ثم تحدث عن أصالة علم السلف ويسره وسهولته، ثم انتقل إلى بيان اهتمام السلف بالمقاصد والغايات، كما أثنى على واقعية علومهم وعدم تجشمهم الإجابة على المسائل الافتراضية التي لم تقع.
ثم ذكر بعض الوسائل التي تحفظ العلم، وأسهب في الكلام عن المذاهب والاختلاف والجوانب والسلبية في ذلك.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: علم السلف وعلم الخلف، وانطلق هذا العنوان ليرد على مقولة صنفها الفلاسفة والمناطقة، وأهل علم الكلام، يقولون فيما نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ طريقة السلف أسلم، لأنهم في معتقد هؤلاء وعلى زعمهم يتوقون الدخول في المعمعات وفي المسائل المشكلات، ولا يستطيعون أن يخوضوا غمار المسائل العلمية التي تتساقط فيها عمائم الأبطال، وتتكسر فيها النصال على النصال، فهؤلاء المناطقة والفلاسفة مثل من يقول: السلف قومٌ مساكين، لا يدخلون في هذه الغمار، ولا هذه البحار، ولا يعبرون هذه المحيطات التي نعبرها نحن، فطريقتهم أسلم وطريقتنا أعلم وأحكم.
والرد عليهم بإيجاز أن يقال: طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وطريقتكم أغشم وأظلم وأسقم، وما وجد عند السلف إلا الأصالة والعمق واليسر، ووجد عند الخلف إن لم يكن عند السلف وجد عندهم علم (القِدْر) لأن العلم علمان:
علم قبر، وعلم قِدر؛ فعلم القبر هو الكتاب والسنة الذي يوصلك إلى مرضاة الله والدار الآخرة، ويدخلك جنةً عرضها السموات والأرض، وتجوز به الصراط، ويسقيك من الحوض قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] وقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] وقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وقال: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [القصص:80].
إلى غير ذلك من الآيات، فهذا علم القبر؛ علم ينجيك من عذاب القبر، وينوره لك.
وأما علم الخلف إن لم يكن متصلاً بهذا فهو علم قدر؛ فن الطبخ، وفن تقطيع البصل.
لأنها ألفت رسائل ماجستير في هذا العصر في فن الطباخة ونوقشت، ووجدت رسالة أخرى في فن الأزياء، وكيف يلبس النساء في الموضات الجديدة، والموديلات، رسالة ماجستير؛ فهذا علم الخلف، علم القدر، وعلم الصحن والملعقة والشوكة.
وأما علم السلف: فهو علم النجاة والنور والإيمان والاستقامة، وإذا أردت أن تلخصه فهو: الإيمان والحب والطموح.
ويوم وجد السلف كانت الدنيا مشرقة بنور العلم، ويوم أتى المتعمقون من الخلف أتت التشقيقات في الكلام حتى نسبوا إلى بعضهم أنه يتساءل ويسأل نفسه:
إذا خرجت سمكة من البحر، ثم صلت بالناس، ثم عادت، هل تجوز الصلاة وراء السمكة؟
هذه الافتراضات وغيرها هو ما نسمعه في هذه الجلسة.
أولها: أصالة علم السلف؛ وهي الأصالة والعمق، وعلم الخلف؛ علم الكلام والمنطق وعلم الفلسفة.
المسألة الثانية: يُسر علم السلف، وصعوبة التحصيل عند الخلف.
المسألة الثالثة: علم السلف؛ علمٌ موجزٌ مختصرٌ غزيرٌ مبارك، وهذا في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف لـابن رجب.
المسألة الرابعة: علم السلف علم مقاصد، وعلم الخلف علم وسائل.
المسألة الخامسة: علم السلف علم تطبيق وتأثر ونفع عام، وعلم الخلف علم جدلٍ وأمورٍ لا يكون لها دور في الواقع غالباً.
المسألة السادسة: علم السلف منضبط بأصول وقواعد كلية؛ وهذه من كلام ابن تيمية والشاطبي، وعلم الخلف مبعثر في جزئيات لا يكون تحت مظلة ولا قاعدة في الغالب.
قبل التفصيل سوف نعرج على أمور:
ونقف مع الإمام المرتضى سيف الله أبي الحسن علي بن أبي طالب، ومدرسته في الكوفة، وكيف ألقى أول دروسه في الكوفة في الرحبة؛ وهي عاصمة العراق آنذاك.
ثم قبل ذلك نستمع إلى أنس وهو يقرر لنا كيف كان الصحابة يتلقون العلم فيحفظون ويوجهون.
أما ابن عمر فهو يعترض على أهل الرأي، وينشئ مدرسة النقل، ويحارب العقل الذي يحارب النقل؛ لما يسأله السائل عند الجمرات: أرأيت لو فعلت كذا، أرأيت لو فعلت كذا، قال: اجعل (أرأيت) في اليمن.
ثم نأتي إلى الإمام أحمد ونتساءل لماذا كره الإمام أحمد تأليف الكتب؟! وتصنيف المصنفات؟! والتوسعة في الشروح؟!
حتى قال له سائل: أكتب رأي إسحاق بن راهويه وابن المبارك والأوزاعي؟
قال: لا، اكتب الحديث، وخذ من حيث أخذ القوم.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: كره الإمام أحمد تأليف الكتب.
ونتساءل معه: يا إمام أهل السنة! والجماعة، يا أبا عبد الله، يا أيها النور المشرق، يا أيها المجدد الكبير! لماذا ألفت أنت المسند وكرهت للناس أن يؤلفوا الكتب؟!!
هي وقفة مع الإمام أحمد.
أما الشاطبي فيقول في أول الموافقات: كتب المتقدمين أنفع من كتب المتأخرين، وهو يقول عن نفسه: أنا لا أقرأ في فقه المتأخرين.
حياك الله أيها الشاطبي من عقلية باهرة، توازن عقلية شيخ الإسلام ابن تيمية.
وفي الشاطبي هذا شيء عظيم؛ الشاطبي هذا صخرة الوادي:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء |
ومن شاء أن يقرأ عمق الرجل، وأصالته وروعته وإبداعه فليقرأ الاعتصام والموافقات، كتابان اثنان.
قال رشيد رضا؛ الكاتب المتأخر، تلميذ محمد عبده؛ المتأخر المصري الإمام في التفسير قال: دخلت المكتبة في القاهرة فكم من كتب وقعت عيني عليها، فما رأيت بعد الكتاب والسنة إلا كتابين اثنين هما: الموافقات والاعتصام للشاطبي، فتذكرت قول الأول:
سامحن بالقليل من غير عذلٍ ربما أقنع القليل وأرضى |
أو قول الآخر:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل |
ثم نسأل الحنابلة: لماذا يتضاربون بالأحذية في سوق بغداد من أجل التعصب المذهبي؟!
ونسأل كذلك الوزير الخادم مرجان العباسي يوم يقول: أنا مقصودي أن أقتلع المذهب الحنبلي. ورد ابن الجوزي وابن هبيرة عليه.
ثم نسأل الذين يقولون: الرأي الصحيح ما ذهب إليه الأحناف، لكن ننتصر لمذهبنا رياضةً وتقليداً، لماذا والحق أحق أن يتبع؟
عدم معرفة بعض الفقهاء بعلم الحديث؛ أليست مصيبة!! نعاها ابن تيمية للمسلمين!
يأتي محدث فيقول في أول الكتاب، وهو في كتاب من كتبنا نحن الفقهاء، أو نحن أهل هذه البلاد: {أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم} وهو حديث موضوع.
فرحم الله ذاك العالم، هل سأل نفسه أن هذا حديث موضوع؟!
أو عالم آخر يأتي في كتاب الطهارة بأول حديث: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ
ثم نأتي كذلك إلى عدم معرفة بعض المحدثين للفقه والاستنباط من الدليل، محدثٌ يروي حديثاً واحداً من أحد عشر طريقاً؛ حديث عائشة وهو في صحيح البخاري وصحيح مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه من المسجد وأنا حائض، فأرجل رأسه} يُسْأَلُ هذا العالم فيقال له: هل يجوز للحائض أن تمس الرجل؟
قال: لا أدري؛ اسأل أبا حنيفة الذي يقول إنه يفهم علم الأولين وعلم الآخرين.
فذهب الرجل إلى أبي حنيفة فقال: نعم يجوز للحائض أن تمس الرجل، حدثنا الذي أرسلك عن فلان عن فلان عن عائشة أنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه من المسجد فأرجله وأنا حائض} فانظر كيف خفي الاستنباط والمقايسة في المسائل على هذا المحدث، وظهر لذاك؛ مع العلم أن هذا بارع في الحديث وذاك بارع في الفقه، وهذا ليس له باع في الاستنباط وذاك ليس له باع في الحديث.
ثم مجلس مع أحد الخرافيين عند ابن تيمية في الإسكندرية ومع أخيه عبد الله وقد ادعى العلم، وسوف يندد به ابن تيمية وأخوه ويضحكان عليه في المجلس.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمـدٍ وينكر الفم طعم الماء من سقم |
السقيم هو الذي يقول: إن علم السلف ليس أصيلاً، والسقيم هو الذي لا يفهم علم السلف؛ أصالة علم السلف تأتي من الكتاب والسنة، يتوضأ الصحابة والتابعون ويجلسون في حلقات، ويحتبون بأيديهم على أرجلهم، ولا قلم، ولا دفتر، ولا مسطرة، ولا سبورة، ولا طباشير، ويبدءون يتساءلون قال الله وقال رسوله، ويقول مصنفهم ومؤلفهم:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان |
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان |
ويقول الثاني من شعرائهم:
العلم ما قيل فيه قـال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين |
وبعض الناس يسأل عن علمٍ، أو عن مسألة لم تقع، أو ربما لا تقع في مائة سنة، وهو يجهل الأمور التي تقع في كل أربع وعشرين ساعة.
جاء رجل إلى زيد بن ثابت فقال له: لو فعل رجل كذا وكذا فماذا عليه؟
قال: [[أوقعت هذه المسألة؟ قال: ما وقعت. قال: اذهب إلى أهلك، فإذا وقعت فتعال فاسألنا فيها، لنتجشم لك الجواب]].
وبعض الناس من قلة الورع إذا عرضت عليه المسألة التي يتحرج منها، ابن عباس وابن تيمية وابن القيم طفر طفراً بالجواب أخطأ أم أصاب:
وليس بحاكم من ليـس يخشى أأخطأ في الحكومة أم أصابا |
قال هذا التابعي: [[لا إله إلا الله، تفتي في كل هذه المسائل؟ قال: نعم. قال: والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتفتون في مسائل لو عرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر]].
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يدخل الشام (سوريا) توقف في الطريق، قالوا: مالك يا أمير المؤمنين؟
قال: [[وقع طاعون في الشام فلا أدري أأدخل أم لا، أرى ألا أدخل. قال: استفت الناس فأتى بالمهاجرين فجلسوا قال: أسمعتم من الرسول عليه الصلاة والسلام]].
هو لا يريد المشورة، هي ليست بيع غنم، ولا مساومة كشاة الأعرابي الذي عرض شاته في السوق فقيل: بكم شاتكم؟ قال: شاتي بسبعة، وأتى لي بثمانية، فإن كنت تريدها بتسعه فخذها بعشرة، وهذه المساومة لا تدخل في العلم.
فـعمر لم يجمع المهاجرين ليقول لهم: ماذا ترون؟ ما هو رأيك يا علي! ويا عثمان! ويا أبا عبيدة؟ يريد كلاماً مفصلاً، وإلا فرأيه وعقليته أكبر من أن تحصى؛ هو عبقري على مستوى العالم، فهو الثاني في العظماء كما قال الأعداء:
والحق ما شهدت به الأعداء |
ولما أراد أن يدخل الشام على الصحيح، وإذا بـعبد الرحمن بن عوف مقبلٌ كان أظلَّ جمله فتأخر يبحث عنه، فأقبل وقال: لماذا اجتمع المسلمون؟ قالوا: من أجل مسألة الطاعون. قال: إن عندي فيها علماً، حياك الله يا ابن عوف! وحيا الله علمك.
[[قال عمر: ماذا سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: سمعته يقول: {إذا وقع الطاعون بأرضٍ فلا تخرجوا منها، وإذا وقع في أرضٍ وأنتم خارجها فلا تدخلوا إليها} قال عمر: أنت عندنا العدل الثقة]] وهذا من أوائل التجريح والتعديل في الإسلام.
فإذا قلت: ما هو الدليل؟ قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم فعل كذا، وقال الرسول صلى الله عليه سلم كذا وكذا.
وعند السيوطي رسالة في أن العلم نقطة، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[العلم نقطة كثرها الجاهلون]] العلم قليل كالجوهر والمسك:
فإن تفق الأنـام وأنت منهـم فإن المسك بعض دم الغزال |
الغزال دماؤه كثيرة توزن بالكيلو غرامات، لكن فيه غدة درقية يخرج منها المسك؛ فكلام الناس كدم الغزال، والمسك الذي فيه كالعلم. ولذلك يقول حماد بن زيد: الحمد لله والشكر على كثرة العلم.
حماد بن زيد؛ من رجال البخاري ومسلم، اسمه حماد بن زيد بن درهم. وحماد بن سلمة؛ من رجال مسلم لا من رجال البخاري.
ولذلك ترى ابن حبان ينزل نزولاً جوياً على البخاري ويقول: لماذا لا ترو عن حماد بن سلمة، والإمام أحمد يقول: لن تزيدنا الأيام في حماد بن سلمة إلا بصيرة.
ومعذرة فهذا الاستطراد لا بد منه، وهو من سير القوم!!.
اسمه: حماد بن زيد بن درهم، وحماد بن سلمة اسمه: حماد بن سلمة بن دينار. قيل لأحد السلف: أيهما أفضل حماد بن زيد بن درهم أو حماد بن سلمة بن دينار؟
قال: الفضل بينهما كما بين جديهما في الصرف، الدينار عشرة دراهم فمن يفضل من الحمادين؟ حماد بن سلمة.
ذكر الذهبي في المجلد الثامن من سير أعلام النبلاء أن حماد بن سلمة تزوج سبعين امرأة، ولم ينجب ولداً؛ قالوا: لأنه من الأبدال والأبدال لا ينجبون.
وكان فيه تقوى من الله عزوجل، يقول الذهبي رحمه الله: كانت حياته معمورة بالطاعة، لا يحدث حديثاً واحداً حتى يقرأ مائة آية، وإذا جلس وحده جلس يسبح ويستغفر، وإذا مشى إلى المسجد لا يماشي أحداً من زملائه لئلا يشغلوه في الكلام. قال حماد بن زيد لأيوب بن أبي تميمة السختياني: كثر العلم. وأيوب هذا علم في رأسه نار.
يقول الإمام مالك: ما كنت أظن في أهل العراق خيراً، حتى رأيت أيوب بن تميمة السختياني أتى يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف.
كان أيوب بن أبي تميمة السختياني إذا نزل إلى السوق هلل الناس وكبروا حتى يرتج السوق؛ لأنه من الذين إذا رؤوا ذُكِرَ الله. قال عنه ابن كثير والذهبي: إذا حدث بالحديث بكى فيمسح عينيه وأنفه ويقول: ما أشد الزكام؛ ليوهم الناس أنه مزكوم، قال ابن الجوزي معلقاً على القصة:
أفدي ظباء فلاةٍ ما عرفن بهـا مضغ الكلام ولا مزج الحواجيب |
هذا البيت للمتنبي يقول: أفدى بروحي، وهو يفديهم بروحهم من لا يعرفون التكلف في الكلام ولا في العطاء.
أيوب هذا قال له حماد: كثر العلم يا أبا تميمة. قال: لا والله ما كثر العلم، ولكن كثر الكلام وقل العلم.
قال ابن القيم في الفوائد معلقاً: فانظر إلى هذا الحبر، كيف فهم أن العلم قد قل وكثر الكلام.
أصالة علم السلف تنطلق من أمور؛ منها تحديد مسارهم في العلم، فهم ليس عندهم إلا آية وحديث؛ نحن عندنا علم سند، ومصطلح، وأصول فقه، وعلوم قرآن، وجغرافيا، وتاريخ، وتربية، وعلم نفس، فإذا خرج إنسان سُئِلَ في مسألة؟ قال: لا أدري، هل هي في كتاب عنترة بن شداد أو في كليلة ودمنة، أو في البخاري، أو في القرآن.
هذا علم الخلف؛ علم الخلف يدري أنه لا بد أن يشغل وقته وعمره في منتجات أسبانيا، ماذا تصدر من ككاو وأناناس؟ وما هي عاصمتها؟ وما هي المحاصيل فيها؟
هذا علم يبكي القلوب، كيف يصبر أهل الجغرافيا ولا يبكون في الفصل! نحن لا نزري بهم جزاهم الله خيراً فقد أفادونا وعلمونا أن عاصمة الكويت الكويت وتونس تونس، ولا نستهين بعلم أحد من البشر؛ فعلمهم مطلوب.
لكن المطلوب أن يكون المحور هو القرآن والسنة، وعلم التاريخ المتأخر علم جميل، سليمان فرنجية ما ندري متى ولد حتى أخبرونا في المذكرات، هذا اللبناني تولى الحكومة بعد صائب سلام، وولد في عام كذا وكذا، وهذا علم جليل شريف، وأخبرونا كذلك أن زنوبيا الزباء يأخذها من تدمر قبل الإسلام، فإذا مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم مروا مرور السحاب.
الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ميلاده، هجرته من مكة إلى المدينة، بناته أربع، هذا رسول البشرية تتحدث عنه بهذا الكلام، معلم الإنسانية الذي يحتاج إلى مجلدات وجلسات ومصنفات تمر عليه فإذا أتيت إلى زنوبيا أخبرتنا بـالأبرش ماذا فعل بها وماذا فعلت به، وحروب داحس والغبراء، وينتقلون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى يصلون إلى السلاجقة، ثم يدخل إلى هتلر والحرب العالمية، ومن يقرأ يجد بعض كتب التاريخ تتحدث في الحرب العالمية أكثر من حديثها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته.
فلا نعيب علماً حاشا وكلا، لكن العلم إذا لم يرتبط بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فهو علم قِدْر أو علم طبخ (فن الطبخ) هذا أمر.
قال ابن تيمية: إن الله لن يغفل عن المأمون لما أدخل في بلاد المسلمين من علم الكلام، فنحن في غنية عن علم الكلام.
أتى التتار وهاجموا بلاد المسلمين واجتاحوها فما أتلفوا لنا كتاباً.
الآن القوميون والوطنيون والترابيون يقولون: ذهب تراثنا، في نهري دجلة والفرات.
مقصودهم حتى يقال للسنة: إنها ناقصة، وإن كتب الإسلام ذهبت.
والصحيح عند المؤرخين أنه ما ذهب علينا إلا علم الكلام، انسحق في النهر، أما كتب السنة فالحمد لله موجودة، المعاجم، والصحاح, والمسانيد، والسنن، وعلم الرجال، وعلم الفقه والتفسير كلها موجودة في المكتبات.
حتى الآن اكتشف لـابن تيمية تفسير في بون في ألمانيا خمس مائة مجلد، فلك الحمد يا ربي ولك الشكر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] والذكر إذا حفظ فلا يستطيع التتار ولا الأمريكان ولا الإنجليز هَدْمَة ولا إهداره ولا إحراقه، أما القوميون فيقولون ذهب، حتى إن بعضهم يقول: ما بقي من السنة إلا العشر، يا ويلك من الله! أليس الله عزوجل قد تكفل بحفظها، وما هي المخطوطات لا زالت ترد الآن وتفد وتحقق في الأسواق لكن من يقرأ.
علم الخلف علم المنطق، وهذا ذهب به المأمون فقال: من ترجم كتاباً وزنت له وزنه ذهباً، فما أمكنه الله عزوجل بل تصدى له الإمام أحمد وأحمد بن نصر الخزاعي، وهذا المشرب الصافي الثجاج، مشرب أهل السنة والجماعة ترد بدعته، وانتصرت السنة فيما بعد، وهذا له حديث خاص يعادل درس (حرب طاحنة بين السنة والبدعة) بالأمس.
أما الفلسفة فانتشرت، وهي التي دخلت بالعقل وقدمته على النقل، فأتوا يئولون الصفات، وأدخلوا علم الكلام في التوحيد، ولذلك تجد بعض الناس يرى أن علم التوحيد هو علم الكلام، حتى صاحب الطحاوية رحمه الله رحمة واسعة لما أراد أن يدخل في التوحيد دخل بعلم الكلام.
علم التوحيد علم قال الله وقال رسوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] تكفي، ما يأتي بعلم المتأخرين ثم الردود عليهم، لا خارج العالم ولا داخله، ولا متصل ولا منفصل، ولا جوهر ولا عرض.
صحيح أن في الرد عليهم كما فعل ابن تيمية فائدة، أما تدريس أبناء المسلمين فلا يدرس علم الكلام.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] الآن صعبوا علينا العلم، الإنسان منا يدرس أربع عشرة سنة أو ست عشرة سنة أو عشرين سنة فإذا تخرج قال له الأستاذة والدكاترة: إن العلم لا زال بينك وبينه مراحل، أنت الآن أعطيت مفاتيح العلم؛ لكن لا بد أن تحضر الماجستير، ثم بعد الماجستير الدكتوراه، ثم تحصل بحثاً وتحققه، ثم تقابل بين المخطوطات لأنك الآن ما تحقق النص تحقيقاً كما في الأصل، وطبعة بولاق، وطبعة دار الشروق وضاعت الأمة.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام لـه وأنت أحييت أجيالاً من الرمم |
أتطلبـون من المختـار معجزةً يكفيه شعبٌ من الأموات أحياهُ |
يقول البراء بن عازب : [[أرسلني صلى الله عليه وسلم داعية إلى غدير الخضمات لأعلم الناس، وأنا أحفظ من سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] إلى سورة الناس]].
لكن الآن الطفل الذي يلعب الكرة ولا يصلي العصر في الشارع يحفظ خمسة عشر جزءاً، والسر؟ أن الإمام مالك روى في كتابه الموطأ عن ابن مسعود، قال: [[إنكم في زمانٍ كثيرٌ فقهاؤه قليلٌ خطباؤه، كثيرٌ من يعطي، قليلٌ من يسأل، وسوف يأتي زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه، كثير من يسأل قليل من يعطي يحفظون حروف القرآن ويضيعون حدوده]].
الصحابة يوم أرسلهم صلى الله عليه وسلم دعاةً ومعلمين كان عندهم شيء قليل؛ لكن بارك الله فيه بالإخلاص، بقيام الليل، بكثرة الدعاء، بالابتهال.
أرسل صلى الله عليه س وسلم معاذاً إلى اليمن فكان معه كما في المسند ما يقارب مائة وثلاثين حديثاً، وأرسله وهو شاب فجعله صلى الله عليه وسلم قاضياً من القضاة الكبار، وما درسه حتى يأخذ الماجستير والدكتوراه.
فيسر علم السلف هو الذي هدانا إلى هذا الكلام، ولذلك ترى بعض الناس يهوش ويشوش على الطلبة لفصلهم عن العامة، وهي خطة ماسونية، فإذا قيل لطالب العلم من الشريعة وأصول الدين: فلان! علِّم العوام في هذه القرية الفاتحة والوضوء والصلاة، تكبر ورفض وقال: أنا أعلمهم الوضوء! يبحثون عن أمثالهم، أنا لا أعلِّم إلا أسساً منطقية في العلم، ديكتاتورية الدعوة، من أين تنطلق! ومن أين تنبثق! وما هي الأطر التي تنصهر فيها، والبوتقة التي تنصب فيها! فهذه بارك الله فيكم خطة الماسونية، وقد قرأت مذكرات يقولون: إن من الخطط الماسونية التي قدمت إلى الشرق أن يؤتى بطلبة العلم فيعجبون بأنفسهم، أو يرفعون عن طبقة العامة، لو ذهب إنسان للغرب إلى بريطانيا وفرنسا وأمريكا أعطي رسالة ماجستير ودكتوراه، فإذا دخل عندنا هنا قالوا: حضر في بريطانيا رسالة الدكتوراه؛ سبحان الله في بريطانيا، فتأتي تسأله فلا يعرف الفاتحة، ولا يعرف وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1] ولا يعرف قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ولا حديثاً واحداً من صحيح البخاري، وأين النظارات يا شيخ، وأين هذه الأبهة، وأين الكنبات، وأين الرحلة والتذكرة والذهاب والإياب، قال: تعلمت العلم في أمريكا وفي بريطانيا، هم بأنفسهم في منشوراتهم لا يعترفون بهذه الرسائل، فخذوها قاعدة، وهي أن الأمريكان لا يعترفون بالدكتوراه ولا بالماجستير، علماؤهم في جامعاتهم ما عندهم إلا شهادات مبدئية، ولكن هم أساطينهم.
أما عندنا فأصبح الأمر بالعكس فيقال: دكتور يعلم العجائز الفاتحة، دكتور يذهب يعلم الناس الغسل من الجنابة، لا لكن الدكتور له محاضرات خاصة، لما توفي الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكان من أذكياء العالم، وهو من الزهاد العباد الكبار، وكان يدخل عليه ابنه وهو يقول: تن تن، تن تن، تن تن، فذهب الولد إلى أمه وقال: جُنَّ أبي، أصابه الصرع، وقد ذهب عقله، قال الخليل بن أحمد:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا |
لكن جهلت مقالـتي فعذلتني وعلمت أنك جاهلٌ فعذرتكا |
دخل المسجد وهو يفكر في مسألة قال: لأضعن كتاباً في الحساب تذهب الجارية إلى البقال فلا يظلمها بدرهم، فاصطدم بالسارية فكان الخطأ منه فمات؛ رئي في المنام قالوا ما فعل الله بك؟ قال: ما نفعني علم العروض ولو مثقال ذرة، ولكن أدخلني الجنة لأني كنت أعلم عجائز في قريتنا سورة الفاتحة. عجائز يستدعيهن في الصباح مع إطلالة الفجر، فيبدأ يا خاله! اقرأي بسم الله الرحمن الرحيم، يا عمَّه قولي الحمد لله رب العالمين، فأدخله الله الجنة بهذا، أما علم العروض فسواءً وضع بحوراً أو لم يضع فـأهل السنة هم أهل السنة، والسماء هي السماء، والأرض هي الأرض:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الشمس والأقمار |
الآن تعال إذا أردت أن تدرس الحديث، تحتاج إلى أن تعرف الغريب في الحديث، مثلاً في البخاري في باب السترة يقول النبي {كمؤخرة الرحل} فتبحث عن معنى مؤخرة الرحل؟ يوماً ونصف أوثلاثة أيام، ثم تأتي إلى رجل فلا تدري هو ضعيف أم صحيح، فتبحث عنه، ثم تأتي بالحديث ثم طرق الحديث ومن رواه غيره ثم شرح الحديث، ولا بد لشارح الحديث من أصول فقه، ثم الآيات ولا بد للآيات من تفسير وعلم قرآن، وهكذا.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين: فنأتي إلى النصوص بأفكار كالة.
ويعجبني الغزالي في بعض نظراته، وأنتم كذلك يعجبكم إحياء علوم الدين، يقول: مثلاً الذي يتكلف الوسائل في العلم، يعيش دائماً مع الوسائل، مصطلح حديث دائماً، ما وصل النص أبداً ولا وصل إلى المتن، يصل إلى أبي هريرة ويرجع، يصل إلى ابن مسعود ويعود، دائماً في المعضل والمنقطع والمعلق حياته هي علم وسائل.
قال الغزالي: مثل الذي يشتغل بالوسائل عن المقاصد كمثل رجلٍ ذهب يحج إلى البيت الحرام؛ فلما أصبح في الطريق لدغته عقرب، فأخذ العقرب فقتلها قال: ليته ذهب إلى الحج وانتهى، لكن أتى إلى الصخرة فقلع كل صخرة وأخذ يقتل الحيات والعقارب، فحج الناس وعادوا فقيل مالك؟! قال: لدغتني عقرب فأنا أقتل هذه العقارب والحيات.
قال: فهذا مثل إنسان اشتغل في الوسائل، مطلوب من الوسائل إصلاح اللفظ في اللغة من النحو، ومعرفة علوم الحديث، لتصل إلى قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، البعض يبقى عشرين سنة يدرس أصول الفقه، ويشغل كل حياته ووقته فيه، ولا يصل إلى القرآن والحديث، وهذا عيب فأصول الفقه وسيلة يفهم بها الكتاب والسنة.
تعال معي إلى النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، في مسألة ناقشها السلف الصالح أعرضها للفائدة، في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الماء من الماء} أي لا يغتسل الجنب إلا إذا أنزل منياً، فلا يجب الغسل بالماء إلا إذا أنزل ماءً، وبهذا أفتى كثير من السلف، حتى جاء الناسخ من حديث أبي هريرة {إذا جلس بين شعبها الأربع فقد وجب الغسل} وهذا نسخ اتفق عليه الناس.
أتى المتأخرون؛ فأتوا تكلموا عن الماء، ومصدر الماء، ومن أين أتى الماء؛ ولماذا نسخ هذا الحديث، ثم تكلموا في الحديث الآخر، ثم أتى صاحب المتن فكتب شرحاً وحاشية على الشرح، وأتى الثاني فاختصر الحاشية، فلما اختصره في مختصر المسألة شرحها الآخر، ثم اختصرها الذي بعده هذه الحواشي فيها خير، أنا لا أقول هذا الكلام من كيسي، يقول الشاطبي رحمه الله رحمة واسعة: أنا لا أقرأ إلا للمتقدمين -القرن الرابع، الثالث، الثاني، الأول، أما من يأخذ الفقه الآن مثل هذا القرن فإنه يسير في مسائل وارتباكات إلا في مسائل جديدة لم يخضها السلف؛ مثل مسألة الصرافة، البنوك الربويه، السفر إلى الخارج، طفل الأنبوب؛ هذه مسائل تؤخذ من الخلف أما المسائل المؤصلة التي بحثها السلف فخذها من السلف.
أقول: علم السلف علم موجز مختصر غزير، ولكن علم الخلف كثرة الكلام، تجد بعض كتب الفقه مجلد كامل وتبحث فيه فلا تجد آية ولا حديثاً، ولكن تجد قال أصحابنا الخراسانيون، وقال فلان من أصحابنا المتأخرين، ورد عليهم المتقدمون، وقال خصومنا، قال خصومنا ورددنا عليهم، هذه الكتب تحتاج إلى دليل وإلى اختصار لتكون مباركة.
وهذه الجلسة مفتوحة لطلبة العلم لمن أراد أن يناقش، أو يرد، أو يحاور؛ لأن المجلس عندنا شورى.
علم السلف يدور على ثلاثة فنون:
علم التفسير والفقه والحديث، ولو كان يطاع لقصير أمر، لما كان في الكليات وفي المعاهد إلا علم التفسير والفقه والحديث، لكن توضع للتفسير محاضرة، وتوضع للثقافة محاضرتان، وللتربية ثلاث، ولعلم النفس محاضرتان، ونحن لا نقول تلغى، لكن العلم هو التفسير، والحديث والفقه، فهذه ثلاثة علوم تدار حولها العلوم، فإشغال الطالب بتسع مواد أوعشر يجعله يأتي فاتر البال، كالَّ الذهن، يذاكر في الامتحانات لأجل الاختبار؛ فيبدأ يخطط تحت كل كلمة ثلاثة خطوط، وينعس فإذا أتى الصباح امتحن وسلم الورقة وخرج، فلا وصل إلى تفسير ابن كثير، ولا إلى كتب ابن تيمية، ولا إلى البخاري.
علم السلف يدور حول ثلاثة علوم؛ علم التفسير وعلم الفقه وعلم الحديث.
إن على طالب العلم أن يركز على هذه المقاصد، التوحيد يدخل في الفقه والتفسير، وهو ليس علماً مستقلاً، ما أكثر التشقيق والتقعر في مسألة التوحيد! حتى أن الذهبي كان يلوم الذين يزيدون على النصوص، ففي نصٍ رواه أحد العلماء يقول: الله ربنا مستوٍ على العرش، وزاد بعضهم وقال: بذاته، قال الذهبي: قلت: هذه من كيس عفان والسلام، من أين أتى بذاته، التوحيد يمرُّه السلف كما جاء خاصة الأسماء والصفات معتقدهم أن يثبتون روح النص، ولذلك لاموا ابن حزم الظاهري رحمه الله في أول المحلى يوم أتى إلى التوحيد فشرح، وأتى يستنبط، وأتى إلى الفرعيات فجمد على الظاهر ونفى القياس، قالوا: سال في موضع الجمود وجمد في موضع السيلان.
هل لربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يد؟ تجيب بالآية وبالحديث.
هل يعجب ربنا من شيء؟ نعم، لقوله صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي: {يعجب ربك من العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}.
كثرت الوسائل في علم الخلف وقد أسلفت هذا، وكثر الكلام حتى كثرت الكتب على طلبة العلم، وأصبح الواحد منهم في بيته من الكتب والمجلات والجرائد والمصنفات ما الله به عليم، فإذا سألت فبعضهم عرف عنوان الكتاب، ومن ألفه، ومن حققه، لكنك إذا دخلت به في الصفحات الأولى لا يعرف شيئاً.
والعلم ليس بكثرة الكتب، ولا بكثرة الرواية، بعض طلبة العلم عنده عشرات الكتب لكنه قرأها، وأخرج كنوزها، وفجر أنهارها، وأنبت أشجارها، وفهمها، وحفظها، فهو العالم حقاً.
وبعض طلبة العلم عنده مجالس ومجالس من الكتب لكنه:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع |
وهذا نشكو حالنا إلى الله من كثرة الإعياء، وكثرة ما ورد في الساعة عند المسلمين مع قلة الجودة في العطاء.
يطلبون العلم لوجه الله، ويطلبون العلم الواقع، ولا يشتغلون بعلمٍ لم يقع، كأن يقال مثلاً: لو قال رجلٌ لامرأته لو طرت فأنت طالق، فطارت فطلقت، أو لو سافرت امرأة من قبرص إلى إندونيسيا في الجو فوقعت في البحر، وقال لها زوجها إن وقعت في البحر فأنت طالق: على أو قال إن أتت الخالة وماتت قبل الجدة، هذه الأمور قد تقع لكن نسبية، حتى قالوا: إن بعض مسائل الفرائض ما وقعت في كل تاريخ الإسلام.
اشتغالنا بمسائل كهذه عن مسائل تهمنا في كل يوم وليلة عبث.
علم السلف كان علم تطبيق، عند الدارمي أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه بـصبيغ من المبتدعة، فقال: أنت الذي تعارض الآيات، قال: أريد أن أشرب. قال: تعال، فضربه بجريد النخل حتى أدماه، وأغمي عليه, ورش بالماء فاستفاق، فضربه حتى أدماه، فرش فلما استفاق قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد شفائي فقد شفيت والحمد لله، فـعمر رضي الله عنه كان يعارض هذه المسائل التي تشغل بها الأذهان ثم لا يكون لها دور.
كان يجتمع طلبة بعد صلاة العشاء، ولو اجتمعوا على صحيح البخاري أو على صحيح مسلم أو على تفسير ابن كثير، وقرأ أحدهم، وناقشوا بهدوء دون أن يخرج النقاش إلى جدل؛ لكان من أحسن ما يكون، لكن اجتمعوا بعد صلاة العشاء فقال أحدهم: الأرض تدور. قال الثاني: لا تدور الأرض. ثم أخذوا في حوار، ثم تضاربوا بالأحذية، ثم خرجوا وهم متضاربون.
يأتي طالبٌ يعرف أنه لا يحفظ إلا القليل من القرآن، فيقول أهل الفترة هل هم في الجنة أم في النار؟ فتقول أنت: في الجنة. قال: لا في النار، هو متجهز لأن يعاكسك، إن قلت: في النار، قال: في الجنة. وإن قلت في الجنة، قال: في النار.
أطفال المشركين للعلماء فيهم ثلاثة أقوال، قال: لا أربعة أقوال، فإذا قلت: قولين، قال: ثلاثة.
فهذا معناه الجدل؛ والجدل هذا ما رغبه الصحابة أبداً، وكانوا يغضبون منه، وفيه حديث حسن: (ما ضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) أي كثرة المجادلة والمخاصمة على أشياء لا تقع في الساحة، أو على تعلق بأشخاص. فتأتي إلى المجلس، وأحدهم يقول: فلان فيه كيت وكيت، قالوا: لا، فلان إمام حافظ علامة. والله لا يسألنا عن الناس؛ إنما يسألنا عن أنفسنا.
السلف يتكلمون بالمسائل وعندهم أصول لها، وقواعد تضبطها؛ وهي من اللغة ومن القرآن والسنة، أما نحن إلا ما رحم الله فنتكلم على جزئيات ليس لها أصل يجمعها ولا كليات، ولذلك فميزة علم ابن تيمية والشاطبي الكليات، والعيب عند بعض الناس من المتفقهة أن عندهم الجزئيات لكن ليس عندهم كليات، هذا أمر.
وأما علم الخلف جزئياته على حساب كلياته كثرت لكن ليس لها كلية تندرج فيها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فيما صح عنه: [[كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نجاوزهن حتى نتعلم ما فيهن من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]] ولذلك يقول سيد قطب رحمه الله: كانوا يأخذون القرآن على أنه أحكام تكليفية، وأوامر ربانية تنفذ يوماً بيوم، ثم أخذه من بعدهم كأنه كتب سمر ومتعة وقصص، يسمر الإنسان ليرى في القرآن بعض العجائب، وسوف يمر بك في القرآن الأدب واللغة والإبداع والجمال والإشراق، ولكن مقصد القرآن أن يهديك إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ ولذلك يقول أحد أهل العلم: أخطأ من جعل القرآن كتاب طب، فليس بكتاب طب، وليس بكتاب هندسة؛ أتدرون أن أحد الناس كتب تفسيراً وقال: في القرآن دليل أن زوايا المثلث منفرجة، قالوا: من أين أخذت هذا؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31] وقال الخط المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتين، قالوا: من أين أخذته؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
وأخطأ من جعل القرآن كتاب جغرافيا، في القرآن تضاريس، ذكر جبال وأودية وسهول لكن لم ينزل ليكون جغرافيا.
والقرآن ليس كتاب تاريخ، فيه تاريخ، لكنه نزل ليكون كتاب هداية للناس أجمعين.
قال ابن مسعود: [[كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نجاوزهن حتى نعمل بما فيها من العلم والعمل جميعاً]].
بالتطبيق وهو العمل به؛ إذا أردت أن تحفظ حديث الأذكار فاعمل به وكذلك أحاديث الآداب والسلوك.
المسألة الثانية يحفظ بالتأليف: أن تؤلف وتحقق مسائل وتحرر وتكتب، قال يحيى بن معين: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفنا من أين أصله.
المسألة الثالثة: بالتدريس؛ فإذا أردت أن تثبت المعلومات في ذهنك فإذا ذهبت في الأربعاء والخميس والجمعة إلى قريتك فكن علامة الزمان في قريتك، كن ابن تيمية، تأتيهم وتعلمهم بين المغرب والعشاء، وتأخذها فرصة منَّ الله بها عليك فتفقههم في الدين، وسوف يبارك الله في علمك، وتعود وأنت في زيادة خير ونماء.
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا |
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا |
وإن أعطيت فيه طول باعٍ وقال الناس إنك قد رأستا |
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا |
وهذا من التطبيق الذي يثبت به العلم.
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه فيما صح عنه: [[يا طلبة العلم! اعملوا بعلمكم؛ فإن العالم من عمل بعلمه]] ليس في العلم قليل إذا عمل به، وليس في العلم بركة وكثرة إذا لم يعمل به، فالعلم مع البركة والإخلاص والخشوع والدعاء والذكر والإنابة كثير مبارك، ولا تسمع إلى أقوال المستشرقين: إن العلم ينبغي أن يكثر؛ لأن هذا ثقافة، إنما العلم المؤصل ولو كان قليلاً فإنه مبارك.
يقول أنس: [[كان الواحد منا إذا حفظ سورة البقرة وآل عمران جَدَّ فينا]] أي نبل وشرف، وكثير من الأطفال والشباب يحفظون القرآن كاملاً، أو ثلثي القرآن، أو نصفه، وليس عنده بركة؛ لأنه لم يعمل بهذا القرآن، فبركة العلم العمل به يا أيها الأبرار الأخيار.
ألقى أحد الأساتذة درساً في الحديث؛ فلما انتهى من درس الحديث كان طالب يحب الفلسفة ويحب كتبها، يذاكر دائماً في الفلسفة، وفي كتب الثقافة، لا يعرف النصوص ولا يحبها كثيراً، فلما انتهى قال: يا أستاذ أتسمح لي أن أفلسف الدرس للطلبة؟ قال: لا دعنا منك ومن فلسفتك ومن علم ابن سينا.
فانظر كيف استحب هذا الطالب أن يفلسف الدرس، والدرس لا يحتاج إلى فلسفة، الحديث حديث، والتفسير تفسير، والفقه فقه فكيف يفلسف للطلاب؟! لأنه من يعش على كتب الفلسفة والإرتيائيين يحب هذا المنحى، بعض الطلبة إذا أصبح قال: ما عنده إلا رواه البخاري، رواه مسلم، رواه أبو داود، رواه أحمد، وهل العلم إلا هؤلاء؟ وهل العلماء إلا هؤلاء؟! وهل الدعاة إلا هؤلاء؟! فيعرف هذا.
وهي مسألة: اجعل أرأيت في اليمن، يقولها ابن عمر، وجعلت منهجاً لتقديم النقل على العقل، اجعل أرأيت في اليمن.
ومسألة: قالوا فإن قالوا قلنا، كثير من المتفقهة في كتبهم يقولون: (فإن قالوا قلنا) وهذه افتراضات وتوليدات المسائل تنفع لتفتيق الذهن وإيجاد ملكة، لكنها تستهلك الوقت، وتعدم الذكاء في مسائل ينبغي أن تفهم، فعليك أن لا تسلط على ذهنك كثيراً في مسألة: فإن قالوا قلنا إلا أن تمر مروراً عابراً، ثم تجعل ذكاءك وفطنتك ولموعك وإشراقك في قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
فـالمسند؛ قالوا: المسند جمعه وما ألفه لأنه حديث نبوي، والتأليف من قبل النفس فما ألف شيئاً، ولذلك ما كان يزيد كلامه على النص، كان يأتي ويقول: حدثنا هشيم حدثنا فلان عن فلان عن أبي هريرة ويسوق الحديث ثم يسكت عنه.
سُئِل أن يؤلف كتاباً، قالوا: فرفض أن يؤلف شيئاً، وكان يغضب إذا رأى التلاميذ يكتبون عنده، قال: خذوا من حيث أخذنا، العلم آية وحديث، قال له أحد التلاميذ: أأكتب رأي ابن المبارك؟ قال: لا، خذ من حيث أخذ ابن المبارك.
فما أسهل هذا العلم والله، يوم تشعر أن المصحف في بيتك والحديث، ثم يكون عندك قليل من النحو واللغة ومعرفة الناسخ والمنسوخ أو مثل هذه الأمور الجزئية، وهي لطيفة لا تهول على العقل، ثم تأتي إلى الحديث والقرآن تتعامل معهما، كيف يكون عندك ملكة ويصحو عقلك على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فصح عن الإمام أحمد أنه نهى عن تأليف الكتب وكره ذلك، لكن كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر.
والكتب من أحسن ما يقتنى في البيوت، وتأليفها من أشرف الأعمال، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: أخطأ بعض الزهاد من العباد يوم أتوا إلى كتبهم فأمروا بإحراقها عند الموت، أو أغرقوها، أو دفنوها.
والكتب من أعظم ما يذكر، لكن كتب وكتب، بعض الكتب تستحق أن تشب بها في النار، وبعضها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وبعضها لو بيعت العيون، أو مقل القلوب، أو قطع القلوب وشجا الروح فيها ما وزنتها:
كتاب البخاري لو أنصفوه لما خط إلا بماء الذهب |
أسانيده كنجوم السماء أمام متونٍ لها كالشهب |
ذكر ابن تيمية أن أحد العلماء ألف أكثر من ألف تأليف، ولكن أيهما أشهر هو أو الإمام أحمد؟ الإمام أحمد في الجلسات، وعلى المنابر، وفي الدروس الإمام أحمد بن حنبل؛ لأن علمه أصيل.
وصدق رحمه الله، فإنه كلما تقدم العلم كان أحسن، وكلما تأخر كان أسوء، ولذلك من يؤلِّف في الغالب في هذا القرن بالفقه أضعف وأسقم من الذي يؤلِّف قبله إلا في مسائل ما وقعت فيمن قبلهم، ومن قبل فيمن قبل أضعف، وهكذا حتى تنتهي إلى التابعين ثم الصحابة؛ لحديث: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} والفضل هنا فضل مطلق، وبركة مطلقة في التأليف، والعلم، والتدريس، والدعوة، والتوجيه, والزهد، والعبادة.
التعصب المذهبي تخلف ونقص، وجد في الناس من يقول: لا تهاجموا المذاهب، ونحن نقول: رحم الله أهل المذاهب، وأصحاب المذاهب، ومن سار مع المذاهب، ومن جلس مع أهل المذاهب من المسلمين، وأكل مع أهل المذاهب، وشرب معهم.
والآخرون يقولون: المذاهب لا بد أن تقصى من الساحة، وأن تجتث وتبعد، وأن يرمى بها في البحر الأحمر.
والناس كأنهم ثلاثة، طرفان ووسط:
طرف يقولون: لا نحتاج إلى المذاهب، ولا إلى كتب الفقه أبداً، نأخذ من حيث أخذ القوم من الدليل والحديث؛ وهذا فيه حقٌ وشيءٌ من النقص.
وطائفة أخرى تقول: لا بد أن يحترم كلام العلماء، وفقه العلماء، ومصنفات العلماء الفقهاء، وهذه المتون الفقهية هي الأصل؛ لأنهم عرفوا من أين يستنبطون، فلا بد أن نأخذ منهم، ونقلدهم، أما نحن فلا نستطيع أن نأخذ من حيث أخذوا؛ وهذا الكلام فيه حق ونقص.
أما حق الكلام الأول، فحقه أنه ردنا إلى النص وإلى قال الله وقال رسوله، وصدق، فأبو حنيفة والإمام أحمد ومالك والشافعي ليسوا بأنبياء، خاتم الأنبياء هو محمد عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم الذي أنزل عليه القرآن، لم ينزل جبريل على أبي حنيفة ولا على أحمد ولا الأوزاعي ولا مالك ولا الشافعي، فالمعصوم الذي يؤخذ منه العلم والوحي هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فحقه أن يقال: لا بد من الدليل في المسألة، وأنت لا تتأخر يوماً من الأيام إذا سألت عالماً أن تقول: ما هو دليلك؟ الإمام أحمد أزهد منا، وأصدق منا، وأخلص منا، وفكره أثقب من أفكارنا، فهو يستنبط درراً وكنوزاً، لأن بعض الناس ينزل إلى قاع البحر فيأخذ خشباً وفحماً، وبعضهم إذا غاص أتى بدرٍ وزبرجدٍ وجوهر، فالإمام أحمد إذا غاص أتى بهذا اللموع والإشراق ومثله مالك والأوزاعي والثوري وفقهاء التابعين.
فهذا نقصه: الاستزراء بعلم السلف، فإنهم يجب أن توقر أقوالهم، لكن إذا خالف الدليل فاتركه جملةً وتفصيلاً، واضرب به عرض الحائط كما قالوا.
أما الذين يقولون: كتب الفقه لا بد أن تسيطر في الساحة، وأن يؤخذ منها، ولا يؤخذ من الدليل لأنا لا نعرف الاستنباط من الكتاب والسنة، ويحترم أقوال العلماء.
نقول: الحق احترام كلام العلماء، والنقص أن تجعلوا كتب الفقه كـصحيح البخاري ومسلم كتب ألفها بشر، ليس عليها دليل، لكن نسألهم عن دليلهم.
يوم تضعف الأمة الإسلامية في فترة من فتراتها تنشأ هذه العصبيات والخلافيات؛ لكن في صور متعددة، مرة تعصب مذهبي، ومرة تعصب لآراء وتشتت وتناحر، ولذلك دخل التتار والناس يختلفون في مسألة رفع الأيادي، ويتضاربون في المساجد بالأحذية، هل ترفع أو لا؟
هذه فترة سقوط للأمة، فإذا ما انتصرت الأمة وتقوت وعادت إلى الكتاب والسنة تأخذ منها مباشرة، مع احترام آراء العلماء والأئمة، وكلما كثر الخلاف في الأمة: ضعفت وهزلت، وأصبحت أمةً سقيمةً مريضة، وحلُّها أن يكون السائد فيها والقائد كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنت أخي وأنا أخوك، مصحفنا واحد، وعلمنا واحد، ورسولنا واحد، وقبل ذلك ربنا واحد تبارك وتعالى، تخالفني في فرعية وأخالفك لكن هذا لا يجعلني أحمل الضغينة عليك، نعم أنت إن أصبت فمأجور ولك أجران، وإن أخطأت أنا فلي أجرٌ واحد لأني اجتهدت.
إذاً هذا هو التعصب المذهبي الذي مرت به الأمة، ولا يقال للناس: الاختلاف رحمة، وردت هذه الكلمة عن ابن تيمية، لكن جمع الكلمة هو الأحسن، وهو الأقوى، وكلما توحدت الأمة كان أحسن، والخلاف مذموم دائماً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] إذا علم هذا فالأمة أمة واحدة.
لا يعفى طالب الشريعة أن لا يعرف تخريج الحديث، أو صحة الحديث، ويقول: تخصصي شريعة وأصول فقه، لأنه سيكون معلماً، وعالماً، وداعيةً، ومفتياً، فكيف يستدل بالحديث الضعيف والموضوع!! فهذا ضعف دخل فيه كثير من المتفقهة، حتى ذكر عن كثير من العلماء أنهم لا يميزون بين الحديث الضعيف والموضوع، والصحيح والحسن، ويحضرون الحديث هكذا بلا خطام ولا زمام، من أين والشريعة هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكتب الفقه يحتاج كثير منها إلى تحقيق تخريج، وحبذا لطالب الفقه أو الشريعة أن يكون له اهتمامٌ بالحديث وتخريجه، ولو اهتمام نسبي لا كاهتمام متخصصينا في تخريج الحديث.
وأيضاً مشكلة عدم معرفة بعض المحدثين الفقه والاستنباط.
وجد في المحدثين من يورد الأحاديث لكن لا يستطيع أن يستنبط، منها لأنه لا يملك قواعد وأصول فقه، فيحتاج هذا إلى قراءة بعض كتب الفقه إلى أن تتكون عنده ملكة، وأن يكون عنده كتاب ولو مختصراً في أصول الفقه يعرف كيف يستنبط الفقهاء، يعرف العموم والخصوص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، ولو على وجه الإجمال، وهذه لا تأخذ منه إلا أياماً قليلة.
بعض الناس يكثر في العلم، لكنه على حساب جودة العلم، والجودة هي المطلوبة قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7] ولم يقل: أكثر عملاً.
جلس معه بعض الناس فجادلوه في مسألة، قال ابن كثير: لقيه العلماء ولكن والله الذي لا إله إلا هو إنها ذرات صادفت جبلاً، وبحيرات صغيرة صادفت بحراً عذباً؛ يعني: ابن تيمية.
أتى رجلٌ يسأله في مسألة فرد أخوه عبد الله؛ وكان عالماً، لكن العلماء عند ابن تيمية إذا حضروا انطفأت نجومهم:
فإنك شمسٌ والملوك كواكـب إذا ظهرت لم يَبْدُ منهن كوكب |
فأتى رجل يجادل ابن تيمية من أهل البدعة؛ عنده علم لكن علم خرافي، فسكت ابن تيمية يتبسم، مصيبة إن ذهب يجادل هذا، أين ابن تيمية وقوته العلمية، وتيقظه، وبحره، وسيلانه؟!! وإن صار يسكت، فمشكلة:
ولو أنه جهلٌ بسيطٌ عذرته ولكنه يأتي بجهلٍ مركب |
هذا أحد المادحين لابن تيمية يقول: ليت خصوم ابن تيمية علماء يعرفون، لكنهم جهلة.
رجلٌ يدري ويدري أنه يدري؛ فذاك عالمٌ فاسألوه.
ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري؛ فذاك غافلٌ فنبهوه.
ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذاك جاهلٌ فعلموه، لكن داهية الدواهي الذي بُلي به ابن تيمية؛ رجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ جاهلٌ ويقول: عالم، يدخل حتى في المسائل الضيقة وهو لا يعرف شيئاً، لا يعرف أن يتوضأ.
فـابن تيمية تبسم لما قال له هذا الرجل ذلك الكلام، فقال أخوه عبد الله: أما أنت فأنا سوف آتي بأحاديث من صحيح البخاري، وكتب الموضوعات، وقصص عنترة، وأخلطها لك؛ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تستطيع أن تميز بينها، فكأنه قصمه فأسكته.
علماء المذاهب كانوا يجلسون الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي هم متخصصون في مذاهبهم، ويسكت ابن تيمية فإذا انتهوا تكلم.
يقول للحنفي -عالم الأحناف- أنت قلت هذه المسألة وهي خطأ ومذهبك يقول: كيت وكيت وكيت، ثم يقول للمالكي كذا، ثم يقول للشافعي كذا والحنبلي، فيعودون.
والشاهد في هذا أن التزود ليس على حساب الكثرة، بعض الناس عنده علم كثير لكنه مخبوص ملبوص، ليس بمنقح وليس فيه جودة، والعلم القليل هو العلم المبارك الذي يكون مؤصلاً على دليل، أما من يحفظ القصص والقصائد والأشعار والأخبار، ثم يأتي يوردها على الناس بلا خطام ولا زمام فليس بصحيح.
كتاب الموضوعات لـابن الجوزي، أتى أحد الخطباء فيما سمعت فأخذ منه حديثاً، وهو يظن أن الموضوعات جمع موضوع وهو الذي يلقى للناس ما يدري أن الموضوع يعني: الحديث المكذوب، فألقى الحديث فلما انتهى؛ قال له الناس: هذا حديث باطل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
صحيح أن النحو من أشرف العلوم، وأن الإنسان إذا لم يصلح لسانه اختبل، لا ندعي أنه بالنحو سوف يكون رجلاً فصيحاً لا يلحن أبداً، فلا يسلم من اللحن أحد في الغالب، سيبويه إمام النحو، الذي صنع النحو من خيوط الحرير وجمعه من البوادي، ووضع كتاباً كالمعجزة اسمه الكتاب، كان لا يتكلم العربية بطلاقة، ولو أنه عملاق وعبقري من أذكى الناس، مات وعمره اثنان وثلاثون سنة.
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى |
من تداجي يا بن الحسين أداجي أوجهاً تستحق ركلاً ولطما |
سيبويه هذا لم يكن كلامه فصيحاً، يقال عن ابن رجب وابن كثير إنهما يشققان الكلام حتى يذهب عن المقصود.
وتَجد في كثيرٍ من النحاة كثيراً من الخيلاء والعجب؛ حتى دخل أحدهم يلحن ولا يدري أنه يلحن، قالوا: ماذا تريد؟ قال: رمانتان طازجتان طيبتان، ثم أخذ من هذا المثنى، قال له البائع: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] تستحق ضربتان، وصفعتان، وركلتان، أو كما قال، ذكره ابن الجوزي عن هذا.
المقصود أن التعمق والتقعر من شيم أهل الكبر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {هلك المتفيهقون} قال أهل العلم: المتفيهقون هم الذين يتكلمون بتوسعٍ ليظهرون فضلهم وعلمهم عند المجالس وليس عندهم علم، يتكلم في عوامٍ ما يعرف الواحد منهم اسمه، فيقول: إن الحال يوم ينصب حينها يكون للعامل فيه تأثير وهو الفاعل في الغالب، وإنني يوم انطلقت اليوم مع إشراقة الصباح ونداء الفجر وإطلالته ونسماته، ما يدرون هل يتكلم عربي أو فرنسي فهذا معناه العجب؛ قال ابن قتيبة: سقط نحويٌ في حفرة، فأتاه رجل ينقذه، قال: مالك؟ قال: خذ حبلاً رقيقاً، وشده شداً وثيقاً، واسحبني سحباً رفيقاً، قال الرجل: امرأتي طالق ثلاثاً إن أنقذتك من الحفرة، الآن تلقي محاضرات وخطب جمعة ورأسك في الحفرة، ما هذا التكلف.
فالنحو يطلب للوصول إلى المقاصد.
أيها الإخوة الفضلاء: قبل أن نأتي إلى انتهاء هذه الجلسة نحب أن نسمع الأسئلة الشفوية؛ لكن هذه الأسئلة لا بد أن تدور حول الدرس، أما في الرضاع أو في الطلاق أو في الحجاب فبعيد، ولو أن أحد الإخوة يريد أن تكون مباشرةً.
الجواب: نقول: انصح لوجه الله، وكن طالب علم وداعية، عظ الناس في خطبة الجمعة، انشر فيهم الكتاب عن الحجاب، أدخل الشريط الإسلامي إلى البيوت، تكلم بعد الصلاة، نبه بالحكمة، إذا حضرت مناسبة تكلم في الحجاب وحكم الله فيه، فمع المواصلة، وحسن الخلق واللين؛ سوف يغير الله الحال ولو امرأة واحدة، فالإنسان إذا لم يتكلم ولم ينصح ثم يقول: حسبنا الله عليهم ونعم الوكيل، لا يصح حسبنا الله عليهم وأنت ما تكلمت، من قال لك إن الله لن يهديهم، وإن الله طبع على قلوبهم، لا والله.
الجواب: استغلال الوقت يكون بحفظ الوقت، وحفظ الوقت يكون باستغلال الوقت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] استغلال الوقت يكون مثل ابن عقيل الحنبلي كان إذا أراد أن ينام عنده رزمة من أوراق، فيكتب أفكاره، وعصارة عقله قبل أن ينام، هذا فقط الوقت الفارغ، هذا للوقت الذي ليس فيه كدٌ وتعب، ترك من هذا الوقت قبل النوم وبعد النوم سبعمائة مجلد اسمه كتاب الفنون.
استغلال الوقت أن تكون كـالخطيب البغدادي، يذهب إلى المسجد وكتابه في يده، ويعود من المسجد وكتابه في يده، لكن سواءً كتاب، أو تسبح في أصابعك، أو تقرأ شيئاً من القرآن، لكن ذرة ودقيقة واحدة لا تفوت من عمرك.
استغلال الوقت أن يكون مثل جد ابن تيمية؛ كان يدخل المرحاض فيقول لابنه: اقرأ وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك لئلا يضيع الوقت.
استغلال الوقت يكون مثل البخاري؛ كان يقول: أنام فأتذكر الحديث فأقوم خمس مرات وست مرات فأضيء السراج في الليل وأكتب شيئاً من الحديث وأنام، فيتذكر فيضيء السراج فيكتب، ويتذكر ويضيء السراج فيكتب.
استغلال الوقت، يكون كما كان الإمام أحمد: يحمل المحبرة وعمره سبعين سنة؛ شَابَ، ودنا أجله، ورقَّ عظمه، قالوا: تحمل المحبرة وأنت في السبعين!! قال: من المحبرة إلى المقبرة هذا هو السمو:
همةٌ تنطح الثريا وعزمٌ نبويٌ يزعزع الأجبال |
الجواب: لو كان السائل معنا في الجلسة الماضية كان أجيب على هذا السؤال، الجلسة الماضية كتبٌ في الساحة الإسلامية، وتكلمنا عن الكتب التي تشير إلى الواقع، ولا بد للعالم أن يعرف الواقع، كأن يسأل عن مجلة خليعة؛ مجلة النهضة وآخر ساعة قال: ما أدري يمكن وادي في قبرص أو شجرة أو بقرة في الهند، ويقول: هو فقيه، الفقيه لا بد أن يعرف الواقع، وكذلك صاحب الواقع لا بد أن يعرف علم السلف فيجمع بين الحسنيين.
ابن تيمية قوته كما تفضل السائل الكريم في مسألتين:
مسألة علم السلف، ومعرفة علم الواقع؛ كان لا يغيب عنه شيء، يتكلم عن علوم وأشياء وجزئيات في واقعه حتى أصبح هو التاريخ.
ابن كثير رحمه الله نسي نفسه في المجلد الرابع عشر، ونسي السلطان والتاريخ والدولة وأصبح يقول: ثم دخلت سنة كذا وكذا وكان ابن تيمية في جبل كسروان، ودخلت سنة كذا وكذا وكان ابن تيمية في السجن؛ أصبح ابن تيمية هو التاريخ. وابن تيمية يسأل عن مسائل لا يعرفها إلا المتخصصون، فيفي فيها أعظم من المتخصص، يسأل عن الإسكندر يقول: ليس ابن فيليدوس، إنه هو الأول الذي بينه وبين ذاك أربعمائة وخمسون سنة، ويسأل عن أنوشروان فينسبه إلى آل شروان وبنو شروان وأخوال شروان وأعمام شروان، وهم من آل كسرى.
فمعرفة الواقع حولته إلى أن يدعي العلم، من أحسن الكتب في علم الواقع، كتب بعض المؤلفين: كـأبي الأعلى المودودي كما سبق، وكـأبي الحسن الندوي وسيد قطب ومحمد قطب، وذكرت أن من الكتب التي تنفع في هذا الجانب وقد تغني كثيراً في ظلال القرآن لـسيد قطب، أنت إذا دخلت في ظلال القرآن وجعلته في بيتك لتفهم به الواقع لا تفهم في علم السلف فليس فيه من علم السلف إلا في القليل، ولكن للواقع وربط القرآن بالأحداث التي تقع في الوقائع فإنه يغنيك كثيراً.
وعلم الواقع سهل تراه من الجلوس مع الناس، ومن الأخذ والعطاء، والذهاب والإياب، ترى علم الواقع معك، فلا يكلفك كثيراً، أما أن يأتي الإنسان ويقرأ الجريدة كأنه يقرأ صحيح البخاري بفصها وحصها ورصها من أولها إلى آخره؛ حتى يقرأ الإعلانات عن الإسمنت، والإعلانات التي إذا أضاع أحد من البدو تابعيته ومن وجدها فليسلمها إلى مخفر الشرطة، فيحفظ هذه الإعلانات، ويحققها ويخرجها، ويستنبط منها فوائد، وإذا أتى يقرأ صحيح البخاري نعس فسقطت غترته ثلاث مرات، قال هذا حدثنا حدثنا، أين جهودي وطاقتي أبقى مع حدثنا، حدثنا هو العلم، وحدثنا هو الروعة والإبداع.
الجواب: هذا السؤال كغيره سبق الإجابة عليه في المختصرات والمطولات، وفن القراءة في المختصرات وفن القراءة في المطولات.
وكما ذكرت أن الذهبي ترجم لأحد العلماء، قال: زهد الناس في كتبه لطولها، فالكتاب الطويل ثلاثون مجلداً إذا بدأ في أول مجلد فلا ينتهي من قراءة المجلد الأول حتى يكون قد نسي ما في أوله، والكتب المضبوطة المختصرة تحفظ لك العلم، والكتب المطولة تعطيك ملكةً واستشرافاً وحب مباحثه ومناقشته للعلماء، فلا بد من قراءة المطولات ولو لم تصب شيئاً من العلوم، لكن المختصرات تُهدِّفُ لك العلم، في الفقه زاد المستقنع وفي الدليل، منار السبيل، العدة شرح العمدة، الحديث: بلوغ المرام، رياض الصالحين، المنتقي للجد ابن تيمية، البيقونية في المصطلح.
أنا ذكرت كتباً هناك من عاد إلى الشريط وجدها فيه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر