدانية.
حديثنا في هذه الحلقة بإذن الله تعالى سيكون عن سمة من سمات الخلق الكريم وصفة من صفات النفوس الأبية، صفة اتصف بها الباري عز وجل، ومدح بها خليله إبراهيم وسائر أنبيائه عليهم السلام، كما مدح بها الصالحين من عباده، إذا انتشرت بين الناس ملأت حياتهم صفاء ونقاء وظللتهم بروح المودة والإخاء والمحبة والألفة.
الوفاء كلمة نعد أحرفها وتمتد معانيها لتشمل كل العلاقات والمعاملات مهما تنوعت مشاربها أو اختلفت مآربها، كلمة لها دلالتها العميقة على كرم نفوس أصحابها ونبل مشاعرهم.
فما المراد بالوفاء، ولمن يكون، وما أساليبه وطرقه، وهل يمكن أن يكتسب كغيره من الصفات الحميدة؟
تساؤلات كثيرة أطرحها بين يدي ضيفنا الكريم في هذه الحلقة الكريمة التي أسعد فيها باستضافة فضيلة الشيخ: صالح بن عواد المغامسي ، باسمكم جميعاً أرحب بشيخنا، فحياكم اللهم شيخ صالح .
هذه الحلقة سيكون لها طابع خاص بإذن الله عز وجل؛ نظراً لأن الوفاء قريب إلى النفس البشرية الأبية، والنفوس التي تنطوي على شيء من الشيم تحرص على أن تحقق هذه الصفة.
وفي التمهيد لهذه الحلقة نتكلم عن خلق الوفاء!
الشيخ: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
نسأل الله التوفيق والإعانة، ثم نقول ابتداء:
اللقاء اليوم سيأخذ منحى غير الذي كنا قد تعودناه فيما سلف، وقد تكون المواضيع السابقة مصبوغة بالشرع أكثر؛ لكن الوفاء قضية إنسانية، فأحياناً لا تكون محكومة بالشرع، بمعنى أنها تقع بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وتقع حتى ما بين الإنسان والحيوان؛ هذه يحسن التنبيه له في أول الأمر.
أما ما ذكرتموه من تعريف الوفاء، فالوفاء خلق متشعب، بمعنى أن له علاقة بأكثر الصفات الحميدة في الإنسان، فيغلب على تعامل الإنسان مع والديه، تعامل الإنسان في بيعه وشرائه، تعامل الإنسان مع أصدقائه وقرناء عمله، تعامل الإنسان مع كل من حوله حتى مع الجبال الصماء والديار البكماء تتعلق بالوفاء، فالوفاء لا يمكن حصر أوديته، لكنه -كما قلتم في المقدمة- كلمة معدودة الحروف متشعبة المعاني تشعباً كبيراً.
لذلك سنحاول في هذا اللقاء أن نؤصل، ثم نحاول أن نذكر مجالات الوفاء، ثم نحاول أن نذكر غير ذلك مما يغلب على الظن أننا نخدم به من يسمعنا ويشاهدنا، لكنه غني بالأدب أكثر مما هو غني بالنصوص الدينية، فنقول:
الله جل وعلا جعل الأنفس مختلفة الطبائع مختلفة المشارب، كما أن القبضة التي قبضها الملك الذي رفع القبضة إلى السماء قبضها من الأرض كلها طيبها وخبيثها، كذلك جاء الناس مختلفي المشاعر مختلفي الطبائع، لما قرره الله جل وعلا قدراً وسبق في علمه أن يكون الناس كذلك.
ومما يستطرف في هذا الجانب ما تحكيه العرب على ألسنة بعضها: أن رجلاً وجد جرو ذئب صغير جداً ليس له إلا يوم أو يومان، فأخذه وألحقه بشياهه بمعزه بأنعامه، ثم إن هذا الذئب رضع من الشياه ونشأ بين الضأن ولم يبصر ذئاباً وهذا الرجل يتعاهده بالطعام كما يتعاهد شياهه.
فلما كبر هذا الذئب بقر الشاة وأخذ يفني في الغنم فقال ذلك الرجل أبياتاً يصور هذه الحالة وكان آخرها:
فمن أنبأك أن أباك ذئب
هذا التساؤل كان ينبغي ألا يطرح، اللهم إلا إن كان من باب البلاغة الشعرية.
والمقصود أن الذئب طبعه الغدر فلا يستغرب منه، فعلى هذا يقال: إن من كانت هذه سريرته لا يثمر معه معروف ولا يكون متحلياً بالوفاء.
أما الضد للوفاء فالعرب تزعم أن الإنسان يفر قدر الإمكان عمن سجيته الغدر واللؤم، وكلنا يسمع بصدر البيت الشهير:
وعند جهينة الخبر اليقين.
