فهذا بحمد الله وتوفيقه استئناف لتعليقنا الموجز على كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، وكما جرت سنن الدرس من قبل أن يقرأ أخوكم ثم نعلق إن شاء الله تعالى على ما تلاه وقرأه، على أن بعض الأحاديث في هذه الليلة قد يكون فيها شيء من الطول، فتكون القراءة من قبل الشيخ عبد المجيد قراءة مجزأة؛ حتى يستقيم الشرح مع الجزء الذي سيشرح، فليتفضل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب رفع الأمانة.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة) ].
هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الرقاق عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان ، وحذيفة بن اليمان هو صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راوي الحديث المشهور في الفتن: (كان الناس يسألون النبي عليه الصلاة السلام عن الخير، وأسأله عن الشر؛ مخافة أن أقع فيه) .
وحسبك هنا أن تعلم أن هذا الحديث رواه صحابي له علاقة وطيدة جداً بالنبي عليه الصلاة والسلام، فهو صاحب سره، أي: أنه اطلع على أمور لم يطلع عليها الكثير من الصحابة، وقد عين له النبي عليه الصلاة والسلام أسماء المنافقين الذين كان يعلمهم عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث إخبار عن رفع الأمانة، وقد قسم ذلك إلى قسمين: فأول الحديث يتكلم عن نزولها، وآخر الحديث يتكلم عن رفعها، فقال في نزولها: إنها نزلت في جذر قلوب الرجال، وكلمة جذر: تقرأ جَذر وتقرأ جِذر، بالكسر والفتح، وكلاهما صحيح، ومعنى الجذر: الأصل من الشيء.
وفي هذا الإخبار أن هناك ثلاث طرائق جعلت بها الأمانة في قلوب الرجال:
الطريق الأول: طريق الفطرة، وطريق الإلهام، وطريق الوضع الرباني المحض، وهذا معنى قوله: (نزلت في جذر قلوب الرجال) أي: في أصلها، فينشأ الإنسان والمرء فطرة على أنه أمين.
ثم قال: (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)، ويصح أن تقرأ: ثم علّموا القرآن، ثم علّموا السنة.
من هذا الحديث اخذ العلماء أن الأصل أن يتعلم الإنسان القرآن في الأول، ثم يتعلم السنة، وأن يفقه الإنسان القرآن ثم يفقه السنة، ولو تعلمهما متجاورين -أي: ليس هناك فارق زمن بعيد بينهما- فلا حرج، لكن ينبغي أن يتعلمها جميعاً احتياطاً أنه ظهر منذ القدم أقوام يقولون: يكتفى بالقرآن ولا حاجة للسنة، وفي عصرنا يسمون أنفسهم بالقرآنيين، ولكن هذه التسمية التي أطلقوها على أنفسهم غير صحيحة، لأن الرجل إذا فقه القرآن أصلاً علم أن من لوازم فقه القرآن أن يعلم السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، وقال: (إلا وإني أوتيت القرآن وما يعدله)، وفي رواية (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه)، وفي الحديث: (يوشك رجل شبعان متكئاً على أريكته يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه عملنا به، ومالم نجد فيه لا نعمل به) أي: كأنه ينبذ السنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن رجلاً يأتي لأمر إما أمر أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فهذا لا نجده في كتاب الله) أو كلمة نحوها.
فهؤلاء لم يوجدوا في زمن النبوة لكنهم وجدوا بعد ذلك، وقد حذر منهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وأول ما ظهرت نبتة هؤلاء القوم كان ذلك في زمن الشافعي ، رحمه الله تعالى، ولذلك أفرد الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة باباً يخصهم، وذكر محاورة جرت له مع بعضهم، وكيف أقام رحمه الله الحجة عليهم، وأبان لهم الأمر، وأوضح لهم المحجة، فجزاه الله عن الأمة خير الجزاء.
ثم ما زال هؤلاء القوم يكثرون في عصر ويقلون في عصر، فمن رام أن يحمل الناس على أن الدين ما في القرآن فقط، فهو يريد أن يحملهم على هدم الدين؛ لأنه لا يمكن أن يعرف القرآن إلا بالسنة، والقرآن جاء لتعظيم سنة صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية، والله جل وعلا يقول: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
فإن قلنا: إن الفاعل في (دعاكم) هو النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر واضح، وإن قلنا: إن الضمير يعود على لفظ الجلالة، فما سلف من أول قوله جل وعلا: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:24] معناه أن القرآن والسنة شيء واحد، ولا يجوز أبداً، بل عين الكفر أن يطالب الإنسان الناس العمل بما في القرآن فقط، وأن يطالبهم بترك السنة، وأنها لا حجة فيها.
وقد نشرت مقالات في أول هذا العصر في مجلة المنار التي كان يشرف عليها العلامة رشيد رضا رحمه الله، ذكرها رجل أظن أن اسمه توفيق أو ما أشبه ذلك، ولا يعنينا اسمه، وقد ذكر في عنوانها: القرآن هو الإسلام فقط، أي لا حاجة للسنة، وفي عصرنا هذا كما قلت يظهرون هاهنا وهناك، والمقصود من ذلك كله هدم الدين، لكن الحجة قائمة عليهم؛ لأن الدين لا يعلم إلا بالقرآن والسنة، لكن المنهجية العلمية تجعلنا نقول: نبدأ بالقرآن ثم بالسنة، فما أشكل علينا فهمه من القرآن نفهمه عن طريق السنة، ومثاله أن الله جل وعلا ذكر في القرآن أن القصر في الصلاة لا يكون إلا لسبب الخوف: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)، لكن السنة بينت أن القصر في السفر يكون في الخوف وفي غير الخو، قال صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدق الله بها عليكم) .
وهذا هو المراد من قول حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة).
وطالب العلم الحق هو من يجمع بينهما، ولا سبيل إلى فهم القرآن إلا بالسنة، ولا سبيل إلى الأخذ بالسنة إلا بموجبات القرآن، والله أعلم.
نسأل الله العافية، بعد أن تكلم صلى الله عليه وسلم عن نزولها تكلم عن رفعها، وهناك خلاف بين العلماء في المقصود بالأمانة في الحديث: فقال بعضهم: إن الأمانة في الحديث هي عين الأمانة في قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب:72]، ففسرت بالإيمان، وهو ظاهر الحديث، لكن ينبغي أن يفرق بينهما وأن يقال: إن المقصود هنا أثر الإيمان، وهناك تلازم، فإذا ضعف الإيمان تكون الخيانة، وإذا قوي الإيمان تكون الأمانة، هذا هو الصواب في فهم الحديث، فإذا ضعف الإيمان رفعت الأمانة، وحلت -عياذ بالله- الخيانة.
قوله: (مثل أثر الوكت)، الوكت: هو الأثر اليسير للشيء.
قوله: (ينام النومة) اختلف في معنى (ينام النومة)، لكن الأظهر -والله تعالى أعلم- أنه يضعف إيمانه، فالنوم أخو الموت، فشبه ضعف الإيمان بالنوم؛ لأن عدم الإيمان يسمى موتاً، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122]، فيكون نومه هو ضعف إيمانه، فإذا ضعف إيمانه نجم عن ذلك -عياذاً بالله- الخيانة وقلة الأمانة، فالوكت هو الأثر اليسير للشيء.
ثم ذكر المجل، والمجل في اللغة: ما يكون من أثر العمل إذا غلظ، فمثلاً إذا صنعت بيدك شيئاً شاقاً فإذا فرغت من ذلك العمل فإنه يكون هناك أثر في اليد، وهذا الأثر الذي في اليد من ذلك العمل الغليظ يسمى مجلاً.
وأما التنفط فهو الانتفاخ، والإنسان -كما جاء في الحديث- إذا وطأ على جمرة ولو كانت الجمرة يسيرة فإنها تؤثر في باطن القدم، فيحصل تنفط وانتفاخ، وهذا التنفط والانتفاخ يصير وكأنه ورم وليس بداخله شيء.
فكذلك الرجل ضعيف الإيمان يرى أو يتعاهد معه ويبايع، وتقام معه العهود والمواثيق، ويظن راعيه أنه حامل للأمانة، وليس لديه من الأمانة شيء، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً ثم أتى بأسلوب تعجب: (ما أظرفه ما أعقله ما أجلده)، وهذا كله يسمى أسلوب تعجب وهو في الحقيقة مدح من الناس على الظاهر، لكنك إذا تبايعت معه وتعاملت معه فإنك لا تجد عنده من الأمانة شيئاً أبداً.
هذا الكلام الآن عن رفعها، وسيأتي إيضاح أكثر فيما تبقى من الحديث.
القائل هنا هو حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه، والمعرفة التاريخية بالراوي إذا تحدث مهمة جداً؛ حتى يعلم الإنسان مقصود ذلك الراوي، فإن التبايع في الأصل والبيعة إنما تنصرف أول ما تنصرف إلى البيعة الشرعية مع ولي الأمر، لكنها هنا محال أن تنصرف إلى البيعة الشرعية، الحديث هنا لا علاقة له بالبيعة الشرعية، ولا بد من قرائن ودلائل تؤكد صرفنا للبيعة عن البيعة الشرعية، والدليل أن حذيفة رضي الله عنه يقول: فأما اليوم فلا أبايع إلا فلاناً وفلاناً.
فـحذيفة رضي الله عنه وأرضاه قد بايع عثمان ، وولاه عثمان على المدائن، وقتل عثمان وحذيفة والي عن المدائن، فبايع حذيفة رضي الله عنه بعد عثمان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ومات في أول خلافة علي ، فكونه رضي الله عنه يبايع عثمان وعلياً رضي الله تعالى عنهما هذا يدل على أن المقصود بقوله: أما اليوم فلا أبايع إلا فلاناً وفلاناً أنه يقصد البيع والشراء، ولا يقصد البيعة الشرعية.
ثم ذكر رضي الله عنه ما يفهم فيه أن انصرام الأيام وتوالي الفتن جعلت الإنسان لا يثق في كثير ممن حوله، فالفتن بدأت بعد مقتل عثمان ، وبتعبير أحرى بدأت بعد مقتل عمر ، لكن بعد مقتل عثمان انفتح باب الفتن على مصراعيه؛ لأن قتل عثمان أول حادثة في الإسلام نجم عنها افتراق الأمة، والأمة إلى اليوم لم تجتمع اجتماعاً حقيقياً بعد مقتل عثمان .
و عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه ثالث الخلفاء الراشدين، وقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس على فوهة بئر، والنبي يعيش حياة طبيعية، فالبئر دخلها ولم يكن هناك أحد، فجلس صلى الله عليه وسلم على فوهة البئر، فكشف عن ساقيه، فدخل أبو بكر مستأذناً عن طريق أبي موسى الأشعري ، فجلس بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، وأدباً كشف عن ساقيه، ثم دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه مستأذناً، وجلس بجوارهما وكشف عن ساقيه، وقد كشف الشيخان رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما عن ساقيهما حتى لا يقولا في أنفسهما للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أكمل منك أدباً، لكن لما صنع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجبلة صنعا مثله، حتى لو رآهم راءٍ لا يقول: انظر إلى هذا كاشف عن ساقيه وهذان مؤدبان فاضلان، فكشفا مثله؛ تأدباً معه صلوات الله وسلامه عليه.
وموضع الشاهد أن عثمان دخل فاستأذن كما استأذن أخواه، فقال صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى : (ائذن له، وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقبل البشارة وقال: الله المستعان)، وفي رواية قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، ونصحه النبي أنه سيطلب منه نزع القميص الذي البسه الله إياه فلا ينزعه) .
فالقميص أُوِّل بالخلافة، ثم إن أولئك الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وأرضاه قدموا من مصر وغيرها، واجتمعوا في أيام الحج عند بيت عثمان يحيطون بالدار.
وعثمان رضي الله عنه ولى بعض قرابته ولايات، وإذا أردت أن تعلم الناس فلا تطأطئ رأسك، ولا تُخفِ أشياء وتظهر أشياء؛ لأنك إذا أخفيك أشياء وأنت تعلم فإن الذي تعلِّمه إذا وقع على هذه الأشياء ترك الذي علمته، ونحن لا يوجد شيء نخافه حتى نخفيه، فالتاريخ الإسلامي واضح جلي، وليس بيننا وبين الفرق المخالفة لنا إلا الحق، فنحن نؤمن بالحق ونذعن له، فـعثمان رضي الله عنه ولى بعض قرابته لأمر كان يراه حسناً، وتأويل كان يراه صواباً، فهؤلاء القوم جعلوا من تولية عثمان لبعض قرابته تهمة له، وأرادوا أن يخرجوا عليه، فالآن اجتمع أمران، وهذا مهم، خاصة في عصرنا، أن تفهمه، فهؤلاء الخوارج يقولون: إن عثمان آثر قرابته علينا، فأردوا أن يخرجوا عليه، وفعلاً خرجوا عليه وقتلوه، فلزمت الفتة إلى يومنا هذا، ولو لم يخرجوا عليه لنجم أمران:
اجتماع الأمة، مع وجود الأثرة من عثمان ، ولأن تجتمع الأمة مع وجود أثرة خير من أن تتقاتل أو تفترق.
والنبي عليه الصلاة والسلام حث في حديث البيعة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأثرة علينا، فمن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فليقبل الأثرة مع وجود جمع كلمة المسلمين، ولا نأتي ننبذ الأثرة وينجم عن هذا فرقة كما هو حاصل بعد مقتل عثمان.
لكن أولئك الخوارج الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه كانوا يحاولون أن يردوا الأثرة، فلا هم بالذين ردوا الأثرة، ولا هم بالذين أبقوا الأمة مجتمعة، فدخلوا على رجل مبشر بالجنة، وقد جاوز الثمانين ولحيته بيضاء، فقتلوه، ويزعمون أنهم بذلك يتقربون إلى الله.
هذا مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وبعده حصلت الفتن، ثم كان علي رضي الله عنه، فبايعه الناس سوى أهل الشام، ولم يجتمع الناس عليه، لكنه عند أهل السنة والجماعة هو الخليفة الراشد الرابع رضي الله عنه وأرضاه، وبه ختم الله الخلفاء الراشدين.
فهذا الصحابي الجليل حذيفة كان من أول المبايعين لـعلي ، فقد ثبت بالنقل الصحيح أنه كان ينتصر لبيعته ويدعو الناس إلى بيعته.
إذاً فقد زال مفهوم أن يكون مقصود حذيفة بقوله: (أما اليوم فلا أبايع) أن يكون مراده البيعة الشرعية، فانتقل ذلك إلى البيعة في المعاملة والشراء، وأصبح معنى الحديث أنه بعد ظهور الفتن بعد مقتل عثمان قلّت الأمانة في الناس، فهو يقول رضي الله عنه وأرضاه: من قبل كان الذي يتعامل معه في البيع والشراء إما مسلم وإما نصراني، فقد مر معك في الحديث: (إما مسلم وإما نصراني)، وهذا دليل آخر أنه لا يقصد البيعة الشرعية، لأن النصراني ما يعطى بيعة، لكن يتعامل معه يبيع وشراء، فيقول: في أول المسلمين، المسلمون الأصل أنهم قبل الفتن كلهم مأمونون، فأنا أتبايع معهم؛ لأنهم مسلمون، والنصراني أتعامل معه لا لأنه نصراني، لكن إذا خانني رده علي ساعيه.
ومعنى يرده علي ساعيه أي: القائم عليه من المسلمين، فالذي أدخله الديار يؤدبه يعلمه؛ حتى لا يغشنا، فالمسلم الذي أدخل هذا النصراني الديار في ذمته أو في عهده يرد علي حقي، فلن يضيع حقي لا مع المسلم بإسلامه، ولا مع النصراني، لأن النصراني؛ له والي مسلم.
يقول: وأما اليوم -يعني: بعد ظهور الفتن- فلا أبايع إلا فلاناً وفلاناً، بمعنى أنني صرت لا أبايع ولا أتعامل بالبيع والشراء، والعهد والأمانة إلا مع شخص أعرفه حق المعرفة، وهذا يسوقنا إلى قول الله جل وعلا على لسان ابنة العبد الصالح: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].
وعمر رضي الله عنه يقول: (اللهم أشكو إليك ضعف الأمين، وفجور القوي).
لكن إذا اجتمعت في الإنسان قوة في أداء العمل، مع أمانة ومراقبة الله جل وعلا في عمله الذي أوكل إليه، فهذا الذي من لك به؟ به، ودونه خرط القتاد، وكما قال حذيفة رضي الله عنه: إنه قليل في الناس.
وهذا الحديث علاقته بكتاب الرقاق: أن يحرص الإنسان على أن يتقي الله جل وعلا فيما أوكل إليه، وأن يبتعد كل البعد عن الغدر، وعن الخيانة، وعن نقض العود والمواثيق وأشباه ذلك مما يقدح في إيمان العبد؛ لأن السلوك الذي تصنعه مع الغير إنما هو دليل على إيمانك قوة أو ضعفاً، فمن كان الإيمان واليقين راسخاً في قبله كان تعامله مع الناس حق أمين، والله جل وعلا ذكر في كتابه المكر والخديعة والخيانة، فنسب لذاته العلية المكر والخديعة مقيدتين، ولم ينسب الخيانة إلى ذاته.
قال الله جل وعلا وهو خير القائلين: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وقال جلا وعلا: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
ولما ذكر أهل الخيانة قال: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58].
فلم يقل: فخنهم، ولم ينسبها إلى نبيه، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] يعني: أظهر الأمر لهم جلياً أن ما بيني وبينكم انتهى، وقد يفسر: كن واضحاً معهم، هذا هو المعنى الحرفي للآية، فالمقصود أن الخيانة مذمومة على كل وجه، ولا يليق بمسلم أن يصنعها، وهي من الدلائل والبراهين والقرائن على قوة الإيمان أو ضعفه، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإيمان الذي ينجم عنه أمانة قوية.
هذا الأسلوب يسمى أسلوب حصر عند البلاغيين؛ لوجود إنما.
و(إنما) عند النحويين يقال لها: كافة ومكفوفة، ومعنى كافة ومكفوفة: أن (إنّ) الحرف المشبه بالفعل الأصل أنه يعمل، فينصب الاسم الذي هو مبتدأ أصلاً -ويسمى اسمه، ويرفع الخبر، فإذا دخلت عليه (ما)، كفته عن العمل، فيقول النحاة جملة حتى يستريحوا من عناء التحليل: كافة ومكفوفة، فالمكفوفة هي (إن)، والكافة هي (ما)، وهي تستخدم هنا لأسلوب الحصر. (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيهم راحلة) الراحلة هي الإبل، وتنقسم إلى قسمين: راحلة وحمولة، والحمولة هي التي يحمل عليها المتاع.
والراحلة ما يركب عليها، فالذي يحمل عليها المتاع كثيرة، وأما الإبل النجيبة الصالحة للركوب المسماه راحلة فهي قليلة جداً، لكنها كلها تشترك في أنها حمولة، قال الله جل وعلا: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142].
وهذا الحديث اختلف الناس فيه على معنيين ذكرهما الخطابي رحمه الله.
المعنى الأول: أن الناس متساوون الشريف منهم والوضيع، فكلهم متساوون في الدين، مثل الإبل كلها تصلح أن تكون حمولة، هذا المعنى الأول، وهو بعيد.
والمعنى الثاني: أن النقص في الناس كثير، وأن الفضلاء من الناس قليل جداً، والكاملين من الرجال قليل كنسبة الراحلة في الإبل.
قال الإمام النووي رحمه الله معقباً على قول الإمام الخطابي قال: وهذا أجود، أي: القول الثاني أجود. وهذا من أساليب الترجيح.
على هذا المقصود جملةً من الحديث أن الناس إذا رأيتهم على ظاهرهم فإنك تكاد تزكيهم جميعاً، فإذا بلوتهم وصحبتهم إما في السفر، أو في التعامل بالدينار والدرهم، أو في الحقوق، فإنهم يختلفون اختلافاً جذرياً، فلا يكاد يثبت منهم إلا القليل.
وهنا تفهم وجه ارتباط الحديث الثاني بالحديث الأول، فالحديث الأول يتحدث عن الأمانة، وإذا وجدت أمانه وجد حسن التعامل.
فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس كالإبل المائة) يعني: لا يوجد فيها راحلة إلا قليلاً.
وهذا ظاهر، فكم من الناس من يتقدم لأهل بيت يريد أن يتزوج منهم وظاهره الصلاح، فإذا زوجوه وتحقق أنه حصل على مراده إذا به تظهر منه أخلاق لم تكن موجودة، فيأتي الناس الذين زوجوه يستغربون فيقولون: سبحان الله! هذا يصلي ويذهب يغدو ويروح، وزكاه فلان، وأنت ترى عليه بعد ذلك من الأمور ما لا يكاد يصدق، فإما أن يبخس زوجته في المال والدينار والدرهم، أو يتسلط على مالها بغير وجه حق، أو يضربها ضرباً مبرحاً لا حاجة له، هذا في أحواله مع زوجته.
وقد تجد أحياناً من الناس من تراه حسناً، فإذا تعاملت معه في عقد أو بيع أو شراء أو تعامل أظهر لك من الخيانة والتسويف، أو حتى لو أجرته دارك أو أجرته سكناً ترى منه من التسويف ما الله جل وعلا به عليم، ولا يعطيك حقك، وترى فيه من التغير ما يثبت قول النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يظهر ذلك عليه في السفر، وإنما سمي السفر سفراً، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وإنما يبتلى الرجال حق الابتلاء بالسفر، فمن الرجال رجال أوفياء أجلاء يخدمك أكثر مما تخدمه، يقول أحد التابعين: صحبت ابن عمر في سفر لأخدمه، فكان يخدمني، ففي الأسفار تتجلى أخلاق الرجال؛ لأن السفر فيه وحشه، والوحشة تغير الطبع، فإذا تغير الطبع يجب أن يتحمل كل منا الآخر، فالعرب تقول: إذا عزّ أخوك فهن، وإذا كنتما في ديار غربة فيجب أن يتحمل كل منكم الآخر؛ حتى يصدق عليكما أن تكونا كاملين.
والنبي عليه الصلاة السلام يقول (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع)، هذا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به) ].
هذا حديث والله لا يدري المرء كيف يشرحه، لكن نسأل الله أولاً لنا ولكم السلامة، وألا يكلنا الله جل وعلا إلى ما علمه الناس منا، وأن يكلنا تبارك وتعالى إلى فضله وسخائه ورحمته وستره ومغفرته وعفوه، إن ربي سميع الدعاء.
أما شرح الحديث فنبدأ بالألفاظ:
الرياء والسمعة بمعنى واحد من حيث قصد العمل، فكل عمل قصد به جلب الحمد من الناس دخل في الحديث.
لكن الرياء يقال لما كان بالبصر، أي: في الشيء الذي يحب أن يراه الناس فيه.
والسمعة تقال لجارحة السمع، أي: في الشيء الذي تفعله وتحب أن يسمع الناس أنك فعلته.
والمقصود من الاثنين واحد وهو: جلب مدح الناس دون النظر -إما بالجزئية أو بالكلية- إلى بغية وجه الرب تبارك وتعالى.
يقول الله جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فهذا وعد من الله أن من أراد الدنيا أن يوفي الله جل وعلا له ما أراد وألا يبخس، فإن قال قائل: هذا الوعد الرباني لا نراه واقعاً، فبعض الناس يريد بعمله الدنيا ويقول هذا صراحة ولم يعط شيئاً.
فنقول إن الإطلاق هنا قيدته أية الإسراء، قال الله جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18].
فقول الله جل وعلا: لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18] قيد للآية السابقة.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ [الإسراء:18-21] أي: في الدنيا، انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].
أولها: أن يعلم المرء أن الرياء شرك، وهو من أعظم ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته.
الأمر الثاني: أن تعلم أن الله جل وعلا غني كل الغنى عن طاعتك، وغني عن كل شريك تشركه معه.
الأمر الثالث: أن من ابتغيت مدحه من الناس هو في نفسه لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً ولا قوة، فكيف يعطيك حولاً أو طولاً أو نفعاً أو ضراً!!
فإذا علمت عجز المخلوق يئست مما في أيدهم، وانصرفت إلى الخالق تبارك وتعالى، وما الدنيا ومدح أهلها إلا زهرة حائلة، ونعمة زائلة.
ويزاد على ذلك أن العبد ينبغي عليه أن يستحيي من الله أن يقف يوم القيامة وقد صنع صنيعاً تعبد الله جل وعلا به وأراد به غير الرب تبارك وتعالى، فأي وجه هذا سنلقى به الله إذا كان ثمة عمل صنعناه في الدنيا مما تعبّدنا الله جل وعلا به، ونحن نريد به غير الرب جل وعلا.
وهذا الحياء من الله يوجد إذا كان العبد على علم بعظمة الرب تبارك وتعالى، وجلاله وقدرته، وأنه جل وعلا غني عن طاعة كل أحد.
قال صلى الله عليه وسلم في أعظم حديث قدسي يقول الله جل وعلا: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) إلى أن قال جل وعلا في هذا الحديث القدسي يؤدب عباده: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) .
فعلمك بهاتين الصفتين الجليلتين للرب تبارك وتعالى أعظم ما تدفع به الرياء.
ومن أعظم ذلك كله أن تسأل الله جل وعلا أن يرزقك الإخلاص، واعلم يا أخي أنه ما ارتفع شيء إلى السماء كما قلنا مراراً أعظم من الإخلاص، وما نزل شيء من السماء إلى الأرض على عبد أعظم من التوفيق، وسيأتي الحديث عن التوفيق والتسديد في حديث الولاية، لكننا نختصره هنا، والمقصود من هذا كله أن يكون الإنسان تقياً ورعاً، هذا هو المعنى الحقيقي للحديث.
لكن بعض أهل العلم رحمهم الله قالوا: إن معنى الحديث أن من أظهر عيوب الناس ومساوئهم، وشهّر بهم، أظهر الله جل وعلا عيوبه وذكرها في الناس، وعلى هذا الوجه علينا أن نتقي الله جل وعلا فيما نقف عليه من عورات الناس.
وقد ذكر الشافعي في هذا أدوية فقال:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسنُ
وعينك إن أبدت إليك معايباً من الناس قل يا عين للناس أعينُ
نسأل الله أن يديم علينا وعليكم الستر في الدنيا والآخرة.
هذا الحديث حديث قدسي كالأول، والمعاداة ضد الموالاة، والسؤال الآن: من هو الولي؟ قد أجاب القرآن عن هذا، قال الله جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:62-64].
فأولياء الله جل وعلا هم أهل التقوى وأهل الإيمان، والحديث سيفصل الطريقة التي تنال بها الولاية.
وأما قوله: (آذنته) فهي بمعنى أعلمته، وكلمة الآذان تأتي مهموزة وتأتي ممدودة، تقول: الأذان بالهمز، وتقول: الآذان بالمد، وأنت طالب العلم لا بد أن تفرق بينهما، فالأذان بالهمز هو الإعلام، ومنه يسمى إعلام الناس بدخول الوقت أذاناً بالهمز، قال الله جل وعلا: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] أي: إعلام وإخبار وإنذار من الله ورسوله.
وأما الآذان بالمد فهي جمع أذن، وهي الجارحة المعروفة، وحتى يسهل عليك التفريق بينهما فقد جمعهما شوقي في بيت واحد، فقد ذكر تسلط الفرنسيين على دمشق، وأنهم صاروا ينادون بالنواقيس بدلاً من الأذان، فمر بالجامع الشهير في دمشق، وهو الجامع الأموي، وبنو أمية يقال لهم كذلك: بنو مروان ؛ لآن عبد الملك بن مروان مؤسس ثانٍ للدولة الأموية، فقال شوقي يصور الحادثة:
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروانُ
فلا الأذان أذان في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذانُ
يعني: لا الذي يرفع هو أذان المسلمين المعروف، ولا الذين يسمعونه هم العرب، فقد تغير العرب وأصبح الفرنسيون مسيطرين على البلدة، ويغدون ويروحون فيها، فلا الذي يرفع أذان شرعي، ولا الآذان -يعني جمع أذن- التي تسمع آذان عربية، وإنما هي آذان العلوج من الكفار والنصارى.
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أن الإعذار مقدم على الإنذار؛ لأن الله جل وعلا قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فآذنته بالحرب إنذار، ومن عادى لي ولياً هذا إعذار، والأسلوب أسلوب شرط، والله أعلم.
(وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذه قربة من العبد للرب، لأن معنى تقرب أي: طلب القربة، فهناك قربة من العبد للرب، وهناك قربة من الرب للعبد، والفرق بينهما كالتالي:
أن القرب من العبد للرب يكون بالإيمان ثم بالإحسان، فتؤمن بالله، ثم تحسن العمل.
وأما القرب من الرب للعبد فيكون في الدنيا بعرفانه، فيعرفك الله جل وعلا بذاته، وهذا والله من أعظم القرب، ويكون في الآخرة برضوانه، يقول الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، فيكون في الآخرة برضوانه، ويكون فيما بينهما بلطفه وامتنانه، جمع الله لي ولكم الثلاثة كلها.
يكون في الدنيا بعرفانه، فمن عرف الله قرب منه، ويكون في الآخرة برضوانه، ويكون فيما بينهما بلطفه وامتنانه، هذا معنى : (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)، فهناك فرائض وهناك نوافل، فالفرائض ما أمر الله به على وجه الإلزام، والنوافل ما ندب الله جل وعلا إليه على غير وجه الإلزام.
فيعقوب نافلة من الله جل وعلا لإبراهيم زيادة على إسحاق، هذا في الولد.
والمسلمون عندما يحاربون الكفار فالبغية الأولى النصر، فما في أحد يحارب إلا من أجل أن ينتصر، فإذا انتصر المرء تحقق المراد، فإذا غنم شيئاً من تركة العدو فهذه التركة ليست هي الأصل، بل هي زائدة؛ لأن الأصل هو النصر، فتسمى غنائم لكنها في الأصل نافلة، قال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، فالأنفال هنا: الغنائم التي في الحروب، فإنها تسمى نافلة.
فالعبد المؤمن يسير على منهج الله، ومنهج الله كمركب نوح، وهو كنوح، قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي [نوح:28]، فما عنده أحد أهم من نفسه، : وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28]، فما في أحد له حق أعظم من الوالدين، : وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا [نوح:28]، فمؤمن أعرفه يدخل بيتي ويغدو أقرب من مؤمن لا أعرفه، فلما فرغ من الوالدين ومن دخل بيتي مؤمناً قال وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28].
والله يقول: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26].
فالقريب منك أولى من البعيد، والمسكين الذي من ديارك ومن أهلك أولى من المسكين الذي مسافر، ثم أتى ابن السبيل بعده.
هذا كله ترتيب الله جل وعلا، فجعل الفرائض أحب إليه من النوافل، لكن النوافل حبيبة إليه جل وعلا، فعندما نريد أن نتقرب إليه جل وعلا فإننا نبدأ بالفرائض، ثم إذا أحسنا الفرائض فإننا نحسن النوافل، فبفعل الفرائض والنوافل تنال محبة الله.
وقد قال بعض أهل العلم: إن من الغرائب في الناس أن الإنسان يخشع في صلاة الليل، وهذا محمود، لكن ينبغي أن يكون الخشوع أولاً في صلاة الفريضة، فينبغي أن يسعى الإنسان في إقامة الفريضة على الوجه الأكمل، ثم بعد ذلك يسعى على الوجه الأكمل في أداء النوافل.
والصوم له نوافل، فشهر رمضان صيامه أحب إلى الله من صيام الإثنين والخميس، وصلاة الظهر أحب إلى الله من النوافل التي بعدها أو قبلها، وإن كان الكل حبيب إلى الله، لكن حتى تسير إلى الله سر على منهج الله، فإذا قدر لامرئ أنه رزق يقيناً وإيماناً وصلاحاً، وجمع مع ذلك القيام بالفرائض والنوافل، نال محبة الله، فما الذي سينجم عن نيل محبة الله وتحقيق ولايته، هذا الذي سيخبر عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم على لسان ربه.
هذه الثمرة من الحصول ثمرات على الولاية: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها) إلى آخر الحديث.
أما هذان القولان فأبدأ بالقول الباطل، وهو موجود واعتقاده كفر، فأنا أسوقه من باب التحذير، والرد على من قال به، وهو في عينه كفر، فقد فهم قوم من هذا الحديث (كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به) ويسمون الاتحادية، وهم القائلون بوحدة الوجود، يقولون: إن الحق جل وعلا هو عين العبد، يعني: أن الله جل وعلا اتحد مع العبد فصارا عيناً واحدة، والقول بهذا كفر مخرج من الملة، تعالى الله جل وعلا عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وحجتهم هذا الحديث، وحديث آخر أن جبريل كان يأتي في صورة دحية الكلبي ، فيقولون -لا رحم الله فيهم مغرز إبره-: إن جبريل كان يحل في دحية الكلبي ، وجبريل جسم رواحاني فحل في جسم بشري، فقالوا: إذا كان جبريل هذا صنعه فالله جل وعلا بزعمهم أعظم وأقدر من ذلك أن يحل في عبده.
وهذا باطل من عدة جهات، أولها: من الناحية العقلية إذا كان النقاش نقاشاً عقلياً:
فجبريل عندما يحل في هيئة صورة دحية الكلبي ، ويأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه، فمن الذي يكلم النبي؟ إنه جبريل، وأين دحية ؟ موجود في بيته مع أبنائه، فـدحية ماله علاقة إنما جاء جبريل هيئته، فـدحية حي يرزق في بيته مع زوجته ومع أولاده، أو في متجره أو في سفره، فهو يغدو ويروح ويقابل شخصاً آخر، لكن جبريل هو الذي تشكل في هيئة دحية .
وأما دحية نفسه ما حل فيه جبريل ولا طلبه ولا دخل فيه، ولو دخل جبريل في دحية لمات دحية ؛ فكيف يتنفس وكيف يأكل وكيف يشرب؟ لكن دحية موجود في بيته يغدو ويروح، وإنما جبريل عليه السلام أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، واختار صورة دحية ؛ لأن دحية رضي الله عنه كان وسيماً جداً يدخل على الملوك، وهذا ملك جاء في صورة دحية ، فحديث دحية لا يوجد فيه شيء مما قالوه ولا زعموه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث هذا الذي استشهدوا: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، إذاً فهناك سائل وهناك مسئول، وهناك مستعين وهناك من يعين، فكيف يقول هؤلاء الجهلة: إن الله جل وعلا يحل في أحد من خلقه!!
فهذا يقوله من لم يعرف قدر الله أبداً، ومن جعل الأدلة والبراهين والحجج وراء ظهره، ومن تنكب طرق الشيطان عياذاً بالله وزعم أن معنى الحديث يكون بهذا التفسير، وهذا لا يقول به عاقل أبداً، هذا القول الأول.
والقول الحق: توفيق الله جل وعلا وتسديده للعبد بحفظ جوارحه من المعاصي، وتوفيقه للطاعات، وكل من يعرف أسلوب العرب في كلامها فإنه يعرف كيف يفهم هذا الحديث.
ولهذا كنا وما زلنا نقول: إن فهم القرآن والسنة من أعظم الطرائق الموصلة إليه: أن نفهم أسلوب العرب في كلامها؛ حتى نستطيع أن نفهم كلام ربنا، لأنه نزل بلغة العرب، ونفهم كلام رسولنا صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه عليه الصلاة السلام خير من تكلم بلغة العرب.
فالمقصود من الحديث التسديد والتوفيق من الرب جل وعلا، وحفظ الجوارح من معصية الله، وهذا -بحمد الله وفضله وتوفيقه- من أعظم المنن، وأجل العطايا، وأسخى الهبات التي يمكن أن يعطيها أحد.
(لئن سألني لأعطينه) هذا في تحقيق المرغوب، (ولئن اتسعاذني لأعيذنه) هذا في دفع المرهوب.
الصورة الأولى: أن يتحقق المطلوب على الفور، فرجل مثلاً دعا فقال: اللهم ارزقني مائة ألف، فخرج من المسجد فجاءه رجل فقال: فلان أوصى لك بمائة ألف، فهذا تحقق على الفور.
الحالة الثانية: أن يتحقق عين الشيء لكنه يتأخر لحكمة.
مثل إنسان قال: اللهم زوجني ابنة فلان، فجلس سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ما تزوج، ثم كتب الله له أن تزوجها، فهذا تأخر لحكمة، لكنه وقع عين المطلوب.
الحالة الثالثة: ألا يقع عين المطلوب، ويقع شيء غيره اختاره الله جل وعلا لعبده، وخيرة الله لعبده خير من خيرته لنفسه.
وأما آخر الحديث فهو يدل على شفقة ولطف الله جل وعلا بعبده، جعلنا الله وإياكم من أوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وإذا سألوه أعطاهم، وإذا استعاذوا به أعاذهم، إن ربي لسميع الدعاء.
هذا الحديث صدره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)
وقد أختلف العلماء في معنى (من) هنا، فذهب بعضهم إلى أنها خبرية، وهذا بعيد عند الأكثرين، وقال الآخرون: إن الأسلوب أسلوب شرط على أصله، لكنه ينبغي أن يعرف أن ما بعد هذا الأسلوب الشرطي هو الذي يبين الحديث، وعلى هذا سنشرح هذا الحديث شرحاً عاماً ولا نتوقف عند بعض ألفاظه؛ لأن ألفاظه من حيث الجملة واضحة.
فالله جل وعلا خلق الموت، فهو خلق من خلق الله، وقد قدمه الله جل وعلا في القرآن على الحياة: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:1-2]؛ قالوا: حتى يقهر به خلقه، فلهذا قدم الموت على الحياة، وقيل: إن الأصل الفناء فلهذا قدم، لكن الأول أظهر.
وهذا الموت حتم لازم لا بد أن يقع، والإنسان إذا مات قامت قيامته، وكان بعثه الأول، أي: في حياة البرزخ، وأصبح مطلاً على أهوال الآخرة.
والموت كما هو معلوم حتم لازم، والموت والحياة ضدان ونقيضان لا يجتمعان، كما لا يجتمع النور والظلمة، والله جل وعلا جعل له أجلاً لا يطلب به ولا يدفع عنه، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].
وتشهد هذه الساعة الملائكة فيؤمنون على ما يقوله من كان حول الميت، ولهذا قال عليه الصلاة السلام في حديث عثمان بن مظعون : (فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون)، يعني: قولوا خيراً، فهذه الساعة هي التي يقصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).
وفي رواية صحيحة أن عائشة فهمت أن هذا معناه أن الإنسان يكره الموت، فقالت:(إنا لنكره الموت)، فليس كراهية الموت تعني أننا نكره لقاء الله، فلا يوجد أحد يحب أن يموت، مع أننا مؤمنون أننا سنموت لا محالة، لكن لم يتعبدنا الله بأن نبحث عن الموت، وإنما تعبدنا الله بأن نسأل الله العافية، وطول العمر، وحسن العمل.
فقالت وهي صريحة واضحة، وهذا يبين لك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه، وكيف يربي أهل بيته، فقد كان يربيهم على أن يسألوا بوضوح عما أشكل عليهم، فهي لم تخش هيبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا مجلس علم، فقالت بوضوح: (إنا لنكره الموت، قال: ليس كذلك).
وهذا نفي لفهم عائشة ، والنبي لم ينفِ فهم عائشة ولم يعط بديلاً، وإنما أعطى بديلاً لفهم الحق، ثم بين أن الميت تبشره الملائكة برضوان الله، هذا إذا كان مؤمناً، فإذا بشرته برضوان الله جل وعلا إذا كان مؤمناً فإنه ينسى الذي كان يخشاه ويخاف منه من قبل في الدنيا، وسيفرح بما هو مقبل عليه، فهذا إذا بشر بما سيلقاه، فيحب أن يلقى الله؛ لأن نعيم الدنيا لا يقاس بنعيم الله، فيحب لقاء الله، بمعنى: أن الله جل وعلا سيثيبه.
وأما الكافر أو الفاسق فإذا وصل إلى هذا الساعة فستأتيه الملائكة تخبره بما هو مقبل عليه من سخط الله وعذابه وعقابه، فيكره أن يلقى هذا فيكره الله لقاءه، بمعنى أن الله لا يعفو عنه، ولا يغفر له.
هذا هو المعنى العام للحديث.
وفي تلك اللحظة كل ما صنعه الإنسان في أيام دهره يمر كاللحظة الوحدة، لكن المؤمن الموفق في تلك اللحظة يكون حسن الظن بالرب تبارك وتعالى، (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) هكذا أوصى صلى الله عليه وسلم.
فعلى الذين يحضرون محتضراً أن يذكروا له عظيم رحمة الله، وأن يسهموا في أن يحسن ذلك المحتضر الظن بربه؛ حتى تنجم عنه أقوال سديدة تستدر بها رحمة الرب جل وعلا، فقد كان جبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لو رأيتني وأنا آخذ طين البحر وأضعه في فم فرعون ؛ خشية أن يقول فرعون كلمة يستدر بها رحمة الله، مع أن خطيئة فرعون هي قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].
والله يقول: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:23-24].
ومع ذلك كان بالإمكان أن يقول كلمة يستدر بها رحمة الله جل وعلا، فكيف بمؤمن موحد في ساعة ضعف وعجز لو وفق أن يقول كلمة يستدر بها رحمة أرحم الراحمين جل جلاله؟
فمن شاهد محتضراً فليعنه على أن يقول قولاً يستدر به رحمة الله.
ومما تستدر به رحمة الله في ذلك الحال أن تقول من الكلمات ما تستدر به رحمة الله في السراء؛ حتى يعطيك الله جل وعلا من رحمته في ساعة الكرب تلك التي لا بد من مواجهتها، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].
ولا يمكن أن ينتصر أحد في هذه الدنيا بحول ولا بقول ولا بعمل ولا بقنوته، ولا بحب الناس له ولا بثنائهم عليه، وإنما يفوز من فاز بتوفيق الله وتسديده إياه ورحمته جل وعلا له.
إذاً بالعقل والنقل: لا يمكن أن يسعى إنسان في تحصيل شيء ينفعه أعظم من سعيه في تحصيل أن يرحمه الله جل وعلا، فمن رحمه الله فسيفوز لا محالة، ولن يهلك أبداً، وكيف يهلك ويضيع من كان الله جل وعلا به راحماً، وله ناصراً، وعليه وكيلاً كفيلاً جل جلاله، فهذه الساعة يعد لها في كل لحظه، وهذا الذي يصنعه العقال.
فقال: يا أبا حازم ما لنا عند الله؟
قال: اعرض نفسك على كلام الله.
قال: وأين أجد هذا؟
قال: في قول الله جل وعلا: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].
قال: يا أبا حازم فأين رحمة الله؟
قال: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
قال: يا أبا حازم فيكف قدومنا على الله؟
قال: أما المحسن فيقدم على الله قدوم الغائب على أهله فرحاً، وأما المسيء فيقدم قدوم الآبق على مولاه وسيده.
فهذه التذكرة من أبي حازم لـسليمان جعلت سليمان يبكي، ثم قال: له يا أبا حازم ! أوصني، قال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك الله جل وعلا حيث أمرك.
وأعظم من وصية أبي حازم قول الله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
وقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
وقول الله جل وعلا: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:1-11].
هذه ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
فحري بكل من جعل الله له قلباً يعي، وسمعاً يتعظ، ألا يفكر في شيء أعظم من تفكيره في الساعة التي يقدم فيها على الله جل وعلا، والإنسان مهما بلغت طاعته فهو فقير إلى رحمة الله، ومهما بلغ ذنبه ومعصيته فإن الله جل وعلا أرحم الراحمين وخير الغافرين، ومن تاب تاب الله عليه، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
ثم على الإنسان حتى يحب لقاء الله أن يفكر ويتأمل ويتدبر فيما أعده الله لمن أطاعة ولمن خشيه جل وعلا بالغيب.
ألم يقل الله: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:5-6]، إلى آخر الآيات التي في هذا السياق كلها.
هذا ما يمكن أن يفهم جملة علماً ووعظاً من قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
هذا ما يتسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على شرحه من كتاب الرقاق في صحيح البخاري .
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر