إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [11]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نسخ القِبلة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة كان حدثاً عظيماً، وأمراً كبيراً، وقد مهد الله له بكثير من الآيات، وأخبر بما سيقوله السفهاء من الناس، وذكر الحكمة من هذا النسخ، وقد هدى الله المؤمنين فامتثلوا أمر الله وولوا وجوههم حيث أمرهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس..)

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السموات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار الإسلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح الحديث عن أول آيات الجزء الثاني من كلام ربنا جل وعلا من كتابه العظيم، قال الله وهو أصدق القائلين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] .

    الذي ينبغي أن تستصحبه وأن تقرأ هذه الآية أن هذه الآية مقدمة على النسخ، بمعنى: أنه إلى الآن لم يحصل نسخ، ولم يحصل أمر بالتولية عن بيت المقدس إلى الكعبة، وإنما هذه الآية صدرت في الأول، قال أهل العلم كما نص عليه ابن سعدي رحمة الله عليه في تفسيره: وإنما هذا تسلية ومعجزة له صلوات الله وسلامه عليه، أما كونها معجزة فظاهر، فإن الله أخبره بأمر لم يقع بعد، وأما كونها تسلية فإن الإنسان إذا أخبر بما سيتعرض له من أذى قبل أن يتعرض له فهذا يجعله أكثر تمكناً من تحمل ذلك الأمر، وهذا قد يقع إما بالرؤى أو بوصول خبر له بطريق ما، وهذا في حق البشر، أما في حق الأنبياء فيكون ذلك عن طريق الوحي.

    لا بد أن نستصحب أن الله أثنى على إبراهيم، وأثنى على البيت وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ، وبين ضلال اليهود والنصارى وقبل ذلك كله قال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] ، وكل ذلك من ذكر النسخ ومدح البيت وتعظيم إبراهيم وبيان ضلال اليهود والنصارى توطئة لما سيقع، وينبغي أن تعلم أن نسخ القبلة هو أول نسخ في القرآن، فالنسخ كان في العهد المدني، وسورة البقرة من حيث الجملة من أوائل ما أنزل في العهد المدني، ولهذا مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: (يا أهل سورة البقرة!)؛ لأن الأنصار كانوا فرحين بها؛ لأنها أول ما نزل في المدينة، وآياتها كثيرة.

    فالله جل وعلا يخبر نبيه أن أمراً سيقع بنسخ توجهك من بيت المقدس إلى الكعبة، ثم انظر كيف وطن الله لهذا في نبيه عند الناس، حتى تنقطع الحجج إلا الحجج الداحضة، فالله جل وعلا أثنى على البيت، وأثنى على بانيه؛ حتى إذا أمر الناس بعد ذلك بالتوجه إليه كان هناك ما يمهد لذلك الأمر الرباني.

    نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم هاجر ومكث في المدينة ستة عشر شهراً تقريباً كما في حديث البراء بن عازب ، ثم كان يكثر النظر إلى السماء أدباً مع ربه، لا يصرح ولا يخفي أملاً في أن يوجهه الله إلى الكعبة، فأنزل الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142] والسين للاستقبال، والسفهاء لا يحسن تخصيصها فيدخل فيها المشركون واليهود والمنافقون وكل من اعترض على تحويل القبلة.

    سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] ، لماذا قال الله: مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]؟

    لأن السفه يكون حتى في غير بني آدم، فنقله الله جل وعلا من مجازه المتسع إلى حقيقته المختصرة، فالسفه يكون حتى في الدواب، يكون حتى في الطير، لكن الله جل وعلا عندما قال: مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] نقله من مفهومه الواسع الذي يمكن أن نصطلح عليه أنه توسع الناس فيها مجازاً إلى حقيقته المختصرة المخاطب بها، وهم كل من اعترض على تحويل القبلة.

    سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] وإلى الآن لم يحصل تحول، الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] ، فأجابهم الله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] ، والمعنى: أننا نحن متعبدون بأن نعبد الله جل وعلا كما أمر، والله جل وعلا له ملك المشرق وله ملك المغرب، وليس في المشرق والمغرب تفاضل في ذاتها إنما نحن عبيد لله نأتمر بأمره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً..)

    قال الله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] ، والهداية لا تطلب إلا منه.

    ثم قال ربنا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] الكاف للتشبيه هذا قول، وقال آخرون: إنها مقحمة زائدة، والذي جعلهم يقولون: إنها مقحمة زائدة أنه لم يذكر شيء قبلها حتى يكون هناك تشبيه، لكن لغة العرب تجوز هذا، قال أبو تمام :

    كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

    وهذا أول بيت في القصيدة وليس قبله شيء.

    فقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: كما أن لله المشرق والمغرب هذا الملك التام له جل وعلا، فبذلك الملك التام له جعلكم جل وعلا أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، ولا بد من الجمع بين هاتين الصفتين: خياراً عدولاً، والناس في زماننا أول ما ينطبع في أذهانهم في معنى الوسط الطول، وهذا مكمن الخطأ في القضية، أما الوسط الذي يعرضه عند العرب فهو الذي يكون في العمق، والشيء الذي يكون في وسط المدن لا يناله الأعداء إلا بعد جهد، ولا يصلون إليه إلا بعد مرحلة، ولا بد أن ينتهوا من أطراف البلدة، فهو ممتنع، والوسط في الوادي كمرعى لا يصل إليه الرعاة ولا الدواب إلا بعد الأطراف، فالوسط دائماً ممتلئ عزيز منيع، هذا معنى الوسط، ومعنى قول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، لكن الناس الآن ينقدح في بالهم الطول، فلا يجدون معنى حقيقياً يتلذذون به في خطاب كلمة وسطاً.

    وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] قال الشنقيطي رحمة الله عليه في أضواء البيان -وطريقته تفسير القرآن بالقرآن-: لم يبين هنا متى تكون هذه الشهادة، وبينها في سورة النساء، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:41-42] إلى آخر الآيات، فهذه الشهادة تكون يوم القيامة، تشهد هذه الأمة لأنبياء الله كما جاء الخبر الصحيح في الشهادة لنوح ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بنص القرآن،لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

    ثم قال الله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] هذه توطئة للحدث، يقال: فلان انقلب بمعنى عاد إلى المكان الذي كان فيه، وعاد إلى أصله، فالناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً، قال الله: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] أي: يعود إلى سابق الكفر.

    ثم قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] ، هنا كبيرة ليست ما بعد الصغيرة، فالله لا يتكلم عن آثام إنما يتكلم عن هذا الأمر، والتشريع فيه شدة ومشقة؟ على النفوس أي: لا تقبله كل نفس.

    وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] في وقعها إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] ، ونظيره في القرآن: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:35] أي: عظم واشتد، وليست (كبيرة) المجاورة للصغير أو المجاورة للمم، الله لا يتكلم عن ذنوب، وإنما يتكلم عن أمر رباني مشقته على النفوس عظيمة لولا هداية الله.

    قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] هذا جواب لتساؤل وقع، قال أقوام: ما بال من مات وقد صلى إلى بيت المقدس؟ فأجاب الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] ، فالإيمان هنا المقصود به الصلاة، وهو حجة واضحة لأهل السنة من أن الإيمان قول وعمل؛ لأن الله سمى العمل هنا إيماناً وعبر به عن الصلاة فقال جل شأنه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد ترى تقلب وجهك في السماء..)

    ثم ذكر الله آية النسخ: قَدْ نَرَى [البقرة:144] أي: ربما، وهي هنا للتكثير، كذا قال الزمخشري وهذا صحيح.

    قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] وهذا من أدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ [البقرة:144] أي: فلنيسرن لك ونشرع لك قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] ، فانتقلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

    فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] أي: الكعبة، قال بعض العلماء: المسجد الحرام أطلق في القرآن وفي السنة ويراد به أربعة أشياء: يراد به الكعبة، يراد به عين الكعبة، ويراد به المسجد المحيط بالكعبة، ويراد به مكة، ويراد به الحرم مما يشمله حدود الحرم.

    الله يقول: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] أي: من أهل مكة، لكن إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] يطلق على حدود الحرم.

    قال الله تبارك وتعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] الخطاب في قوله: (فولوا) للأمة، وفي قوله: (فول) للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه على غير عادة القرآن؛ لأن عادة القرآن إما أن يخاطب النبي وتكون الأمة تبعاً له، وإما أن يخاطب الأمة ويكون النبي رأساً، لكن لا يأتي خبر في الغالب يذكر مرة لأمته، والجواب أن الله قال قبلها تمهيداً: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] ، فلما كان أمراً ذا مشقة أكده الله جل وعلا بهذه الطريقة، وساقه بهذا الأسلوب، فخوطب به النبي وخوطبت به الأمة؛ لأنهم واجهوا عنتاً شديداً في قضية قبوله، فالمشركون يقولون: حن محمد إلى مولده، والمنافقون يقولون: حن محمد إلى مولده، ولما أنزل الله جل وعلا الثناء على البيت وتمجيده وتعظيمه قالوا: إذا كان محمد يمجد هذا البيت كل التمجيد فلم يتوجه إلى بيت المقدس؟ ولهذا قال الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] ، فهنا خاطب الله نبيه، وخاطب أمته صلوات الله وسلامه عليه، فقال: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] والمعنى: أن أهل الكتاب يعلمون فيما أنزل عليهم أن الله جل وعلا سيطلب من نبيه أن يتحول إلى الكعبة، اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أن الله جل وعلا سيأمر نبيه بالتحول إلى الكعبة، وأن آخر الأمر سيكون التوجه لكل من آمن بالله إلى الكعبة.

    روى البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الكعبة قبلة من في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب.

    وقد اتفق المسلمون على أن التوجه للقبلة شرط من شروط صحة الصلاة، ويستثنى من هذا حالتان: الحالة الأولى: حال القتال.

    الحالة الثانية: حالة من يتنفل على ظهر الدابة حال السفر، فمن يتنفل على ظهر الدابة قبلته حيثما توجهت به دابته، وعند ابن حزم أنه يجوز حتى في داخل المدن، لكن قول الجمهور هو الصحيح، من يتنفل على دابته في سفر قبلته حيثما توجهت به دابته.

    والمقاتل لاسيما المسايف قبلته جهة أمنه، أي وجهة يغلب على ظنه أنه يأمن بها تكون هي قبلته ، كما أن الدابة حيثما توجهت هي قبلة من يصلي عليها متنفلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب..)

    قال الله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145] فلا تطمع في أن يتبعوها؛ لأنهم لو اتبعوها تركوا دينهم وما أصبحوا يهوداً ولا نصارى.

    وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [البقرة:145] المعنى: إذا كان هؤلاء الذين على الباطل يأنفون أن يتبعوك فأنت -وأنت على الحق- أشد أنفة من أن تتبعهم.

    وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145]؛ لأن الخلاف بينهم خلاف عقدي وهم قد تتشابك مصالحهم وتلتقي خطوط رضوانهم لكنهم في المسائل العقدية مختلفون، كما قال الله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113] .

    وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] ليس المقصود النبي صلى الله عليه وسلم، فقد علم الله أن نبيه لن يقع منه هذا الشيء أبداً، لكنه أسلوب تخويف وترهيب لكل من استبان له شيء من الحق ثم أعرض عنه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه..)

    قال الله جل وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146] أي: النبي صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] ، قوله جل وعلا: (أبناءهم) قرينة على أن المقصود معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لما شاع من ذكره عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة.

    وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ [البقرة:146] أي: من أهل الكتاب لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] الحق من ربك، وظاهر الأمر عندي أن الحق هنا المقصود به أن القبلة التي أمرناك باتباعها هي الحق، والدليل عليها أن الله قال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في نفسه، وإنما الخطاب هنا زيادة في التأكيد؛ لأن الموضوع كان كبيراً جداً كما بينه الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها..)

    قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ [البقرة:148] (وجهة) من حيث الصناعة النحوية على غير القياس، أصلها جهة كما يقال في وعد: عدة، وفي وصل: صلة، أما وجهة فهي مأخوذة من وجه، فالأصل أن تكون جهة وتحذف الواو قياساً لكنها أبقيت لتأكيد الأمر والعلم عند الله.

    وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] على ماذا يعود الضمير هو؟ لا يعود على لفظ الجلالة، بل يعود على لفظ (لكل)، والمعنى: لكل أحد وجهة هو موليها نفسه، يعني: اختارها على بينة من نفسه، اليهود توجهوا إلى قبلتهم على قناعات عندهم، والنصارى توجهوا إلى هذا المشرق على قناعات عندهم، وهكذا غيرهم.

    ثم أمر الله نبيه وسائر المؤمنين أن ينصرفوا من هذا الخلاف إلى العمل فقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أي: سارعوا في الطاعات ونافسوا فيها، ثم ذكرهم بيوم الوعيد: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148].

    ثم عاد وكرر موضوع القبلة فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:149] .

    قال صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام حين ذكر الكبائر: (والفساد في البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) ، فجعل الله هذا البيت قبلة للناس أحياء وأمواتاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره..)

    قال الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] .

    يبحث العلماء هنا الاستثناء في قوله جل وعلا: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] هل هو استثناء منقطع أو استثناء متصل؟ والمعنى من حيث الجملة واحد أي: من لا يبحث عن الحق لا سبيل إلى إقناعه وإرضائه، لكن رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الاستثناء هنا استثناء متصل، وتفصيل ذلك أن تعلم التالي: الحجة في القرآن وردت بمعنيين:

    المعنى الأول: الحجة بمعنى الحق، وهي الحجة الصحيحة الواضحة البينة، مثل قول الله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83] ، ويحمل عليها قول الله أيضاً: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149] أي: الواضحة الصحيحة التي لا ريب فيها.

    المعنى الثاني: الحجة بمعنى الجدال سواء كان بالحق أو بالباطل، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الجاثية مثلاً: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية:25] ، فالمقصود بأنها حجة باطلة وإن ذكرت على أنها حجة.

    قال الله جل وعلا: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] ، وكونهم ظالمين قد يخشى أذاهم، فحين يخشى أذاهم علق الله أولياءه به فقال جل وعلا: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً..)

    قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا [البقرة:151] الكاف للتشبيه، واختلف العلماء في متعلق الكاف هنا، فبعضهم جعلها فيما قبل، وبعضهم جعلها فيما بعد، فالذين قالوا: فيما بعد المعنى عندهم: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً، (فاذكروني) هي الآية التي بعدها (كما أرسلنا فيكم رسولاً) وهذا بعيد، والراجح أنها متعلقة بما قبلها أي: ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلت فيكم رسولاً.

    وتوجد نعم أصلية ونعم متمة للنعم الأصلية، فالنعمة الأصلية أن بعث فيكم رسولاً يهديكم إلى دين الحق، والنعمة المتمة للنعمة الأصلية أن هديتكم إلى أن تتوجهوا إلى الكعبة، فالله يقول: إتمام النعمة التي هي التحول والتوجه إلى الكعبة ليست ببدع من الإنعام والإحسان مني إليكم، فقد سبق مني إحسان من قبل وهو؟ إرسال الرسول.

    وبعض العلماء مثل ابن الأنباري وهو ممن يغلب عليه الصنعة النحوية ذكر أنها صفة من مصدر محذوف والمعنى: لعلكم تهتدون اهتداء كما أرسلنا فيكم رسولاً، وهذا من حيث الصناعة النحوية ممكن، لكنه من حيث المعنى -والعلم عند الله- بعيد.

    قال الله: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم..)

    قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] .

    الذكر رأس الشكر، فيكون ذكره هنا وعطف الشكر عليه من باب عطف العام على الخاص.

    وقول الله جل وعلا: وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] قرينة على أن المقصود: كفر النعم؛ لأنه ذكر الشكر بعدها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة..)

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] مر معنا كثيراً أن الصبر والصلاة قرينان في كلام الله. والصبر من أنواعه الصبر على الطاعات، ومن أعظم الطاعات التي تحتاج إلى مشقة؟ الجهاد، فلما ذكر الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] ذكر مشقة تحتاج إلى صبر وهي القتال في سبيل الله فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] .

    العاقل لا يفرط في محبوب إلا إذا وجد شيئاً أعظم منه، والحياة محبوبة لكل أحد، فأنت لماذا تأكل العيش؟ لماذا تشرب الدواء؟ لماذا تبني شيئاً يكنك البرد والحر؟ كل ذلك حتى تبقى حياً، وأنت لا تحيا لتأكل وإنما تأكل لتحيا، ومع ذلك يطلب منك شرعاً أن تهب نفسك لله، فتفرط في ذلك المحبوب الذي هو حب الحياة، والذي أنت تكد من أجل بقائك، وتمنع عن نفسك ما يؤذيك، لكن تفريطك في هذا المحبوب الذي هو الحياة لم تصنعه إن كنت مؤمناً إلا لمحبوب أعظم وثواب أجزل وهو ما عند الله الذي أثبته الله بقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] ، فهم يفيئون إلى قناديل معلقة في العرش ويشربون من أنهار الجنة، وسيأتي ذكر الشهداء تفصيلاً في سورة آل عمران التي حوت ذكراً كثيراً للقتال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع..)

    قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، هذا الابتلاء يكون للأفراد، ويكون للأمم، ويكون للمجتمعات، والله جل وعلا مضت سنته واقتضت حكمته ومضت كلمته أن الناس يبتلون تمحيصاً؛ ليميز الصابر من الجازع، والمؤمن من الكافر، وأنواع البلاء تختلف، وقد وقع الابتلاء حتى في خير القرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام حوصر ومن معه، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وفي عهد عمر كان الطاعون، وغير ذلك من الابتلاءات التي تمر بالمسلمين على مستوى الأمم، وعلى مستوى الأفراد، يبتلى الإنسان بفقد ماله، بفقد أهله، بفقد ذويه، بفقد قرابته، وهذا أمر مستفيض لا يحتاج إلى بيان، ثم عند تلقي البلاء تعبد الله عباده الصالحين بأن يقولوا: إنا لله وملك له وعبيد له، ولا حول لنا فننتصر، ولسنا برآء فنعتذر، ولا قوة لنا إلا بالله، وهو ربنا يفعل بنا ما يشاء، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] أي: منقلبنا إليه فيثيبنا إن صبرنا، ويعاقبنا إن جزعنا إلا أن يرحمنا فهذا المعنى الحرفي لقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] فيه منتهى التسليم لرب البرية جل جلاله، وهذه الكلمة يقال: إن الأنبياء من قبل لم يكونوا يعلمونها، ولو كانت شائعة بينهم لقال يعقوب: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يقل: واأسفا على يوسف، وقد ورد في آثار ليس فيها ما نعلمه صحيحاً سنداً، لكن العقل لا يمنعه أنها كلمة اختص الله بها هذه الأمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة..)

    قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] ، الصلوات هنا أي: رفع الدرجات، والرحمة أي: غفران الذنوب، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] أي: عرفوا طريق الحق فلزموه، وما كانوا ليهتدوا لولا أن هداهم الله.

    هذا كله يبين أن الإنسان في طريقه إلى الله تمر به النوازل، وتمر به الابتلاءات، فينبغي أن يوطن المرء نفسه على التعلق بالله، وكلما عظم في القلب اليقين بأن العبد عبد لله والله ربه يحكم فيه ما يشاء ويفعل ما يريد سهل عليه بعد ذلك أن يتقبل ذلك البلاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله..)

    قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] الجناح في اللغة: الميل.

    قال الله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61] أي: مل إليها، لكن اصطلح على أن يطلق غالباً في الميل إلى الإثم.

    والصفا والمروة جبلان، يجمع الصفا على صف، والمروة على مرو، سعت بينهما هاجر أم إسماعيل ثم تعبد الله الناس بذلك، وقبل الإسلام كثر وضع الأصنام عندها، فكان أكثر ما تعبد الأصنام عند الصفاء والمروة، فلما من الله على المسلمين بالإيمان تحرجوا من أن يأتوا إلى مكانين عرفا بأنهما مظنة وجود أصنام، فرفع الله ذلك الحرج بقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] ، ورفع الحرج هنا لا يتعلق به حكم شرعي، بمعنى: لا يفهم من هذه الآية أن السعي واجب أو ركن أو سنة، إنما الآية جيئت لدفع ذلك الحرج الذي كان يخافه المسلمون من أن يعيدوا شيئاً قد سبق في خلدهم أنه مظنة عبادة أصنام، لكن قول الله جل وعلا: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] قرينة ظاهرة على أن السعي عبادة لا تؤدى بمفردها نافلة، ويوجد طواف نافلة منفكاً بمفرده عن الحج والعمرة، لكن لا يقع السعي منفكاً عن الحج والعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع حالة انفراد عن حج أو عمرة، وطاف صلى الله عليه وسلم طوافاً منفكاً عن حج وعمرة.

    فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ [البقرة:158] أي: زاد خَيْرًا [البقرة:158] أي: من حج أو عمرة.

    فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] من طرائق معرفة شكر الله جل وعلا -والله من أسمائه الشاكر والشكور- أنه جل وعلا يثيب على العمل اليسير بالجزاء العظيم، (ومن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً)، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) هذا من معاني قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].

    وقوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أي: من أعلام دينه، أشعر الشيء يعني: أعلم، والصفا والمروة من أعلام الدين، وتعظيم شعائر الله قوت للقلوب، قال الله جل وعلا: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

    هذا ما يمكن أن يقال حول قول الله جل وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، وهذان مكانان من الحرم تعبدنا الله بأن نسعى بينهما، على أنه يتعلق بهذا فائدة أخرى وهي أن البدعة نوعان: بدعة ليس لها أصل شرعي، وبدعة لها أصل شرعي، وهي أن توجد عبادة لها أصل شرعي فجيء بها على وجه غير الذي الوجه الذي جاء به الشرع، فتسمى بدعة، هذا تقسيم عام وسنأتي لكلا الحالتين.

    لو جاء إنسان فصام مثلاً من منتصف النهار إلى منتصف الليل فنقول: هذه العبادة ليس لها أصل في الشرع، أما الحالة الثانية فمثل الوقوف في عرفة في غير يوم التاسع، فالوقوف في عرفة له أصل في الشرع لكنه جاء في الشرع على وجه مخصوص وهو اليوم التاسع، ففعلك إياه في غير اليوم التاسع يسمى بدعة.

    لماذا ذكرنا هذه الأمثلة وقسمنا البدعة؟

    لأن الله قال: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] ، فجعل الله للسعي وجهاً مخصوصاً، وهو أن يكون إما ملتصقاً بحج أو ملتصقاً بعمرة، والسعي له أصل بالشرع، لكن إن لم يكن ملتصقاً بحج أو عمرة فيعد هذا العمل بدعة غير مقبولة.

    وقد اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة، والآية لا تدل لقول أحد، قال بعض العلماء: إنه ركن، وهذا مذهب الشافعي ، وحجته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) ، وقال آخرون: بسنيته، وقال آخرون بوجوبه، وتفصيل ذلك في كتب الفقهاء، وهذا درس تفسير، والمستفتي على دين مفتيه.

    هذا ما تيسر إيراده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله في هذا اللقاء المبارك، بارك الله لنا ولكم فيما نقول ونسمع، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768253076