يقولون: إن رجلاً يقال له: الأخنس من جهينة خرج ووجد رجلاً يقال له: الحصين كلاهما فار من قبيلته، وكان يعرف عند العرب قديماً من يسمى بفئة الصعاليك، هذه الفئة تخرج للفتك والانتقام للنفس وجمع المال بأي طريقة كانت.
فتلاقيا وكلاهما فاتك غادر، فأخذ كل منهما يتوجس خيفة من أخيه، ثم اتفقا على أن يكون فتكهما سوياً، فمرا على رجل من لخم كان عائداً من عند أحد الملوك يملك غنيمة، فلما سلما عليه رحب بهما وأكرمهما.
فلما أكرمهما ذهب الأخنس لبعض شأنه، فلما عاد وجد صاحبه الحصين قد قتل اللخمي وأخذ ماله، فتعجب وقال: رجل أكرمنا -وكان الأخنس فيه شيء من الوفاء- وأطعمنا وسقانا وتصنع به هذا! قال: اسكت، فإنما لهذا ومثله خرجنا فأخذا يتناولان الطعام سوياً وكل منهما يحذر صاحبه؛ لأن السريرة طبعت على الغدر.
فبينما هما يأكلان أراد هذا الحصين أن يغدر بصاحبه؛ لكن الأخنس كأنه فطن لها فقال له الحصين في جملة حديثهما يريد أن يلهيه: هل أنت زاجر؟ وكلمة (زاجر) كانت العرب إذا رأت ذا ذنب مقطوع أو طائر يطير يمنة أو يسرة يتفاءلون أو يتشاءمون به، فقال الأخنس : وما ذاك؟ قال: هذا العقاب الكاسر قال: وأين هو؟ فرفع الحصين رقبته يريد أن يشير إلى علو العقاب فأخرج الأخنس خنجره ووضعه في نحر صاحبه فمات، فأخذ الغنائم كلها وقدم بهم على ديار جهينة، وفي الطريق مر على بطنين من قيس يقال لهما: مراح وأنمار وقابل امرأة تسأل عن الحصين فقال لها: وما قرابتك منه؟ فقالت: أنا أخته صخرة . قال: لقد قتلته؛ لكنها احتقرته وقالت: ما مثلك يقتل مثله، فتركها ومضى إلى دياره، ثم وزع الغنائم على قومه، ثم وقف يقول:
كصخرة إذ تسائل في مراح وفي جرم وعلمهما ظنون
تسائل عن حصين كل ركب وعند جهينة الخبر اليقين
والمقصود من هذا أن الغدر لا يكون من طبع الأوفياء، وقد قرر أبو تمام رحمه الله هذا إذ قال:
إذا جاريت في خلق دنيء فأنت ومن تجاريه سواء
رأيت الحر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء
فجعل الغدر ضداً للوفاء وجعل الوفاء ضد للغدر.
الشيخ: يجتمع فيها الأمران: جبلية ومكتسبة فتكون نبتة ربانية مغروسة في الأسرة التي ينتمي إليها الرجل والديار التي ينشأ فيها، ثم تكتسب من خلال التربية ومن خلال التجارب والتعلم.
أما الأسباب فقد نسميها أسباباً أو فلنقل: مدركات أو نقول: ثمة أشياء حول الإنسان لابد أن يحتاط لها، فإذا عرفها حقق خلق الوفاء.
ينبغي أن يعلم أولاً أن الله جل وعلا يحب معالي الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فلما قدم صلى الله عليه وسلم كان للعرب خلق كريم وخلق ذميم، فالخلق الكريم لم يزحه النبي عليه الصلاة والسلام.
والله جل وعلا يقول في سورة النور: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، فعبارة (أولو الفضل) تبين أن هناك قوماً لهم مزايا وعطايا وقوماً ذوي خلق نبيل شريف وموقف كريم.
هذه النصوص الشرعية تبين لنا بجلاء أن الله تبارك وتعالى يحب معالي الأمور ما الوفاء؟ أحد أعظم معالي الأمور، فإذا أدرك الإنسان هذا أصبح في طريقه لبناء نفسه لابد أن ينطلق من أصل شرعي، فالأفعال أو الصفات أو الخصائص أو النعوت التي يحبها الله جل وعلا ينبغي للمرء أن يتحلى بها.
فإذا كان الإنسان رفيعاً شريفاً يحب تلك الأمور -وهي تحتاج بالطبع إلى تضحيات- يهون عليه الأمر أن الله جل وعلا يحبها، والرب يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، والعلماء يقولون: من صبر على ما يكره وأنفق مما يحب نال البر، ولا ريب أن الوفاء من أعظم خصائص البر؛ هذه الأولى.
الثانية: الإنسان ينبغي أن يعلم أن الأيام دول.
قد يقال: ما علاقة الوفاء بأن الأيام دول؟ والجواب: أن الإنسان قد يكون وفياً لمن تغير عليه الأمر.
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
فلو خلج الكرام إذاً خلجنا ولو بقي الملوك إذاً بقينا
فالمقصود أن الإنسان يعلم أن الأيام دول، فمثلاً: الإمام عبد الرحمن الفيصل آل سعود رحمه الله نزح إلى الكويت بعد أن سلب الملك، والملك عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه مؤسس هذه البلاد انطلق من الكويت، وأميرها آنذاك هو الذي آوى الأسرة، فانطلق منها الملك عبد العزيز وفتح الله على يديه مدائن ووحد الله على يديه بلاداً وجمع الله على يديه الشمل وأقام هذه البلاد المباركة المشهودة.
ثم دارت الأيام فتعرضت الكويت لما تعرضت مما لا يمكن أن يغفل عنه أحد وهو غزو العراق.
ثم قدر أن يقوم الملك فهد رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة برد الجميل لأهل الكويت فتؤوى الأسرة الحاكمة من الكويت في ديارنا، ويدخل أهلها شرفاء أحراراً إلى ديارنا، ثم عادوا ولله الحمد والمنة ومن الله عليهم بما من عليهم، والمقصود من هذا أن الأيام دول.
ومن عرف أن الأيام دول يحاول أن يصطنع المعروف، ثم إنه يبعد تماماً عن الشماتة، لماذا؟
لأنها سنة الله في خلقه، فالدنيا ككرسي الحلاق هذا يصعد وهذا يهبط، وأنت ترى هذا عياناً في سوق الأسهم ففي أيام كان هناك ناس أمسوا ولم يصبحوا.
ولا يخفى أمر البرامكة وما كان لهم من علو كعب في دولة بني العباس؛ لكن ينبغي أن يعلم أن الأيام دول وأن الله يحب معالي الأمور.
الأمر الثالث: أن الحياة مراحل، وعلاقة (الحياة مراحل) بالوفاء أنه لا يوجد عالم شهير عرفه الناس بين عشية وضحاها، ولا يوجد ملك مشهور بالقوة السياسية والعقلية وصل إلى الملك بين عشية وضحاها، ولا يوجد غني أغناه الله بين عشية وضحاها، لكن القضية أن الإنسان يمر في حياته بمراحل، وخلال مراحل حياتنا يكون هناك أناس صفوة.
الشيخ: إذا خذلنا الغير يكون لهم دعم؛ فالأم تعكف على ولدها وتربيه وتتعاهده وترفض أن تتزوج من أجله، وإخوة يساعدون أخاهم يظنون به القدرة على العلم، أصحاب يعينون صديقهم على نوائب الدهر حتى يصل، طلاب يعينون شيخهم حتى يبلغ.
وهكذا في سائر مجالات الحياة، فالحياة مراحل، فإذا وصل الإنسان إلى الغاية يجب عليه أن يبر من سبقت له عليه النعمة واليد كما سيأتي تحريره.
وبعد العلم بأن الحياة مراحل وطن النفس على قضية.
كذلك ينبغي أن يعلم أن الإحسان مما يسترق به رقاب الأحرار، يقول المتنبي :
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقد جاء في السيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم أنه في صلح الحديبية كانت قريش تبعث الرجال ليتناوبوا في المباحثات مع النبي عليه الصلاة والسلام.
أحد الرجال الذي قدموا كان بذيء اللسان، فلما وقف عند النبي عليه الصلاة والسلام كأنه أراد أن يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفاً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحى يد الرجل بكعب سيفه، فلما نحى الرجل سأل هذا الرجل وهو بذيء اللسان قال: من أنت؟ يقول للمغيرة ، قال: أنا المغيرة ، قال: لولا أن يداً لك عندي لأجبتك، فعبر باليد عن النعمة.
ومن باب الفوائد أن العرب تعبر باللسان عن الثناء، ومنه قول الله جل وعلا: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، وتعبر بالقدم عن السعي: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2]، أي: سعياً وعملاً صالحاً، وتكني باليد عن النعمة: ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا.
فالمقصود: كما قال الأول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
الإنسان لا يسترق قلوب الأحرار بأعظم من اليد؛ لأن الحر يحفظ اليد، فحتى لو تبدلت الأيام وتغيرت السنون فأظهره الله أو غيره يستحي، ومن هذا جاء وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لـمطعم بن عدي ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة بجوار مطعم بن عدي بعد عودته من الطائف، وكان المطعم كافراً ومات على كفر.
ففي غزوة بدر أظهر الله نبيه فنظر عليه الصلاة والسلام للأسرى والقتلى فقال عليه الصلاة والسلام وهو المشرع للأمة وهو القدوة: (لو أن
والمقصود من هذا أن الإنسان إذا أحسن يستجلب رحمة الله، وفي نفس الوقت يسترق قلوب الأحرار، يقولون: إن رجلاً من الخوارج خرج على الحجاج بن يوسف لظلمه، فظفر به الحجاج وعرف فيه الشرف فأعتقه ولم يقتله، فلما تركه ومضت الأيام ذهب الخارجي إلى قومه، فقالوا: هلم بنا نحارب هذا الخبيث مرة أخرى، فقال: هيهات، هذا لا يمكن أن يقع، وكما قيل: أسر يداً معتقها، وملك رقبة مطلقها.
المقصود: أنه لما من عليه الحجاج وأعتقه جعل مانعاً له في حرب الحجاج مرة أخرى.
والأنفس الأبية تعرف معنى الإحسان، ولا يمكن أن يكون الوفاء إلا في أقوام شرفاء عظماء أجلاء، وإن كان ذلك أمراً نسبياً يتفاوت الناس فيه كسائر الأمور؛ لكن المقصود أن هذه الخمس هي أعظم المدركات الذي يحتاجها المرء في الوصول إلى الوفاء.
الشيخ: مجالاته واسعة لكن يمكن أن نحصرها في: الوفاء في التعامل، والوفاء للوطن والحنين إلى الديار، والوفاء
لذوي الحقوق، وهذا يشمل الوالدين والزوجة وغيرهما، والوفاء لذوي الأيدي أي: الوفاء لأهل النعم.
الإنسان يعيش وسط مجتمع، سواء في مجتمع كافر أو مسلم، وسواء في مجتمع مدني أو قروي، هذه الخلطة بين الناس تدعو إلى الحاجة لأن يتأصل فيهم الوفاء في التعامل.
ألفاظ التعامل يأخذ جوانب متفرقة، ولا نستطيع أن نقول إن له تعريفاً واحداً كما يصنع الفقهاء، لكن نقول: من ذلك الوفاء لمن استودعك وديعة ثم جاء من هو أقدر منك يطلبها.
والعرب تضرب المثل بـالسموءل ، وذلك أن امرأ القيس بن حجر ، كان شاعراً وكان أبوه ملكاً، وكانت الملوك ترى أن الشعر يخل بالملك فكان الملك ينفي ابنه فانتفى امرؤ القيس عن أبيه وبعد عنه لشاعريته، ثم قتل حجر والد امرئ القيس وجاء الخبر لـامرئ القيس فقال: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، اليوم خمر وغداً أمر، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، وأخذ يصنع ما يصنع لاسترداد ملك أبيه حتى دل على قيصر، وكان قيصر في أنقرة في تركيا.
فلما أراد التوجه إليها دل على السموءل الذي كان يملك قصراً في تيماء البلدة المعروفة المباركة في بلادنا، فأخذ أسلحته وأدرعه وسائر أمواله واستودعها السموءل .
ومات امرؤ القيس في تركيا، فجاء ملوك كندة يطالبون بالأدرع والأسلحة التي وضعت عند السموءل ، ولكن السموءل اشترط أن يستلمها ورثة امرئ القيس ، فطوق القصر ولم يجدوا سبيلاً إلى الوصول للسموءل ؛ لكنهم وجدوا ابن السموءل خارج القصر فأخذوه وأبوه ينظر إليه وهددوه بقتله إن لم يسلم لهم المال، فأبى ذلك ووافق على أن ينحر ابنه أمام عينيه فضلاً عن أن يسلم الأدرع والأسلحة، فضربت به العرب مثلاً في الوفاء أي السموءل بن عادياء .
يقول الله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام مضرب المثل في الوفاء في بيعه وشرائه وتعامله مع من كان يقرضه مالاً.
وقد احتاج عليه الصلاة والسلام فاقترض ثم وفى وزاد في القضاء، فكان إذا أخذ بعيراً أو جملاً وفى بأكرم منه وأفضل، وهذا لا يسمى رباً إذا لم يكن عن شرط، فلا يدخل في الأثر المشهور: كل قرض جر نفعاً فهو ربا.
غاية الأمر أن التعامل بين الناس ضابط في قضايا الوفاء، لكنهم يقولون: ما استوفى قط كريم، بمعنى: أن الكريم لا يأخذ حقه كاملاً إذا استوفى من الغير.
وينبغي أن تفرق بين الوفاء الذي تعطيه لغيرك والوفاء الذي تطلبه من غيرك، والله يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3]، أي: أنهم في الشيء الذي لهم يستوفون، وفي الشيء الذي عليهم يخسرون، فهذا يندرج تحت مضمون الوفاء.
الغاية من هذا أن التعامل يتجلى فيه خلق الوفاء، كصاحب عمارة عنده أجير، فمعنى الوفاء بينهما في التعامل أن هذا يؤدي الذي عليه وهذا يؤدي الذي عليه، فصاحب العمل يعطي الأجرة كاملة (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وعلى الأجير أن يعمل مخلصاً لصاحبه، ولا يدخل بنية أن يتجمل سنة ثم يضيع حقوقه، فهذا ليس من الوفاء.
هذا عنوانه العام (الوفاء في التعامل) ولهذا يقول الله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36].
وقدم الأخ لأنك عندما تتعامل مع أخيك وأمك وأبيك وصاحبتك وبنيك جرت العادة أن الإنسان إذا أراد أن يظلم أحداً من هؤلاء فإنه يظلم الأخ قبل أن يظلم أمه وأباه، ثم يوفي مع أمه وأبيه أكثر من وفائه مع أخيه، ثم يوفي مع زوجته وأبنائه؛ لأنه يشعر بالانتماء إليهم أكثر.
قدم الله الأخ وهو لا يتكلم عن نصرة، إنما يتكلم عن مطالبة، والمعنى: إن الإنسان لا يفر عن البعيد؛ لأنه ليس بينه وبينه تعامل، فمثلاً: نحن هنا في الرياض ولنا إخوة في مصر وفي السودان وفي الجزائر، فأنا لا أفر منهم يوم القيامة ولا يفرون مني؛ لأنه ليس بيننا علاقة حتى يطالبوني بحسنة وأطالبهم بحسنة، لكن أفر من أخي لأنني أحتك به، أفر من أمي وأبي؛ لأنني أحتك بهما، أفر من زوجتي وأولادي في المقام الأخير؛ لأن احتكاكي بهما وظلمي لهما وارد لكنه ليس كورود الظلم على الأخ.
هذه قضية الوفاء في التعامل، وأرجو الله أن تكون الصورة قد اتضحت جلية.
وإذا كنتم ستتحدثون عن الوفاء للأوطان والديار فأتمنى منكم أن تتعرضوا لما تعرضت له بلادنا وبعض البلدان العربية من الخيانة والغدر، وما لهذه البلاد المباركة التي مدت يد العون من فضل بعد الله عز وجل؟
الشيخ: أحياناً تنشأ ثقافات غير شرعية، ومن الثقافات غير الشرعية أن بعض الناس يعتقدون أن حب الوطن ليس من الإيمان، وإذا قلت له حب الوطن من الإيمان قال: حديث ضعيف لم يصح.
نعم لم يصح لفظاً لكن له معنى صحيح، قال الله جل وعلا: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فقدم الله الديار على الأبناء ثم قال الله جل وعلا: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ [النساء:66]، فجعل الخروج من الديار كقتل النفس، على هذا يقال: ينبغي أن يؤصل أن حب الأوطان شيء مغروس في قلوب كل شريف.
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
لكن السؤال: متى يحن الإنسان لوطنه، ومتى يجب عليه الوفاء؟
يجب عليه الوفاء متى قدر، لكن الحنين إلى الوطن يكون إذا ابتعد الإنسان، فالحنين شيء والوفاء شيء آخر، فالوفاء أن يسعى الإنسان في إثراء بلده، وفي تعريف الناس ببلده وما إلى ذلك من أمور، ومع هذا فالوفاء لا يكون إلا إذا حن إليها، يقولون: إن الصمة القشيري أحد شعراء عصر بني أمية أراد أن يتزوج ابنة عمه فوقع ما بين خذلان أبيه وطمع عمه، فاضطر الشاعر أن يخرج من أرض نجد إلى ديار الشام، فحن إلى محبوبته ريا وحن إلى تلك الديار وتذكر أيام طفولته، وتذكر المصطفاف والمتربع فقال:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني تعبت من الإصغاء ليتاً وأخدعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى وقل لنجد عندنا أن يودعا
فليست عشيات الحمى برواجع عليك ولكن خل عينيك تدمعا
هذا ما ذكر في حب الأوطان ولنا فيه استفاضة ستأتي.
الشيخ: يقول الله وهو أصدق القائلين: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، فقرن الله حقهما بحقه جل وعلا، وليس لأحد منة على أحد أكثر من منة الوالدة على ولدها، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك).
فمن ذكر تجربة شخصية جهد الوالدة معه فهذا أمر محمود يدل على وفائه لوالدته.
الوالدان يملكان من الشفقة ومحبة الخير لأبنائهم ما لا يمكن أن يدركه الأبناء إلا إذا أصبحوا آباء، ولذلك فمن ورث العقوق لوالديه والله لا يمكن أن ينجم عنه خير لغيرهما أبداً ولهذا جعل الله جل وعلا على لسان نبيه أن العقوق مما تعجل به العقوبة في الدنيا.
والتاريخ فيه شواهد على من وفى مع والديه فأكرمه الله، ومن عق فأهانه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لـعمر وللصحابة عن أويس القرني : (سلوه أن يدعو لكم)، وأويس لم يكن صحابياً ولم يشهد بدراً ولا الحديبية ولم يبايع تحت الشجرة؛ لكن أويساً كان باراً بوالدته، فبره بوالدته ووفاؤه معها جعله مستجاب الدعوة، حتى يتبعه رجل في مقام عمر يطلب منه أن يدعو له.
والمقصود من هذا أن الوالدة أحق الناس بالوفاء، ثم الوالد؛ فلا شك أنه لا أحد يحب أن يكون أحد أحسن منه إلا الوالد، فإنه يجب أن يكون ولده أفضل منه.
المقصود من هذا أن الوالدين لهما حقهما العظيم، ولا حاجة للإطناب؛ لأنه من جهل هذا الأمر فلا أظنه يعرف شيئاً، فحقوق الوالدين والوفاء معهما من أعظم خصال البر الدالة على كرم النفس، ومن رأى أحداً يحمل جفاء وعقوقاً لوالديه لا يأمنه على شيء.
الشيخ: المعلم شخص مر علينا في أيام حياتنا فأعاننا على الوصول إلى ما قد وصلنا إليه، والسلف رحمة الله عليهم قدموا نماذج عظيمة في ذلك، يقول أبو حنيفة : ما مددت قدمي تجاه بيت حماد وإن بيني وبينه سبع سكك إجلالاً له.
وقال: والله ما صليت صلاة منذ أن مات حماد إلا ودعوت له مع والدي؛ براً بشيخي!
وكذلك الإمام أحمد مع الشافعي رحمه الله.
فهذه طريقة وهي الدعاء للمعلم والشيخ.
وهناك طرائق أخر منها طريقة ابتكرها سيبويه ، صاحب الكتاب المشهور، وكان من أشد مشايخه وأعظمهم الخليل بن أحمد الفراهيدي ، فكان سيبويه إذا قال: (قال وزعم) وجد بالاستقصاء أنه يقصد الخليل بن أحمد فكان لا يذكر اسمه إجلالاً له، فيقول مثلاً: زعم يونس ، قال فلان، ويذكر مشايخه الذين أخذ عنهم؛ لكنه إذا ذكر القول دون أن يذكر القائل أو ذكر الزعم دون أن يذكر القائل فإنما يقصد شيخه الخليل بن أحمد ، وهذا من وفائه لشيخه، وفي الكتب المعاصرة وجدتها عند الشيخ محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي ابن صاحب أضواء البيان متع الله به، وهو شيخ فاضل في الجامعة الإسلامية في علم الأصول، ففي كتبه ورسالة الدكتوراه التي حققها في الأصول يتعرض لمذكرة أبيه الشيخ محمد الأمين ، فالعلاقة بينهما علاقة والد وولد، ثم إن كلاً منهما مؤلف، فكان لا يقول: (قال محمد الأمين ) ولا يقول: (قال المؤلف) بل يقول: قال الشيخ محمد الأمين .
وهذه تجمع بين البر الشرعي الذي أمرنا به وبين الوفاء للوالد، وهذه طريقة مكافأة المعلم، وقد نقل عن الأمين والمأمون أنهما قالا: من علمني حرفاً صرت له عبداً، وكانا بارين بالمعلم.
من صور الوفاء للمعلم ذكره وتمجيده في المحافل مواصلته وزيارته وتقبيل رأسه إذا رأيناه بين الناس حتى لو وصلنا إلى مستوى أعلى منه إما بدرجة أكاديمية أو بشهرة وأمثال ذلك، ومن لم يكن له خير مع معلميه فلا خير له مع غيرهما.
على أنه يدخل الحسد في الناس، كإنسان يطلب علماً عند أحد ثم يتعلم فيصيبه حسد على من علمه؛ لكن هذا لؤم لا يقع فيه إلا القليل.
الشيخ: الذين نعاشرهم من الأصدقاء الأصحاب الزملاء وقرناء العمل والجيران كلهم يحتاجون إلى وفاء، خاصة من كان بيننا وبينهم حرمة يقولون: إن موسى عليه السلام لما التقط التمرة جاء جبريل وجعلها في الجمرة، فكأنه أصاب موسى تشويه جزئي، فصار فرعون لا يريد أن يأكل مع موسى فيقال: إن الله حفظ موسى عن أن يأكل مع فرعون حتى لا تبقى بين موسى وفرعون حرمة مؤاكلة فيكون زوال ملك فرعون على يد موسى أمر لا غرابة فيه شرعاً ولا يتنافى مع خلق الوفاء الذي جعله الله جل وعلا في أنبيائه.
ولهذا لما أضاف إبراهيم الملائكة قال الله عنه: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود:70]؛ لأنه إذا لم تقع مؤاكلة فهذا يشبه الغدر.
نقول: الأصدقاء والخلطاء والأصحاب والجيران لهم حق الوفاء؛ لكن وسائل البر تختلف، فمن بر ذوي العشرة والصحبة ذكر الحميد ومواصلتهم وإعانتهم أيام أفراحهم، ومواساتهم أيام حزنهم.
الشيخ: هذا المحور قد يكون عنصر الوفاء الأول؛ لأن الوالد يكرمنا لأنه والدنا، والوالدة تكرمنا لأنها والدتنا، والزوجة تكرمنا لأنها زوجتنا، والصديق لأنه صديق؛ لكن إذا كانت اليد من شخص ليس بيننا وبينه قرابة، أو بتعبير أصح: ليس بيننا وبينه ما يدفعه لأن يكون له يد علينا؛ فإنه يتأكد الوفاء معه؛ لأنه صاحب يد أولى، ومن كان صاحب يد أولى يستحسن أن نكافئه؛ لأن الذي يضع القلادة العظيمة في عنقك ويسترقك هو من ليس لك عنده حق، ثم ابتدأ بهذا المعروف.
شخص -مثلاً- سمع أن فلاناً انكسر في تجارته فأتاه وليس بينه وبينه صلة فأعطاه مالاً أو أقال عثرته هذا له حق.
طالب علم جاء شيخ فتبنى أن يفقهه وهو ليس طالباً رسمياً في مدرسة أو في جامعة، فهذا يدل على فضله وعلى إحسانه، وهو يستحق المكافأة في المعروف، هؤلاء هم أصحاب الأيدي.
كذلك على العاقل أن يعرف أين يضع معروفه، قال المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
لكن ينبغي أن يفرق الإنسان بين الوفاء والمعروف، فالمعروف إذا أردت أن تفعله فافعله في أي أحد: لا يذهب العرف بين الله والناس، أما ما ترجو وفاءه وما تصطنعه لأيامك فلابد أن تختار أناساً أحراراً شرفاء قادرين على أن يعرفوا قدرك إذا مكن الله جل وعلا لهم، ولا يكونون كما قال الأول:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
الشيخ: يقول الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس:12].
أعظم الأدب هو الأدب مع الله، وأعظم الوفاء ما كان مع الله، وقد جاء في الأثر أن الله جل وعلا قال في كتابه الكريم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173].
جاء في الآثار أن الله جل وعلا كتب هذا العهد وألقمه الحجر؛ فلهذا ورد في حديث عبد الله بن السائب -وإن كان الحديث في سنده ضعف لكن أهل العلم على العمل به كما حرره ابن قدامة في المغني وغيره- أن الإنسان إذا طاف بالبيت يقول: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك.
ويقول الله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، لا يحمل الإنسان فوق ظهره ثقلاً أعظم من أنه أنيط به عبادة الله تبارك وتعالى، والله قال عن أهل الحسرة أنهم يقولون: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].
فمن أدى الشرع على الوجه الأكمل والنحو الأتم كان قد عرف الوفاء مع ربه تبارك وتعالى الذي أوجده من العدم ورباه بالنعم وأكرمه بما أكرمه به، وتعبده بأن يعبده وحده دون سواه، قال الله جل وعلا مثنياً على خليله إبراهيم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37]، قال قبلها: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] أي: قام بهن على الوجه الأكمل والنحو الأتم.
والإنسان قلب يعتقد وجوارح تعمل على ذلك الاعتقاد، فإذا خلي بين الإنسان وبين قبره جاء الذين أودعوه القبر فحلوا عنه أربطة الكفن، فإذا حلت أربطة الكفن ووضع التراب على ذلك القبر رأى الإنسان بعد أن يسأله الملكان عمله، فإن كان ذلك العمل عملاً صالحاً رآه في هيئة حسنة يبشره برحمة من الله ورضوان، وإن كان غير ذلك -عياذاً بالله- رآه في هيئة سيئة يبشره بعذاب من الله جل وعلا وخذلان.
ثم إن تلك الجوارح تقوم بين يدي الله، فيقول أهل الإشراك يوم القيامة: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، فيقسمون بالله في ذلك الموطن أنهم ما كانوا أهل إشراك، فيختم الله على ألسنتهم، لأنهم كما قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : (إن الرجل منهم يقول: يا رب لا أقبل شاهداً على نفسي إلا من نفسي، فإذا قال ذلك ختم على لسانه).
تلك الجوارح كانت تعينه في الدنيا على معصية الله، فإذا رأت جلال الموقف وهيبة الوقوف بين يدي رب العالمين جل جلاله، فهي أول من يتنكر له ويتخلى عنه، فتنطق جوارحه بما كانت تعمل، قال الله جل وعلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
وقد اختلف العلماء في السبب الذي من أجله ختم على تلك الأفواه فقيل: السبب أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23].
وقيل: إن شهادة من لا ينطق أعظم شهادة ما ينطق وهو اللسان.
وأياً كان تعليل العلماء فإن ذلك كله يدل على أن المرء لا ينبغي أن يحسن في الوفاء مع أحد كوفائه مع ربه تبارك وتعالى.
يتحرر من هذا الحديث القدسي أن الله غني عن طاعة الطائعين ولا تضره جل وعلا معصية العاصين، فأعظم ما يقوم به العبد الوفاء لربه.
ويكون الوفاء بأن يمتلئ القلب محبة لله جل وعلا وإجلالاً وتعظيماً له وإذعاناً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
ثم الطمع في رحمته، وهذا من حسن الظن برب العالمين جل جلاله، ثم الخوف من عقابه تبارك وتعالى؛ قال الله عن الصالحين من عباده: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، ثم ذكر مآلهم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
ثم محبة نبينا صلى الله عليه وسلم، والشهادة بأنه رسول حق أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، وقام بواجب الدين على أكمل وجه، وشهد له أصحابه، وستشهد أمته عليه الصلاة والسلام أنه أدى الأمر على أكمل وجه.
ومن محبته التأسي بخلقه والاقتداء بسيرته والاستنارة بما كان عليه عليه الصلاة والسلام من خلق جم وهدي قويم.
ثم بعد ذلك تأتي الأعمال لتترجم تلك المعتقدات، ومن صلح قلبه صلحت جوارحه واستقامت، فالغدو والرواح إلى المساجد وحضور الجمع والجماعات وفاء لأمر الله تبارك وتعالى وتلبية لندائه الذي شرعه لعباده.
صيام الهواجر والتقرب إلى الله جل وعلا بذلك الصيام سواء في رمضان وهو فرض أو في غيره من النوافل.
الحج والعمرة، وأداء زكاة المال، وبر الوالدين، والقيام بحقوق الجيران، وكثرة ذكره تبارك وتعالى والتسبيح بحمده، وغاية تلك الشريعة السمحاء وما أنزله الله على رسوله من كتاب أو ما جاءت به السنة الصريحة فالأداء لها من الوفاء لرب العالمين.
والإنسان في سيره إلى الله يعلم أنه لابد في عمله من التقصير، وكلنا خطاء وذو تقصير، ونحن لا ندعي كمالاً بل نرجوه، ونقول كما قال الصلحاء من قبلنا: اللهم لسنا برآء فنعتذر ولا أقوياء فننتصر، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله!
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا حتى نقوم بحقه على الوجه الأكمل والنحو الأتم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
الجواب: الوفاء للنبي صلى الله عليه وسلم تجسد في قضية المقاطعة، لكن نبه السائل إلى مسألة، وهي آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نمثل بأمر بسيط: فلو أن إنساناً موظف في دائرة حكومية ثم جاءه رجل يحمل ورقة فيها وصية لحامل الورقة.
هذه الوصية نفرض أنها من أبيه أو من أمير البلدة أو من أستاذه أو ممن له حق عليه، فعلى قدر محبة هذا الإداري لكاتب الوصية يكون الإكرام لحاملها.
فإذا لامه زملاؤه في العمل قال: هذا أوصاني به أبي، أو قال: هذا مبتعث من الأمير. وهذا حق لا ارتياب فيه، فكيف إذا كان الموصى عليهم قد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حق عظيم لا ينبغي لأحد أن يجحده ولا ينكره، قال عليه الصلاة والسلام: (والله لن يؤمنوا حتى يحبوكم لإيمانكم وقرابتكم مني)، قال ذلك للعباس عندما شكا إليه جفاء قريش لنبي هاشم.
الجواب: أما ما يجب عليك فقد حصره النبي صلى الله عليه وسلم في أمور:
أولها: الاستغفار: فأعظم شيء أن تقول: اللهم اغفر لها وارحمها وتدعو لها بما يناسب حالها في قبرها.
الأمر الثاني: الحج أو الاعتمار عنها، وهذا يصل أجره إليها بالإجماع.
والأمر الثالث: أن تكثر من الصدقة عنها.
فهذه من وسائل برها، كذلك تنظر في صواحباتها فتبرهن وتقوم بالسؤال عنهن كما كانت تفعل، وأي أمر غلب على ظنك أن والدتك ستفرح به لو كانت حية فاصنعه بعد وفاتها ما لم يتعارض مع كونها ميتة.
أما بالنسبة لأخيك فالله جل وعلا يقول: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، فالتوبة بابها مفتوح، وقد فعل خطأ عظيماً فيما سلف؛ لكن باب التوبة مفتوح، ومن وسائل التكفير أن يفعل ما أرشدناك إلى فعله لكن الحق الذي عليه أكثر لما كان منه من تفريط أيام حياتها، والله الموفق والمسدد لكل خير.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر