أما بعد:
قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:106-107].
هذه الآية تتكلم عن النسخ، ومناسبتها لما قبلها أن الآيات قبلها كانت تتكلم عن اليهود واعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت اليهود لا تجيز النسخ أصلاً وتمنعه في الشرع بالكلية ذكره الله جل وعلا هاهنا رداً على مزاعم اليهود وبياناً للأمة، قال الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة:106] الجملة شرطية، والنسخ في اللغة: النقل، قال الله تعالى في سورة الجاثية: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] أي: نكتب وننقل، ويأتي بمعنى الإزالة، والمقصود أن الرب تبارك وتعالى: الأمر أمره، والشرع شرعه، وهو جل وعلا وحده دون سواه أعلم بمصالح عباده، فلما كان تبارك وتعالى أعلم بمصالح عباده، وهو المالك أصلاً حق له جل وعلا: أن ينسخ ما يشاء، وهذا من تسليمنا بكمال ربوبيته وألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته، ولابد أن يقر به العبد؛ ولهذا النسخ لم يخالف فيه أحد من أهل الإسلام؛ لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومهيمنة عليها، لكن النسخ في القرآن جائز عقلاً وواقع سمعاً بهذه الآية وبقول الله جل وعلا: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [النحل:101]، هذا كله من دلائل وقوعه مع ما جاء من الأحاديث، وليس هذا موضع سرد أدلة، ولم يخالف في مسألة النسخ في القرآن فيما يعلم من علماء المسلمين إلا عالم واحد هو أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله، لكنا إذا استثنيناه فالإجماع منعقد على أن النسخ واقع في القرآن.
ويقسم أهل العلم رحمهم الله النسخ في القرآن على ثلاثة أقسام:
الأول: منسوخ التلاوة والحكم.
الثاني: منسوخ التلاوة دون الحكم.
الثالث: منسوخ الحكم دون التلاوة، وهذا أكثره.
منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا يمثلون له بما ورد في البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [كان فيما كان قد أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) قال
أما هو منسوخ الحكم مع بقاء التلاوة فهذا هو المقصود بالنسخ إذا أطلق، فإذا قيل: إن فلاناً يعرف ناسخ القرآن من منسوخه، فالمقصود هذا النوع الثالث.
وقد أجاب العلماء عن سؤال يقع: إذا نسخ الله الحكم كما في أكثر الآيات المنسوخة، لماذا أبقى الله جل وعلا التلاوة؟ وقد أجاب الزركشي رحمه الله في البرهان عن هذا التساؤل بإجابتين:
الإجابة الأولى قال فيها ما معناه: القرآن كما أنزل ليُعمل به أنزل ليتلى ويتقرب إلى الله جل وعلا بتلاوته؛ لأنه كلام الله، فحتى الآيات المنسوخة حكماً هي من كلام الله.
الإجابة الثانية قال: إن غالب النسخ يكون تخفيفاً، فإذا تلا الإنسان الآية المنسوخة التي فيها التثقيل يرى رحمة الله على هذه الأمة حيث رفع عنها المشقة، وقد يكون هناك أجوبة غير التي حررها (صاحب البرهان) رحمه الله، لكن المقصود أننا نتعبد الله جل وعلا بكل أمر أمرنا به تبارك وتعالى.
قال الله: أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] قرئت بالهمز (ننسِئها) والمعنى: التأخير والتأجيل، وقرئت كما هو بين أيديكم: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] فالنسيان هنا: ضد الذكر، أي أن الله، ينسي المؤمنين إياها، وهذا يدل عليه قول الله جل وعلا: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:6-7].
ونحن -معشر المسلمين- متفقون على أن القرآن كله كلام الله، وبما أنه كله كلام الله فلا تفاوت فيه من حيث لفظه؛ لأنه جميعاً كلام الرب، فقول الله جل وعلا: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] ليس المقصود: أن آية أحكم من آية لفظاً ونظماً، لا، وإنما المقصود خيراً منها بالنسبة للعبد فيما ينفعه؛ لأن الله جل وعلا أعلم بمصالح عباده في العاجل والآجل، فإذا رأينا النسخ فيه نقل الأمة من الأمر الثقيل إلى الأمر الخفيف قلنا: هذا عاجل خير لهم ومنفعة في الدنيا، وإذا رأينا الآية نقلت من خفيف إلى أثقل مثل نقل الناس من صوم يوم عاشوراء إلى صيام رمضان، عرفنا أن فيه خيراً في الآجل، هذه النظرة العامة لقضايا النسخ.
بعد ذلك تتفرع أمور كثيرة ليس هذا مجال سردها؛ لأننا لا نريد أن يطغى فن على فن التفسير، وفن التفسير: هو أن يفهم القارئ مراد الرب تبارك وتعالى، هذه الغاية منه، وإذا تحقق للعالم أو للمتكلم أن يفهم الغير مراد الله تحقق المقصود من علم التفسير.
والعلماء جميعاً متفقون على أن القرآن ينسخ بالقرآن، لكن الخلاف هل تنسخ السنة القرآن، وهذا قال به الجمهور، ومنعه الشافعي رحمه الله تعالى.
والقائلون بأن السنة تنسخ القرآن اختلفوا في أمثلتها: فبعضهم يقول: لا يوجد مثال واضح صريح ظاهر، وبعضهم يمثل بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180]، وجاء في الحديث: (لا وصية لوارث)، فهل هذا نسخ للآية أو تخصيص لها؟
فمن رأى أنه تخصيص لم يرَ أن الحديث ناسخ للقرآن، ومن رأى أنه نسخ جعل هذا الحديث مثالاً لنسخ القرآن بالسنة، والعلم عند الله.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] هذا خطاب للنبي، والمقصود به النسخ؛ ولهذا جاء بعدها: ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، والولي والنصير بينهما خصوص وعموم، فالولي هو القريب، لكنه قد يكون عاجزاً عن أن ينصرك بمعنى: أنه يحب أن ينصرك لكنه عاجز، وأما النصير، فهو القادر على نصرتك، ولا يلزم أن يكون قريباً، قد يكون أجنبياً عنك.
سؤال استرشاد وتعلم، وهذا نحن مأمورون به شرعاً، قال الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43].
وسؤال المقصود به: الاعتراض والتعنت، فهذا نحن منهيون عنه شرعاً، قال الله جل وعلا: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، وقال: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108]. ومن الأسئلة التي طرحها بنو إسرائيل على موسى والتي أرادها الله هنا قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153].
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] هذه ظاهرة وقد مرت معنا.
ثم قال الله جل وعلا: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، ما أقربها مما قبلها! هذه من الآيات المنسوخة، قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109] منسوخة بآية السيف في قول الله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]، وفي قوله تبارك وتعالى في حق أهل الكتاب: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] إلى أن قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109] يدل على أنها منسوخة، فقد أتى الله بأمره في سورة التوبة.
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109] وهذا من تربية القرآن للمسلمين، عندما يعطيهم الأحكام ينبهم أن لا ينشغلوا عن الأعمال الصالحة، فبعد أن بين لهم طرائق أهل الكتاب وبين أن القرآن من عند الله وأن الرب تبارك وتعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء، قال جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110] أي: أن معاقد الفلاح أيها العباد الصالحون محصورة في القيام بالأعمال الصالحة.
قال الله بعدها: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112] فجمع الله في هذه الآية المباركة شرطي العبادة، أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] المقصود به: الإخلاص وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112] أي: المتابعة بالشريعة، أي: عبد الله بما شرع: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112].
قال ابن جرير الطبراني رحمه الله: هي عامة في كل أحد، ممن قبل اليهود والنصارى، وممن بعدهم، وممن كان بينهم كمشركي العرب، وممن قال ذلك بعدهم من مشركي العرب، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113].
والأضبط أن يقال هي في حق كل من سعى في خراب مساجد الله، قال ابن سعدي رحمه الله: الخراب في مساجد الله إما إفساد معنوي، وإما إفساد حسي.
فالإفساد الحسي: بهدمها ونسفها لا مكن الله أحداً من ذلك.
والإفساد المعنوي: بمنع عباد الله من إقامة الصلوات فيها، وهذا صرح الله به في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] فجعل الله جزاءهم أنهم لا يدخلونها إلا خائفين، ولهذا لا يقبل دخول غير المسلم إلى المسجد إلا في حالة أسر أو إذا كان رسولاً من عند ملك، وعليه الذلة، ويعطى أمان مؤقت، قال الله: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، هذه الآية: تثبت أن للرب تبارك وتعالى وجهاً على الصفة التي تليق بجلاله وعظمته، وصرح بهذا القرآن من غير نكير ببرهان واضح، قال الله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وهذا تأصيل لابد منه.
لكن: هل المقصود بقول الله جل وعلا: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] صفة الوجه المتكلم عنه أو المقصود الجهة كما يقال: فلان بان من هذا الوجه يعني: هذه الجهة؟
بعض العلماء يقول: إن المقصود هنا: وجه الله، ونحن اتفقنا أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته، لكن بعض العلماء يقول: إن القرائن في الآية لا تدل على أن المراد هنا وجه الله مع إثباتنا صفة الوجه للرب تبارك وتعالى، لكن نقول في هذا السياق: المقصود بلفظة: (وجه) هنا الجهة، ويحتجون بأن الله ذكر قبلها، قوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فذكر الجهات قبله، ومال إلى هذا أقوام، ومال إلى هذا أقوام، وكلا الفريقين من أهل السنة ممن قال بأحد هذين القولين متفقون على أن لله جل وعلا وجهاً هو أكرم الوجوه، ولله الاسم الأعظم، والوجه الأكرم، والصفات المثلى.
سُبْحَانَهُ [البقرة:116] هذا تنزيه مر معنا كثيراً.
بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:116] لام الملك المطلق.
كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116] القنوت يقع على ضربين:
الضرب الأول: قنوت خضوع وذلة، وهذا يشترك الخلق جميعاً فيه وهو المراد بالآية.
الضرب الثاني: قنوت عبادة وطاعة، وهذا من خصائص عباد الله الصالحين، قال الله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
ثم قال الله بعدها: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117] أي: خلقهما على غير مثال سبق، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: منشؤهما وخالقهما على غير مثال سبق، وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].
أنهم يقولون: نحن لا حاجة إلى أن يبعث إلينا رسولاً يكلمنا أنك رسول، فلما عجزوا عن هذه لجئوا إلى الثانية، فقالوا: أقل القليل أن نكون نحن وأنت سواء، فكما تأتيك الآيات تأتينا نحن الآيات، فإن اعترفت أن الله يكلمنا فلا أقل من أن نكون نداً لك.
أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:118] من الأمم السابقة.
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]؛ لأن التشابه فيما يصدر من الإنسان يدل على التشابه فيما تكنه القلوب -عياذاً بالله- قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118].
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] هذه ظاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الحق، مبشراً بالجنان محذراً من النار، ولا يسأل عن أصحاب الجحيم أي: ليس عليك شيء لعدم إيمانهم، وإنما أنت مبلغ كما قال الله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] حتى تكون يهودياً مع اليهود ونصرانياً مع النصارى، ومن صنع ذلك خرج من ربقة الإسلام.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120]، هذا ضرب مثال فقط، وإن الله جل وعلا يعلم أن نبيه لم يصنع هذا، فالله يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] لكن المقصود منها: بيان أنه لا علاقة بين الله وبين أحد من خلقه إلا بالإيمان والعمل الصالح.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] ثم ذكر الله آيتين هما مثل السابعة والأربعين والثامنة والأربعين اللتان مرتا من قبل، وقد تكلمنا عنها.
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] أي: قام بهن على الوجه الأكمل، فكافأه الله، قال: إني: الأمور بيدي، أنا خالق الخلق، أنا باسط الرزق، أنا الرب وأنتم العبيد، جَاعِلُكَ يعني: إبراهيم لِلنَّاسِ إِمَامًا ، قال أهل العلم: هذه أعلى المقامات وأجل العطاء، فمن سيأتي بعدك فأنت الإمام له في السير إلينا، حتى قال الله لنبيه عليه السلام: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123].
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فأدركته عاطفة الأبوة قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ما فيهم؟ أجابه الله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] لا تشمل هذه العطية من ظلم من ذريتك؛ لأن الإيمان لابد أن يكون متحلٍ بحلية الإمامة وهي الصبر واليقين، ومن كان ظالماً لم يكن صابراً ولا تقياً فلا يستحق أن يكون قدوة في الخير: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].
لكن هذا الرد الرباني الآن سترى أثره بعد قليل، قال الله بعدها: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [البقرة:125] أي: الكعبة مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] (مثابة) يقضون منه وطراً، يحنون إليه، (وأمناً) شرعاً وقدراً، الوحوش، الجمادات، الشجر، كله آمن في مكة:
إني وإن نظر الأنام لمهجتي كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام فواحش ويصدهن عن الخنا الإسلام
موضع الشاهد: كظباء مكة صيدهن حرام
المقصود: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] حتى قريش على كفرها كان الموتور منهم يرى واتره في الحرم ولا يقربه!
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] المقام هو الصخرة التي ارتقى عليها إبراهيم حتى يبني البيت لما علا الارتفاع وظهرت مواضع قدميه على الصخرة، فإبراهيم لما ألان لله قلبه ألان الله الصخرة تحت قدميه، وجعل الله هذا المقام آية عظيمة، وذكره في كتابه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] أي: أولها مقام إبراهيم.
واختلف الناس في موضع المقام الآن على أقوال: قال أقوام: إن المقام موضعه الآن هو موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما في إحدى السنين جاء السيل فحركه من مكانه بعيداً، ثم رد إلى موقعه.
وقال آخرون: إنه كان ملتصقاً بالكعبة وأخره عمر إلى موضعه الذي هو عليه الآن.
وقال آخرون: إنه أخر في بعض عهد السلاطين، وقالوا أشياء أخرى، لكن ما عليه عمل الناس اليوم أمر متفق عليه أنه مقام إبراهيم.
(واتخذوا) جعله الله جل وعلا مكاناً للصلاة حتى النبي عليه الصلاة والسلام لما طاف أتى عند المقام وصلى خلف المقام، وقرأ في الركعتين اللتين ركعهما بعد الطواف بـ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد كما في حديث جابر في صحيح مسلم.
نريد أن نصل إلى قضية حساسة جداً، وهي أن العرب كانت تعظم الأصنام مثل هبل واللات والعزى ومناة وغيرهم ثلاثمائة وستين صنماً، فانظر كيف صرفهم الله فما عبدوا الصخرة التي عليها مقام إبراهيم ولا عبدوا الحجر! علم الله من الأزل: أن هذين سيعظمان في الإسلام، فلو عظمتهما قريش في الجاهلية وعبدتهما لقال الناس: أبقى محمد عليه الصلاة والسلام من الوثنية شيء، فسد الله هذا الطريق فصرف قريشاً مئات الأعوام مع ولائها وشغفها بالحجارة عن أن تعبد المقام وهو مشهور عندهم كما يقول أبو طالب في لاميته المشهورة: وموضع إبراهيم في صخرة رطبة، يعني: موضع قدميه.
فلم ينقل أبداً أن قريشاً عظمت الحجر تعظيم عبادة أو عبدت مقام إبراهيم، وهي التي أتت بهبل واللات ومناة وغيرها، حتى إذا جاء الإسلام -والله أعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن- وأمر بتعظيمنا لهما تعظيماً شرعياً مقيداً بأن يصلى عند واحد ويقبل الآخر لم يستطع أحداً أن يقول: أن هذا من بقايا الجاهلية.
أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125] بدأ الله بالطائفين؛ لأنهم أولى الناس بالبيت، إذا لا مكان يطاف حوله إلا البيت الحرام، والركع السجود هم المصلون، والاعتكاف يقع في مساجد شتى كما يقع الركوع والسجود في كل مكان.
قال الله: وَمَنْ كَفَرَ [البقرة:126] فمن كان مؤمناً يتمتع ومصيره إلى جنات النعيم، ومن كان كافراً يتمتع إلى حين، قال الله: وَمَنْ كَفَرَ [البقرة:126] أي: سأرزقه! فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126].
فبين الله جل وعلا أن الرزق يدخل فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر، من آمن بي ومن لم يؤمن بي، خلاف الأول الذي هو الإمامة والقدوة والاتباع في الدين، فإن العطايا الدينية يعطيها الله جل وعلا لمن يحب فقط، والعطايا الدنيوية يعطيها الله جل وعلا لمن يحب ومن لا يحب.
وأنا أرجح -والعلم عند الله- أن البيت بنته الملائكة قبل نزول آدم تمهيداً لنزوله، ودفعنا إلى هذا أنه لو كان أحد من الخلق بنى البيت قبل إبراهيم من غير الملائكة آدم أو غيره من الأنبياء لأخبر الله جل وعلا به؛ لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وبناء بيت لله تشريف، ويؤيده أن إبراهيم عليه السلام لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهذا فهم منه العلماء أنه مكافئة له على أنه بنى لله الكعبة، فلو كان أحداً من الأنبياء غيره بنى البيت لكوفئ بها قبل إبراهيم؛ لأن الله حكم عدل، لكن لما بنته الملائكة، والملائكة أصلاً طاعتهم جبلة، وذلك لا يتعلق به لهم ثواب أو عقاب، فلم يذكر الله جل وعلا ذلك عنهم.
قد يقول قائل: لماذا لا تقول: إن إبراهيم هو أول من بنى البيت؟ فنقول: هذا يعني أن الناس لم يعرفوا الحج إلا بعد إبراهيم، ومعناه أن إدريس ونوحاً وصالحاً وغيرهم لم يحجوا! وهذا في ظننا بعيد، بل أظن أنه توجد نصوص تدل على حج أولئك الأخيار.
قال الله جل وعلا: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127] قال العلماء فيما يروونه تاريخياً: جاءت سحابة أظلت مكان البيت فعرف إبراهيم القواعد.
وقال آخرون: جاءت ريح فكنست جزءاً من الأرض، والخبر الصحيح أن إبراهيم أشار إلى إسماعيل إلى ربوة، وقال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، قال: يا أبت أجب أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم يا أبتاه، فبنيا البيت.
قال الله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:127-128] فحرصا أعظم ما حرصا عليه ألا تلجأ قلوبهما إلى أحد غير الله.
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، وهذا استجداء للرحمن الرحيم، فالإنسان لا يعلم إلا ما علمه الله.
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، وهذا اعتراف بالتقصير، فحاجتهما هي التوبة ومحو الذنوب وستر العيوب، فلجئا وتوسلا إلى الرب باسمين من أسمائه: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128].
(يتلو عليهم آياتك) تلاوة وحفظاً، وتشمل القرآن والسنة.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] يعلمهم إياها معنى، فما تلاه عليهم يعلمهم معناه، مثلاً: (وأقيموا الصلاة) علمهم معناها بأن لها أوقات، وتركع هكذا وتسجد هكذا، (وآتوا الزكاة) علمهم معناها بأن ذكر الأنصبة، وهكذا في كل الآيات.
وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] أي: يربيهم بالأعمال الصالحة، فاجتمعت الثلاث، فإذا وجد عبد منّ الله عليه بتلاوة القرآن وحفظه والتلفظ به، ثم علم معناه، وكذلك صنع بالسنة، ثم زكى نفسه بالأعمال الصالحة؛ فهذا الذي صار على هدي الأنبياء المقربين وسنن المرسلين.
قال الله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].
الفعل: يرغب إذا قصد به الطمع في الشيء يتعدى بحرف الجر (في): يرغب في، وإذا قصد به الإعراض وعدم الرغبة في الشيء يتعدى بحرف الجر (عن): يرغب عن، وهنا تعدى بحرف الجر (عن).
قال الله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] السفه: نوع من السذاجة والتصرف غير المحمود، وينجم عن نقصان العقل، ولهذا سمى الله الصبية سفهاء.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] نقول -والعلم عند الله-: إن قول الله: وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] على أن تلك العطايا العظام التي أعطاها الله جل وعلا خليله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لم تنقص قدره في الآخرة، فإن العادة أن الإنسان إذا متع كثيراً في الدنيا يكون ذلك على حساب آخرته أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، لكن الله أراد أن يبين: أن تلك العطايا العظام التي أعطاها إبراهيم حتى جعله للناس إماماً ليست منقصة له من أجر الآخرة شيئاً، بل إن النصوص أثبتت أنه أول من يكسى يوم القيامة عليه الصلاة والسلام، والله جل وعلا اصطفاه واجتباه على كثير من خلقه، وهو عند كثير من العلماء من أهل السنة أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال كثير من أهل العلم: إن من أعظم خصال إبراهيم المسارعة في الخيرات، وعدم التردد في تنفيذ أمر الله جل وعلا، وهذا معلوم من هديه، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].
نقف عند هذه الآية ونقول إجمالاً: إن الرب تبارك وتعالى ذو فضل واسع ورحمة جليلة يختص بها بعض عباده، وممن نال هذا الفضل الإلهي والعطايا الربانية خليل الله جل وعلا إبراهيم، وذكر القرآن إبراهيم في مواطن مدح كثيرة منها قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]، فجعل القلوب تهفو للتعلق بهذا النبي الكريم بأن تبعه كما قال الله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه، ولما تكلم عن الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث يوم الفتح: (قاتلهم الله! مال شيخنا وللأزلام؟!) ولم يسمّ الله جل وعلا أحداً من الأنبياء أنه شيخه إلا إبراهيم.
ولما لقيه في رحلة المعراج قال إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم: (مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح)، ولم يقل له هذه العبارة إلا آدم وإبراهيم، أما غيرهما من الأنبياء والمرسلين فكانوا يقولون: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح)، فعلينا أن نفهم أن هذا خليل الله اجتباه الله جل وعلا، فننظر في هديه وفي سمته فيما أخبر الله عنه فنقتفي أثره؛ لأن الله جل وعلا أمرنا بهدي الأنبياء جملة، وبهدي إبراهيم على وجه الخصوص، وهذا الذي سنه نبينا صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
هذا ما تحرر وتهيأ إعداده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله، والله المستعان، وعليه البلاغ.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر