وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فما زلنا نتفيأ معكم ضلال كتاب ربنا جل وعلا، وقد انتهينا في اللقاء الذي سبق إلى قول الله جل وعلا عن خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131]، وبينا المقام العظيم الذي من الله به على هذا الخليل المبارك صلوات الله وسلامه عليه.
اليوم نفتتح اللقاء بقول الله جل وعلا: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] .
حصر الله النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام -كما يقول المؤرخون-: لم يرزق إناثاً وإنما رزق ذكراناً.
ومن أولاده الذكور الذين نص الله عليهم في كتابه إسماعيل وهو الأكبر، وإسحاق، ومن إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام، وله أبناء آخرون غير هذين، لكن هذين اللذين نبئا بنص القرآن، قال الله عن إسماعيل: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وقال الله جل وعلا عن إسحاق: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ [الصافات:113]، وقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا [الصافات:112]، فهذا دلالة قرآنية على أنهما كانا نبيين صلوات الله وسلامه عليهم.
والإنسان إذا حضرته الوفاة تحضر مقدماتها، أسبابها، دواعيها، أما الموت ذاته إذا حل لا يمكن لأحد أن يتكلم، فإذا ظهرت دلائل الموت وأسبابه ومقدماته، وشعر المرء أنه مفارق الحياة لا محالة يكون هناك فقه الأولويات في أوجه؛ لأن الإنسان في تلك اللحظات يصعب عليه أن يخادع نفسه، فيخرج ما في قلبه أكثر مما يخرج ما كان يردده بلسانه.
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حملوا طيلة أيام حياتهم شيئاً أعظم من الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا، فلما كانت الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا أعظم ما حملوه وهم أحياء كانت أعظم ما تركوه عند موتهم، قال الله عن خليله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] في عقبه أي: في ذريته.
فعندما حضرته الوفاة وصى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنيه إسماعيل وإسحاق وغيرهما كما دل عليه الجمع في قوله تبارك وتعالى: يَا بَنِيَّ [البقرة:132].
وهؤلاء الأخيار أولاد هذا النبي المبارك لما التفوا حوله وصاهم، قال الله: وَوَصَّى بِهَا [البقرة:132] والهاء إما أن تعود على الملة عموماً وهو الأظهر، أو تعود على الكلمة المسبوق الحديث عنها وهي قول الله جل وعلا عنه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] .
ولا ريب أن الإنسان يظهر كمال عقله عند موته، ويظهر ذلك الشيء الذي كان يحمله في سرائره على لسانه عندما يقرب من الآخرة.
أبو بكر رضي الله عنه لما وصى بالخلافة لـعمر قال: في ساعة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر؛ لأن الإنسان لا يبلغ به الحال أن يخدع نفسه في تلك المرحلة وإنما يخرج معتقده.
وهناك وصية مالية ليس هذا الحديث عنها، وسيأتي الكلام عنها في آية الدين، لكن الوصية هنا قضية الثبات على المبدأ وعلى العقيدة، ولا عقيدة أعظم من توحيد الرب تعالى، ولعظم شأنها نص الله عليها: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132] والواو عاطفة، ويعقوب معطوف على بنيه أو على إبراهيم، وبكل قرئ، وفي المصحف الذي بين أيديكم أنها معطوفة على إبراهيم؛ لأنها جاءت مرفوعة، فيصبح المعنى: ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه.
وإن قلنا: وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ونصبناها يصبح المعنى: وصى بها إبراهيم بنيه وحفيده الذي هو يعقوب.
وهذا ينجم عنه سؤال آخر: هل يعقوب أدرك إبراهيم أو لا؟ ظاهر القرآن أنه أدركه، لأن الإنسان لا يخلو من أحفاده، وقد قال الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، فهذه دلالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيدرك يعقوب وسيراه.
وعلى القراءة الأولى بالرفع يصبح ما صنعه إبراهيم مع بينه انتفع به يعقوب فصنعه مع بنيه.
وعلى قراءة النصب يصبح أن إبراهيم أوصى بنيه عليه الصلاة والسلام، ومن جملة من حضر حفيده يعقوب.
قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] اجتباكم واختاركم، ونعمة عظيمة أن يختاركم الله لهذا الدين.
ثم قال في كلمة ذات إيجاز: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] كل يدرك أنه لا يعلم متى تأتي ساعة موته، فحتى يتمسك بشيء وهو يجهل متى يموت عليه أن يلزم من الثبات والدوام على الدين.
نحرر المعنى: أراد خليل الله إبراهيم من قوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] الثبات والدوام والبقاء على الدين.
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] وهذا نص صريح على أن المتكلم يعقوب والمستمع أبناؤه.
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، وهنا يوجد إشكال، وقلنا: أول خطوات العلم إيجاد إشكال، ثم حل ذلك الإشكال، قال الله جل وعلا: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] من القائل؟ يعقوب، ويعقوب نبي مرسل معظم لله، وهذا أمر لا بد أن تستصحبه وأنت تقرأ سؤاله، فهو قال: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]، وما بالاتفاق لغير العاقل، فكيف يظن أن نبياً يسأل عن الله بأداة لغير العاقل؟!
أجاب العلماء عن هذا: بأن مصر عندما دخلها يعقوب كان يكثر فيها عبادة الأوثان، فذكر هذا السؤال من باب الاختبار لأبنائه: هل أنتم متعلقون بما ترونه من الأوثان والأصنام والأحجار وما يعبد من دون الله أم لا؟
وعندي أن هذا بعيد، وإنما السؤال ليس عن من تعبدون حتى يكون الجواب: نعبد الله، إنما السؤال: ما الطريقة؟ ما العبادة؟ ما المسلك؟ ما الملة التي ستختطونها وتسيرون عليها بعد موتي؟ فسأل عنها بأداة لغير العاقل.
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] لكن أولئك الأبناء لعظيم صلاحهم أجابوا إجابة تطمئن والدهم أكثر مما يريده هو من الإجابة، فقالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] .
هذه الآية فهم منها العلماء: أن الجد بمنزلة الأب؛ لأن الله قال: وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وفيها دلالة على أن العم بمنزلة الأب، وبهذه الآية أخذ الصديق رضي الله عنه في المسألة الفرضية المشهورة وهي: هل يحجب الإخوة بالجد أو لا يحجبون؟ وليس هذا مقام تحرير النزاع، وستأتي آيات المواريث في سورة النساء، لكن هذه من أدلة الصديق رضي الله عنه، فهو كان يرى أن الإخوة يحجبون بالجد، فجعل الجد بمنزلة الأب، والآية صريحة: وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] بدأ الله بإسماعيل لأنه أكبر وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].
أما توجيه الخطاب لليهود فيكون: لأحفادهم وأسباطهم من بني إسرائيل أي: أن قرابتكم بأولئك الأخيار لا تنفعكم إن لم يصحبها عمل، وتوجيه الخطاب إليهم وإلى غيرهم يكون المعنى: إذا كان الله جل وعلا في حق أولئك الأخيار العظيمي الشأن أجرى عليهم ما كسبوا وأجرى عليهم ما اكتسبوا فمن باب أولى من كان غيرهم يكتب له ما كسب ويكتب عليه ما اكتسب، قال الله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] .
وإن من آفة العلم أن ينشغل الإنسان في أول أمره بالنقد، والانشغال بالنقد في أول طلب العلم أعظم آفاته.
في زمن العلامة الألباني رحمة الله تعالى عليه ظهر بعض علماء الحديث وهم فتية تتلمذوا على يد شيخ وكلهم أخيار، لكن أولئك الفتية أول ما بدءوا يطلبون علم الحديث لجئوا إلى ما صنفه الألباني وحكم عليه بالصحة فأخذوا يجربون قضية نقده، فكشفوا عن عوار شديد فيهم؛ لأنهم لم يصلوا إلى مرحلة الشيخ، واختطوا طريقاً، واعتلوا هرماً لم يرتقوا درجاته.
فمن جملة ما كتبه الشيخ رحمه الله تعالى آنذاك أنه عاتبهم على هذا الصنيع وعاتب شيخهم وقال: لو أشغلوا أنفسهم في تحرير مسائل علمية تنفع الناس خير لهم من أن يبدءوا الطريق بالنقد.
وتفصيل المسألة حتى ينتفع من يسمع: قد تكون أنت في أول الطلب، فتسمع من شيخ رأياً أنت قد سمعت من شيخ لك آخر رأياً مخالفاً، فلا يلبث أحدنا أن يصنع إذا غلب عليه حماسه دون عقله وعلمه أن يذهب ويحرر في الرد عليه، ولا يمكن أن يرد الإنسان وينتقد إلا إذا بلغ مرحلتين:
أن يعرف أدلة الفريقين تماماً، ثم يملك آلة علمية في الترجيح بينهما، فإذا عرف أدلة الفريقين ثم ملك آلة الترجيح حق له بعد ذلك أن يخاطب ويراسل ويكتب.
وغالب من يكون في أول الطريق يجهل ذلك كله، وقد مر معنا كثيراً أن الإنسان إذا تصدر في شيء لا يحسنه إنما يكشف عن عورته.
قول الله جل وعلا: وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] فيها تربية ربانية؛ لأن الإنسان إذا انشغل بما لا يسأل عنه معنى ذلك التفريط فيما يسأل عنه، وقد كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه عندنا في المدينة، وكان في الحرم يدرس، ووافقت تلك الأيام موت زعيم عربي مشهور لكنه غير محمود السيرة، وهو شخصية جدلية الناس فيها بين مادح وناقد.
فعندما كان الشيخ في طيات الحديث يقول ما ينفع الناس قام أحد الحاضرين في الحلقة وقال: يا شيخ! مات فلان، ما تعليقكم؟ فسكت الشيخ عله أن يكون في ذلك تأديباً للسائل واستمر في حديثه، فأعاد الطالب أو الحاضر السؤال فسكت الشيخ، فرددها ظناً منه أن الشيخ لم يسمع، فأشار الشيخ بيده هكذا أن اسكت لأن الشيخ لا يبصر في الجهة التي حصل منها الصوت ثم قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] ثم أكمل حديثه.
وهذه منزلة في التربية والعلم؛ لأن الإنسان إذا بلغ مرحلة متقدمة في العلم فتصبح رقاب الناس في ذمته، لا رقبته في ذمة الناس، فهو الموكل بأن يقودهم إلى الخير لا أن يقوده من حوله ممن حضروا أصلاً لينتفعوا منه، فلا يقودوه هم إلى حيث شاءوا، فإذا قادك من هو أدنى منك فلن يقودك إلا إلى السوء، وعلى أهل العلم أن يتصدروا لينفعوا الناس، لأنه إن لم يتصدر أهل العلم ويقودوا الناس بطريقة ربانية وصبغة إلهية إلى ما ينفعهم تصدر من لا يحسن شيئاً فهلك الناس، وقد قيل:
إذا كان الغراب دليل قوم دلهم على جيف الكلاب
وأحرر كلمة (هوداً) قبل الشروع في القضية.
ذكر اليهود بثلاثة ألفاظ في الكتاب أو في السنة: يهود، اليهود، وهود، يهود، واليهود بالتعريف، وهوداً كالتي بين أيدينا. فما معنى كل واحدة منها؟
إذا فقهت الأصل يسهل عليك فهم القرآن بعد ذلك.
الله هنا يقول: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] الأصل في المسألة: أن هؤلاء من ذرية يهوذا بن يعقوب ، فعربت الذال فأصبحت دالاً.
فيهود تطلق على معنيين: تطلق على النسب وعلى الصفة، فإذا قلنا: يهود أو اليهود فتحتمل الأمرين: تحتمل أن تكون مطلقة على الصفة التي هي الدين والملة، أو على النسب أي: إلى الجد الذي ينسبون إليه.
وإذا قلنا: هوداً كما في هذه الآية - وهو التفريع الثالث - فلا تطلق إلا على الملة والصفة ولا يراد بها النسب.
وفقهك لهذا الأمر يعينك بعد توفيق الله على فهم الكثير من الأمور التي جاء فيها ذكر اليهود، وسنبسط القول الآن حتى تتضح المسألة، فالإنسان لا يمكن أن يطالب بتغيير نسبه، لا سبيل له إلى ذلك، النسب لا يغير، فالنبي عليه الصلاة والسلام مثلاً هاشمي ولا يمكن أن نطلب منه أن يكون خزرجياً، وحسان بن ثابت خزرجي ولا يمكن أن يطلب الله أو رسوله من حسان أن يكون هاشمياً أو أن يكون قرشياً أو أن يكون خزاعياً، أو غير ذلك.
فالأنساب لا سبيل إلى تكليف الناس بها؛ لأن النسب لا يختاره الإنسان، هو يولد على نسب معين، يقول حسان :
ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما
إذاً قول الله جل وعلا: وَقَالُوا [البقرة:135] أي: اليهود.
كُونُوا هُودًا [البقرة:135] لا يقصدون: كونوا يهوداً نسباً، وإنما كونوا هوداً أي: ملة، على الصفة التي أرادها اليهود.
فاليهود كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأول خطواته معهم تاريخياً الموادعة، حيث كتبت الصحيفة التي كانت وبينهم وبين المسلمين كما ذكرها أهل السير، وانتهى المطاف بهم بغزوة خيبر في المحرم من سنة سبع، وغزوة خيبر مرت بأحداث شهيرة عظيمة من أشهرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعدها من صفية بنت حيي بن أخطب .
الآن نطبق القاعدة، صفية حصل بينها وبين إحدى أمهات المؤمنين ما يحصل بين الضرائر؛ لأنهن يتنافسن على شرف عظيم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها إحدى أمهات المؤمنين تعيرها: يا يهودية! وأم المؤمنين قطعاً لا تقصد أنها كافرة يهودية ملة أو دين، فهذا محال؛ لأن هذه مسلمة، لكن قصدت النسب.
مثال آخر: قال عليه الصلاة والسلام كما هو مروي عند أهل السير وذكره البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخ دمشق وابن سعد في الطبقات: (
إذا عدنا إلى خيبر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله) فأعطاها علي وهو القائل يومئذ:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة أضرب بالسيف رءوس الكفرة
أكيلهم بالصاع كيل السندرة
السندرة شجر عظيم يقطع منه مكاييل كبار عظام، وحيدرة اسم من أسماء علي ، واختلف من أين جيء له بهذا الاسم، وقيل: إنه اسم من أسماء .....، ترون الشيعة في يوم عاشوراء يضربون صدورهم ويحرقون أيديهم ويقولون: حيدر حيدر، يفرون من التأنيث مع أن علياً ارتضاه لنفسه؛ لأن التاء في التأنيث ليست عيباً إذا أطلقت على مذكر، مثل: حمزة، طلحة، معاوية، فيقولون: حيدر حيدر، ويضربون أيديهم وأرجلهم، فينطبق عليهم مثل عند العامة شهير، تقول العامة: من خف عقله تعبت قدماه!
الذي يعنينا أنك ترى أحياناً أشياء أمام عينيك في تاريخك المعاصر حسن ربطها بالقرآن، حسن تنميتك لثقافتك، حسن اطلاعك اطلاع شامل، وهذا يجعلك أهدأ بالاً، وأمكن في العلم، وأكثر ثقة في قيادة الناس.
قال الله: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، النصارى لم يكونوا محيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم كإحاطة اليهود به، فالمدينة لم يكن يسكنها أحد من قبائل النصارى، قد يكون فيها أفراد لا يمكن أن نعرج إلى أحداث مرت بهم.
أما اليهود فكانوا قبائل: قينقاع، قريظة، النضير، بني زريق، وغيرهم ممن كانوا مستوطنين المدينة، فتجري أحداث كثيرة، وعندما تكلمنا عند اليهود ليس ذلك لزيادة علم فيهم ونقص علم في النصارى أو لبغض فيهم أقل من بغضنا للنصارى، لكن المسألة مسألة أحداث تاريخية كانت موجودة آنذاك.
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] واقعة في جواب الأمر.
كُونُوا [البقرة:135] هذا أمر.
تَهْتَدُوا [البقرة:135] هذا رأيهم. فرد الله عليهم: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] .
ومر معنا أن الحنف في اللغة: الميل، والمقصود به: أن الميل عن المعوج اعتدال.
من حيث الحياة العملية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر بهذه الآية وآية آل عمران: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:84] .
في آية البقرة ذكر الله إلى وهي لابتداء الغاية، وفي آية آل عمران ذكر على وهي لانتهاء الغاية، في آية البقرة قال: إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136] فذكر ابتداء الغاية، وفي آل عمران قال: (على إبراهيم) فذكر انتهاء الغاية.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] هذا رأس الدين، ولذلك أفرد وجمع ما بعده.
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136] لا تقف على قول الله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136] ثم تقول: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136] فتصبح ما نافية وهي هنا موصولة، والاسم الموصول بما إذا كانت موصولة لا يبدأ بها؛ لأنها تنتقل في المعنى إلى كونها نافية.
وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136] اختلف من هم الأسباط، والمشهور أنهم أبناء يعقوب، لكن إذا قصد أنهم أبناء يعقوب لصلبه أي: إخوة يوسف فهذه في النفس منها شيء، فكيف يكونون أنبياء وأنزل عليهم بعد الذي وقع منهم، لكن هذا الذي عليه أكثر العلماء.
قال الله: وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] خص موسى وعيسى بالذكر لارتباطهما الوثيق بحياة بني إسرائيل.
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] أي: فالمنهج الذي تسيرون عليه في التفريق بين أنبياء الله ورسله ليس هو المنهج الرباني، ولهذا قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136].
بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] ليس المقصود حرفية الإيمان بالله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، أي: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به أي: بمثل الطريقة التي تؤمنون بها، بمثل المنهج والهدي والملة والطريقة التي تؤمنون بها.
فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا [البقرة:137] أعرضوا.
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] والشق من الشيء الجانب، والمقصود هنا: أنهم مجادلون مخالفون لا يريدون لأنفسهم ولا لغيرهم خيراً.
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] والمشاق لك مؤذ.
قال الله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] وقد قيل: إن هذه الآية كان يقرؤها عثمان رضي الله عنه وأرضاه حال قتله فسقطت قطرة من دمه على هذه الآية، وذكر بعض المتأخرين ممن دون التاريخ أنهم وجدوا هذا المصحف الذي كان بين يدي عثمان وقد تجمد دم عثمان على هذه الآية، ذكره القرطبي وغيره عن بعض من أدرك هذا المصحف العثماني.
أياً كان الأمر فهذا من حيث العقل قد يكون مقبولاً، ومن حيث النقل لا أظن هناك سنداً صحيحاً نلزم به.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] وهذا تطمين من الله لنبيه، وهذا أمر متكرر في القرآن: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] .
وعند النصارى شيء يسمى التعميد، وأصله أنهم كانوا يقولون: إن يحيى بن زكريا أمرهم أن يغتسلوا من نهر الأردن، وإلى اليوم التعميد موجود عندهم، يضعون الطفل في ماء يظنونه ماءً مقدساً فيغسلونه ويعمدون الصبي فيه حتى ينتفع بدعوة عيسى له فلا يخلد في النار.
فخاطب الله جل وعلا هؤلاء القوم بالمشتهر بينهم، فاختار الله جل وعلا هذا اللفظ ليكون مناسباً للحال التي يصنعها اليهود ويصنعها النصارى، فأنتم تعمدون إلى الاغتسال وهؤلاء يعمدون إلى التعميد وكلاكما على باطل، أين الصواب؟ صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة:138]، صبغة الله أي: فطرته، وملته، وما ارتضاه جل وعلا لعباده، فالمؤمنون من هذه الأمة على فطرة الله، وليست فطرة متكلفة كالتي صنعها اليهود أو النصارى، وكلمة صبغة بتاء التأنيث، وأصلها: صِبْغ على وزن فِعْل، مثل: قِشْر، ذِبْح، فذبح بمعنى مذبوح، وقشر بمعنى: مقشور، لماذا زيد في التاء؟ زيد في التاء لبيان الوحدة، وصبغة الله صبغة واحدة تدل على دين واحد.
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138] أي: لا أحد أحسن من الله صبغة وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].
المحاجة تكون في الشيء المختلف فيه شيء غير واضح لي ولك، كل منا يدلي بحجته؛ لأن الأمر غير بين.
وهؤلاء اليهود والنصارى تزعم كل طائفة منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله جل وعلا اجتباهم واصطفاهم دون غيرهم، وأنكم -أيها الأميون- لا مقام لكم، فيقول الله جل وعلا لأتباع نبيه: قولوا لهؤلاء: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم، أي: كيف يمكن عقلاً ونقلاً أن تحاجوننا في شيء واضح جلي بين، وهو أننا نعلم أن الله ربنا كما هو ربكم؟! فليست مسألة أن الله ربنا وأن الله ربكم مسألة خلافية تحتاج إلى محاجة، فالله رب كل شيء، فما دام الله رب لنا وهو رب لكم فلا يوجد سبب يجعله يفضلكم علينا وهو ربنا جميعاً، إلا بما شرع ولهذا قال: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139] .
ثم إننا نزيد رتبة عنكم بإخلاصنا لله، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أي: لا نشرك به كما أشركتم أنتم، فأينا أحق بالنعيم؟ هو رب للجميع، ولنا أعمال ولكم أعمال، لكن أعمالنا تختلف عن أعمالكم، فنحن لم نشرك بربنا أحداً، ورزقنا الإخلاص، وأنتم -أيها اليهود- قلتم: عزير ابن الله، وأنتم -أيها النصارى- قلتم: المسيح ابن الله، فأينا أحق بالفضل والعطاء من رب العالمين؟! لا ريب نحن أنه نحن أهل الإسلام.
يوجد إشكال عظيم في الآية، والناس يقرءونها دون أن يلحظوا الإشكال، وعدم ملاحظة الإشكال تدل يقيناً على عدم معرفة حله، أين الإشكال؟
الله يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] والمعنى: أن هؤلاء عندهم علم وحق من الله لكنهم كتموه، لكن يوجد علم واضح بين كتموه، قال الله جل شأنه. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] أي: أنكم كاذبون فيما تقولون، وهذا لا يستقيم مع قوله: عنده علم من الله.
الله جل وعلا عاتبهم وقال: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ [البقرة:133] أي: لم تكونوا شهداء عندما حضر يعقوب الموت حتى تزعمون أن يعقوب وأبناءه كانوا يهوداً أو كانوا نصارى، فنفى الله جل وعلا علمهم، ثم قال جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] فأثبت الله لهم العلم، وقال قبلها: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] وهذا لا يستقيم بادي الرأي، والجواب عن هذا:
أن قوله جل شأنه: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] خطاب لعامتهم وهم الجهلة، وقوله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] خطاب لخاصتهم وهم العلماء.
أعيد تحرير المسألة. اليهود والنصارى فريقان: علماء وعامة، العلماء الخاصة هؤلاء عندهم علم من الله أن يعقوب والأسباط لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وأن هذه ملل محرفة لكنهم كتموها، وأما الدهماء العامة فهم لا يعلمون عن هذا شيئاً، وفي ظنهم أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى، فرد الله جل وعلا على الجهلة والدهماء والعامة بقوله: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، ورد الله على علمائهم بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، ومن هنا يتحرر لك أن العامة وإن كان يجمعهم الجهل إلا أنهم يختلفون فيما بينهم اختلافاً كبيراً، وبعض الناس يتبنى شيئاً بمجرد انسجامه مع شخصيته بما هو مركب عليه، فيميل إلى هذا الشيء فيصنعه لأنه يجد فيه لذة ويجد فيه شيئاً موافقاً لطبعه، ولا يصنعه ليرجو جنة أو يخاف ناراً، بل ولا يصنعه لأنه شيء يعتقده.
مثال ذلك: أيام الخلاف بين مصعب بن الزبير وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ، وهو الصراع السياسي المشهور في ذلك العهد ورحمة الله على الجميع.
ففي العراق كان الناس يدينون لـمصعب ، وفي الحجاز يدينون لـعبد الله بن الزبير ، وفي الشام يدينون لـعبد الملك بن مروان ، وكان عبد الملك ينفق الأموال، والعرب تقول:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال
فكان يتخذ ما يسمون في زماننا المرتزقة، وفي ذلك الزمان يدعونهم: فتاك، فاتخذ أحد فتاكي العرب وبعث به لقتال مصعب بن الزبير ، وهذا الرجل كان فاسقاً جباراً، فقتل مصعب بن الزبير ثم أخذ رأسه إلى عبد الملك بن مروان .
والشاهد أن ثمة أناس يصنعون شيئاً وهم لا يحملون همه، لكنه يوافق طبعهم، فهذا طبعه الفتك فيحب أن يفتك، فلما قدم رأس مصعب إلى عبد الملك ، خر عبد الملك ساجداً، فلما خر ساجداً أراد هذا الفاتك أن يضربه بالسيف، لكنه تردد قليلاً، فذكر أنه هم أ، يضربه فقال:
فألقيتها في النار بكر بن وائل وألحقت من قد خر شكراً بصاحبه
يعني بصاحبه غريمه، يقول: كنت أردت أن أقتل هذا الذي خر شكراً فألحقه بصاحبي، ثم قال في مجلس له بعد الحادثة: والله وددت لو أني فعلتها فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد! فهو يبحث عن صيت، يريد مدحاً يوافق طبعه.
الشاهد من هذا كله: أن الإنسان حتى في أصفيائه، حتى في جلسائه، حتى في خلطائه، حتى في طلبة العلم الذين يصطفيهم لا بد أن يكون هناك أسس في اصطفاء الناس والتعامل معهم، ولا تقبل بأي أحد يكون همه هوى ومجرد تكثير سواد، ويريد يوماً لك ويوماً ويوم عليك، هذا لا يصلح أن تسأمنه على سر أو تفيء إليه بأحدوثة أو تعتمد عليه بعد الله في شيء.
والمقصود من هذا: أن العامة هم الذين خاطبهم الله جل وعلا بقوله: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]،
وخاصتهم خاطبهم الله جل وعلا بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] .
وقول الله: وَمَنْ أَظْلَمُ [البقرة:140] أي: لا أحد أظلم.
وكتمان الشهادة سيأتي تفصيله في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:159]. ثم قال الله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140] ثم كرر الله ما ختم به الموضع الأول من السورة بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] قال القرطبي وغيره من علماء الأمة: إن الله كررها لتكون أبلغ في الردع والزجر حتى يعلم كل أحد أنه إذا كان أنبياء الله جل وعلا يحاسبون فما بالك بمن دونهم، وأن الإنسان إذا أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه كما جاء في الأثر، وأن الإنسان أياً كانت قرابته من أحد ذوي الصلاح فليست القرابة بنافعة له إلا أن يشاء الله إذا قصر في عمل، لكن هذا لا يعني انقطاع الشفاعات يوم القيامة، هذا له مكانه وله موضعه وله مقامه المعروف، قال الله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] ننتهي بهذا من الجزء الأول من سورة البقرة، وسنشرع إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم من قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]، وهي أول آية في الجزء الثاني من القرآن، ومعلوم لديكم أن القرآن ثلاثون جزءاً، وهذا من توفيق الله جل وعلا أن من علينا بتفسير الجزء الأول من هذه السورة المباركة المسماة بمصداق القرآن لعظيم لما فيها من آيات ودلائل وعظات.
جملة ما مر معنا: أن الله جل وعلا عظم بيته في هذا الربع، وعظم بانيه وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم بين ضلال اليهود والنصارى، وهذا مهم لأنه تأسيس سأبدأ به في اللقاء القادم، لماذا عظم الله بيته؟ لماذا عظم الله بانيه؟ لماذا سفه الله آراء المشركين؟ لماذا بين الله ضلال اليهود والنصارى؟ كل ذلك تمهيد وتوطئة لأمر عظيم سيكون بعد ذلك وهو قول الله جل وعلا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر