قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله) ].
هنا إخبار بما سيكون من حيث الجملة في آخر الزمان، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار خلق الله، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يباليهم الله باله) أي: لا يعبأ الله بهم ولا يقيم الله جل وعلا لهم وزناً، والسبب في ذلك أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما الأمر على الأعمال الصالحة والإيمان بالله جل وعلا، وهؤلاء لا يعرفون الله طرفة عين، فإنه في آخر الزمان يأتيهم الشيطان فيقول لهم: ألا تستجيبون؟ فيقولون: وبماذا تأمرنا؟ فيدعوهم إلى عبادة الأوثان، فيعبدون الأوثان من جديد، جاء في صحيح مسلم في وصفهم أنهم في سرعة الطير، وأحلام السباع، ومعنى أنهم في سرعة الطير وأحلام السباع أي: في سرعة الطير إلى الشهوات والفساد، وفي أحلام السباع: في البغي والظلم والعدوان والتناحر فيما بينهم، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم عنهم: (ومع ذلك دارة أرزاقهم) أي: يُرزقون ويُطعمون رغم أنهم لا يعرفون الله طرفة عين؛ ولهذا لا يعبأ الله بهم، ولو كان الله جل وعلا يعبأ بهم لابتلاهم بالسراء والضراء، والأخذ والعطاء؛ حتى يردهم إليه لكن أرزاقهم تدار، فحياتهم حسنة ماضية حتى يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور فينفخ، فتقوم عليهم الساعة، هذا كله يدفعنا إلى أن نؤصل في أصل المسألة من الأول.
قال عليه الصلاة والسلام: (يذهب الصالحون الأول فالأول)، فالله جل وعلا خلق أبانا آدم وأدخله جنته، فوقع من آدم المعصية فأهبطه الله إلى الأرض، وأخبره الله أن الشيطان له عدو، ثم كانت ذرية آدم عليه السلام، ومكث الناس عشرة قرون لا يعبدون إلا الله، ثم اجتالتهم الشياطين، فلما اجتالتهم الشياطين بعث الله الرسل، فكان أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام، ثم تتابع الرسل والأنبياء من بعده عليه الصلاة والسلام حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومضت سنة الله أن النبي يبعث إلى قومه خاصة، فلما كان نبينا عليه الصلاة والسلام بعث للناس كافة لم يكن بعده نبي؛ لأن كل الناس تبع له صلوات الله وسلامه عليه أمة دعوة، فمات عليه الصلاة والسلام فبموته دنت الساعة، إذ لا أمة بعد أمته، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام، ومضى دهر الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم كانت دولة بني أمية وانتشر الإسلام، ثم كانت دولة بني العباس، ومضت دول، ودولة آل عثمان، ثم وقع ما وقع من تناحر بين الأمة فسلط الله الأعداء علينا، وتفرقت الأمة دولاً كثيرة، وهذا كله من حيث الأحداث الزمنية، ويقع أن الصالحين يذهبون الأول فالأول كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني)، فالصالحون في عهده صلى الله عليه وسلم من حيث الجملة أكثر من ناحية العدد، وأكثر صلاحاً وتقى ممن بعدهم، وعلى هذا مضت السنين، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة، ثم يعود الناس للفساد، ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام بعد أن يخرج الدجال للناس، كما سيأتي تفصيله، وأنا أتكلم هنا إجمالاً حتى نربط بين قوله عليه الصلاة والسلام: (يذهب الصالحون) بين قوله: (لا يباليهم الله)، وفي هذه الفترة ينزل الدجال ، وتكون فتنته ما من فتنة من خلق آدم إلى أن تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال ، فينزل عيسى بن مريم واضعاً يديه على أجنحة ملكين كما عند مسلم في الصحيح، فيقتل الدجال ، ثم يأمر الله الأرض أن تخرج بركتها، وقبل أن تخرج الأرض بركتها تخرج قبائل يأجوج ومأجوج يفسدون في الأرض، ثم بعد أن يُذهب الله يأجوج ومأجوج ويهلكهم ينزل عيسى والمؤمنون الذين معه من الملكان الذي تحرزوا فيه بجبل الطور، فإذا نزلوا أمر الأرض أن تُخرج بركتها، فلو أن إنساناً أنبت على صفاة لأنبتت، ثم تمضي الأيام بهم والليالي، فيموت الصالحون حتى يبقى أقوام -كما عند حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه- لا يعرفون ما صلاة ولا زكاة ولا صدقة ولا نسك ولا حج، ولا يعرفون إلا كلمة عظيمة جليلة وهي: لا إله إلا الله، وهذا كله معناه أن العلم يُفقد تدريجياً، وأصل الدين كله: لا إله إلا الله فتبقى في قلوبهم، ولو ذهبت لا إله إلا الله فلا ينفع صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، فإن قال قائل: كيف تنفعهم وهم لا يصلون ولا يزكون؟ والجواب: أنهم لا يعلمون ذلك أصلاً، فلم يبلغهم ما صلاة، ولا زكاة، ولا حج، ولا صدقة، ولا نسك، فهذا كله لم يبلغهم فلا يعرفون من الدين إلا كلمة التوحيد، يقول حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيقول الشيخ الكبير والعجوز: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها، فيبعث الله ريح. وهناك روايتان صحيحتان: رواية أنها ريح تخرج من الشام، ورواية أنها ريح تخرج من اليمن ألين من الحرير.
ويمكن الجمع بين الروايتين على أن هذا يقع من هنا ومن هناك، فهذه الريح يجعلها الله كفيلة بأن تقبض أرواح المؤمنين، حتى ورد في الحديث: أن أحدهم في كبد جبل لا يعلم إلا وقد قدمت إليه هذه الريح ومات، فيبقى هؤلاء القوم الحثالة الذين لا يعبأ الله بهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون الأول فالأول)، والصلاح يطلق ويراد به أمران: يطلق ويراد به مقابلاً لمواطن أخر أو منازل أخر فيكون الرابع، ومنه قول الله جل وعلا: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فجعلها المرتبة الرابعة بعد النبوة والصديقية والشهادة. ويطلق ويراد به حتى الأنبياء، وهنا يكون بمنزلته العالية، فإذا ورد مقترناً مع النبوة أو الصديقية أو الشهادة فإنه يراد به رابع المنازل، وأما إذا ورد لوحده فالأصل فيه أنه أعلى المنازل.
ثم هو بذاته درجات قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي،ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو) صلوات الله وسلامه عليه، والله ذكر نوحاً ولوطاً في كتابه فقال: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ [التحريم:10]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـحفصة في حق ابن عمر : (إن أخاك رجل صالح، أو عبد صالح)، وقال في حق سعد بن معاذ : (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، فالصلاح هنا بمعناه الأصلي الرفيع، لكن الناس فيه درجات، وقد قال بعض العلماء: إنه من أعظم المطالب وأسمى الغايات؛ ولهذا سأله الأنبياء ربهم، قال الله جل وعلا على لسان سليمان: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، فكون أحد أنبياء الله يسأل الله جل وعلا أن يدخله في زمرة عباده الصالحين ففيه دلالة على أن الصلاح من أعظم المطالب وأسمى الغايات، والله جل وعلا مضت سنته في خلقه أن القوة يتبعها ضعف، والضعف يتبعه قوة، فالناس بدأوا بالتوحيد ولم يكن ثمة أعمال قبل الأنبياء، ثم يختمون بالتوحيد على تلك الطائفة، وبينهما ظهر أنبياء ورسل بعثهم الله جل وعلا جماً غفيراً، ثم تكون تلك الحثالة التي لا يعبأ الله جل وعلا بها، وعليهم تقوم الساعة لا بلغنا الله وإياك ذلك اليوم، فرحمة ربنا تبارك وتعالى بالأخيار من خلقه قائمة ثابتة في كل زمان ومكان، وهنا على المؤمن أن يسعى في صلاح نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يذهب الصالحون الأول فالأول)، والإنسان إذا سمع أو بلغه نبأ موت أحد من الناس وعلم أنه صالح تمنى لو كان هو الميت، والإنسان يتحسر على من يموت وظاهره التفريط، والصغائر أمرها إلى الله، لكن من علمنا منه أنه كان على خير ومنهاج مستقيم فقد لا يصيبنا ذلك الحزن؛ لأنا نقول في أنفسنا: ما له عند الله خير مما له عندنا، والإنسان العاقل لا يحرص على شيء أعظم مما يحرص على نفسه؛ فينبغي على المؤمن أن يسعى في صلاح نفسه، وأن يجتهد في ذلك وكلنا مقصر لكن نسأل الله الغفران والتوبة.
هذا الحديث يتعلق بقضية فتنة المال، وقد مر بعضها معنا، فأخبر الله جل وعلا أن النفس البشرية مجبولة على حب المال، فقال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] والخير هنا هو المال، فهذا الشيء المجبول في النفوس إذا ترك على سجيته ولم يلجم بلجام التقوى ولم يؤدب بأدب القرآن أفرط صاحبه فيه، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم واديان) ورفعت واديان بالألف لأنها مثنى؛ وسبب رفعها أنها اسم لكان، (لو كان لابن آدم واديان لابتغى ثالثاً) أي: ابتغى ثالثاً للواديين، ولا يعني ذلك أنه لو حصل على الثالث لاكتفى، ولكن المقصود الطمع الذي جُبل عليه بنو آدم، ثم قال: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وهذه كناية على أنه لا يشبع أبداً، ثم قال استدراكاً -وهذا من أبواب الرحمة التي يفتحها النبي لأمته وفق ما بلغه ربه- قال: (ويتوب الله على من تاب)، فهي دعوة لمن أفرط على نفسه بحب المال حتى طلب هذا المال من غير وجهه، أو على وجه محرم عياذاً بالله.
وعلى هذا نؤصل فنقول: إننا لا يمكن أن نحيا من دون مال، فقد جعل الله المال عصبة للناس به يقومون، لكن الرب تبارك وتعالى أخبر أن تحصيل المال إما بطريق طيب وإما بطريق محرم، فأباح الله لنا تحصيله عن طريق الطيبات، وحرم الله علينا تحصيله عن طريق ما حرمه وحجبه جل وعلا ونهى عنه، فعلى هذا إذا كان الإنسان لا يمكن أن يشبع مهما جلب له من المال فحري به أن يكتفي؛ لأنه لن يشبع أبداً، فعليه أن يكتفي بالمباح ويكتفي بالطيب ولا يستمر في غوايته؛ لأن لو كانت القضية أنه سيصل إلى مرحلة الاكتفاء لقلنا في غير الشرع لا بأس حتى تصل إلى مرحلة معينة، لكنه من طلبه على وجهه من غير أن يلجمه بالتقوى فلن يشبع أبداً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لابتغى ثالثاً) أي: وادياً ثالثاً غير الواديين المليئين بالمال.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ويتوب الله على من تاب) فالإنسان مهما بلغ في التقوى وارتقى في الصالحات وسارع في الخيرات وسابق في الطاعات فإنها تبقى عند العبد لمم وصغائر، وأحياناً عند البعض تبقى الكبائر، لكن الله يقول وهو أصدق القائلين: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، والتوبة وظيفة العمر لا يستغني عنها أحد، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] فأمر بها الأنبياء والرسل وسائر الناس، والتوبة إلى الله جل وعلا تغسل الران الذي على القلوب، وتقرب من رحمة علام الغيوب، وبها يعرف العبد أنه على مقربة من الله، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يبادر إلى التوبة بالفرس المعقود له في مكان ما، فهو مهما بعد يعود إلى موطن رسمه، على هذا تجديدك للتوبة في كل يوم أو في كل ساعة، واستغفارك ربك من أعظم دلائل عدم مسرتك بالمعصية، قال عليه الصلاة والسلام: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن)، وعلي بن ربيعة رضي الله عنه يقول: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه وقد قربت له دابة، فلما وضع قدمه في الركاب قال: بسم الله، ثم لما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وحمد الله ثلاثاً، وكبر ثلاثاً، ثم قال: سبحانك ربي ظلمت نفسي فاغفر لي، ثم ضحك فقلنا: يا أمير المؤمنين مم تضحك؟ قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل الذي صنعت ثم ضحك، فقلنا: يا رسول الله مم تضحك؟ قال: (إن رب العالمين يعجب من عبده إذا قال: سبحانك ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي، يقول جل وعلا: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري)، وكم من عباد منّ الله عليهم بالاستكانة والخضوع إذا تذكروا معاصيهم، فكانت معاصيهم سبباً في ثباتهم على الدين، وكم من عباد عياذاً بالله يفرحون بالطاعة وحق لهم في الأصل أن يفرحوا بالطاعة لكن يصيبهم علو واستكبار على من دونهم، فينقلب أثر الطاعة إلى أثر غير حميد، لأن الإنسان لم يسلك به طريقاً شرعياً؛ والمقصود من هذا كله أن فتنة المال من أعظم الفتن، ومع ذلك فتح الله جل وعلا باب التوبة.
هذا في نفس السياق الأول، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ينوع في خطابه؛ حتى لا يصيب الناس السآمة والملل، هذا من وجه، والناس أصلاً يختلفون في طريقة التعامل لغوياً، والمقصود توصيل المعنى، فقال في الأول في أسلوب شرط: (لو كان لابن آدم واديان)، وهنا قال صلوات الله وسلامه عليه مستفهماً، وهذا الاستفهام تمهيد للعرض، فالأسئلة في الغالب تقع على ثلاثة أحوال:
الحال الأول: سؤال استفهام يقصد به المعرفة، كأن تسأل: أين طريق كذا؟ فأنت تريد أن تعلم جواباً ترفع به الجهل عن نفسك، فهذا يسمى سؤال استفهام.
الحال الثاني: سؤال اتهام، فتسأل أحداً وأنت في صياغتك لسؤالك تتهمه، والعاقل هنا لا يجيب على مثل هذه الأسئلة إذا كان السؤال ورد على أنه سؤال اتهام، فقد يأتي إنسان مثلاً فيحكم عليك قلبياً قبل أن يراك بشيء معين، ثم يأتي يسألك أمام الناس، فحتى لو نفيت الأمر عن نفسك لأدخل حججاً وطرائق يثبت به سؤاله، فهذا يسمى سؤال اتهام، فالعاقل في الغالب لا يجيب على مثل هذا، هذا الحال الثاني.
الحال الثالث: أسئلة لا يراد بها رفع الجهل عن النفس لكنها تقع على ضربين: إما رفع الجهل عن الغير، أو تقع تمهيداً للتعليم، فأما الأول -وهو رفع الجهل عن الغير- فيسمى سؤالات جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام لما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ثم وضع يديه على فخذيه، وقال: أخبرني عن الإسلام؟ فهذا استفهام لكن جبريل لا يريد أن يعرف ما هو الإسلام حتى يرفع الجهل عن نفسه، فجبريل هو الذي جاء بالإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بلغه الشرع عن الله، لكنه أراد أن يعلم من حول النبي من الصحابة، وقال: أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الساعة؟ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي أن علمي وعلمك فيها سواء. هذا هو الأول.
والثاني منهما: التمهيد لما بعده، وهو الذي بين أيدينا، فقوله عليه الصلاة والسلام لجمهرة الصحابة الذين حوله: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) يعلم صلى الله عليه وسلم أن كل أحد ماله أحب إليه من مال وارثه، لكنه أراد أن يكون ذلك مدخلاً ليخبرهم بالمال الحق الذي ينفعهم، فالهمزة في أيكم همزة استفهام، (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحد مال وارثه أحب إليه من ماله)، فلما تقرر هذا منهم بأفواههم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله) أي: الحق (ما قدم، ومال وارثه ما أخر)، فما تدخره لمن بعدك، سينتفع به من بعدك فليس في الحقيقة يعتبر مالاً لك، وما قدمته بين يدي الله جل وعلا من النفقات والزكوات والصدقات.. وأردت به وجه الله هو المال الحقيقي لك، ونسبه النبي لك لأنه ينفعك يوم القيامة، وأما الشيء الذي لا ينفعك فلا يعتبر ملكاً لك، وما ينفعك يعتبر ملكاً لك ولو لم تملكه.
ولهذا قال الله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، والمعنى لو أن إنساناً مثلاً عليه ديون، والدين مرغب في الشرع أن يخفف الإنسان منه، فلما مات جاء رجل آخر فسدد دينه عنه، فالمال المسدد به الدين ليس مالك على وجه الحقيقة، لكنه لما نفعك كان كأنه مالك؛ لأن ما ينجم عنه من حبسك في القبر بسبب الدين انتفى بسبب أن ذلك الأخ الذي سدد عنك نفعك بماله، فلما نفعك ذلك المال أصبح كأنه مالك، والنبي صلى الله عليه وسلم في تربيته للصحابة نحن نجهل الآن المناسبة الذي تكلم فيها النبي عليه الصلاة والسلام، لكن إذا جمعنا الأحاديث بعضها إلى بعض عرفنا أي منهج عظيم كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه، فتارة يجنح إليهم في ما تتعلق به النفوس ويتحدث عن الأموال، كما هذه الأحاديث الذي اختارها البخاري في كتاب الرقاق، وتارة يتحدث عن النوافل في الصلوات وكأن الدين ليس فيه إلا صلاة، فإذا اطمأن إلى أنهم فقهوا ذلك خرج به منحاً آخر وتكلم عن حق الجار، فإذا أدركوا حق الجار جاء بمجلس آخر فكلمهم صلى الله عليه وسلم عن حق الضيف، فإذا اطمأن إلى أنه أقام مجتمعاً مسلماً خاف عليهم أن يركنوا إلى الدنيا فيكلهم عن أخبار الآخرة وأيام اللقاء بين يدي الله، ويحدثهم عن الجنة والنار؛ حتى لا تعلق قلوبهم بالدنيا، ثم يحدثهم تارة عن الجهاد في سبيل الله وأن به يرفع الذل ويطلب العز، وكأن الدين ليس فيه إلا السيف والرمح، ثم يأتي في موقف آخر فيقول: (لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا)، وهذه التربية النبوية من يريد أن يستقي منها ويستفيد لا ينظر إلى باب واحد، ولكن يأخذ الدين أخذاً شمولياً، وينظر في أحاديثه صلى الله عليه وسلم وفي القرآن من قبل نظرة شمولية تجمع أبوابها، لكن الإنسان إذا كان في حياته لا يقرأ إلا باباً واحداً في العلم فإن هذا الباب يبقى مسيطراً عليه.
وفي إحدى الأمم -بدون تسمية حتى لا تكون تزكية- غير المسلمة يقولون: من ليس في يده إلا مطرقة فإنه يرى كل الناس مسامير؛ وهذا حق لأن الذي ليس في يديه إلا مطرقة فإن أي شيء يريد أن يطرقه سواء كان قابلاً للطرق أو غير قابل للطرق، فالذي يأتي لفنون العلم ولا يقرأ إلا باباً واحداً حتى يشعر بوجوده، فيطبق هذه الأحاديث على كل شيء حتى يشعر أنه استفاد؛ لأنه إذا لم يجد لها مسلكاً شعر بالنقص، ولا أحد يحب النقص في نفسه، لكن من أراد أن يعلم كيف يستقي من معين محمد صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى السيرة العطرة والأيام النضرة جملة، وإلى الأحاديث في أبوابها كلها، ويضم الضمائم بعضها إلى بعض، ثم يفقه متى يقدم ومتى يؤخر، ومتى يطالب بهذا ويقدم هذا المنهج الحق في فهم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أحسن النووي رحمه الله تعالى صنعاً لما جمع أحاديث كتابه العظيم (رياض الصالحين)؛ فإنه لم يترك باباً إلا تكلم فيه، وجمع فيه أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تيسر إلقاءه في آخر هذا المجلس سائلين الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والعلم عند الله جل وعلا، ونجيب فيما بقي من الوقت على أسئلتكم.
الجواب: نقول والعلم عند الله قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال)، فالنساء فتنة بلا شك، لكن فتنة المال من حيث الجملة أعظم، لكن قد يكون بعض الناس فتنة النساء عنده أكبر خاصة لمن كان أعزباً أو كان شاباً أو أشباه ذلك، أو كان فيه قوة وعنفوان، لكن الأصل أن فتنة المال أكبر، وأنت ترى الكثير من الفضلاء والناس المعروفين المشهود لهم إذا ابتلي بالدينار والدرهم يفشل فشلاً ذريعاً؛ ولهذا كان بعض الناس إذا سأل عمن يطرق بابه للزواج من إحدى محارمه فإنه يسأل عن كيفية تعامله مع الدينار والدرهم؛ لأنها تبين معادن الرجال.
وأما فتنة النساء -أعاذنا الله وإياك- فإن الله أمر بغض البصر، وأمر بحفظ الفرج، والإنسان يتجنب المواطن التي تكون مجمعاً للنساء ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويحرص على الزواج، ويستعين بالرب تبارك وتعالى.
الجواب: أنت تقول في سؤالك: أنا شاب مستقيم واستقامتي هذا اليوم، -يعني: أنه الله جل وعلا من عليك بحب التوبة إلى الرب تبارك وتعالى في هذا اليوم، فثق يا أخي أنك وقفت على باب عظيم، وحصلت على أمر عز نظيره، وقل مثيله، ولا يوجد شيء تطلبه ينفعك وينجيك أعظم من الوصول إلى الهداية؛ فإذا شعرت في قلبك أنه تمكن حب الهداية فيك ولك رغبة أن تهتدي، ولك رغبة أن تستقيم فلا تفرط في هذا الأمر أي تفريط، والبداية تكون أن يقع في قلبك وقعاً صادقاً أنك تريد ما عند الله، ثم يقع في قلبك أنك لن تستطيع أن تستمر على هذا الطريق إلا بالله، وأنه لن يكلأك ويحفظك ويثبتك إلا ربك، ثم تتذكر سالف أيامك فيقع فيك الندم على ما فرطت في جنب الله، ثم تعقد النية على أنك ستعمل الصالحات وتسابق في الخيرات، وجاء تفسير ما سبق، ثم تبدأ من الليلة بالقيام بين يدي الله جل وعلا، لا يوجد لذة في الدنيا أعظم من لذة السجود في الأسحار أو في ثلث الليل الآخر في ساعة يناجي فيها العبد ربه، كل لذات الدنيا تضمحل تنتهي لا يبقى لها شيء إذا ما قورنت بمثل هذه اللذة.. وأنت أيها الأخ المبارك السائل -فإن حقك مقدم على حق غيرك فأنت صاحب السؤال- قم هذه الليلة بثلاث ركعات وابدأ بداية سهلة، ولا تكلف نفسك ما لا تطيق واقرأ فيها القرآن وأسمع فيها نفسك، واسأل الله في السجود الثبات على دينه، وأن يفتح الله عليك، اسأل الله الجنة بإلحاح، واستجر بالله جل وعلا من النار بإلحاح، واسأل الله مغفرة الذنوب وستر العيوب، واسأل العون يقول الله لنبيه: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] لن يهديك يا نبينا إلا ربك، فإذا عرفت الطريق لن ينصرك في المضي عليه إلا ربك، فاسأل الهادي النصير جل جلاله أن يوفقك ويعينك.
الجواب: يصلى ركعتين ركعتين ما بين الأذان والإقامة، ثم إذا فرغت من الفريضة تصلي أربعاً أخر ركعتين ركعتين، قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الله على النار).
الجواب: ضع لنفسك أمراً أنك على خير عظيم، ولا يجدن إليك اليأس سبيلاً، وحتى لو لم تكمله في الإجازة فهذا لا يضر، وحسبك فخراً أن ينظر الله جل وعلا إليك وأنت تحت سارية مسجد تروم كتابه العظيم، وتحاول أن تتدبره وتحفظه، فهذا لوحده فخر عظيم.
الجواب: هذا حسن لكن بعض الأخوة يقولون: نحاول أن ننهي أحاديث الباب في المقام الأول، فالأحاديث البينة الظاهرة جداً لا نتعرض لها إلا بشيء يسير.
يا أخي الله يقول لنبيه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:93-94] أي: فحتى أنت يا نبينا قد نميتك قبل أن ننتهي منهم، يعني: تأخذ وتعطي معهم فتموت والأمر معهم ما انتهى، فإذا كان هذا جرى حكماً على النبي فكيف من دونه! لكن الناس يريدون أن يصلوا بعجلة، فمن يظن أن الطريق الذي ابتكره أفضل من ذلك الطريق فهو من غير أن يشعر يظن أن طريقه مقدم على طريق الله، ولهذا يقول الله: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35] أي: ثبتوا على منهج الله، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في يوم عام الحديبية، وهو نبي وما هو بقائد سياسي، بل نبي يوحى إليه، جبريل غداء رواح عليه، ومعها ألف وأربعمائة، سيصل صلوات الله وسلامه عليه للحديبية فتمنعه قريش، فجن جنون الصحابة وقالوا: هذا شيء لا يعقل، فلما جن جنونهم قال: (إنه ربي ولن يضيعني)، أدخل السنة هذه، أدخل بعد عشرين سنة، فهذا شيء ما لي شغل فيه فأنا ماشي على المنهج الصحيح، فحبسها حابس الفيل، أي: الناقلة، فعرف لما خلأت القصواء أنه لن يدخل مكة؛ فجاءه عمر فأخذ يعاتبه، وعمر يرغب حقاً، ويطلب رفعة الإسلام، لكن هذا منهج فمتى ما وصل وصل، فرجع صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فأخذ يرجعها صلى الله عليه وسلم يترنم بها، ثم في العام الذي بعده بعامين -فالحديبية كانت في سنة ست، والفتح كان في سنة ثمان- دخل صلى الله عليه وسلم مكة، لكن هذا أمر يبتليك الله به، وهذا أمر ليس فقط في أحداث الأمة وفي طلب العلم، وإنما يطرى في كل شيء، والله يبتليك بالخادم قبل أن يبتليك بابنك، ويبتليك الله بابنك قبل أن يبتليك بجارك، ويبتليك الله بأن تعطي قبل أن يبتليك الله بأن تمنع؛ ولهذا الله يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، فيأتي إنسان يدخل عليه في دائرة حكومية، وهو همه أن يظهر عند الناس أنه رجل متواضع، فإذا جاءه رجل وجيه أو رجل يعلم أنه سيبلغ عنه تراه يمشي حافياً إليه ويكرمه، فيخرج هذا يقول: تصدقوا بالله الدلة ما طلب الخادم بل هو صبها لي، فهذا العمل قد يكون لله وقد يكون لغير الله، وهو نفسه يعرف ذلك، وأنا لا أتكلم عن أحد بعينه، لكن هو إذا كان صادقاً هل يصنع هذا مع غيره؟ إن جاءه شخص ما يعرف أحداً، ولا يمكن أن يقول للناس: إن هذا حصل، هل تصنع هذا معه أو لا؟ فهذا كله في حياة الإنسان فيربي نفسه على الطريقة الصحيحة، فهذا أمر دونه خرط القتاد في التربية، لكن هذا كتاب الله، وهذا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت مهيمنة حاكمة على المرء فإنه يسير بنور الله، فيصل بإذن الله إلى صراطه المستقيم.
أطلنا عليكم لكن هذا أمر من قديم حاولت تأصيله، أسأل الله العافية لنا ولكم، وصلى الله على محمد، وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر